الأوضاع السياسية والاجتماعية في قطاع غزة أثناء الاحتلال بعد هزيمة حزيران 1967


غازي الصوراني
2023 / 5 / 26 - 23:27     

في الوقت الذي خيم الظلام فيه على عالمنا العربي، قام أبناء شعبنا الفلسطيني من الفقراء والكادحين في قطاع غزة بإضاءة أول شموع المقاومة المسلحة فوق أرضنا الفلسطينية، ومنذ الأسبوع الأول للهزيمة، وخلال فترة السماح للمواطنين بالتجول، بدأت عناصر حركة القوميين العرب بالاتصال ببعضهم البعض لتنظيم الصفوف تحضيراً للمرحلة الجديدة، رغم انسحاب وتراجع العديد من شباب الحركة عن الالتحاق في صفوفها، بعد أن أصابهم اليأس واستسلموا للهزيمة.
ومع نهاية شهر حزيران (1967) ، بدأت قيادة الحركة في القطاع بإعادة تشكيل المراتب والهيئات التنظيمية في كل المناطق، من رفح إلى جباليا وبيت لاهيا مروراً بالمخيمات الوسطى ومدينة غزة ومخيم الشاطئ ، حيث وافق حوالي ثلاثمائة عضو، العودة إلى التنظيم في ظروف الاحتلال من أصل ما يقارب(800) عضو، مجموع أعضاء الحركة حتى 4 حزيران/1967 . وفي أول شهر آب /أغسطس (1967) قامت قيادة الحركة بتشكيل طلائع المقاومة الشعبية، وأصدرت العدد الأول من جريدة "الجماهير" ناطقة بإسم الطلائع ، وظلت تصدر كل أسبوعين حتى نهاية أكتوبر** (1968) .
أما بالنسبة لمحاولات تأسيس الجبهة الوطنية في قطاع غزة ، فمنذ نهاية حزيران وأوائل تموز (1967) لم تنجح محاولات قيادة الحركة في تأسيس الجبهة الوطنية، رغم الحوارات التي أجرتها مع الرفاق الشيوعيين في قطاع غزة ، حيث ظل كل منهما متشبثاً برؤيته ومواقفه، الأمر الذي دفع قيادة الحركة إلى تشكيل "طلائع المقاومة الشعبية"، كإطار جبهوي بقيادة حركة القوميين العرب في القطاع، ضم في صفوفه عدد من الوطنيين المستقلين ومن أبرزهم المرحومان منير الريس و فاروق الحسيني وبعض ضباط جيش التحرير الفلسطيني من أبرزهم فايز الترك، كما تقرر إعادة ترتيب التنظيم ، والبدء بتأسيس الجهاز العسكري ، والعمل على ضم عناصر جديدة ، وجمع أكبر كمية من الأسلحة، ووقع في أيديهم ختم حاكم غزة، فبدأوا في أول تموز (1967) بإصدار بطاقات هوية مزورة*** للضباط والجنود المصريين وللفدائيين الفلسطينيين، من أبناء قطاع غزة الذين عملوا ضمن "الكتيبة 141" التي أسسها ضابط المخابرات المصرية الشهيد مصطفى حافظ عام 1955، ومارست مئات العمليات الفدائية المميزة في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 .
وفي بداية تشرين الأول / أكتوبر (1967 م) قامت حركة القوميين العرب في قطاع غزة بتشكيل الجهاز العسكري لطلائع المقاومة الشعبية ، معلنة بداية العمل الكفاحي المسلح ، وقد تولى مسئوليته العضو القيادي في الحركة الملازم أول عمر خليل عمر والملازم أول رمضان سليمان داود وناصر ثابت ، وتشكلت نواته آنذاك من (73) عضواً ، وقد برز نشاط الطلائع في قطاع غزة في تلك المرحلة ، على أكثر من صعيد، سواء في النضال عبر العمل السياسي والجماهيري، أو عبر العمل العسكري ، فقد التحق في صفوفها مئات من العمال والطلاب وصغار الموظفين والمهنيين والمدرسين والأطباء، إلى جانب عدد غير قليل من جنود وضباط جيش التحرير الفلسطيني، الذين لم يغادروا القطاع على أثر هزيمة حزيران ، بحيث ارتفعت العضوية التنظيمية في حركة القوميين العرب والطلائع في تلك المرحلة إلى ما يقرب من 200 عضو استطاعوا تكريس وجود الحركة والطلائع ودورهما النضالي وشرح أهدافهما عبر البيانات والمنشورات السرية وجريدة "الجماهير"، جنباً إلى جنب مع العمل العسكري لشباب الحركة ، الذين قاموا بالعديد من العمليات النوعية من زرع الألغام ونصب الكمائن للدوريات العسكرية والهجوم على مقر الحاكم العسكري ، الأمر الذي أعطى لحركة القوميين العرب تمايزاً خاصاً عبر اتساع عملياتها وكثافتها وبنوعية الأهداف المختارة ببسالة منقطعة النظير في رقعة جغرافية ضيقة.
