الاوضاع القانونية والسياسية والثقافية/خاصة الصحافة في قطاع غزة 1957-1967


غازي الصوراني
2023 / 5 / 25 - 15:11     


أولا: الوضع القانوني:
لقد حرصت القيادة الوطنية في مصر على احتفاظ قطاع غزة باسم فلسطين في كافة المحافل العربية والدولية، وتم تثبيته رسمياً في الأمم المتحدة باعتباره "الجزء الباقي من فلسطين"، كما التزمت بالابقاء على القوانين الفلسطينية الصادرة بمرسوم فلسطين لسنة 1922 كما هي، مع اشتراط عدم مخالفة هذا المرسوم لما جاء في النظام الأساسي الصادر بالقانون رقم 225 سنة 1955، وفي شهر آب 1958 أصدر مجلس الدولة المصري فتواه، التي تؤكد على "أن قطاع غزة ينفصل انفصالاً كلياً عن دولة مصر من جميع النواحي التشريعية والتنفيذية والقضائية".
وفي عام 1962 صدر القانون الدستوري لقطاع غزة، وتقرر العمل به لحين صدور الدستور الدائم لفلسطين، وقد ورد في المادة الأولى منه أن "منطقة قطاع غزة جزء من أرض فلسطين، وشعبها جزء لا يتجزأ من الأمة العربية"، أما المادة الثانية فقد أقرت "حق الفلسطينيين في قطاع غزة بتشكيل اتحاد قومي يضم الفلسطينيين أينما كانوا، هدفه الأسمى العمل المشترك لاسترداد الأرض المغتصبة من فلسطين". وبالإضافة إلى المواد التي تكفل شكلياً حرية التعبير والرأي والمعتقد، فإن المادة (30) من النظام الدستوري أقرت لأول مرة تشكيل المجلس التشريعي أو السلطة التشريعية التي تتكون من:
- الحاكم العام رئيساً.
- أعضاء المجلس التنفيذي (السلطة التنفيذية) وعددهم ثمانية .
- أعضاء بالتعيين ، عشرة أعضاء
- أعضاء بالانتخاب اثنان وعشرون عضواً
إلا أن صلاحيات هذا المجلس تقيدت فيما يتعلق بإصدار القوانين بشرط تصديق الحاكم العام عليها، كذلك فإن الحاكم العام وحده يملك الحق في الدعوة إلى عقد المجلس أو فضه، وعلى الرغم من ذلك، فقد توفر للمجلس هامش من الحريات الديمقراطية بحيث تمكن من إصدار العديد من القوانين ، أهمها القانون الذي ينص على أن قطاع غزة باعتباره الجزء الباقي من فلسطين ، فإن من حق كل فلسطيني في الشتات القدوم إليه والإقامة فيه دون أية شروط مسبقة ، ومما تجدر الإشارة إليه دور د.حيدر عبد الشافي البارز في إصدار هذا القانون وإقراره ، على الرغم من رفض الإدارة المصرية .
السلطة التنفيذية:
ويتولاها الحاكم العسكري العام الذي كان يملك حق إعلان أو إلغاء الأحكام العرفية، ويشاركه في هذه السلطة مجلس تنفيذي من رؤساء المديريات التسع (أو الوزارات المصغرة) في القطاع وهي:
- مديرية الشؤون القانونية.
- مديرية الداخلية والأمن العام.
- مديرية الشؤون البلدية والقروية.
- مديرية الشؤون الصحية.
- مديرية الشؤون المدنية والمستخدمين.
- مديرية المالية والاقتصاد.
- مديرية الشؤون الاجتماعية واللاجئين.
- مديرية التربية والتعليم.
- مديرية الأشغال العامة.
وقد كان يُعَيّن لكل مديرية مستشاراً مصرياً، إلا أنه في واقع الأمر كان المدير الآمر لكل ما يتعلق بشؤون المديرية، خاصة مع وجود عدد من المديرين من أبناء القطاع الذين لا هم لهم سوى تأمين مصالحهم الطبقية والشخصية أو العائلية عبر إرضاء المستشار المصري بكل الوسائل.
ثانياً _ السلطة القضائية:
- المحكمة العليا: وهي أعلى سلطة قضائية في القطاع ويعين رئيسها بقرار من رئاسة الجمهورية وأعضائها يتم تعيينهم بقرار من وزير الحربية.
- المحاكم القضائية الأخرى ، تشكلت من أبناء القطاع، وبعلاقة مباشرة مع مديرية الشؤون القانونية التي تولى رئاستها بعد عام 1964 أحد أبناء القطاع (فاروق فهمي الحسيني)، وقد كانت السلطة القضائية مقيدة في كثير من الحالات رغم أن النظام الدستوري ينص على حريتها واستقلالها.
