الثقافات الأركيولوجية والوحدات الاثنية


مالك ابوعليا
2023 / 5 / 22 - 00:30     

تأليف الأركيولوجي والمؤرخ الماركسي السوفييتي اليكساندر لفوفيتش مونغيت*

ترجمة مالك أبوعليا

الملاحظات والتفسير بعد الحروف الأبجدية بين قوسين (أ)، (ب)... هي من عمل المُترجم

تتلاحق الاكتشافات في الأركيولوجيا أحدها بعد الآخر دون انقطاع. يجب على العُلماء، لكي لا يتيهوا في هذه الكمية من المواد، ولكي تكون اعادة بناء التاريخ علمية، أن يُحسّنوا من تقنياتهم البحثية، ويجب، أن تكون حدود المعرفة القائمة على المواد الأركيولوجية والمسائل التي يُمكن لتلك المواد أن تُجيب عليها وأي المسائل التي لا تستطيع أن تُجيب عليها، مُدرَكةً تماماً.
من المُهم للغاية تحديد المسار الذي يجب اتباعه ان كان على علماء الأركيولوجيا أن يُقدموا مُساهمةً علميةً حقيقة في دراسة التاريخ الاثني. تحظى دراسة التاريخ الاثني للانسانية باهتمامٍ كبير من وجهة نظر تراكم المعارف حول الماضي، ومن وجهة نظر الجهود المبذولة لتحديد انتظامات تلك العملية، والتي كانت مرحلة ظهور الأُمة ذروتها. تُعد مسألة العلاقة بين الثقافات الأثرية والوحدات الاثنية مركزيةً في تحديد الدرجة التي يُمكن لعُلماء الأركيولوجيا من خلالها أن يحلوا مسألة النشوء الاثني. دَرَسَ هذه المسألة بشكلٍ أساسي حتى الآن العلماء الأوروبيين، وعلى أساس المواد الأوروبية، وفقط مؤخراً صارت أعمال الأركيولوجيين تشمل، في هذا الصدد، بياناتٍ من قاراتٍ أًخرى.
لُوحِظَ منذ الربع الثاني من القرن التاسع عشر، حينما بدأ الأركيولوجيين يُطورون تقنيات بحثهم، أن أنواعاً مُعينة من الأشياء، مثل المساكن والمدافن، توجد في مناطق جُغرافية مُحددة، وقد ظهرت مجموعات كاملة من هذه اللُقى التي عُرِّفَت من خلال مُصطلح "الثقافة". أدى مسح السمات الخاصة للظواهر الثقافية في منطقة جُغرافية مُحددة الى استنتاج مفاده أنها ليست موجودةً بشكلٍ عشوائي، ولكنها كانت تعبيراً عن التقاليد المُشتركة التي تربط سكان منطقة مُعينة معاً.
طَرَحَ الأركيولوجي السويدي أوسكار مونتيليوس Oskar Montelius، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مسألة العلاقة بين الثقافة الأثرية والشعب الذي خلقها. احتوت مُحاججات مونتيليوس على أهم الاستنتاجات المُستمدة من تقنية مسح خرائط المكان الأثري: إمكانية مُطابقة الثقافة الأثرية مع الشعب، وامكانية التوصل الى حُكم على أنساب الشعب الحامل لتلك الثقافة، على أساس تطوره المُستمر.
العالم التالي الذي استخدم هذه التقنية، والذي حَصَل في الواقع على شرف اكتشافها، كان الألماني غوستاف كوسينا Gustaf Kossinna (1858- 1931). انطلَقَ كوسينا من المبدأ الذي صيغ كما يلي: "لغة واحدة-شعبٌ واحد"، ورأى، أن كُل ثقافة أثرية يجب أن تحوز على سمة اثنية، وكَتَب: "تطابقت حدود الثقافات الأثرية في جميع الأزمنة، مع شعوبٍ أو قبائل مُتميزة للغاية". استندَ مفهوم كوسينا حول وحدة اللغة والثقافة، على مفهوم الشعب الذي أسسه فيلسوف القرن الثامن عشر الألماني يوهان غوتيفريد هيردر Johann Gottfried Herder والذي طوّره الرومانسيون لاحقاً: الثقافة في جميع تمظهراتها هي انبثاق عن الروح الشعبية، وبالتالي، يرتبط كُل عنصر من عناصر الثقافة بلُغة الشعب. صاغَ كوسينا عدداً من الطُرُق المُمكنة للربط بين البيانات الأركيولوجية والتاريخية واللغوية. لكن لم يكن قادراً على تطوير مبادئ يُمكن على أساسها إيجاد أساس موثوق للتقنية التي اقترحها. حتى أنه لم يُحاول أن يُثبت صحة تأكيداته.
بالنسبة له ولبعض أنصاره، كانت هذه مسألة ايمان أكثر منها علماً: لقد كانت دوغما. ونتيجةً لذلك، لم تتخذ هذه الفكرة الصحيحة شكلاً واضحاً كمنهجية، على الرغم من أنها مارست تأثيراً كبيراً على العلم لأكثر من نصف قرن.
كان ذلك مفهوماً نظراً للظروف التي أحاطت بنظرية كوسينا في ألمانيا نفسها. تبنّت العناصر ذات العقلية القومية في المُجتمع الألماني نظريته بحماس، وسَعَت في الحال الى وضعها في خدمة الأهداف السياسية. تم ايلاء القليل من الاهتمام بشكلٍ خاص لتطوير طريقة كوسينا علمياً أو التحقق من صحتها خلال فترة هتلر، وأُعلِنَت أنها عقيدة "ذات أهمية تاريخية عالمية"، و"أهم علم قومي"، الخ. أصبحَت المُناقشة الحرة للمسائل العلمية مُستحيلةً تماماً. تم استخدام طريقة كوسينا في بُلدانٍ أُخرى دون أي نقدٍ علميٍّ جاد، أو تم رفضها تماماً، من قِبَل العُلماء السوفييت في العشرينيات والثلاثينيات، على سبيل المثال. بالاضافة الى ذلك، أعلَنَ الأركيولوجيين السوفييت في هذه السنوات، أنه ليس فقط طريقة كوسينا، بل كل شيء مُرتبط بالتاريخ الاثني، هو عنصرية وخدمةً يُقدمها العُلماء للامبريالية. تغيّر الموقف تجاه مسائل التاريخ الاثني في نهاية أعوام الثلاثينيات، لكن ما ان بدأت الحرب العالمية الثانية، حتى تداخلت (الحرب) مع العمل الأكاديمي.
وهكذا، في الواقع، تأخّرَ تطوير مسألة التفسير الاثني للثقافات الأثرية، ولم يبدأ النقد الجاد لكوسينا الا بعد الحرب. لذلك، مهما بَلَغَ تكرار القول بأن كوسينا هو "منشأ الأركيولوجيا" وأننا تجاهلناه فترةً طويلة، الا أن المرء مُجبر على الاعتراف بأن مفهومه يكمن وراء العديد من مفاهيم العلماء المُعاصرين. لن أخوضَ في تفاصيل مُعالجة هذه المسألة في الخارج، لكنني سأُحيل القارئ الى مقالة جورجي ستيانفويتش كنابه Georgiĭ Stepanovich Knabe (مسألة العلاقات الداخلية بين الثقافة الأثرية والاثنية في الأدب الأجنبي المُعاصر)(1).
ظَهَرَت مؤخراً العديد من الأعمال التركيبية الشاملة حول تاريخ المُجتمعات القديمة التي كانت تعيش على أراضي الاتحاد السوفييتي الحالي في علم الأركيولوجيا السوفييتي. في هذه الأعمال، يتم دراسة تشكّل الوحداث الاثنية، الى جانب أمورٍ أُخرى. كما تم الاهتمام بمسألة الارتباط بين الثقافات الأثرية والوحدات الاثنية. هناك مقالات أ. بريوسوف، وبيوتر نيكولايفيتش تريتياكوف Pyotr Nikolaevich Tretyakov واليكسي بيتروفيتش سميرنوف وميخائيل يوليانوفيتش برايتشيفسكي Mikhail Yulianovich Braichevsky(2)، وكتاب لالكسندر الكسندروفيتش فورموزوف Aleksandr Aleksandrovich Formozov(3)، وبَحَثَ عالم اللغات بوريس فلاديميروفيتش غورننغ Boris Vladimirovich Gornung هذه المسألة بشكلٍ مُتكرر(4) ان المقالات التي كتبها مكسيم غريغوريفيتش ليفين Maxim Grigorievich Levin ونيكولاي نيكولايفيتش تشيبوكساروف Nikolai Nikolaevich Cheboksarov وسيرجي اليكساندروفيتش توكاريف Sergei Aleksandrovich Tokarev، ذات أهمية كبيرة لفهم هذه المسألة ككل(5).
ان الاختلافات في الرأي بين الباحثين كبيرة جداً. يرى البعض أن مسائل تحديد الكيانات الاثنية تقع خارج حدود مبحث الأركيولوجيا سواءاً كمُشكلة أو كإمكانية (غوردون تشايلد، سيغفريد دو ليت Sigfried J. de Laet). يؤكد آخرون أن التحديدات الاثنية غير ضرورية وليست ذات فائدة (اوزبيرت كروفورد Osbert Guy Stanhope Crawford). يؤكد العديد من عُلماء الأركيولوجيا أنه لا توجد حاجة لإظهار التطابق بين الثقافة الأثرية والاثنية بما أن المسألة محلولة. انهم يُطابقون بين المجموعات الأثرية والمجموعات اللغوية بشكلٍ تعسّفي. على الرغم من ذلك، يعتبر الأغلبية أن التحديدات الاثنية مهمة، وفي الوقت الذي تفهم فيه أن هناك مشاكل فيما يخص مناهج مُقارنة الثقافات الأثرية بالمُجتمعات الاثنية، الا أنهم يسعون لتحسينها.
دعونا ننتقل الى صُلب القضية. على الرغم من أن مفهوم "الثقافة الأثرية" هو من بين المفاهيم الرئيسية التي يجب على الأركيولوجي التعامل معها في سياق عمله العلمي، الا أننا لا نملك بعد تعريفاً شاملاً ودقيقاً لمُحتواها. التعريف الذي اكتسَبَ انتشاراً واسعاً في الاتحاد السوفييتي، هو التعريف الذي طرحه بريوسوف A. Ia. Briusov، الذي يفهم الثقافة الأثرية بأنها "وحدة من المواقع الأثرية على مساحة متواصلة ومحدودة، تعود الى فترة زمنية مُحددة والتي تكون عادةً بين عدّة مئات من السنين، أقل أو أكثر من ألف عام. تظهر تلك الوحدة، في التشابه الوثيق لأنواع أدوات العمل والأواني والأسلحة والحُليّ الموجودة في هذه المواقع... وفي تغيّر شكلها عبر الزمن بطريقةٍ موحّدة (تشابه الأغراض بالرغم من مرور الزمن، انتقال التجربة المشروط من جيلٍ الى آخر)(6). يكمن عدم دقّة هذا التعريف بادئ ذي بدئ، في حقيقة أن معيار "التشابه الوثيق" هو معيار ذاتي للغاية. بالاضافة الى ذلك، فإن العديد من عناصر الثقافة التي تجذب انتباه الأركيولوجي (طقوس الدفن، الأبنية، الخ) ليست مُدرجةً فيه. هناك عدد من تعريفات "الثقافة الأثرية" تُشبه ذلك التعريف أعلاه، ولا يشمل أيٌّ منها جميع جوانب الثقافة، وهي تُقدّم معايير كميّة للثقافة.
نظراً لعدم وجود تعريف واضح، غالباً ما يتم، عند العمل على تحديد ثقافةٍ ما، استدخال سمات ذات أهمية مُتباينة في الخرائط الأركيولوجية. يحدث هذا بشكلٍ أساسي، على النحو التالي: عند مسح خرائط للأشياء الأركيولوجية من نفس النوع، نُلاحظ أنه بالاضافة الى المواد المُنتشرة بشكلٍ واسع، يُمكن للمرء أن يجد أدوات ومدافن ومبانٍ تعود الى منطقةٍ محدودة، مما يجعل من المُمكن التمييز بينها وبين مواد المناطق المُحاذية. نظراً لأن ظواهر من أنواعٍ مُختلفة تكون قد مُسِحَت وتحددت، ولم يتم بعد إثبات أيٌّ منها أكثر أهميةً، فإن هذا يفتح الباب للتقييمات الذاتية. يُحدد بعض الباحثين الثقافات الأثرية من خلال اعتبار أن الأكثر أهميةً هو أنواع الأدوات، بينما يعتبر البعض الآخر أن الأكثر أهميةً هو أنماط الاستيطان، أو المدافن، وما الى ذلك. نتيجةً لذلك، يجد المرء أنه تم تحديد عدد من الثقافات التي لا تختلف في المُحتوى فقط، بل وفي المناطق أيضاً ووضعها في الخط العام لمبحث الأركيولوجيا ككيانات تتساوى في البحث. هكذا، يُلاحظ المرء، في مبحث الأركيولوجيا، وجود ثقافات ذات أهمية مُتساوية، من ثقافات صغيرة جداً، الى ثقافات تُغطي مساحة تتكون من آلاف الكيلومترات المُربعة، كما في حالة ثقافة أندرونوفو أو ثقافة الاطار الخشبي. يواجه المرء كثيراً، في الآونة الأخيرة، بالاضافة الى مُصطلح "الثقافة الأثرية" لمناطق واسعة جُغرافياً، مُصطلحات من مثل "المنطقة الثقافية" و "المنطقة الأثرية" والتي تُوظّف من أجل التعبير عن المناطق التي وُجِدَ أنها تحتفظ بِسِمَة وحدة المواد خلال فترة زمنية طويلة، على الرغم من حلول ثقافة أثرية محل أُخرى(7). ان تكنيك المسح الأركيولوجي للخرائط فقط من خلال معيار السمات التي منطقة مُعينة وحقبة تاريخية مُعينة، يعود بنتيجة مفادها أن تختفي بسبب هذا التكنيك، مجموعة مُتنوعة من الظواهر التاريخية-من بينها احتمالية وجود وحدة اثنية مُحتملة.