وفي 25 كانون الثاني / يناير (1968 م) اعتقل مسئول الجهاز العسكري لطلائع المقاومة الشعبية في القطاع، الذي كان بحوزته قوائم بأسماء الأعضاء، مما أدى إلى اعتقال (67) عضواً من أصل (73) عضو مجموع أعضاء الجهاز العسكري آنذاك.
وعلى أثر ضرب الجهاز العسكري، فإن "طلائع المقاومة الشعبية" سرعان ما أعلنت عن نفسها، باعتبارها فرعاً لل ج به ة ال ش ع بية، التي تشكلت في ديسمبر 1967 من حركة القوميين العرب - شباب الثأر، "أبطال العودة" و "جبهة التحرير الفلسطينية – أحمد جبريل".
وفي نفس الوقت قام الشيوعيون الفلسطينيون بتوحيد صفوفهم من جديد وتأجيل كافة خلافاتهم الداخلية حيث أسسوا في آب (1967) "الجبهة الوطنية المتحدة" بالتحالف مع مجموعة صغيرة من البعثيين ومجموعة أخرى مشابهة من جبهة تحرير فلسطين (ج.ت.ف) وأصدرت الجبهة جريدتها الأسبوعية "المقاومة".
أما بالنسبة لجيش التحرير الفلسطيني وقيادة م.ت.ف ، فقد قاموا عبر عدد من ضباط صف وجنود جيش التحرير الفلسطيني بتأسيس خلاياهم السرية العسكرية تحت اسم "قوات التحرير الشعبية".
كما بدأت حركة فتح نشاطها العسكري منذ أوائل أكتوبر (1967) ، وفي هذا الجانب أشير إلى روح التعاون في المجال العسكري بين حركة فتح وطلائع المقاومة الشعبية وقوات التحرير الشعبية .
ورغم أن كافة القوى والفصائل الوطنية لم تتفق على تأسيس جبهة وطنية تضمهم جميعاً، إلا أن ذلك لم يشكل عائقاً أمام العلاقات الأخوية بين الجميع عبر التعاون الكامل، في كثير من المجالات العسكرية والسياسية والاجتماعية، إنها الروح الفلسطينية الواحدة التي لم تعرف الانقسام أو الفئوية طوال الأعوام الثلاثة الأولى للاحتلال، لأن مقاومة المحتل كانت الهدف الوحيد ولا مصلحة لأحد سوى هذا الهدف، وللأسف فإن تطور أوضاع الفصائل فيما بعد وبروز المصالح الشخصية والامتيازات ومظاهر البذخ والفساد البيروقراطي، على حساب الهدف الكبير دفع بنا جميعاً نحو الخراب الذي نعيشه اليوم.
ومن الجدير بالتسجيل هنا أن المقاومة الوطنية المسلحة في قطاع غزة طوال الفترة من حزيران (1967) وحتى عام (1972) ، استطاعت أن تفرض نفسها عبر المناضلين من أبناء العمال والفلاحين وصغار الموظفين الفقراء والكادحين، كإطار عَبَّر بكل صدق عن مشاعر الجماهير، واستحوذ على احترامها ومساندتها إلى أبعد الحدود، في الوقت الذي لم تستطع القوى التقليدية –التي هادنت الاحتلال- من أشباه الإقطاعيين وكبار التجار الوسطاء ووجهاء العشائر أن تعلن عن نفسها أو تطل برأسها في شوارع القطاع، وفقدت نفوذها واحترامها لحساب فصائل المقاومة والشرائح الاجتماعية الفقيرة التي تقدمت الصفوف في مواجهة الاحتلال، فيما ظلت القوى الكومبرادورية وكبار الملاك والقوى التقليدية صامتة مترقبة حتى كانت أحداث أيلول (1970) السوداء، التي أدت إلى خروج المقاومة من الأردن في تموز (1971) وهبوط وتيرة المقاومة في الضفة والقطاع هبوطاً ملحوظاً، فبعد أن بلغ مجموع العمليات الفدائية في الأراضي المحتلة (1967) خلال العام (1970) نحو (2430) عملية هبطت إلى (755) عملية عام (1970) ، وإلى (433) عام (1972) ، وقد حظي قطاع غزة بأعلى نسبة من العمليات الفدائية في الأراضي المحتلة، طوال الفترة منذ بداية الاحتلال حتى نهاية العام 1972 ، يؤكد على ذلك أن المحاكم الإسرائيلية في القطاع "أصدرت أحكامها في نحو سبعة ألاف قضية مقاومة، اتهم فيها زهاء عشرين ألف من سكان قطاع غزة" .
