الاغتراب واللاغتراب: مواجهة بين لوكاتش وهايدجر (الجزء الرابع)


أحمد رباص
2023 / 5 / 24 - 04:47     

مارس لوكاتش في مؤلفه الكبير ذي التركيب الفلسفي مقاربة جينية لتكوينات الذاتية، ما سمح له بأن طور، مثلا، تحليلا متمايزا لأشكال التسليع، عن طريق فصل التسليعات "البريئة" عن التسليعات "المستلبة". نفس المقاربة الأنطولوجية-التكوينية قادته إلى التمييز، كما ذكرنا سابقا، في كل "وضع غائي" (الوضع الغائي المجسد في حركة العمل، وفقا ل"الأنطولوجيا" الخاصة به هو الخلية المولدة للحياة الاجتماعية) بين لحظة التشييء ولحظة التخارج: فانطلاقا من أفعال تخارج الذات، حيث يتم التعبير عن سمات الذاتية التي لا تمحى (مهارة معينة، مثلا)، تتداعى ظاهرة الاغتراب لأن تفهم، وبصورة أدق سيرورة تحويل الذاتية، المخصصة لأهداف غريبة عن تأكيدها الذاتي.
إنما التاويل الأنطولوجي-التكويني لصيرورة الذاتية، معتبرا في تعدد اشتراطاته الموضوعية (الفسيولوجية والاجتماعية)، هو الذي سمح للوكاتش بالتمييز بين تخارج غير مستلب وتخارج مستلب، علما بأن الاغتراب ليس سوى حالة خاصة من التخارج، المرتبط بظروف تاريخية محددة.
إنها نفس المقاربة التكوينية- الأنطولوجية التي تسمح للمفكر بتعريف التسليع على أنه اللحظة التي تتحول فيها طبيعة سيرورة وصيرورة الواقعي إلى تكوينات شيئية، علما هنا مرة اخرى بأنه من الضروري التمييز بين تثبيت ذي طبيعة شيئية تسمح للذاتية بتأكيد سيطرتها على الواقعي (يلعب "التسليع" دورا إيجابيا في هذه الحالة، كما هو الحال مع العديد من الأشياء التقنية، وبالتالي فهو "بريء" فيما يتعلق بالاغتراب)، عن "التسليعات المستلبة"، حيث تصبح صيرورة-شيء الذاتية بمثابة سند لسيرورة تخضع فيها لضرورات أجنبية. يشير لوكاتش إلى ظاهرة العبودية، مع اختزال الفرد إلى أداة صوتية، كمثال رئيسي على "التسليع المستلب". إن تحويل قوة العمل إلى بضاعة، خاضعة لمتطلبات رأس المال، لن يكون إلا شكلاً "مصقولا" من نفس التسليع المستلب.
يمكن لنا قياس حجم التغييرات التي حدثت في فكر لوكاتش بعد أن تحرر من التاويل ذي النمط الهيجلي للاغتراب، السائد في "التاريخ والوعي الطبقي"، والذي يماثل الاغتراب كما التسليع بالتشييئ (تم تشبيه الوعي بنموذج العقل الذي فقد وحدته - اغترب عن ذاته - وهو يتشيئ) والتقدم الحاسم الذي يمثله تحوله نحو أنطولوجيا مادية بالنتيجة ونحو التحليل الأنطولوجي-التكويني لظهور أنشطة الوعي.
حملت واقعيته الأنطولوجية لوكاتش أولاً على التمييز بحزم بين التشيؤ (die Gegenständlichkeit) والتشييء (die Vergegenständlichung): الأول يعبر عن الاكتفاء الذاتي الأنطولوجي للوجود في حد ذاته، غير مبال بحكم التعريف بأفعال التخوف (الإدراكية أو العاطفية) للذات، والثاني من ناحية أخرى هو بشكل ظاهر نشاط الوعي، الذي يطبع غاياته الخاصة على الأشياء. يتم التعامل مع الشيء ذاته كمقولة وجودية، معبرة عن التكوينات القارة في صيرورة الظواهر، عن الترسبات ذات الثبات النسبي في سيولة الصيرورة. ينتهي الوعي إلى تسليع نفسه، إلى صب داخليته في خارجية الأشياء (سارتر)، بهدف زيادة تحكمه التقني في الواقع.