- المحاكم العسكرية : وكانت بإشراف كبار الضباط المصريين .
ثالثا _ الأوضاع السياسية العامة:
في هذه المرحلة توزعت الخارطة السياسية للحركة الوطنية في القطاع على عصبة التحرر الوطني (الشيوعية) التي تأسست عام 1943، وجماعة الإخوان المسلمين التي بدأت نشاطها عام 1943 ، وحزب البعث العربي الذي تأسس في 1953، وحركة القوميين العرب التي تأسست في صيف 1957، ثم حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) التي بدأت نشاطها الفعلي في القطاع منذ أواخر عام 1964.
أما بالنسبة لتنظيم الاتحاد القومي الذي أسسته الإدارة المصرية فهو لم يكن جزءاً من الحركة الوطنية للاعتبارات التالية:
1- ولد بقرار من الحكومة المصرية.
2- تولى معظم الأطر القيادية فيه ممثلو كبار الملاك ورموز الكومبرادور التجاري والبيروقراطية الحاكمة.
3- لم تشارك جماهير العمال والفلاحين الفقراء والبرجوازية الصغيرة في قواعد أو مؤسسات هذا التنظيم.
وفيما يتعلق بأطراف الحركة الوطنية وجماعة الإخوان المسلمين، فنلاحظ تراجع كل من الشيوعيين والإخوان لدرجة كبيرة في علاقتهما بالجماهير، في ظل حملات القمع المستمرة ضدهما، وفي مقابل تنامي الدور القومي بقيادة عبد الناصر بعد أن تكرست زعامته على العالم العربي دون منازع.
وفي ظل هذا المناخ انتعشت حركة القوميين العرب في القطاع على حساب حزب البعث العربي الذي لم يتمكن من الانتشار أو ممارسة دور هام، خاصة بعد الانفصال الذي أيده الحزب في سوريا عام 1961، ويمكن القول أن دوره السياسي قد غاب نهائياً قبل وبعد حزيران 1967.
وفي أواسط الستينات شهد القطاع بروز النشاط السياسي لحركة فتح التي كانت قد تأسست في الخارج عام 1962 بعد توحد كل المجموعات الفلسطينية التي تميز معظمها بالارتباط بعلاقة تنظيمية أو فكرية بحركة الإخوان المسلمين، لدرجة أن عدداً من مؤسسي حركة فتح لم يقطعوا علاقتهم نهائياً بالحركة الأم (نذكر منهم أسعد الصفطاوي / فتحي البلعاوي / رفيق النتشه).
وفي الوقت الذي انتشرت فيه حركة القوميين العرب انتشاراً واسعاً نسبياً في أوساط جماهير القطاع بسبب توازن شعاراتها مع الشعار الرسمي للناصرية من جهة، وتداخلها العضوي مع جماهير اللاجئين في المخيمات من جهة أخرى، فإنها لم تتعرض لأية عمليات قمعية بمثل ما تعرضت له حركة فتح التي تميزت بشعاراتها القطرية المعروفة والتي شكلت نقيضاً أو "توريطاً" للنظام العربي الرسمي برمته آنذاك.
أما عصبة التحرر الوطني التي تحولت في منتصف الخمسينيات إلى الحزب الشيوعي الفلسطيني في قطاع غزة، فقد تعرض كوادرها للعديد من حملات الاعتقال والنفي إلى السجون المصرية في السجن الحربي والواحات خاصة بعد دورهم المميز في إفشال مشروع التوطين*، ثم دورهم في قيادة الجبهة الوطنية إبان الاحتلال عام 1956.
وبعد عودة الإدارة المصرية إلى القطاع في شهر مارس عام 1957 ، قامت كل من إدارة المباحث العامة والمخابرات المصرية بملاحقة الشيوعيين واعتقال كوادرهم.
والمفارقة هنا أن الشيوعيين في قطاع غزة لم يواجهوا هذا الموقف بالمزيد من التنظيم، بل ذهبوا بعيداً إلى حد شل منظماتهم الحزبية في القطاع، خاصة بعد بروز العديد من الخلافات السياسية والتنظيمية والفكرية داخل الحزب، واستمرار هذا التشتت قائماً حتى عام 1967، حيث بدأت مرحلة جديدة في حياة الحزب عبر تأسيس الجبهة الوطنية في آب/أغسطس 1967.