يجب الانتباه الى الاختلاف بين مفهومي "الثقافة الأثرية" و"الثقافة" بشكلٍ عام بوصفها مجموع القيم المادية وغير المادية التي خلقتها البشرية. الثقافة الأثرية، هي قبل كُل شيء، مادة ثقافية أثرية، مثل أدوات العمل، المساكن، الخ. تُتيح دراسة هذه المجموعة، في المقام الأول، وصف التفاعل بين الانسان والطبيعة. الجوانب الأُخرى للثقافة الانسانية، مثل الجانب الاجتماعي (الذي يتكون من علاقات الناس ببعضهم) والجانب الايديولوجي (الأفكار، المُعتقدات، المعارف) تظهر أمام عالم الأركيولوجيا فقط كنتيجة للدراسة العلمية واعادة بناء الموضوع. في نفس الوقت، فإن هذه الجوانب بالتحديد هي التي تشتمل على ما يُميّز الثقافة المعنية بالذات، لأن المُكتشفات العلمية والتكنيكية تنتشر من مُجتمعٍ الى آخر بسرعة، ويحدث بالتالي، أن يُواجه الاركيولوجي ثقافة مادية مُتطابقة أو مُتشابهة على مساحاتٍ شاسعة. يزداد تعقّد مسألة تحديد الثقافات بسبب حقيقة أنها تنتشر وتتوزع من واحدةٍ الى أُخرى.
ان الوحدة الاثنية، في العلم المُعاصر، هي أيضاً مفهومٌ مُتوزّعٌ للغاية. قد تُشارك العديد من السمات في تحديد هذا المفهوم، مثل مجموعة اللغات، المنطقة الجُغرافية، الدين، وما الى ذلك، ولكن في نفس الوقت ولا واحدة منها لوحدها الزامية أو أساسية في تحديده(8). توصّل الاثنوغرافيين السوفييت مؤخراً الى استنتاج مفاده الى أن دليل ومؤشر مُجمل البيانات الموضوعية والتي تُعبّر عن الانتماء الى هذه المجموعة الاثنية أو تلك، هو، في التحليل الأخير، الوعي الذاتي الاثني. وغنيٌّ عن القول أنه يَصعُب تطبيق هذا المعيار على الكيانات التي يدرسها الأركيولوجيين. كما لم يتم تطوير تصنيف لأنواع الوحدات الاثنية. عادةً ما يتم الحديث حول ثلاثة أنواع: القبيلة، الشعب والأُمّة. الأُمّة كظاهرة مُتأخرة لا تُهمنا هنا. يُوجّه الأركيولوجي الذي يتعامل مع عصر المشاعية البدائية انتباهه أولاً وقبل كُل شيء الى القبيلة، والتي تتحدد معاييرها الخاصة بها على أساس البيانات الاثنوغرافية. لدينا هُنا، قبل كُل شيء، تحالف بين عشائر تربطها قرابة الدم وتُوحّدها أُصولها المُشتركة، ويُشتَق من هذا المعيار التالي: وحدة اسم القبيلة ولُغتها ومنطقتها ومصالحها الاقتصادية المُشتركة والدين والتصورات والعادات. تظهر الوحدة السياسية في مرحلةٍ مُتأخرةٍ من تطور القبيلة. ومع ذلك، فإن القبيلة، هي فئة صغيرة جداً، ولا يُمكن فعلياً اكتشافها من خلال المواد الأركيولوجية، وبالتالي يصعُب على الأركيولوجيا الكشف عنها. ان تشرذم القبائل يصل الى تلك الدرجة التي لا يُمكنها معها أن تُقارن حتى بأصغر الثقافات. هناك أكثر من 1000 قبيلة على خارطة شعوب افريقيا الاستوائية والتي نشر عنها المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي، وأكثر من 225 مجموعة قَبَلية في الكاميرون وحدها(9).
ان ما أطلَقَ عليه أحياناً مؤرخي العصور الكلاسيكية القديمة أو المؤرخين الروس بأنه قبيلة، وما يُمكن أن نُحدده أحياناً حسب البيانات الأركيولوجية، هي في الحقيقة تحالفاتٍ قَبَلية. لكن هذه ظاهرة مُتأخرة نسبياً، فقد ظَهَرَت التحالفات القَبَلية عشية ظهور المُجتمعات الطبقية. قَبل أن تظهَر تلك التحالفات، كانت الفئة الرئيسية للوحدة الاثنية هي مجموعة القبائل ذات الصلة التي تعيش في أراضٍ مُتجاورة، وتتحدث لهجاتٍ من لُغةٍ واحدة (أو بالأحرى، لغاتٍ مُرتبطةٍ ارتباطاً وثيقاً) وتشتركُ معاً في العديد من الجوانب الثقافية. من الواضح أن هذه الوحدات بالذات هي التي تضم تلك الثقافات الأثرية الرئيسية (المناطق الثقافية). تَقَع هذه الوحدات زمنياً في فترة العصر الحجري الحديث المُتأخر، أو العصر البرونزي أو العصور الحديدية المُبكرة، والتي تلعب دوراً رئيسياً في دراسة التاريخ غير المكتوب.
يعتقد العُلماء السوفييت، ليس مثل غوستاف كوسينا وأتباعه ، أن الثقافات الأثرية تجعل من المُمكن الحصول على فكرة حول ظواهر أوسع بكثير من مُجرّد انتماءها الاثني. كَتَبَ المؤّرخ السوفييتي الكسندر ديميترييفيتش اودالتسوف Alexander Dmitrievich Udaltsov: "تعكس الثقافة الأثرية تطور قُوى الانتاج وعلاقات الانتاج، فضلاً عن عددٍ من ظواهر البناء الفوقي التي تُميّز في مُجملها الكيان المُجتمعي المُعطى، وتُشكّل مصدر إعادة بناء نظري لمرحلةٍ مُعينةٍ من تاريخ شعبٍ مُعينٍ وثقافته (بالمعنى العام للكلمة). نحن نُلاحظ، ضمن حدود الفئات الأثرية الواسعة خصائص الحياة اليومية والملابس والمساكن والأواني والعمل وتفاصيل طقوس الدفن وما الى ذلك، والتي تعود الى هذه المجموعة المحلية أو تلك، مما يوفّر لنا أساساً لتصنيف اثنيتها"(10). ولكن، تمسّكَ بعض الأركيولوجيين السوفييت بوجهة نظر عفا عليها الزمن مفادها أن كُل ثقافة أثرية يجب أن يكون لها معنىً إثنيّ. هذا ما كَتَبه ميخائيل يوليانوفيتش برايتشيفسكي Mikhail Yulianovich Braichevsky: "نحن نفهم مما نُسميه الثقافة الأثرية، بأنها ارتباطات ظاهرة أثرية مُتصلة اتصالاً وثيقاً بوحداث اثنية مُعينة. نحن لا نعتبر أي ثقافة لا تتوافق مع مجموعةٍ اثنية، بأنها ثقافة أثرية بهذا المعنى"(11).
ولكن لو استندنا في أحكامنا على حقائق فعلية، فهل من المُمكن أن نجد أن كل ثقافة أثرية تتطابق مع وحدةٍ اثنية؟ وهل توجد معايير مُباشرة مُهمة تدلنا على الوحدة الاثنية، كاللغة؟ دعونا ننتقل الى الأمثلة الملموسة من الاثنوغرافيا، مُفترضين انها اختيرت من بين الشعوب المُرتبطة بظروفٍ جُغرافية مُحددة ونمط اقتصادي مُحدد، وتطرح المسألة بالتالي بشكلٍ أجشّ، ولكننا نتعامل في نفس الوقت مع ظواهر يُمكن أن نُسميها "محضة" بدون العديد من التراكبات التاريخية المُرافقة لها.
قد يكون الأسكيمو الأمريكيين بمثابة مثال يدعم فكرة كوسينا. تتطابق المنطقة التي يعيشون فيها تماماً مع حدود المنطقة الاقتصادية-الثقافية القُطبية، والتي لا يعيش فيها غيرهم، وهم مُوحّدون اثنياً. ان لهجاتهم مُتباينة قليلاً، ولكنها مُتشابهة الى تلك الدرجة التي يُمكن أن يفهم الأسكيمو الألاسكي شخصاً آخر من أسكيمو غرينلاند بدون صعوبة كبيرة. يختلف نمط حياتهم اختلافاً حاداً عن نمط حياة الهنود المُجاورين بحيث يُمكن رسم حدود اثنية بينهم دون صعوبة(12). المثال المُعاكس، هو هُنود بويبلو، حيث تتطابق ثقافة البويبلو بالتفاصيل أينما كانوا، بدءاً من الولايات الأمريكية الجنوبية الغربية وصولاً الى شمال المكسيك. لكن تتحدث مجموعات البويبلو المُختلفة (ذات الثقافة المُتطابقة) بأربعِ لُغاتٍ مُختلفةٍ تنتمي الى مجموعة اليوتو أزتيك اللغوية Uto-Aztecan، وهي: التانو Tano، والكيريس Keres والهوبي Hopi (Shoshonean) والزوني Zuni. يُمكننا أن نضع قائمة كاملة بأمثلة حول الشعوب المتنوعة ذات الثقافة المُتشابهة بل والمتطابقة، والتي لا تتطابق لُغاتها. نذكر الأوزبك والطاجيك، الليتوانيين Letts والاستونيين، الشوفاش Chuvash والماريين Maris، البُلغار والغاغاوزيين Gagauz في مولدوفا، والجيلياكيين والأولتشيين.
كان هناك العديد من المجموعات المستقلة في تواصلٍ مُستمرٍ مع بعضها، وبما أن وسيلة التواصل كانت اللغة، فمن المُحتمل أن أقدم وحدتين اثنية ولغوية مُتزامنتين. ومع ذلك، في وقتٍ لاحق، ونتيجةً لانتظام مُعدلات تطور اللغة والثقافة، ضاع هذا التزامن جُزئياً أو كُلياً، على الرغم من بقاء الصلة بين هاتين الظاهرتين الاجتماعيتين دائماً بأشكالٍ مُختلفة(13). كانت العلاقة بين اللغة والثقافة أكثر تعقيداً في الحالات التي كانت عمليات استيعاب واستعارة مجموعة اثنية ما للغة مجموعات اثنية جديدة وصلت حديثاً الى منطقتها، بحيث يُمكن الاستشهاد بأمثلة، حيث تُحافظ فيها الأولى على ثقافتها الأصلية سليمةً تقريباً، على الرغم من استعارة اللغة الجديدة وتأثرها بها. هذا هو الحال، على سبيل المثال، مع ثقافة الفيدا السيلانيون Veddas of Ceylon، الذين يتحدثون باللغة السينهالية، أو جُزءٍ من البيجميين الأفارقة African Pygmies، الذين يعيشون في وئامٍ اثني مع النيغرو Negroes. تتحدث قبائل الهيريرو Herrero في الجُزء الشمالي من جنوب غرب افريقيا احدى لهجات البانتو Bantu dialects، على الرغم من حقيقة أنها تنتمي الى النموذج الثقافي الهامي Hamitic cultural (14). ان غزو الفايكينغ للنورماندي تحت قيادة روللو Rollo في بواكير القرن العاشر (911) يفصله حوالي قرن ونصف عن غزو وليام (سليل روللو) لانجلترا عام 1066. من وجهة النظر الأركيولوجية، لا يوجد هناك انقطاع في ثقافة النورمانديين في الفترة ما بين هذين التاريخين، ولكن يوجد تطور تدريجي وطبيعي. لو كان لدينا أدلة أركيولوجية فقط، لما كان لدينا أي أساس للشك أنه خلال تلك الفترة ، بعد أن نسيت الطبقة النورماندية الارستقراطية "لُغتها الخاصة، تبنّت الفرنسية وهي اللغة التي أدخلها النورمانديون الى انجلترا والتي فُرِضَت كلًغةٍ للدولة لقرونٍ عديدة"(15).
يُمكننا أن نًلاحظ ظواهر مُعاكسة، حيث تخلق الاختلافات الاجتماعية التي تطورت تاريخياً عند شعبٍ واحدٍ أشكالاً مُميزة من الحياة. على سبيل المثال، لا يعتبر العرب البدو سُكّان المُدن والفلاحين رجالاً قَبَليين، على الرغم من أنهم جميعاً يتحدثون نفس اللغة.