وفي هذا الجانب ، أشير إلى الدور النضالي المتميز للج ب هة الش ع بية في قطاع غزة بقيادة الرفيق محمد الأسود (جيفارا) الذي خرج من السجن في شهر تموز 1970 ، وبدأ بتشكيل المجموعات المقاتلة التي قامت بالعديد من العمليات الفدائية الجريئة بحيث باتت الج ب هة ال شع بية آنذاك رمزاً رئيسياً من رموز المقاومة المسلحة، وحازت على ثقة واحترام والتفاف الجماهير حولها، في مقابل محاولات جيش الاحتلال المتواصلة للقضاء على هذه الظاهرة الكفاحية ، التي قال عنها موشي ديان وزير الدفاع الإسرائيلي:
"إن الفدائين يحكمون غزة في الليل ونحن نحكمها في النهار" وفي يوم 9/3/1973 استطاع العدو الصهيوني اكتشاف مقر الرفيق محمد الأسود ورفيقه كامل العمصي وعبد الهادي الحايك ، وبعد مواجهة مسلحة شرسة ضرب فيها الرفاق أروع الأمثلة في القتال والتحدي والمواجهة استشهدوا على أثرها لتبدأ بعد ذلك مرحلة أخرى من الهبوط في العمليات الفدائية داخل القطاع .
وبخروج المقاومة من الأردن تداعت القوى التقليدية (من العائلات المتنفذة والكومبرادور والمخاتير) في القطاع إلى تأسيس أول إطار "اجتماعي" لها في ظل الاحتلال تحت اسم "الهيئة الخيرية لقطاع غزة" برئاسة رشاد الشوا، وبدأت تعاونها مع الأردن منذ تأسيسها، وكان لهذا التعاون بعض الايجابيات الاجرائية خاصة فيما يتعلق بتسهيل سفر أبناء القطاع إلى الأردن، لإنهاء العديد من معاملاتهم، لكن هدفها السياسي مهادنة الاحتلال وتشجيع وتعزيز العلاقة مع النظام الملكي الرجعي في الأردن لم يكن خافياً عن الجميع.
ومع هبوط عمليات المقاومة التي "وصلت عام (1973) إلى (470) ، ثم عام (1974) هبطت إلى (375) عملية ، واستمرت في الهبوط عام (1975) حيث بلغت (370) عملية، وظل التراجع مستمراً طوال عام (1975) وما بعده بسبب الحرب الأهلية في لبنان" من جهة وانشغال قيادة م.ت.ف بها، إلى جانب حالة الهبوط السياسي الذي أصابها بعد إعلان اتفاق كامب ديفيد، حيث "تدنت العمليات الفدائية في الضفة الغربية والقطاع إلى (164) عملية عام (1977) ، وبقيت حالة الهبوط في العمل المسلح طوال عام (1978)، (180) عملية، ووصلت عام (1981) إلى (140) عملية" ، ثم بعد حرب لبنان (1982) تراجع العمل المسلح حتى بداية الانتفاضة في الضفة والقطاع نهاية عام (1987).
بدأت إسرائيل في التعامل مع رموز كبار التجار الوسطاء الذين حصلوا على العديد من الوكالات التجارية الإسرائيلية لتسويقها داخل القطاع، كما أدى انفتاح سوق العمالة الإسرائيلي إلى تصاعد دخول العمال الفلسطينيين من أبناء غزة والضفة إلى السوق الإسرائيلية وارتفاع عدد العاملين داخل "إسرائيل" من (5900) في بداية عام (1971) ليصل إلى (42000) عامل في نهاية عام (1984) وإلى (53100) عامل عام (1988). ورغم ذلك فقد كانت البطالة منتشرة في عام (1985) بنسبة تزيد عن (35%) خاصة بين الجامعيين الذين وصل عدد العاطلين منهم إلى (3296) خريج بسبب السياسة الإسرائيلية التي استهدفت تدمير البنية التحتية للاقتصاد الفلسطيني عموماً في الضفة والقطاع من جهة، ونتيجة عدم اهتمام (م.ت.ف) بتطوير الصناعات أو التجمعات الإنتاجية الاقتصادية الفاعلة، واكتفت بتقديم الدعم إلى عدد من رموز العشائر أو القوى التقليدية الرجعية لضمان تأييدها أو تحييدها، دون تطلع إلى تطور أوضاع جماهير المخيمات والمدن، التي كانت وستظل الوقود الحقيقي لكل نضال ثوري فلسطيني، هذه الجماهير التي فجعت بما جرى في لبنان عام (1982)، وما جرى من تشتت لأبنائها من كوادر (م.ت.ف) في المنافي العربية، وعندها عاودت من جديد نشاطها الثوري عبر عمليات فدائية منظمة وعفوية في قطاع غزة ليرتفع الرسم البياني إلى نسبة (24%) من إجمالي العمليات في الأرض المحتلة ويستمر التصاعد في عامي (1986 و 1987)، لتبدأ انتفاضة الشعب كله في 8/12/1987 من جباليا البطلة لتنتشر كالنار في الهشيم في كل أنحاء القطاع والضفة الفلسطينية، معلنة إدراك شعبنا الفلسطيني لوجوده المهدد بالزوال ووقفته الواحدة للتصدي ولمساندة المشروع الوطني، الذي جسدته آنذاك م.ت.ف في آن واحد.