رابعاً _ أهم ما تميزت به الحياة السياسية في قطاع غزة 1957لغاية 1967:
1- الالتفاف الجماهيري العفوي الكثيف، بعيداً عن العمل المنظم، خلف الشعارات الوطنية والقومية العفوية المنادية بتحرير فلسطين عبر الإذاعات والصحف ووسائل الإعلام ، وهي شعارات كانت انعكاساً للقرارات البيروقراطية بشكل ميكانيكي، دون أن تمتلك رؤية تفصيلية للواقع الحقيقي لموازين القوى في عملية الصراع العربي الإسرائيلي، هذا الالتفاف العفوي الصادق، عبرت عنه الجماهير الفقيرة، مواطنون ولاجئون لا فرق، بالتحاقها في جيش التحرير الفلسطيني بعد صدور قانون التجنيد الإجباري في آذار مارس 1965.
2- تطور الدور السياسي المهيمن للقوى التقليدية من كبار الملاك أو التجار الوسطاء (الكومبرادورية) عبر علاقاتهم وصلاحياتهم الواسعة في كافة الدوائر الحكومية وغير الحكومية (تولي ممثليهم للدوائر الحكومية الهامة ونجاحهم في الانتخابات التشريعية والبلدية)، وقد أدى التداخل العضوي لمصالحهما المشتركة إلى تحولهما للعمل معاً ضمن إطار طبقي واحد، هو تحالف البورجوازية الكومبرادورية التجارية مع سلفها التاريخي "كبار الملاكين من الأفندية" القدامى، هذا التحالف الذي أغرق القطاع بالمستوردات الكمالية الباذخة، بكل ما رافقها من فساد ورشوة لكبار وصغار الموظفين، وبالتعايش الزائف مع الشعارات القومية المخصصة لامتصاص نقمة اللاجئين في المخيمات والكادحين في مناطق القطاع الفقيرة، الشجاعية والزيتون وخان يونس ورفح وعبسان وبيت حانون، الذين اكتشفوا مرارة الحقائق العارية بعد هزيمة حزيران 1967.
3- غياب دور الوعي السياسي الطليعي المنظم في أوساط الجماهير، نظراً لضعف القوى الوطنية بشكل عام، فالشيوعيون رددوا طروحات الاتحاد السوفيتي بالنسبة للاعتراف بالدولة الصهيونية وقرار التقسيم مما أدى إلى عزلتهم ، علاوة على أنهم كانوا في تلك المرحلة بلا تنظيم موحد ومحدد المعالم، أما حركة فتح فقد طرحت شعارات وطنية، لم يكن المناخ مهيئاً تماماً لها ، خاصة شعارها بالنسبة لتوريط عبد الناصر، أما البعثيون فلم يكن لهم أي نشاط ملحوظ.
أخيراً بالنسبة لحركة القوميين العرب، فقد كانت تعمل بشكل شبه علني بدعم من النظام القائم، لكنها لم تتمكن من استيعاب وتنظيم الجماهير بسبب اكتفائها بالشعارات العامة دون الاهتمام بالقضايا المطلبية اليومية للجماهير، لذلك تشكلت بنيتها التنظيمية من أبناء البورجوازية الصغيرة في مخيمات ومدن القطاع، دون أي اهتمام جدي بتنظيم العمال والفلاحين الفقراء .
4- غياب المؤسسات الثقافية العامة والنوادي والمؤسسات، ما عدا النوادي والجمعيات الرياضية المخصصة للنخبة الحاكمة وحلفائها، إلى جانب ضعف النشاط المسرحي الذي انحصر في المسرح المدرسي في بعض المدارس الثانوية خلال الفترة 1957 – 1967 ، بالإضافة إلى بعض "المسرحيات التي كان يقدمها مجموعة من المهتمين بالمسرح على مسرح سينما السامر بغزة، أو مسرح نادي العودة أو جمعية الشبان المسيحية" .
خامسا - الصحافة في قطاع غزة :
افتقر قطاع غزة خلال تاريخه للصحافة الشعبية المتداولة لأسباب موضوعية ترتبط بأوضاع الفقر والتخلف الاجتماعي والثقافي والتعليمي، حتى بداية الخمسينيات من القرن العشرين، إلى جانب العوامل الذاتية التي تجلت في ضعف انتشار التعليم الثانوي والجامعي وضعف العمل السياسي والثقافة العامة طوال مرحلة ما قبل نكبة 1948.
وعلى أثر الحاق القطاع بالإدارة المصرية ، وقيام ثورة يوليو 1952 ، قام النظام الناصري بتطبيق سياسة التعليم المجاني، بما في ذلك التعليم الجامعي لجميع أبناء قطاع غزة ، الامر الذي أدى إلى ارتفاع نسبة المتعلمين إلى مجموع السكان في القطاع ، أعلى من مثيلاتها في الدول العربية.