يُدرِك الأركيولوجيين أن مُجتمعات تتكلم لغاتٍ مُختلفة قد تحوز على ثقافةٍ ماديةٍ مُتطابقة، وقد افترضوا لمدةٍ طويلة، أن المنطقة الشرقية لثقافة هالشتات Hallstatt التي تعود الى بواكير العصر الحديدي تنتمي الى الاليريين Illyrians، وتنتمي منطقتهم الغربية الى الكلتيين. غالباً ما تكون مُحاولات أنصار مفهوم "النشأة الأصلية" autochthonism(أ) للعثور على أسلاف شعبٍ مُعيّنٍ في المنطقة التي يعيشون فيها، بلا أساس، بسبب الهجرات المُستمرة التي حدثت على مدى قرونٍ عديدة. يكاد لا يوجد أي شعب مضى تاريخه في عُزلةٍ تامة. تتغير باستمرار الحدود الجُغرافية لتوزّع المجموعات اللغوية. على سبيل المثال، اللغة العربية التي كانت في القرن السابع مُستخدَمةً من قِبَل مجموعةٍ سُكانيةٍ صغيرةٍ نسبياً حتى القرن السابع الميلادي، مُنتشرةٍ الآن في مناطق واسعة. كما تطورت اللغات التركية عدة مرات. تُوحي الأمثلة المذكورة أن الحذر والتدقيق مطلوبين عند مُطابقة لُغة بثقافةٍ أثرية. نظراً لأنه لا يُمكن وضع قانون حول العلاقة بين اللغة والثقافة الأثرية، فإنه يجب على الباحث أن يدرس جميع الاحتمالات في كُل حالةٍ فردية، ويجب عليه أن يبتعد عن سذاجة مُطابقة الثقافة الأثرية مع المجموعة اللغوية.
ولكن ان لم نتمكن حقاً من اثبات العلاقة المُباشرة بين اللغة والثقافة الأثرية، فهل لا يزال من المُمكن اكتشاف هذه الروابط من خلال وساطة مُكونات الوحدة الاثنية الأُخرى، في ضوء حقيقة أن مفهوم الوحدة Unit الاثنية، بالنسبة للأركيولوجيين والاثنوغرافيين مُتميّز ومُختلف عن مفهوم المجموعة اللغوية بالنسبة لعُلماء اللغة؟ لقد لاحظنا سابقاً أن نفس تكنيك تحديد الثقافات الأثرية هو اثبات أن هذه الثقافات هي ظواهر مُختلفة بالمعنى الاثنو-سوسيولوجي، أي أنها أشكال مُختلفة من المُجتمعات التاريخية. قد يُمثّل بعضها نمطاً مُعيناً من الاقتصاد والثقافة، مُعبرةً عن سمات تطورٍ اجتماعيٍ مُحدد في ظروفٍ جُغرافيةٍ مُتنوعة (على سبيل المثال، الصيادين المُتفرقين في مناطق الغابات، وصيادي الأسماك المُستقرين عند الروافد السُفلية للأنهار الكبيرة)(16). عندما تكون المسألة قيد النقاش هي ثقافة أثرية ذات نمط اقتصادي-ثقافي مُعيّن، فلا يُوجد مُسوّغ لافتراض ان هُناك مُجتمع اثني أو مجموعة لغوية مُحددة. لذلك، فإن نيكولاي نيكولايفيتش تشيبوكساروف مُحق في التأكيد على أن مواقع العصر الحجري الحديث في أوروبا الشرقية، التي تتميز بزخارف (ثقافة الحُفرة) على الأواني، لا تُجيب على السؤال عما ان كانت تنتمي حقاً الى مجموعة القبائل الفينوأوغرية Finno-Ugrian المُرتبطة بأصولها ولُغتها ببعضها البعض، أو أنها بقايا لمجموعات صيادي منطقة الغابات وصيادي الأسماك من أصولٍ مُتنوعة، والتي، لم تكن في كثيرٍ من الأحيان، مُرتبطةً ببعضها(17). يصح هذا بشكلٍ أكبر، على مثال أن التمايز والاختلاف بين النمط الاقتصادي-الثقافي الذي كانت تنتمي اليه القبائل الشمالية الشرقية السلافية من جهة والنمط السلافي الجنوبي الشرقي من جهةٍ أُخرى، كان تمايزاً أكبر وأعمق، من التمايز بين المجموعات الفينواوغرية نفسها، الذين كانوا جيرانهم-(جيران سلاف الشمال الشرقي)-المُباشرين.
تُشكّل ثقافات العصر الحجري الحديث في جنوب الصين نمطاً اقتصادياً-ثقافياً من المُزارعين الحراثين. لكن صارَ هذا النمط سائداً بين غالبية الشعوب التي تتحدث لغات جنوب آسيا (الخمير Mon-Khmer) مثل لغة تشوانغ تونغ Chuang- Tung والمياو ياو Miao-Yao، وكذلك ساد بين مجموعاتٍ مُعينة من بين المتحدثين بلغة التيبتو بورمان Tibeto-Burman(18).
الوضع أكثر تعقيداً فيما يتعلق بالثقافات الأثرية التي تتوافق بطبيعتها مع ما يُسمّى بالمناطق التاريخية-الاثنوغرافية. في هذه الحالات، من الصعب وأحياناً من المُستحيل الاجابة على السؤال حول ما اذا كُنا نتعامل مع مجموعاتٍ مُرتبطةٍ بالأُصول وقريبةٍ من بعضها باللغة، أم مع مجموعاتٍ مُتنوعة طوّرَت خصائص ثقافيةٍ مُشتركة كنتيجةٍ لتاريخ تواصلٍ طويل. أفضل الأمثلة على هذه المناطق هي منطقة البلطيق وشمال القوقاز، حيث توجد ثقافاتٍ وثيقة الصلة جداً، مع وجود تشرذمٍ لغويٍّ شديد.
يوجد في داغستان حوالي مليون شخص يتحدثون اكثر من 60 لغة (19). ان الاختلافات الثقافية ما بين الشعوب التي تعيش في بعض البُلدان الآسيوية والافريقية أكبر الى حدٍ ما من تلك الاختلافات ما بين شعوب شمال القوقاز. ولكن، يجب التأكيد على أن الاختلافات اللغوية عند شعوب الأخيرة، أكثر وضوحاً مما هو في بعض مناطق افريقيا وآسيا. هناك أكثر من 117 لغة في السودان و500 في الكونغو، بدون احتساب الهجات، بينما يتحدثون في أندونيسيا حوالي 250 لغة. يُمكن أن نذكر كذلك منطقة مُستوطنة بيلودجي Beludji في ايران والذين يتحدثون بلغة المجموعة الايرانية، مُجاورين تماماً للبراهوي Brahui الناطقين باللغة الداوودية والذين يصعب تفرقتهم ثقافياً عن البيلودجي في نمط حياتهم.
ما هي اذاً مكونات الثقافة الأثرية التي يُمكن أن تُظهِر أن مُجتمعاً مُعطى يُشكل وحدةً اثنيةً من نوعٍ ما؟
انها تلك، التي لا ترتبط مُباشرةً بالانتاج وبالظروف الجُغرافية التي تؤثر على الاقتصاد ونمط الحياة في المقام الأول، ولكنها تلك المُكونات التي ترتبط بالجانب الفكري للحياة، بالفن والدين، والتي تعكس التقاليد المُتوارثة من جيلٍ الى آخر. في الواقع، قد تكون أدوات العمل والأسلحة مُتشابهة بين شعوبٍ مُتنوعة لأن وظيفتها ونوعية المواد الخام المُستخدمة في صُنعها هي التي تُحدد أشكالها في المقام الأول، ومن ثم تأتي التقاليد في المقام الثاني. بمعنى آخر، ان عزق التربة بحد ذاته، بتوفر البرونز، سيقود في نهاية المطاف، وبعد التجريب المُستمر، الى صُنع نفس الأداة تقريباً عند ثقافاتٍ مُختلفة. اضافةً الى ذلك، انتشرت أدوات العمل بين مجموعاتٍ سُكانية ذات تكوينٍ اثنيٍّ مُتنوع عن طريق تبادلها بين القبائل. بالنسبة الى تقنيات المساكن والبناء بشكلٍ عام فهي تعتمد الى حدٍّ كبير على الظروف الجُغرافية (المناخ، توافر مادة بناء مُعينة، وما الى ذلك). ولكن زخرفة وشكل الأواني، هي عناصر مُستقرة وثقافية-أثرية استثنائية، وغالباً ما تبقى ويتم الحفاظ عليها عبر التقاليد على مدى قرون على الرغم من التغير في مصائر القبيلة المعنية. الشكل الفنّي هو تعبير عن فكرةٍ ما، مُرتبطة بالسمات الخاصة للتطور الانساني ضمن حدود منطقةٍ تاريخيةٍ مُعينة، ودرجةٍ مُعيّنةٍ من الوعي الذاتي الاثني.
في العصور القديمة البعيدة، يُمكننا أن نرى رؤية اتساق سمات التطور الفني لكل منطقة أكثر بكثير من اتساقها في الظروف المُعاصرة، طالما أن تقدم الفكر ووسائل الاتصال الحديثة يؤديان الى انتشار الظواهر الابداعية على نطاقٍ واسع. ومع ذلك، يجب ان يتم توخّي الحذر حتى عند مُلاحظة الفخّار والأشكال الابداعية. هنا، يُمكن للأركيولوجي أن يجد عالماً كاملاً من المخاطر يترصّد له. على سبيل المثال، قد تنشأ، في ظل ظروفٍ تاريخيةٍ مُماثلة، عناصر ثقافيةٍ ماديةٍ مُتماثلة بشكلٍ مُستقل عند قبائل مُختلفة. وهكذا، ظَهَرَ في العصر الحجري، نوع من الأواني المُلوّنة المُتشابهة بين القبائل الزراعية المُبكرة على مساحاتٍ شاسعةٍ من نهر الدانوب الى الصين(20). قد تظهر تقنيات رسم وتلوين فخار مُتشابهة عند قبائل مُختلفة بشكلٍ مُستقلٍّ عن بعضها البعض. ويحدُثُ أيضاً أن تكون أوان قبائلٍ مُختلفة مُتشابهة في عملية التطور التاريخي، حيث يكون لعامل نمط الحياة والزخرفة في مراكز الانتاج الرئيسية في بعض الأحيان ثِقَلاً بحيث يصعب تمييز الأشكال القَبَلية على هذا النحو. تُعتَبَر الفروق في الملابس وتسريحات الشعر معايير تُميّز هذه القبيلة أو تلك، وهي حقيقة لاحظها المؤرخون الكلاسيكيون. ومع ذلك، فإننا للأسف، لا نجد في المواد الأركيولوجية مجموعات ملابس أو أشكال للشعر كاملة، ولكن فقط عناصر فردية، مثل مشابك معدنية ودبابيس وأحزمة وأزرار. على الرغم من أنه يُمكن في بعض الأحيان اعادة بناء ما كانت عليه الملابس وقصات الشعر من هذه العناصر الفردية، الا أن هذه الأخيرة بالتحديد هي التي كانت عُرضةً أكثر من غيرها للانتشار العالمي، ونشأت في أحد مراكز الانتاج. وهكذا، تم تحديد ما سُميَّ بثقافة تشيرنياخوف Chernyakhov عن طريق مسح خريطة عُنصرين مُذهلين: ابزيم الحزام، والفخار الطُقسي، على مساحاتٍ شاسعةٍ من أوروبا الشرقية. بُذِلَت الجهود لربط هذه الثقافة بالقبائل ما قبل السلافية. أتاحت الدراسة الدقيقة للعناصر الأُخرى لهذه الثقافة الافتراض بأنها لم تكن مُوحّدةً اثنياً، والكشف عن أن الوحدة الظاهرية للثقافة المادية قد نشأت تحت تأثير مراكز الانتاج في المُقاطعات الرومانية. لا يوجد لدى الأركيولوجيين حالياً ما يضمنونه لكي لا تحدث مثل هذه الأخطاء، لكن قد يؤدي تحسّن تكنيكات التحليل التصنيفي في المُستقبل الى تقليلها. أخيراً، قد تكون تفاصيل طقوس الدفن ذات أهمية في تحديد الهوية الاثنية. يدور الحديث هُنا عن تفاصيل الطقوس على وجه التحديد، وهي تفاصيل ثانوية ويصعُب اكتشافها. وهكذا، على سبيل المثال، ثَبُتَ أنه من المُمكن تحديد أراضي قبيلة بوليان السلافية الشرقية من الناحية الأركيولوجية من خلال تفاصيل الدفن في الحُفرة المُتميزة عن المدافن الأُفقية تحت كومةٍ من التراب على مُستوى الأرض والتي وُجِدَت بين القبائل المُجاورة(21). في الوقت نفسه، يجب أن يؤخذ في الاعتبار أن العديد من المجموعات الاثنية لديها طقوس دفن مُتعددة وليست من نوعٍ واحد، على سبيل المثال مُورِسَت في نفس الوقت طقوس حرق الجثث ودفنها، ولم نستطع الى اللحظة أن نُحدد الظروف الأسباب التي تُستَخدَم فيها كُل حالة من الدفن.
من الناحية المنطقية، يُمكن الافتراض بأن مثل تلك السمات المُتعلقة بالثقافة المادية المذكورة أعلاه، والتي لا تعتمد على الانتاج والقادرة على أن تعمل كمعيار للاثنية، يجب أن تتطور بالتوازي مع المعايير اللغوية وبالتالي قد تشير الى ارتباط لغوي-اثني(22). ان وجود التقاليد في مُجتمع، يفترض وجود التواصل بين أعضاءه، واللغة هي وسيلة التواصل، لا يوجد دليل آخر يدعم هذا التأكيد.