بقدر ما تتعدد وتتكاثف الأنشطة التسليعية للوعي، بشكل أكثر دقة بقدر ما يتطور التلاعب التقني بالأشياء (يذكر لوكاتش كمثال استبدال الحودي بالسائق أو ظهور المصنع، مع تكاثر الأنشطة الميكانيكية، التي يصاحبها إنقاص وزن "التخارج") تنشأ الارضية المواتية لظهور ظواهر الاغتراب. وهكذا يخضع تعدد الكفايات والقدرات لعمل بنية مفروضة وليس للتأكيد الذاتي للشخصية . استقلالية الذات، إن وجدت، هي "استقلالية ممنوحة" أو "استقلالية متحكم فيها"، مُحددة مسبقا بحدود ثابتة بشكل صارم، وليست "استقلالية متحققة"، كنتيجة لاختيار حر بديل للذات (صاغ جان بيير دوراند التمييز بين نوعي الاستقلالية في كتابه الأخير). إنه مشهد ظهور الأطر أو العمال الذين يتمتعون بمجموعة واسعة من الكفايات في المؤسسات الصناعية الحديثة الكبيرة لكنهم محرومون من صفة صانعي القرار الأحرار؛ الشيء الذي ربما اقترح على لوكاش تعريفه للاغتراب بأنه التناقض بين تطوير الكفايات والقدرات ومتطلبات الشخصية. في "مقدمات إلى أنطولوجيا الوجود الاجتماعي"، يقترح بهذا المعنى، من خلال مقارنة محفوفة بالمخاطر إلى حد ما، مواجهة أنتيجون سوفوكليس او أندوماخيه يوربيديس براقنة اختزال حديثة، من أجل إظهار أن الطيف الواسع من الكفايات لدى هذه الأخيرة بعيد عن أن يكون بالضرورة مصحوبا بجوهر أخلاقي حقيقي، يضاهي مهارات البطلات القديمات.
والآن حان أوان الوقوف على تأثير لوكاتش على سارتر وميرلو بونتي. لقد حظي مفهوم التسليع، كما روج له لوكاتش بقوة في الفصل المركزي من كتابه "التاريخ والوعي الطبقي"، باهتمام كبير بين المفكرين الذين جاءوا أحيانا من آفاق مختلفة تماما عن أفقه. إذا كان تأثيره على رواد مدرسة فرانكفورت معروفا جيدا، فإن الأصداء التي يمكن أن تجدها تحليلاته لدى فلاسفة مثل سارتر وميرلو بونتي ربما تكون أقل إدراكا على نطاق واسع.
في تقديمه لكتاب لويس دالماس عن "الشيوعية اليوغوسلافية"، الذي حرر عام 1950 وأعيد نشره في Situations VI تحت عنوان "Faux savants ou faux lièvres"، لجأ سارتر لأول مرة إلى مفهوم التسليع (لم يستعمله لا في "الوجود والعدم"، ولا في "دفاتر من أجل الأخلاق")، وتحت تأثير لوكاتش بدأ في استخدامه حتى طور تحليلات معمقة للظاهرة في "نقد العقل الجدلي". من خلال رد الفعل ضد التلاعب المعمم بالذوات في النظام السوفيتي وضد أساسه النظري، صاغ سلرتر مفهوم "النزعة الموضوعية الستالينية"، حيث كتب قائلا: "أعني بالنزعة الموضوعية هنا موقفا ستالينيًا على وجه التحديد يدعي تاويل الممارسة البشرية، في أسبابها كما في آثارها، من حيث الموضوعية الصارمة. الشيء الذي يعني جعل الذاتية أثرا مطلقا، أي اثرا لن يتحول أبدا إلى سبب".
اعتمد سارتر على التحليل اللوكاتشي للتسليع من أجل إدانة ممارسات إبادة الذاتية في نظام شمولي والدفاع عن عدم قابليتها للاختزال. ورغم المواجهة التي حدثت بين المفكرين في عام 1949 على صفحات مجلة Combat، عندما كان لوكاتش في باريس لإلقاء محاضرته عن هيجل بدعوة من الجمعية الفرنسية للفلسفة، لم يتردد سارتر في اللجوء إلى نصوص خصمه عندما تعلق الأمر بإعطاء تفاصيل دقيقة المحتوى إلى المفهوم الجدلي للتسليع. يمكننا أن نتذكر الحكاية التي تقول، في هذا السياق، إن سارتر لام لينين لأنه نسي كلمة Verdinglichung (التسليع). عندما أكد أن بنية الحزب مصممة على غرار بنية المقاولة الحديثة. قال سارتر: "لينين محتال"، مذكّرا بأن المذهب التيلوري للمصنع الحديث اختزل الأفراد إلى آلات: بدا له تأكيد لينين على أنه الضمانة المثالية للتسليع. كل هذا لم يكن ليسعد لوكاتش الذي حاول بدقة في "التاريخ والوعي الطبقي" أن يؤسس عقيدة الحزب الثوري من النمط اللينيني كأداة للتحرر واللاغتراب!
(يتبع)