هذه الانتفاضة التي أعطت عمراً جديداً لمنظمة التحرير الفلسطينية بعد أن كاد الإحباط أن يفتك بها من جراء المؤامرات الصهيونية والأمريكية والعربية في آن واحد.
وبفضل الانتفاضة، وصلت العلاقة بين الأرض والشعب والمنظمة في ترابطها التاريخي إلى الذروة عام (1988) بإعلان الاستقلال، الذي جاء منسجماً تماماً مع تطلعات شعبنا وانتفاضته في الداخل من جهة، ومتوازناً بكل وضوح مع متطلبات الشرعية الدولية من جهة ثانية، إلا أن الترتيبات والخطوات السياسية اللاحقة التي جرت على الصعيد العملي بعد ذلك، أسهمت في اختلال التوازن أو الانسجام بين قرار الشرعية الفلسطينية الواضح في جوهره وبين تلك الممارسات السياسية التوفيقية التي لجأت إليها قيادة (م.ت.ف) في محاولة منها للتكيف مع الضغوط الأمريكية والإسرائيلية والأوروبية والعربية الرسمية.
وجاءت مرحلة مدريد التي تميزت بإصرار دولة العدو الإسرائيلي في المطلق على الثوابت الأيديولوجية الصهيونية في مقابل حالة تقترب من الإحباط والتمزق في الصفوف الفلسطينية، بدءاً من الرموز القيادية في كافة الفصائل القابلة والمعارضة وصولاً إلى جماهيرنا العفوية في الداخل والشتات، لدرجة بات من الضروري إشعال الضوء الأحمر في وجه الجميع .
ومع بداية المفاوضات العبثية في واشنطن أصر رئيس الوفد الفلسطيني ، الراحل د. حيدر عبد الشافي ، على طرح وجهة نظر سياسية التزمت عموماً بالتوجيهات والثوابت الوطنية مثل:
1- عودة كافة المبعدين الفلسطينيين، والتزام الإسرائيليين بالتوقف عن هذه السياسية.
2- الالتزام الإسرائيلي بالانسحاب وفق قراري (242) (338) وإنهاء الاستيطان.
3- حق العودة للفلسطينيين وفق قراري (194/227).
4- حق السيادة الفلسطينية على الأرض والمياه والموارد الفلسطينية عبر سلطة تشريعية وتنفيذية خلال الفترة الانتقالية وما بعدها.
5- القدس الشريف عاصمتنا.
6- تطبيق ميثاق جنيف لسنة (1949) والإفراج عن كافة المعتقلين الفلسطينيين.
7- الالتزام بتوفير الضمانات والحماية الدولية الواضحة التي تكفل أن تكون المرحلة الانتقالية حالة مؤقتة تخضع للإشراف الدولي والحماية الدولية والتنسيق مع القيادة الوطنية الفلسطينية في الداخل.
8- أن تتولى (م.ت.ف) رسمياً وفعلياً التفاوض باسم شعبنا الفلسطيني وفق الشروط أعلاه وألا تستجيب لأية ضغوط تسعى إلى إشراكها في حلول وسطية أو أوهام كاذبة لن تؤدي إلا لتدمير كيان (م.ت.ف) نفسها.
إلا أن القيادة المتنفذة في م.ت.ف لم تلتزم تماماً بهذه الشروط ، بل إنها استاءت من اصرار رئيس الوفد الفلسطيني في مفاوضات واشنطن، الراحل د.حيدر، عبد الشافي وتمسكه بثوابت الاجماع الفلسطيني ، ومن ثم قررت هذه القيادة برئاسة الراحل ياسر عرفات، البدء بعملية تفاوضية سرية مع مندوبي العدو الإسرائيلي في مدينة استوكهولم في السويد ، حيث تم التوصل إلى ما يسمى بـ"إعلان المبادئ في أوسلو" بتاريخ (13 أيلول/1993) الذي شكل من الناحية الموضوعية كارثة سياسية ووطنية ، ليبدأ شعبنا الفلسطيني مرحلة جديدة من المعاناة والنضال السياسي والاجتماعي في مجابهة حالة الهبوط والتراجع التي ترافقت مع انشاء "سلطة الحكم الإداري الذاتي الفلسطيني المحدود" .