يكمن ضعف المنهجية في حقيقة أننا مُضطرون الى اعتبار الثقافة ليس ككل، بل اعتبارها مجموعاً لأجزاءها الفردية. بالاضافة الى ذلك، عادةً ما تكون الخصائص الثانوية هي التي تُثبت بأنها هي الوسائل "التشخيصية". ولكن لاثبات حقيقة أن بعض الثقافات الأثرية تجعل من المُمكن التوصل الى أحكام فيما يتعلق بالوحدات الاثنية، وبالتالي فإن الظواهر اللغوية بحد ذاتها غير كافية للأركيولوجيين، بل وحتى اللغويين. من الطبيعي مُقارنة المفاهيم الموجودة في علم اللغويات حول أُصول أقدم المُجتمعات اللغوية ببيانات الأركيولوجيا. ان تاريخ ومُمارسة مثل هذه المقارنات هو موضوع مُناقشة مُنفصل، وبدون أن نُعالج المسألة هُنا، دعونا نُلاحظ فقط أننا نرى أنه لا اللغويين ولا الأركيولوجيين مُستعدين حالياً لحل مثل هذه المسائل. ان الاكتشافات الناتجة عن المسح الأركيولوجي المُتطابقة مع مُكتشفات المسح اللغوي، على أساس بياناتٍ غير مُكتملة عند كُلٍّ منها، ليست أكثر من مُجرّد مُصادفة، ولا يُمكن اعتبارها أساساً للتعميمات العلمية. ان عدم نجاح البحث عن المنطقة التي قد تكون قد نشأت فيها المجموعة اللغوية الهندوأوروبية، هو أفضل دليل على عدم استعدادنا الحالي لحل تلك المسألة.
تُشكّل إمكانية تحديد الثقافة الأثرية ومُطابقتها مع الشعب المذكور في مصادر مكتوبةً مسألةً مُنفصلة. يبدو أن كل شيء بسيط هُنا: يكفي تحديد ما هي البقايا الموجودة في المنطقة التي تُميّز ما وصفه المؤلفون القُدامى حول أُناسٍ مُعينون في نفس المنطقة في زمنهم. بالاضافة الى ذلك، يُمكن أن نذهبَ بأثرٍ رجعي، عند تحديد ثقافةٍ ما، الى أعماق القرون، وتحديد جذورها القديمة من خلال تتبع روابط نشوء الثقافة. ومع ذلك، من الناحية العملية، قام الأركيولوجيين السوفييت والأجانب على حدٍّ سواء، بإعادة بناء نظري للنشوء الثقافي أحياناً بنقدٍ غير كافٍ للمصادر. وقد أدّى ذلك الى ظهور مفاهيم خاطئة حول النشوء الاثني لشعوبٍ قائمة حالياً. ان المعلومات والبيانات التي طرحها مؤلفو العصور القديمة غير مُكتلمة بالمرة وغير موثوقة وغير دقيقة، وغالباً لم يصفوا الكيانات الاثنية الفعلية، بل صنفوها وحسب. وهكذا، كان النموذج الذي طرحه المؤرخ اليوناني هيكتايوس المالطي Hecataeus of Miletus 550-476 قبل الميلاد، الذي أكّدَ أن ان الشرق كان مسكوناً بالقبائل الهندية، والشمال من قِبَل السكيثيين، والغرب من قِبَل الكلتيين، والجنوب من قِبَل الأثيوبيين، نُقطة انطلاقٍ للمؤلفين اليونانيين، وكان السبب في أنهم صنفوا الجرمان مع الكلتيين. اعتَبَرَ غايوس كورنيليوس تاكيتوس Gaius Cornelius Tacitus أن الفينيدي هم الجرمان، لأنهم كانوا مُستقرين واختلفوا بهذا الصدد عن السارماتيين البدو.
تم طرح أوصاف اثنوغرافية أكثر دقةً لشمال أوروبا ما بعد جبال الألب لأول مرة من قِبَل غايوس يوليوس قيصر. ولكن حتى هذا، ومن أجل خدمة أغراضه السياسية، قالَ بأن نهر الراين هو الحد الفاصل بين الكلتيين والجرمان، مع أنه لم يكن كذلك فعلاً(23). ولكن اذا كان من المُستحيل أن يثق المرء في كتابات الكلاسيكيين دون نقدٍ جدا، فإن المواد الأركيولوجية على هذا النحو تظهر في الفترة التاريخية المُبكرة في شكلٍ يصعُبُ دراسته. من الأسهل بالنسبة للأركيولوجيين أن يُطلقوا أحكاماً حول أكثر الثقافات القديمة في العصر الحجري والعصر الحديدي المُبكّر عندما لم يكن السُكان مُنتشرين على نطاقٍ واسع، وعندما كان التواصل والروابط التجارية بين المُجتمعات الفردية غير مُتطورة بعد. لذلك، نشأت ثقافة كل مجموعة بشرية (المُحددة بعلاقة العشيرة أو المنطقة)، نتيجةً للحياة المُستقلة للمشاعات، على أساس خبرة الأجيال السابقة والتقاليد المحلية. ربما كانت الثقافات الأثرية لتلك الفترة تتوافق في أغلب الأحيان مع الوحدات الاثنية مثل القبائل أو مجموعات القبائل ذات الصلة(24).
تظهر الثقافات الأثرية، بالذات في تلك العصور التي لا نعرف شيئاً عن لُغاتها، على صورتها "النقية". في أزمنةٍ لاحقة، صار من الصعب معرفة حدود الثقافات الأثرية المُتطورة جيداً، مثل ثقافة لاتين La Tène(ب)، لأنها مارست تأثيراً كبيراً على الثقافات المُجاورة، ولا نستطيع، بسبب المناطق البينية الواسعة، تحديد المنطقة التي نشأت منها الثقافة في الأصل. وعلى أي حال، لا يُمكن للمرء تحديد اقليم شعبٍ كانت مناطقه منتشرةً بشكلٍ واسع، لأن تلك المناطق، ستكون بلا شك، أكثر اتساعاً مما تبدو عليه. بالنسبة الى هذه الفترة، يبدو وكأن علينا أن نحسب حساب ازدياد حجم الوحدات الاثنية وأن نأخذ في الاعتبار حقيقة أن عمليات تشكّلها، اعتمدت على الاندماج. هذه العمليات لم تكن تشمل فقط القبائل المتصلة ببعضها وحسب، بل شَمِلَت أيضاً القبائل التي كانت غريبةً عن بعضها البعض. حَدَثَ تشكّل الوحدات الاثنية الكبيرة، وهي مجموعات الشعوب الأوروبية الكبيرة، مثل الكلتيين والجرمان والسلاف، في وقتٍ قريبٍ من ذلك الزمن الذي قدّمَت فيه المصادر المكتوبة اشاراتها الأولى حول كُل واحدةٍ منها. دخلت هذه الوحدات التاريخ المكتوب، في زمنٍ شَهِدَ تغيراتٍ حاسمةٍ في ثقافتها، عندما خلعوا عن أنفسهم "ردائهم" الأركيولوجي القديم. هذا هو السبب في أن اعادة البناء الأركيولوجي لتاريخ جميع الشعوب الاثني في الأزمنة البعيدة، مُعقّد للغاية. هذا هو أصل الصعوبات في مُحاولات حل مسألة النشوء الاثني للسلاف على سبيل المثال. تختلف ثقافة السلافيين في القرن السادس، بشكلٍ عام، عن تاريخهم السابق، لدرجة أنه يظهر عند المرء الانطباع بأنهم ظهروا في ذلك الزمن بشكلٍ مُفاجئ. وبالتالي، فإن مُحاولات العثور على "خصائص اثنية" في الثقافات السابقة لم تُتوّج بالنجاح. ان المسألة هي نفسها فيما يتعلق بالجرمان. ان تأكيد كوسينا بأن ثقافة الجرمان في أواخر فترة ثقافة لاتين، التي وصفها قيصر (سيزر)، كانت موجودةً منذ العصر البرونزي أو حتى العصر الحجري الحديث في المناطق الشمالية، لا أساس له من الصحة(25). تنقطع في أواخر العصر الروماني سلسلة الأبازيم والأواني والزخارف، وتحل محلها سلسلة جديدة، ظل بعضها حتى فترة الفايكينغ والتي لم تكن جذورها في الشمال، بل في الثقافة الكلتية عند منصف فترة ثقافة لاتين.
ينطبق نفس الشيء على الكلتيين. لقد ذُكِروا لأول مرة في المصادر المكتوبة في القرن الخامس قبل الميلاد، وهو زمن ثقافة لاتين المُبكرة. لقد ظَهَرت فجأةً. على الرغم من وجود أسباب للحديث حول الكلتيين عند سُكّان ثقافة هالشتات، الا أنه لا يوجد دليل أركيولوجي دقيق على ذلك. شَهِدَت المنطقة التي نُسِبَت الى الكلتيين لاحقاً موجات هجراتٍ عديدة بحيث يبدو أن اولئك الذين نُطلق عليهم كلتيين هم نتاج تزاوجٍ واندماج عدد من القبائل. لذلك، من الخطأ تطبيق طُرُق تحديد الوحدات الاثنية في فترة المصادر المكتوبة، على الفترات المُسماة "عصور ما قبل التاريخ".
سيكون من المُحتمل أن يتم حل المُشكلة لو كان لدينا خريطة للغات المحكية في تلك الفترة، والتي يُمكن حينها مُقارنتها بالخريطة الأركيولوجية. لكن الجميع يعرف مدى ضآلة معرفتنا باللغات الكلتية أو الايليرية، وما هو الخطر المُترتب على اعادة البناء النظري للوحدات الاثنية على أساس البيانات المُتشظية المعروفة. اشتكى الأركيولوجي البلجيكي سيغفريد دو ليت Siegfried J. de Laet من تطور آراء اللغويين السريع للغاية حول مسألة اللغة المُستخدمة في بلجيكا عشية الغزو الروماني. أولاً، قِيلَ ان تلك اللغة كانت جرمانية، ثم قرروا أنها كلتية، وبعد فترةٍ وجيزة، قرروا أنها الايليرية، وظهَرَ في الأُفُق الآن رأي يقول أنها كانت اللغة "البلجيكية" ما قبل الهندوأوروبية، والتي تحتوي على شريحةٍ كلتية. لكن المصادر لم تتغير: فهي تتكون من عددٍ قليلٍ من الأسماء، وأسماء الآلهة وأسماء الأماكن، وشهادة قيصر حول أن اللغة كانت كلتية(26). لقد ذكرنا هذا المثال لكي نُظهِر المدى الذي وصلت له معارفنا حتى فيما يتعلق بالمسائل التي نملك حولها مصادر أركيولوجية كافية نسبياً. هذه هي الصعوبات المُرتبطة بمُشاركة الأركيولوجيين في حل مسألة النشوء الاثني، وهي صعوبات مطروحة في علم الأركيولوجيا في العالم الأجمع ومن ضمنها بلدنا.
من أهم تناقضات تطور العلم في القرن العشرين هو حقيقة أن التوسع الهائل في المعرفة البشرية يسير جنباً الى جنب مع تزايد تخصص العلوم. تنمو بعض المسائل الى حد أنها تتحول في بعض الأحيان الى فروعٍ معرفيةٍ مُستقلة. يكمن خطر هذه العملية في أن العالم المُتخصص في مبحثٍ ضيّق يفقد احساسه بوجهته أثناء سيره في ازدحام طريق العلم السريع. في علم الأركيولوجيا السوفييتي في العشرينيات وأوائل الثلاثينيات، حَدَثَ رد فعل على مُحاولات توظيف المُخططات الاجتماعية من أجل حل جميع المسائل العلمية في وقتٍ واحدٍ، دون اجراء بحثٍ كافٍ للبيانات العيانية، تمثّلَ بالاتجاه نحو موقف دراسة المصادر بشكلٍ مُضنٍ حتى الانشغال بتوافهها. وقد أدّى ذلك الى تراكم قدرٍ هائلٍ من المواد-المهمة وغير المُهمة- وفي عددٍ من الحالات التخلّي عن جهود تعميمها. كان للتخصص الضيّق أثرٌ هائل على الجهود المبذولة لحل مسألة النشوء الاثني. هذا ما كتبه بيوتر نيكولايفيتش تريتياكوف حول هذه المسألة: "لا يجب على المرء أن يحصر نفسه، عند دراسته للنشوء الاثني وخصوصاً في العصر الحديدي، في البيانات التي تنشأ عند ثقافةٍ واحدة أو مجموعةٍ اثنية مُعينة فقط، بل يجب عليه أن يفحص العملية على أوسعِ نطاقٍ مُمكن، مع مُراعاة الزمن التاريخي وظرفه. لو كان هُناك مُحاولة لاثبات أن ثقافةً ما أو مجموعة من الثقافات تنتمي مثلاً الى السلافيين، فمن الضروري حينها أن يُفسّر ما علاقة هذا بالثقافات الأُخرى المُرتبطة (بالسلاف)، ويقول: ماذا عن الجرمان، والكلتيين والبالتيين، الخ؟ ان أراد المرء أن يذهبَ باتجاهٍ آخر، ويقول أن دراسة هذه الثقافات ليس من تخصصه، حينها لن تخرج دراسات النشوء الاثني من المأزق الذي كُتِبَ عنه الكثير في العشرينيات والثلاثينات، والذي لم يكن بأي حالٍ من الأحوال مأزقاً اخترعه أنصار مار(27). لكن المسألة لست مُتعلقة فقط بالتخصص الضيق للأركيولوجيين، أو الافتتان بالبحث في المصادر كرد فعل على المُحاولات السابقة لبناء تعميمات دون الاعتماد على البيانات الملموسة. الأهم هو حقيقة أن مجال البحث في النشوء الاثني يتطلب حلاً نابعاً من مباحث مُتعددة من خلال الجهود المُشتركة للأركيولجيين واللغويين والاثنوغرافيين والانثروبولوجيين والمؤرخين. ان المصادر الأركيولوجية بحد ذاتها يُمكنها أن تُثبت وجود مناطق اثنية ثقافية في العصور القديمة البعيدة، لكن مُحاولة ربط هذه البيانات بالبيانات حول الشعوب التي ذكرها المؤلفون الكلاسيكون، أو البيانات الموجودة اليوم حولهم، هي مهمة تتجاوز امكانيات الأركيولوجيا وحدها.