لكن على الرغم من ارتفاع نسبة التعليم ، ظلت الصحافة في القطاع على حالة من الضعف وقلة الانتشار والتوزيع ، على الرغم من صدور العديد من الصحف والجرائد طوال الفترة 1953 – 1967 أهمها :
- "اللواء" : أسبوعية سياسية اجتماعية يحررها د. صالح مطر أبو كميل وصدرت رخصتها في مارس 1953.
- "الصراحة": أسبوعية علمية سياسية أدبية مصورة يحررها د.سليم ياسين وصدرت رخصتها في نوفمبر سنة 1952.
- "المستقبل" ثقافية شهرية صدرت باسم أحمد إبراهيم الحملاوي بتاريخ يناير 1954 ويديرها ويحررها محمد جلال عناية .
- جريدة "الشرق" باسم علي كبه الحلبي وصدرت رخصتها في ديسمبر سنة 1949 والغيت بأمر الحاكم العسكري في 27/3/1955.
- جريدة "الجهاد المقدس" : أصدرها منير الريس وداود صايغ في فبراير 1954 والغيت رخصتها بأمر الحاكم العسكري في 7/4/1955.
- جريدة "الوطن العربي": باسم رشاد الشوا بتاريخ 3/12/1953، والغيت رخصتها بأمر الحاكم العسكري في 28/4/1955.
- "العودة" : باسم سعد فرح فرح بالعربية والانجليزية ويرئس تحريرها زكي سعد وصدرت رخصتها بتاريخ 14/5/1956. وبالاسم نفسه صدرت مجلة شهرية مصورة عن الاتحاد القومي 1958 ، وكانت تطبع في القاهرة .
- جريدة "غزة": صدرت من 4-5-1962. أسبوعية وكان يرئس تحريرها خميس أبو شعبان.
- جريدة "الرقيب": أسبوعية ويرئس تحريرها عبد الله العلمي.
- "التحرير" : جريدة بدات تصدر سنة 1958 برئاسة زهير الريس، ثم تحولت سنة 1963 إلى جريدة أسبوعية باسم "اخبار فلسطين" بالاشتراك مع جريدة "اخبار اليوم" المصرية، وكانت اخبار فلسطين مؤسسة صحفية كاملة، وقد ساهم فيها المصريون بنصف رأس المال، ثم تولت منظمة التحرير الفلسطينية الاشراف عليها، ابتداء من 4/10/1965 وواصلت الجريدة الصدور حتى يوم 5/6/1967 حين صدر عددها الأخير في أول يوم للعدوان .
وقد أسهمت "جريدة فلسطين" في إبراز بعض الاقلام والمواهب الفلسطينية من الأدباء والكتاب الذين بدأوا حياتهم الأدبية على صفحات جريدة اخبار فلسطين : زهير بشير الريس (رئيس التحرير)، محمد آل رضوان (مدير التحرير)، علي زين العابدين الحسيني، محمد حسيب القاضي، درويش عبد النبي، عبد الكريم السبعاوي، أحمد عمر شاهين، توفيق المبيض، محمد جلال عناية.. وغيرهم.
- جريدة نداء التحرير: صدرت في ربيع عام 1965، صاحب الامتياز محمود الصردي، وكانت بمثابة واجهة علنية للحزب الشيوعي في قطاع غزة، حيث تولى إداراتها والاشراف عليها عبد القادر ياسين، ومن كتابها عبد اللطيف عبيد، وديب الهربيطي، وقد توقفت بعد ثلاثة أعداد بقرار من أجهزة الأمن في قطاع غزة صيف عام 1965 .
6- غياب الدور الفاعل للعمل النقابي، حيث أن النقابات العمالية الستة في القطاع التزمت بشكل عام بالبعد الرسمي بعيداً عن قضايا جماهيرها، وهي نقابة الصناعات المعدنية، نقابة النجارين وأعمال البناء، نقابة سائقي السيارات، نقابة عمال الخياطة، نقابة عمال الزراعة، نقابة الأعمال الكتابية والخدمات العامة، وكان معظم رؤساء هذه النقابات متعاطفين مع النظام الناصري وأجهزته السياسية والأمنية آنذاك .
7- استمرار النشاط السري المنظم للإخوان المسلمين، دون أية نشاطات أو ممارسات وطنية تذكر في الشارع الفلسطيني بالقطاع، علاوة على أن قسماً هاماً من جماهير القطاع نظروا للإخوان المسلمين باعتبارهم ضمن القوى الرجعية بسبب عدائهم الشديد للناصرية ، ومواقفهم الايجابية من النظم الرجعية، في السعودية والخليج العربي. وقد استمر هذا الموقف السلبي إلى ما بعد هزيمة حزيران عام 1967 حتى بداية عام 1987 واشتعال الانتفاضة في الداخل، حيث بدأ الإخوان بالتعاطي مع العمل الوطني عبر حركة حماس.