يجب ان يُحدد درجة وامكانية المُشاركة في حل مسألة النشوء الاثني، مُتخصصي كُلٍّ من المباحث المذكورة أعلاه. ولكن بما أن هذه الامكانية بالنسبة لنا كأركيولوجيين هي مسألة ذات أهمية ثانوية، فلنستشهد بآراء الخُبراء الموثوقة. يرى عُلماء الانثربولوجيا الفيزيقية أن أفضل استخدام للبيانات الأنثروبولوجية -عند درجة معارفنا التي توصلنا لها حتى الآن- لحل مسألة النشوء الاثني، هو ذلك الاستخدام حيث توجد مناطق الاتصال بين الأجناس من الدرجة الأولى (الأوروبيين والمونغوليين والنيغرو). ان نِسَب أهمية البيانات الانثروبولوجية حول تلك التي تُظهِر درجاتٍ من التفاوت بين المجموعات القابلة للمُقارنة لغوياً واثنوغرافياً، ليست ثابتة. ان هجرة الكاريليين Karelians الى المناطق التي تُعرَف اليوم بمُقاطعة كالينين حيث كانوا مُحاطين بالسكان الروس، لم يُغيّر التكوين الانثروبولوجي (شكل الوجه على سبيل المثال) لسكان تلك المنطقة، على الرغم من أن كلا المُجموعتين المُقارَنَتين تنتميان الى عائلتين لغويتين مُختلفتين. من ناحيةٍ أًخرى، غيّرَت هجرة تتر Tatars الفولغا الى غرب سيبيريا، حيث اندمجوا مع التتر السيبيريين، التركيب الانثروبولوجي لهؤلاء الأخيرين، على الرغم من أن مجموعتي التتر مُرتبطتين اثنياً ولغوياً ارتباطاً وثيقياً. ربما حَدَثَت ظواهر مُماثلة في الماضي، وبالتالي يحدث أن تنعكس الأحداث الثانوية بشكلٍ وواضحٍ في البيانات الانثروبولوجية، بينما لا تنعكس فيها التغيرات في التكوين الاثني واللغوي والروابط الثقافية لسكان المنطقة قيد الدراسة(28). هناك العديد من الدراسات الأنثروبولوجية السوفييتية القيّمة، المبنية على البحث في الجماجم القديمة وشكلها. تُبذَل مُحاولات لمُقارنة نتائج الدراسة الانثربولوجية للسكان الحاليين بمناطق الثقافات القديمة. لكن أياً من هذه الدراسات لم يهز القناعة المبدأية الأساسية عند الأنثروبولوجيين بأن الاختلافات البيولوجية بين البشر لا تؤثر بشكلٍ مُباشرٍ على ثقافتهم. لذلك قد تُساعد البيانات الأنثربولوجية في بعض الأحيان على مُقارنة الثقافات الأثرية والوحدات الاثنية، ولكن لا يُمكنها أن تكون ذات أهمية حاسمة على الاطلاق تقريباً.
من بين جميع المباحث المُجاورة والقريبة لنا، كنا نحن الأركيولوجيين أكثر من لدينا ثقةً بالطوبونيميا toponymics (علم أصول أسماء المواقع الجغرافية). ولكن هذا ما يكتبه المُتخصصون في هذا المجال: "لطالما لعِبَت أسماء المواقع الجُغرافية دوراً مُهيمناً في المسائل التي تتعلق بالنشوء الاثني. لا يُوجد ما يُثير الدهشة في هذا، لإن أسماء الأماكن تُشكّل النتيجة الأكثر بروزاً لتوطّن وهجرات المجموعات الاثنية. ومع ذلك، ظلّت المبادئ الرئيسية في تكنيك البحث عن أسماء الموقع الجُغرافية، حتى وقتٍ قريب، محل نزاعٍ كبير. وقد ثَبُتَ أن استخدام معيار أسماء المواقع الجُغرافية لتحديد مكان وزمان مجموعةً اثنيةً ما، أمراً مشكوكاً فيه. ان الفرضية التي يُنظَر اليها على أنها غير صحيحة عُموماً اليوم، هي أن المناطق التي تتركز فيها أسماء البُحيرات والأنهار التي تعود الى نفس اللغة المُعطاة، هي منطقة الاستيطان الأولى للمجموعة الاثنية المعنية"(29). كان تبسيط الأفكارحول (وصل العلوم) يؤدي الى ضررٍ ليس بقليل، طالما أن تأكيد ما هو بديهي يبدو صحيحاً. غالباً ما كان يُقال بأن التأكيد المُشتَرَك الذي تطرحه المُكتشفات الأركيولوجية والاثنوغرافية وغيرها لأسماء المواقع الجُغرافية هو فقط الذي يضمن صحتها. لكن هل المباحث المُجاورة والقريبة جاهزةً لهذا اللقاء؟ للأسف، لا زالت مسوحات وكشوفات الأنثربولوجيا والأركيولوجيا والدياليكتولوجيا والطوبونيميا ناقصةً بشكلٍ مأساوي... أدى "بناء جسورٍ هشّة" وغير نقدية بين العلوم، من خلال فرض استنتاجات علمية ليست من لُقاها، الى تخيّلاتٍ مُبتذلة، مما جَعَلنا ندفع ثمن هذا الأمر باهظاً. ان الفرض السابق لأوانه لبيانات أسماء المواقع الجُغرافية على الأركيولوجيا، أو فرض الاكتشافات الأركيولوجية على الطوبونيميا، خطير للغاية"(30). ومع ذلك، صاغَ اللغوي الفرنسي البيرت دوزيه Albert Dauzat ولخّصَ استنتاجات الطوبونيميين، وهو أكثر استنتاج يُهمنا هُنا: "تُظهِر النتائج التي حققها علم الطوبونيميا كيف اختلطت الشعوب السابقة في هجراتها على مدار عصورٍ مُختلفة، وتنوعّت بالتالي عناصرها الاثنية من كل مكان، مما ساعدنا على تحطيم أساس الأفكار العُنصرية"(31).
ان الطوبونيميا ليست سوى إحدى مجالات علم اللغة. الأهم من ذلك بكثير لحل مسألة النشوء الاثني هو تحديد العلاقة المُتبادلة بين الأركيولوجيا واللغويات ككل. مهما تحدثنا حول حقيقة أن النشوء الاثني والنشوء اللغوي هما عمليتان مُختلفتان، تظل البيانات اللغوية مُهمةً للغاية في مُحاولات سد الفجوة بين الشعوب المُعاصرة وأسلافهم. حتى بالنسبة لليوم، يقوم الأركيولوجيين أحياناً ببناء افتراضات على أساس الاستنتاج غير المُثبَت والذي أصبَحَ راسخاً بعد المُناقشات اللغوية في الخمسينيات، القائل أن اختلاط لُغتي مجموعتين وتقاطعهما لا يُنتج لُغةً ثالثة، وأن على احدى اللغتين أن تنتصر. يعرف العُلماء جيداً أن هذا تأكيد هش، ويُمكن المُحاججة ضده(32). ومع ذلك، كَتَبَ بعض الباحثين، الذين سحبوا هذا الافتراض على ميدان تاريخ الثقافة، أنه مهما تغيرت الثقافة على مر القرون، ومهما كانت عمليات الاندماج والتقاطع التي حدثت مع ثقافاتٍ أًخرى، الا أنه يُمكننا دائماً تتبع منشأ عناصرها المُتعلقة بـ"السلَف الأول"، والتي (العناصر) تغلّبَت على ثقافات الشعوب التي عايشتها واندمجت معها(33). فتَحَ هذا التأكيد الخاطئ الباب أمام البحث عن أسلاف شعوب اليوم في عصورٍ تاريخيةٍ بعيدةٍ جداً. بقدر ما يُمكن الحديث عن لُغة وطنية مُعاصرة، فإنه يُمكن البحث عنها على هذا النحو، في العصور القديمة البعيدة (ما قبل فترة العبودية) (جـ)، ويُمكن على هذا الأساس الزعم انه يُمكن البحث عن عناصر أي أُمّة حديثة في العصر الحجري القديم.
ان الفرضية القائلة بأن الاتجاه الرئيسي لعملية النشوء اللغوي، بالنسبة للعصور المُتأخرة، هو تمايز وتفكك الوحدات اللغوية وهجرة الناس من مركزٍ واحد، لا تتماشى مع مُستوى المعارف اللغوية الحالية(34). كان الأركيولوجيين، بناءً على هذه الفرضية، يبحثون عن المراكز التي نشأت منها الثقافات. ولكن، يبدو أن عملية النشوء الاثني سارت بشكلٍ مُختلفٍ في فتراتٍ مُختلفةٍ من التاريخ.، حيث كانت العملية في المراحل الأولى من التاريخ البشري مسألة تمايز وتفكك وهجرةً للقبائل، كانت، عند نُقطة التحول من المُجتمع ما قبل لطبقي الى المُجتمع الطبقي، مسألة تكاملٍ واندماجٍ للوحدات الاثنية المُختلفة وتشكّل جنسياتٍ على هذا الأساس. اتضح في الآونة الأخيرة، أن فكرة ما يُسمّى باللغات الأُم، والتي يُزعَم أنها ولّدَت عائلاتٍ كاملةٍ من اللغات عن طريق التمايز، نقول اتضحَ بشكلٍ مُتزايدٍ عند اللغويين، انها كانت في الحقيقة مجموعاتٍ من اللهجات تحوز خصائص مُشتركة(35).
طَرَحَ سيرجي بافلوفيتش تولستوف Sergey Pavlovich Tolstov عام 1950 فرضيةً (استناداً الى نظرية التواصل لِعَاِلم اللسانيات ديميتري فلاديميروفيتش بوبريخ Dmitry Vladimirovich Bubrikh ) حول "الاستمرارية البدائية اللغوية"، والتي بموجبها لم يكن هناك أي حدود لغوية حادة بين لغات المجموعات العشائرية المحلية الأكثر ارتباطاً بسبب العلاقات القوية بينها والتبادل اللغوي القائم ونتاج لآلاف السنين من وجود العشائر البدائية. كانت جميع اللغات البدائية قريبةً جداً من بعضها الى الحد الذي احتلت فيه مكانة اللهجات المُتأخرة أو حتى أشكال الحديث المناطقية، ولكن اختفى الوضوح المُتبادل بينها عندما صار بينها مسافاتٍ أبعد. ومع ذلك، لم تكن هذه بأي حالٍ من الأحوال لهجاتٍ بالمعنى المُعاصر للكلمة، ولكنها كانت لُغاتٍ مُستقلة، بقدر ما لم يوجد غيرها لغاتٍ أُخرى، بل كانت هذه هي الموجودة وكانت وسيلة تواصل للمجموعات المُكتفية بذاتها والموجودة بشكلٍ مُستقلٍ نسبياً. تشكّلَت لغات القبائل والتحالفات القَبَلية على أساس هذه "الاستمرارية البدائية" من خلال تركّز المعايير السائدة المُميزة للغات المنطقة التي نشأت فيها القبيلة أو تحالف القبائل"(36). هذه الفرضية، التي تطرح مسألة عمليات اندماج اللغة، تقول أيضاً بأن هذا الاندماج كان يحدث أيضاً في العصور القديمة، وتُتيح امكانية فهم أسباب بعض الاخفاقات في حل مسألة النشوء الاثني من خلال مُقارنة البيانات الأركيولوجية واللغوية. تسمح لنا هذه الفرضية الى أن نتوصل الى أقرب فهم للظواهر اللغوية القديمة. للأسف، رفضَ العديد من الباحثين هذه النظرية أول ما طُرِحَت.
ان لم تكن المسألة قيد النقاش هي التطابق بين الثقافات الأثرية والوحدات الاثنية في العصور القديمة البعيدة، بل مسألة النشوء الاثني للشعوب الحديثة، فإن الطريقة العلمية الوحيدة في التحليل النهائي هي العودة من البيانات المتأخرة الى البيانات الأقدم. ولكن اتضحَ أن أصعب شيء في مثل هذه العملية هو عبور الحدود بين العصور ذات التاريخ المكتوب الى العصور التي ليس لها تاريخ مكتوب والتي ناقشناها سابقاً. لقد ناقَشَ العلماء السوفييت كل هذه الحقائق في الماضي، وتوصلوا الى استنتاج يقول أن "ظهور صفات اثنية جديدة يرتبط بتلك الفترات البينية الفاصلة في تاريخ القبائل والشعوب، عندما حدثت تغيرات أساسية في النظام الاجتماعي والايديولوجيا"(37).
كانت احدى هذه الفترات الفاصلة هي الزمن الذي وُلِدَ فيه المُجتمع الطبقي، وهو الزمن الذي تميّزَ بظهور السلافيين والجرمان والكلتيين على ساحة التاريخ. لاحَظَ العلماء السوفييت بحق أن "لُغات وجنسيات أوروبا المُعاصرة كانت تسبقها لُغات وتشكيلات اثنية مُختلفة تماماً، والتي حلّت بدورها محل لُغات وجماعاتٍ اثنيةٍ بدائيةٍ أقدم"(38). قد تكون القبائل المعروفة لنا من الثقافات الأثرية أسلافاً مُشتركين لشعوبٍ مُتنوعةٍ في التاريخ مثل السلافيين والجرمان. تحدّثَ الأسلاف اللغويين للجرمان والسلافيين والبلطيقية بعض اللهجات غير المعروفة، ولكنها لهجات هندوأوروبية قديمة للغاية. في ذلك الوقت بالذات انفصلت مجموعة اللهجات البلطيسلافية وصارت مُستقلة، ولكن لا أحد قادرٌ بعد على تحديد متى انقسمت الى بلطيقية وسلافية(39). على أية حال، هناك أساس لافتراض أن كل شعب لا ينحدر من سَلَفٍ واحد، بل من عدة أسلاف، وأن عدد الوحدات الاثنية يتضائل مع تقدّم التاريخ. هذا لا يعني أن القبائل والشعوب لم تتفكك في بعض الحالات الى قبائل وشعوب مُنحدرة منها، ولكن كان الاتجاه التاريخي الرئيسي للعملية الاثنية، مع مرور الزمن، هو الاندماج. وهكذا، يكتب بيوتر نيكولايفيتش تريتياكوف: لم يكن بُناة (الجنسية الروسية) القديمة من القبائل السلافية الشرقية وحسب، بل كانوا كذلك من عددٍ من البلطيقيين الشرقيين ومجموعات القبائل الفينوأوغرية في الشمال، ومن الجنوب بقايا السكيثيين السارماتيين القُدماء، بالاضافة الى المجموعات الداشانية Dacian، وبعض المجموعات التركية، ومن شابههم"(40).
أصبَحَ أحفاد سكان آسيا الوسطى المحليين القدامى، بالاضافة الى القبائل التركية التي جائت اليها، جُزءاً من الأُمّة التركية. اكتَشَفَ العُلماء الذين يدرسون التكوين الاثني للأتراك الخصائص الأنثروبولوجية والاثنية عند الأُمّة التركية، وخصائصهم اللغوية التي نشأت مع كُلٍّ من شعوب آسيا الوسطى المُنقرضين الآن (الحيثيين والفريجيين وغيرهم) والأرمن والأكراد والجورجيين واليونانيين، الخ(41).
حَدَثَ اتحاد القبائل، باعتبارها الجماعات الاثنية التي نشأت منها شعوب اليوم، نقول، حدثت في أعلى مرحلة من تطور المُجتمع المشاعي البدائي، عشية ظهور المُجتمع الطبقي. ان محاولات العثور على انسان الكرومانيون Cro-Magnon(د) الأوروبي الأول الذي انحَدَرَ منه السلافيون، والكرومانيون الآخر الذي نشأ منه الفرنسيون والانجليزيون، ليس فقط غير مُبررة علمياً بل ضارة كذلك، لأن هذه المُحاولات تتضمن اشارةً ضمنيةً الى أن هناك اختلافاتٍ بيولوجيةٍ تعود الى عصورٍ قديمةٍ جداً وبعيدة، حددت مُسبقاً مصير كُل أُمّةٍ على مدار تاريخها بأكمله. لطالما كان المبدأ الأساسي والأكثر أهميةً للنظرية الماركسية حول النشوء الاثني هو إنكار أي "أصل نقي" للشعوب، سواءاً بالمعنى العرقي أو اللغوي أو الثقافي، وأن أي مُحاولة للبحث عن سَلَفٍ "رئيسي" ستكون محدوة الجانب وتخلياً عن هذا المبدأ. وبالطبع، فإن وجهة نظرنا فيما يتعلق بالأصل المُختلط للشعوب تتعارض تماماً مع التأكيد على وجود سلفٍ "رئيسي" حمل نفس لُغته وثقافته عبر القرون.
ومع ذلك، فإن قبول وجود "رئيسيين" و"ثانويين" بالتحديد هو الذي يُزعَم أنه جعل من المُمكن معرفة أُصول الشعوب المُعاصرة وتتبعها الى العصور القديمة البعيدة. لا يكمن تأثير كوسينا السلبي على الأركيولوجيا المُعاصرة في قبوله للأهمية الاثنية بالنسبة للثقافات الأثرية (كما ذكرنا سابقاً، وضَعَ كوسينا هذا الافتراض واكتسَبَ قبولاً راسخاً كجزءٍ من المبادئ الأساسية لمنهجية البحث الأركيولوجي)، ولكن في تأكيده على أنه يُمكننا دائماً، من خلال العودة في الزمن، العثور على أسلاف شعبٍ مُعاصر، والعثور أيضاً، على السلف الوحيد أو الرئيسي للشعب المُعطى في وقتٍ مُبكرٍ من العصر الحجري. اذا أضفنا الى تلك الفكرة، التأكيد القائل أنه كلما زاد قِدَم الشعب، زادت حقوقه بلَعِبِ دورٍ خاص في العالم الحديث، فإن تلك الأفكار مُجتمعةٍ أصبحت أساس الفكرة القومية التي حَظِيَت بتأييد الفاشيين والتي لا تزال تتمتع بتأثيرٍ سلبيٍ على الأركيولوجيا الغربية حتى يومنا هذا.
ان مسؤوليتنا في التعامل مع مسائل النشوء الاثني كبيرة، لأنه يرتبط بها الكثير من المفاهيم القومية والعُنصرية المُتنوعة. وأُضيفت في عصرنا، الى جانب العنصرية الأوروبية عُنصريةً آسيويةً وافريقية. تجب الاشارة الى أن العلماء في الماضي أيضاً، لم يكونوا مُتسقين في مُحاربتهم للعُنصرية الآرية، ولم يجدوا في جُعبتهم ما يُحاربونها به سوى عنصريتهم اللاآرية.
تتمثل احدى صعوبات دراسة مسائل النشوء الاثني في ضعف البحث في المصادر، وهو ما يُسمى "موقف التحيّز الاستهلاكي" من البيانات، وهذا يعني، أن ينتقي الباحث البيانات التي تؤكّد تصوره، ويرفض البيانات الأُخرى. يُظهر في هذه العملية الى احتمالية وقوع حدثٍ ما أو امكانية حدوثه سابقاً، كقاعدةٍ عامة، على أنه حدث فعلاً. هُنا، تُعتَبَر مُجرّد المصادفة التي يحدث فيها أن يُشير مصدر مكتوب الى وجود قبائل مُعيّنة في مناطق قريبةٍ من ثقافةٍ أثريةٍ ما، كافيةً للقيام بمُطابقة تلك القبائل مع الثقافة الأثرية، ونسبها اليها. يَتبَع هذا حدوث خطأ أوّلي في المنطق الشكلي: يعد الباحث ما لم يتم اثباته بعد على أنه مُثبت. ان مثل هذا الموقف من المصادر، لا يرجع فقط الى حقيقة التطور غير الكافي لتقنيات البحث وحسب، بل ويعود أيضاً، الى أنه على الرغم من معدلات النمو السريع للمصادر الأركيولوجية، الا أنها لا تحوز بعد مصادراً كافيةً لتُجيب على المسائل المُتعلقة بتاريخ الاثنيات، ويُسارع الباحثون الى تقديم اجاباتٍ مُتعجلة عليها.
لو أننا نتذكر أن العلوم لها حدودها النسبية، وأن علينا أن لا نُطالب الأركيولوجيا بما يتجاوز قُدراتها الحالية، فسيكون من الأسهل بالنسبة لنا الحصول على بحوث ذات دقّة أكبر. من الضروري أن يتم تحديد ما تستطيع الأركيولوجيا فعله بالضبط فيما يتعلق بمسألة النشوء الاثني وما يخصها وحدها في هذا المجال، بسبب طبيعة مصادرها، ويجب كذلك تحديد ما يزال مجهولاً بالنسبة لنا بسبب عدم كفاية مناهج البحث، والتي لم يتم تطويرها بشكلٍ كافٍ. تسمح الانتصارات الكُبرى للأركيولوجيا السوفييتية التي تحققت في دراسة جوانب أُخرى من العملية التاريخية، للمرء، أن يأمل، بأن حل مسائل النشوء الاثني للثقافات الأثرية ستتحقق لاحقاً بنجاحٍ أيضاً.

المناقشة الحاصلة حول مقالة مونغيت (الثقافات الأركيولوجية والوحدات الاثنية)
تمت مُناقشة مقالة الكساندر مونغيت في اجتماعٍ موسّعٍ لقسم مُعالجة مسائل منهجية التاريخ التابع لمعهد التاريخ في أكاديمية العلوم السوفييتية في 28 كانون الأول عام 1965 و4 كانون الثاني عام 1966.
شارَكَ مؤرخون واثنوغرافيون وأركيولوجيون ولغوين في المُناقشة.
اختَلَفَ المُشاركون في المُناقشة في تقييمهم العام للعمل المعني. انتقَدَ أ. بريوسوف (الذي قدّمَ تعليقاً مكتوباً) والمؤرّخ والأركيولوجي بوريس اليكساندروفيتش ريباكوف Boris Aleksandrovich Rybakov ايراست أوليكسيفيتش سيمونوفيتش Erast Olekseyovich Simonovich والأركيولوجي فاليري نيكولايفيتش تشيرنيتسوف Valery Nikolaevich Chernetsov، انتقدوا ما اعتبروه موقفاً سلبياً تماماً للمؤلف تجاه المسألة. وقد استشهدوا بأمثلة على حُلولٍ ناجحة طرحتها الأركيولوجيا الحديثة لمسائل النشوء الاثني، ولا سِيما لمسائل العلاقات المُتبادلة بين الثقافات الأثرية والوحدات الاثنية، وأنّبوا مونغيت بسبب عدم اكتمالية مسحه التاريخي الوارد في مقالته.
أعرَبَ مشاركون آخرون في المناقشة: المؤرّخ ميخائيل ياكوفليفيتش جيفتر Mikhail Yakovlevich Gefter والفيلسوف وعالم الثقافة غريغوري سولومونوفيتش بوميرانتس Grigory Solomonovich Pomerants والاثنوغرافي ومؤرّخ الدين سيرجي اليكساندروفيتش توكاريف والأركيولوجي الكساندر الكيساندروفيتش فورموزوف Aleksandr Aleksandrovich Formozov، أعربوا عن دعمهم للموقف الذي يشغله مونغيت. كانت فكرتهم الأساسية تتمحور حول الموقف الذي يعتبر أن مبحث الأركيولوجيا ينتقل الآن من مرحلة تطور الى أُخرى. هذه الخطوة، حسب تعبير ميخائيل جيفتر، ترتبط بالتغلب على التناقض بين الكم الهائل من المواد المُتراكمة من ناحية، والمفاهيم النظرية القديمة من ناحيةٍ أُخرى. أظهَرَت المُناقشة الحيّة والهادفة حول عمل مونغيت، أنه أشارَ بشكلٍ صحيح أن المسألة قيد النقاش بحاجةٍ الى دراسةٍ كثيرة. نظراً لأن المقال كان مفاهيمياً، فلم يكن من الضروري على الاطلاق، برأي غريغوري بوميرانتس، أن تتضمن تأريخاً كاملاً. كان من المُفتَرَض أن تُصوّر المُقدّمات والأفكار المُتناقضة من وجهة نظر العلم الحديث، وهذا ما فعله المؤلّف.
رداً على الأسئلة، ذكَرَ كاتب المقال، أنه لم يدرس مسألة النشوء الاثني ككل. لقد كان يُعالج مسألة الثقافة الأثرية والوحدات الاثنية على هذا النحو. وعد طرح المسألة على هذا النحو، فإن أهم مبحثين يعنيان المؤلف هنا، هما الأركيولوجيا والاثنوغرافيا، وهذا ما فسّرَ اهتمام المؤلف بهذين المبحثين في مقالته.
فيما يتعلق بدور الانثروبولوجيا في حل مسألة النشوء الاثني، قال مونغيت أنه يجب أخذ بيانات هذا المبحث في عين الاعتبار، على الرغم من أن مُتخصصيه قد خلصوا الآن الى أنه لا توجد روابط مُباشرة بين الأعراق والاثنيات. لذلك، فإن أهمية المواد الانثروبولوجية لدراسة النشوء الاثني لا يُمكن أن تكون كبيرة. في نفس السياق، قال مونغيت، أنه حتى المصادر الأركيولوجية، ستكون ذات قيمة محدودة لتحليل النشوء الاثني داخل المُجتمع البدائي ما لم يتم ربطها ببيانات المباحث الأُخرى. فيما يتعلق بالمقولات التي يستخدمها الباحثون، أوضَحَ مونغيت أن الأركيولوجيا والاثنوغرافيا، يطرحان، في رأيه، مفاهيم خاصةٍ بهما، والتي لم يتم تقديم تعريفات شاملة لها حتى الآن. "الثقافة الأثرية" و"الوحدة الاثنية" هي مصطلحات لا تحوز تفسيراتٍ مُتفقٍ عليها عالمياً.
دعا المؤلف الى بذل الجهود للتوصل الى معرفة الحدود الموضوعية التي توصل اليها مبحث الأركيولوجيا، ولاحَظَ أن هذا المبحث ليس جاهزاً بعد لرسم الرابطة الحقيقية بين الثقافة الأثرية والوحدة الاثنية. في حالة المعرفة الحالية، فإن العودة تاريخياً للبحث عن تاريخ الشعوب المُعاصرة في العصر البرونزي والعصر الحجري هي مسألة غير قابلة للحل. ليس من المُمكن في الوقت الحاضر تحديد الزمن الذي يُمكن الرجوع اليه الى حدود ما قبل الاثنيات، على الرغم أنه من المُفترض ان مثل هذه الحدود كانت موجودةً بالفعل. يعتقد بعض الأركيولوجيين أن الاثنية هي سمة من سمات التاريخ الانساني كاملاً.
كما أن مسألة ما اذا كانت العشيرة موجودة في ذات الوقت مع القبيلة، أم أن العشيرة سبقت القبيلة، هي مسألة غير محلولة بعد.
كان الهدف من المقالة هو تحديد المسائل الأساسية التي لم يتم حلها بعد. لذلك، كان تركيزها النقدي أمراً طبيعياً، على الرغم أنها أيضاً تحدثت عن المحاولات الايجابية لايجاد حلول لها.
عبّرَ بوريس ريباكوف عن عدم مُوافقته على الجُزء التأريخي لعمل مونغيت. كانت اعتراضات ريباكوف تتعلق بتقييمات مراحل تطور الأركيولوجيا. يرى ريباكوف في التخلي عن تعميمات العشرينيات في دراسة اللُقى الأثرية "ضماناً للنجاح" في حل المسائل الرئيسية في الأركيولوجيا. وفسّرَ أخطاء حل مسائل النشوء الاثني وطابعها القومي بالردة الفاشية، وبذك أشارَ الى الحاجة الى الكشف عن الاشتراط التاريخي لكل مرحلة من مراحل العلم. أشارَ ريباكوف الى مجموعةٍ من الأعمال اللغوية والأركيولوجية السوفييتية القيّمة، والتي كان على المقال أن ينتبه لها.
كما اختَلَفَ ريباكوف مع مفاهيم المؤلّف الرئيسية، خاصةً تلك المُتعلقة بالثقافة الأثرية والتي لم يتم تعريفها. وقالَ بأن وجود عدد كبير من معايير الثقافة، كما ذكَرَ المؤلف، هو ليس أمراً جَللاً. ان وجود الفيرشوك (وحدة قياس روسية للمساحة) والسنتيمتر، لا يمنع المرء من تقييم الأبعاد الموضوعية للأشياء.
بالاضافة الى ذلك، أكّدَ ريباكوف أننا ندخل الآن المنطقة التي يكون فيها تركيب العلوم ضرورياً: "من الضروري الآن دمج بيانات علم اللغة والأركيولوجيا دون انتظار أن يكون الجميع موافقاً ومتفقاً على دقة منهجية ونتائج كُلٍّ منها". أعرَبَ ريباكوف عن تأييده للدراسة مُتعددة المباحث لمسألة النشوء الاثني من خلال تقنيات المباحث الأُخرى أيضاً. وتشمل هذه الانثروبولوجيا الفيزيائية، والتي يُمكن أن تساعد، على سبيل المثال، في تقسيم ثقافة أثرية واحدة الى اثنتين أو ثلاثة أو أكثر، بالاضافة الى الطوبونيميا، والتي يستخدم فيها اللغويون تقنياتٍ جديدة لمعرفة لغة المنطقة، وما الى ذلك. وشدّدَ على الحاجة الى تنظيم جميع المصادر الأركيولوجية المُكتشفة، وقال أن عدداً من أعضاء معهد الأركيولوجيا السوفييتي مُنشغلون بهذا العمل الآن.
أعرَبَ المؤرخ والأركيولوجي يفغيني ايغناتييفيتش كروبنوف Evgeny Ignatievich Krupnov عن رأي مفاده، أن جميع الأركيولوجيين تقريباً يتفقون مع تعريف الثقافة الأثرية الذي طرحه الأركيولوجي اليكسي بيتروفيتش سميرنوف، والذي يقول: الثقافة الأثرية هي وحدة الثقافة المادية على أرضٍ مُعيّنةٍ وتميّز زمناً تاريخياً مُحدداً.
يرى يفغيني كروبنوف ان مسألة الوحدة الاثنية هي أكثر تعقيداً بكثير. انها تقع خارج حدود تقييم واتفاق العلماء الحاسم. يجب على الاثنوغرافيين وعلماء الانثروبولوجيا الفيزيائية وعلماء اللغة أن ينخرطوا في هذه المسألة. ان التقدم في مسألة النشوء الاثني مُمكن على أساس دراسات مُتعددة المباحث.
ويقول كروبنوف أن دراسات اللغويين التي تأسست على أساس منهجية اللغوي الأمريكي موريس سواديش Morris Swadesh واعدةً بشكلٍ خاص. لقد استخدَمَ عالم اللغة يفغيني اليكسيفيتش بوكاريف Evgeny Alekseevich Bokarev هذه المنهجية بنجاح وأثبَتَ وجود لغة سَلَف مُشتركة لكل داغستان، والتي انفصلت عن شريحة لغوية أقدم وأكثر شيوعياً في القوقاز في الألفية الثالثة قبل الميلاد. قد يؤكّد الأركيولوجيون من جانبهم، أن ثقافة داغستان في تلك الفترة، كانت شبيهةً بثقافة ما وراء القوقاز، لكنها عَكَسَت بالفعل بعض التمايز المحلي. قام مُتخصص آخر في لغات القوقاز وهو جورجي اندريفيتش كليموف Georgy Andreevich Klimov بتعيين فترة انفصال اللغة السفانية Svano-Zvan التي يتحدث بها بعض سكان غرب جورجيا عن مجموعة اللغات الكارتفيلية Kartvelian في القرن التاسع عشر قبل الميلاد. هذه الأمثلة وغيرها لها أهمية خاصة في ضوء تطابق استنتاجات الأركيولوجيين واللغويين الذين توصلوا الى نتيجةٍ واحدةٍ بشكلٍ مُستقل. أشارَ كروبنوف أيضاً الى حقيقة أن العديد من من الأخصائيين ينسبون الى الألفية الرابعة قبل الميلاد وحدةً ثقافيةً قوقازيةً واسعة، والتي استبدلتها في الألفية الثالثة قبل الميلاد درجةً من الانفصال الثقافي بين شمال غرب وجنوب شرق القوقاز، وقد أكّدت الانثروبولوجيا وعلم اللغة هذه المُلاحظات الى حدٍّ ما، وتتطابق بياناتهم بشكلٍ كاملٍ تقريباً مع البيانات الأركيولوجية. وهذه، بطبيعة الحال، ليست مُصادفة عشوائية.
أعرَبَ المؤرخ والاثنوغرافي والأركيولوجي سيرجي اليكساندروفيتش اروتيونوف Sergei Alexandrovich Arutyunov عن تقديره العالي للعمل قيد النقاش. وأفادَ عن وجهة نظر تقول أننا بحاجة الى استخدام تقنيات التحليل الكمي التي اقترحها، على سبيل المثال، جيمس فورد James Alfred Ford. من الصعب تحديد الوحدات الأساسية القابلة للقياس بنفس المعيار في الثقافة المادية أو الفكرية.
كما قدّمَ اروتيونوف أمثلةً على حالة عدم تطابق البيانات الأركيولوجية مع البيانات الاثنية. في منطقة البلطيق، على الرغم من اختلاف الاتجاهات الاثنية، يَنتُج عن الأركيولوجيا منطقةً متنوعةً لنفس الثقافة. مثال آخر: لا يمكن تمييز شعب التشوكتشي Chukchi عن أسكيمو آلاسكا من ناحية الثقافة المادية، على الرغم من وجود اختلافات في اللغة والمُعتقدات والثقافة الفكرية. في نفس الوقت، افتقرت مقبرة ايكفين Ekven burial ground التي يصل عمرها الى 2000 عاماً الى أي وحدةٍ اثنية التي بدت وكأنها موجودةً على أساس المواد الأركيولوجية، على الرغم من أن هناك ثقة تامة بأن هذه البقايا تعود للاسكيمو القُدامى. كما نرى، فإن مسألة الثقافات الأثرية والوحدات الاثنية مُعقدة للغاية حقاً. لكن ارتباط المناطق يجعل من المُمكن تحديد أكثر التطابقات المُمكنة والاقتراب من الحقيقة.
بالانتقال الى مسائل علم اللغة، قيّمَ اروتيونوف مناقشات علم اللغة التي جرت عام 1950 على أنها تقدمية بقدر ما "أخرجت علم اللغويات من الزقاق المسدود".
في ختامه، قال أروتيونوف: "يواجه المؤرخون من جميع التخصصات للمرة الأولى اليوم إمكانية ليس فقط بناء تاريخ الانسانية البدائية على المستوى العام وحسب، بل وأيضاً البدء في انشاء تاريخ بدائي ملموس للانسانية سار فيه جميع أسلافنا الرئيسيين والثانويين".
أعارَ غريغوري بوميرانتس أهميةً خاصةً لحقيقة أن مونغيت قد شدد على دور الثقافة الفكرية في تطور المجموعات البشرية. في السابق كانت الأخلاق والجماليات والدين تُهمَل الى حدٍّ ما. ومع ذلك، من دون توديه اهتمامنا الى الأنظمة الرمزية التي تُشفّر ذاكرة الثقافة الروحية سيكون من المستحيل شمول التطور التاريخي ككيانٍ واحد.
لاحَظَ بوميرانتس، عند دخوله نقاشاً مع ريباكوف، أنه من الخطأ الحديث حول أخطاء ما قبل الحرب وما بعدها على أنها مُجرّد انحرافات طفيفة بسبب النضال ضد الايديولوجيا الفاشية. ان طرح مسألة أولوية أي عرق أو أمّة لا معنى له علمياً ولا يُمكن تبريره بأي شكلٍ من الأشكال لأنه ينقل النقاش الى ملعب منهجية العدو.
فيما يتعلق باللغة، يقول بوميرانتس: "ان أكثر النظريات خياليةً لا يُمكن بحد ذاتها أن تكون خطراً على العلم، ويُمكن أن تكون مُثمرةً أو يُمكن الاستفادة منها بهذه الطريقة أو تلك شرط عدم تقديسها وتحنيطها، وهذا يتعلق ليس بأفكار مار بحد ذاتها، بل أفكار اولئك الذين قدّسوه".
يرفض المؤرخ والأركيولوجي ايراست سيمونوفيتش قبول اللغة كمعيار رئيسي للوحدة الاثنية. في الواقع، لا يُمكن تحديد هذه الأخيرة سوى بمجموعةٍ كاملةٍ من المعايير، بما في ذلك الأركيولوجية والاثنوغرافية والانثروبولوجية. وأكّدَ بهذا الصدد بشكلٍ خاص، على الحاجة الى تكييف بيانات الانثروبولوجيا الفيزيائية لدراسة مسألة النشوء الاثني.
ذكَرَ الكسندر فورموزوف، أن تنويعات الثقافة الأثرية، ترتبط في بعض الأعمال، ارتباطاً مُباشراً بالقبائل (على سبيل المثال الثقافة الموستيرية(هـ) Mousterian). هذا يدل على مُقاربة تبسيطية للاستنتاجات التي تم الحصول عليها عند مُعالجة المواد الأركيولوجية. تحدّثَ كروبنوف حول مسألة تحديد الوحدة الاثنية القديمة في القوقاز باعتبار أنها قد حُلَّت بالفعل. في الواقع، تلك مجرد فرضية مُثيرة للاهتمام، وليست مُتكاملةً على الاطلاق ولا تزال تتطلب المزيد من المناقشة والبحث.
اختَلَفَ فورموزوف مع بعض المُشاركين في المناقشة في تقييم النقاشات التي جرت في العشرينات. وُجِّهَت الكثير من الاتهامات الظاملة والعديد من التأكيدات المُتسرعة على تلك الفترة، لكن تلك الفترة بالذات هي التي أنتَجَت ما نحن فيه الآن. رأينا في أواخر العشرينات وبداية الثلاثينات أعمالاً لايفيمينكو وتريتياكوف وكيسيليف، وهذه هي الأصول الرئيسية لمبحثنا العلمي. دعماً لرأي سيرجي أروتيونوف فيما يتعلق بتقييمه لمناقشات اللغة، فإن فورموزوف يُقيمها تقييماً عالياً، ويُدرك أهميتها الكبيرة: "هل يُمكن القول أن علمنا سار بعدها في الطريق الصحيح؟ ربما لا. ولكن العمل صار أسهل، ولم ينشأ مبحث ثابت في علم اللغة بعد، ولكن بدأت بعدها فترة البحث الجدي...".
بالاضافة الى ذلك أعرَبَ فورموزوف عن رفضه للمُبالغات في أهمية تطوير المناهج التقنية في الأركيولوجيا، ودعا الى تطوير المناهج الأركيولوجية التقليدية نفسها.
يرى اليكسي بيتروفيتش سميرنوف أن مُحتوى مفهومي "الثقافة الأثرية" و"الاثنية" واضحين تماماً، انما يدور النقاش حول التفاصيل. يُستَخدَم المُصطلَح الأول للاشارة الى بقايا أثرية ذات طابع مُتماثل على نطاق اقليمٍ وزمنٍ مُعينين. تستند الوحدة الاثنية على أساس وحدة اللغة والثقافة، ولكنها لا ترتبط بالدولة. ان الرابط بين الثقافات الأثرية والوحدات الاثنية ليس واضحاً دائماً. غالباً ما تكون هذه الصورة مُعقدة بسبب عمليات التغلغل السكاني والهجرة وعمليات الاندماج، الخ. "نحن نعلم أنه في بعض الأحيان، عندما يصل سُكّان جُدد، تظل ثقافة السكان الأصليين هي المُهيمنة، في حين تُصبح لُغة القادمين هي اللغة السائدة. في بعض الأحيان تكون الحالة هي العكس. لا تنشأ "الصعوبات" بسبب ضعف الأركيولوجيا ولكن بسبب حالة العلم العامة: الاثنوغرافيا والتاريخ والانثربولوجيا الفيزيائية". ولكن ان تم تحديد ثقافة أثرية على أُسسٍ مجموعة كبيرة مُناسبة من البيانات، فيُمكن حينها مُقارنتها بسهولة مع المجموعات الاثنية. وتأكيداً لهذه الاطروحة، أشار سميرنوف، الى القضايا التي تخص الكلتيين والثقافة اللوساتية Lausitz culture(و) والمجموعات الفينوأوغرية، والبلطيقيين والتُرك، والتي تم حلها، أو التي تسير عملية حلها بنجاح.
عبّرَ فاليري تشيرنيتسوف عن رأي مفاده أن اللغات من النمط الحديث لم تكن موجودةً في العصور البعيدة، ولكن كانت هُناك لهجات والتي شكّلَت وحدات اثنية لغوية رئيسية (عائلات لغوية) قليلة العدد، والتي تطورت (عن طريق الاندماج والعمليات الأُخرى) ببطئ شديد بحيث يُمكن تتبعها حتى في المواد الأركيولوجية. صارت المجموعات الاثنية تُشكّل سلاسل من ثقافاتٍ متصلة ببعضها والتي شكّلَت بدورها منظقةً ثقافية-اثنية تتوافق مع عائلة لغوية مُعيّنة. ان ما هو أكثر استقراراً في الوحدة الاثنية هو الفلكلور والايديولوجيا والفن، وخاصةً الزخارف. بالاضافة الى ذلك، يتشكل في سياق العملية التي من خلالها تنشأ مكونات الثقافة المادية، نقول، يتشكّل مجموعة من الأشكال والتكنيكات التي تُميّز هذه الثقافة أو تلك، هذه المجموعة أو تلك، مثل التقاليد والزخارف، والتي تُعطينا مؤشراتٍ على الاستمرارية الاثنية. ويُمكن في بعض الأحيان تتبعها وايجادها في جميع أنحاء المنطقة الاثنية-الثقافية بأكملها. لا يُمكن استخدام هذه المعايير التقليدية المُستقرة في تحليل الأنظمة الاجتماعية بِخلاف المشاعية البدائية. ارتبطَ نشوء المُجتمع الطبقي بالاختفاء التدريجي للمجموعات الاثنية القديمة، والتي أُعِيدَ تنظيمها في مُنظماتٍ قبلية. يجب مُعالجة هذه المُجتمعات بمعايير وتكنيكاتٍ مُختلفة. ولكن، يجعلنا البحث الدقيق قادرين دائماً على اكتشاف آثار الطبقات القديمة المدفونة التي استمرت لقرون بثباتٍ ملحوظ.
ويؤكد تشيرنيتسوف، أن المسألة المطروحة هي تطوير تقنيات دقيقة لتحديد المؤشرات الاثنية التي قد تختلف ما بين هذه الفترة التاريخية أو تلك.
أشارَ سيرجي توكاريف الى أن المسألة المطروحة في تقرير مونغيت قد أُثيرت بشكلٍ صحيح وفي الوقت المُناسب. ظَهَرَت اليوم حاجة واضحة للتحقق النقدي من بعض المفاهيم والمصطلحات الاثنوغرافية الحالية، وعلى ما يبدو أيضاً، في الأركيولوجيا. يتطلب تطور العلم منا أن نُراجع ونُدقق فكرة "الثقافة الأثرية" في مجال الأركيولوجيا، و يتطلّب مفهوم "الوحدة الاثنية" في الاثنوغرافيا مزيداً من البحث.
من الجيد جداً أن الأركيولوجيون بالتحديد هم الذين يُصرّون الآن على مُراجعة مفهوم "الثقافة الأثرية". نشأ في الأركيولوجيا تقليد غير نقدي يتمثل في مُطابقة "ثقافةٍ" ما مع مجموعةٍ اثنيةٍ أو لغويةٍ (افتراضية) مُعينة. وهكذا، اعترَضَ الاثنوغرافيين مراراً وتكراراً على العزو غير المشروط للآثار الثقافية الى الجماعاتت الاثنية واللغوية، مثل المُصطلحات الحالية "الفخار السلافي" و"الفخار الفنلندي" و"مذابح وثنية سلافية قديمة"، الخ. توضّح المادة الاثنوغرافية بشكلٍ مُقنعٍ تماماً أن خدود المناطق الثقافية لا تتطابق في كثيرٍ من الأحيان مع تلك المناطق الخاصة بالمجموعات اللغوية والاثنية: على سبيل المثال، ان ثقافة الكاريليين Karelians الشرقيين تُشبه ثقافة الروس الشماليين، وتُشبه ثقافة الكاريليين الغربيين ثقافة الفنلنديين، وتُشبه ثقافة الباشكيريين الغربيين في مُعظم عناصرها ثقافة الاودمورتيين Udmurts والماريين، في حين تُشبه ثقافة الباشكيريين الشرقيين الثقافة الكازاخية. أما بالنسبة للياقوتيين فثقافتهم تُشبه ثقافة الايفينكيين Evenki. يُمكن للمرء أن يُقدّم العديد من هذه الأمثلة. من المهم جداً أن يتوخى الأركيولوجيين الحذر بشأن وجهات نظرهم حول هذه المسألة.
يقول توكاريف ان مفهوم الوحدة الاثنية هو أكثر سِعةً من مفهوم الثقافة الأثرية. لم نصل حتى الآن الى تعريفٍ مُرضٍ لهذا المفهوم. عادةً ما نُحدد الوحدة الاثنية حسب مجموعة من المعايير (المجموعة اللغوية، الأسماء، المنطقة، النظام الثقافي، الوعي الذاتي، الخ)، ولكن أيٌّ من هذه المعايير الزامي وأيها أكثر أهميةً من غيرها، هو أمر لم يتم تسويته بعد.
يجب على المرء أيضاً أن يضع في اعتباره الحالات غير المُتكررة لتنوع حدود الوحدات الاثنية تحت تأثير الأسباب السياسية وغيرها. ومع ذلك، لا ينبغي للمرء أن يُبالغ في هذا الاعتبار. يجب أن تُساهم الطوبونيميا في ربط الثقافة الأثرية بالوحدة الاثنية.
كان حديث الأركيولوجي نيكولاي ياكوفليفيتش ميربيرت Nikolai Yakovlevich Merpert يدور حول أصل النقاش الدائر حول النشوء الاثني من حيث امكانيات العلم الجديدة ومهامه، والتي تجعل التقنيات والمنهجية التقليدية الأركيولوجية غير كافيين. في الوقت نفسه، فإن مهمة البحث في المسائل الاثنية صعب جداً ومُعقد بسبب المطالب التي ليس لها علاقة بالعلم بشكلٍ مُباشر، والتي لا تتوافق مع العمل الجاد.
تم بناء وصف مُتكامل لأقصى الحدود للمجموعات القديمة من عناصر عدة. أُعيد بناء بعضها مُباشرةً على أساس البيانات الأركيولوجية (الاقتصاد، السكن، الأسلحة، الخ)، وتم بناء بعضها الآخر بشكلٍ غير مُباشر، بمساعدة الاثنوغرافيا (علاقات الانتاج، أشكال التنظيم المُجتمعية، الايديولوجيا، المفاهيم الدينية، الخ). لا يُمكن عُموماً بناء ما كانت عليه اللغة من بيانات الأركيولوجيا. لذلك من الضروري استخدام مُركّب بيانات مُختلف فروع العلم، ولا يُمكن بدون ذلك كتابة أقدم تاريخ للانسانية.
يؤدي التخلي عن هذه المُقاربة التركيبية للبيانات الى فصل لُغات العصور القديمة (التي لم يُدوّن تاريخها كتابياً)، عن مجموعاتها البشرية الخاصة. في الوقت نفسه، ستكون المجموعات التي يُحددها مبحث الأركيولوجيا بدون أي لغة ان عَمِلَ الأركيولوجيين بمعزلٍ عن اللغويين. لا يُمكن الكشف عن تاريخ الانسان القديم جداً بأقصى قدرٍ من الاكتمال والشمول سوى بتضافر جهود المباحث على تنوعها
تتمثل مهمة الأركيولوجيا في اعطاء البحث بُعداً تاريخياً وليس مُجرّد دراسة المواد الحفرية بحد ذاتها. وهذا يتطلب اقامة صلة بين الثقافة واللغة. صار واضحاً منذ فترةٍ طويلةٍ ان تنسيق بيانات المباحث المُختلفة هو الوسيلة الوحيدة للبحث في المسألة. لقد تغيّرت طُرُق المُقارنة تبعاً لقاعدة المصدر. تُشير حالات عدم التوافق بين ما يَنتُج عن الأركيولوجيا والاثنوغرافيا وعلم اللغويات الى تعقّد المسألة، وتُحذر ضد اتخاذ مُقاربة مُبسّطة تجاهها، ولكنها لا تُلغيها. اليوم، هُناك مُحاولات مُثيرة للاهتمام في هذا المجال لحل هذه المسألة بشكلٍ عام. من الضروري تجنب المُقاربة الميتافيزيقية لها، والتي بموجبها تُعتَبَر أي وحدة اثنية على أنها هي نفسها ثقافة أثرية وأنها كيان اجتماعي-اقتصادي بحد ذاته. لا ينبغي اعطاء الظواهر غير المُتجانسة مُطابقةً مُتجانسة.
ويقول ميربيرت، أثناء عملية التطور، تغيّرَت الثقافات الأثرية الشاسعة لمنطقة السهوب التي كانت موجودةً خلال العصر الحجري الحديث والعصر البرونزي في مُحتواها. يجب أن لا يُطلَق عليها اسم "ثقافات"، وهي ليست اثنيات صَرفَة، ولكنها في الأساس فئة تاريخية. ان المُصطلح الذي اقترحه فورموزوف (المُجتمع الثقافي التاريخي) ينطبق عليها. يظهر التشابه عندها لفترةٍ زمنيةٍ قصيرة فقط في المعايير الاثنية بشكلٍ معزولٍ عن مجال النشاط الانتاجي (الفن الزخرفي، الزخارف، الأجدوات الطقوسية، الطقوس نفسها، الخ). تحل فترة التمايز الثقافي الطويلة محل تلك الفترة القصيرة من الاندماج الثقافي. وهنا تتشكل سلسلة كاملة من التنويعات المُميزة، والتي تتوافق مع مجموعة القبائل المعنية، والتي تتحول تدريجياً الى ثقافاتٍ مُتميزة. هذه العملية مُعقّدة للغاية وليست واضحة تماماً. كانت في البداية مُرتبطةً بظهور ثقافةٍ مُحددة محدودةٍ إقليمياً، تعكس التقاليد التي طورتها مجموعة من القبائل المُترابطة بشكلٍ وثيق، ومُرتبطة اثنياً ببعضها البعض. ثم يأتي الانتشار السريع لهذه الثقافة على مساحةٍ شاسعة، مشروطةً بتكثّف ملحوظ (التقدم الاقتصادي، امتلاك مصادر المعادن، النمو السكاني) وتنقّليةً من نوع خاص (الرعي البدوي الذي ينشأ في مرحلةٍ مُبكرة) لتلك المجموعة الأساسية الأصلية. بالاضافة الى ذلك، تنتشر عناصر الثقافة الأثرية الفردية في البداية الى عددٍ من المجموعات القَبَلية المُختلفة، ويتأسس تبعاً لذلك وحدة ثقافية مُحددة على هذه الأرض بأكملها وتتشكل منطقة ثقافية تاريخية.
لا تلعب الوحدة الاثنية فيها الدور الحاسم، بل يلعب ذلك الدور، الثقافة الأصلية، المشروطة بانتشار وهيمنة حامليها. ومع ذلك، يَضعُف هذا التأثير لاحقاً ويتم التغلب عليه تدريجياً من قِبَل مجموعات قَبَلية مُختلفة، وتُولَد من جديد التقاليد المحلية السابقة، وتظهر مصادر جديدة للتأثير الثقافي. تُصبح وِحدةً Unity المنطقة الثقافية التاريخية نسبيةً أكثر فأكثر. تتعزز المجموعات القَبَلية الجديدة والتي يقود تطورها الداخلي الى نشوء ثقافات جديدة، وتُصبح مرةً أُخرى مُرتبطةً بالقُرب الثقافي للمجموعات الأصلية التي كانت قبلها والتي نشأت كُلٍ من تلك القبائل الجديدة على أساسها.
وهكذا، ليس شكل الوحدة الثقافية فقط هو الذي يخضع للتغير في عملية التطور، بل جوهرها كذلك. تكون العوامل الاثنية حاسمةً في تشكّل الثقافة الأثرية في مراحل مُعيّنة. في مراحل لاحقة تصير العوامل الاجتماعية-الاقتصادية والسياسية هي الحاسمة، وفي وقتٍ لاحق، تعود العوامل الاثنية الى الصدارة مرةً أًخرى.
أشارَ بوريس فيودوروفيتش بورشنيف Boris Fyodorovich Porshnev الى أن مسائل النشوء الاثني تُعطَى عادةً بُعداً سياسياً مُحدداً، لذلك، غالباً ما تُبذَل المُحاولات لإعادة أصول تاريخ شعبٍ مُعيّنٍ الى الماضي بوسائل مُصطنعة. لا يوجد في هذا التأطير للمسألة أي منطق، هناك فقط نزعة رومانسية، لأنه لم يستطع ولن يستطع أحد أن يُظهِر أي تفوّق خاص للشعوب القديمة على تلك الحديثة نسبياً. يرى بورشنيف مظهراً آخراً من مظاهر النزعة الرومانسية نفسها في مُقاربة مسألة ظهور الدولة على سبيل المثال.
ان فكرة أن شعباً ما قادر على تأسيس دولة بشكلٍ مُستقل، والتي تبدو وطنية، تفتح الباب في جوهرها، لمفاهيم المدرسة الرومانسية الألمانية، التي تصنف الشعوب الى تلك القادرة على تأسيس دولة، وتلك الشعوب غير القادرة على ذلك. نعتقد أن الدولة هي احدى مظاهر البناء الطبقي للمُجتمع. وبالتالي، في السعي لاثبات الطبيعة الفطرية للدولة، نؤكد أن أجدادنا انقسموا الى طبقات، أي أنهم اضطهدوا أنفسهم بقواهم الخاصة. ولكن ان نظرنا الى الأمر من وجهة نظرهم، الا تكون النتيجة المُعاكسة أكثر وطنيةً وشرفاً، عندما نقول أن حُب الحرية مَنَعَ ظهور الدولة دون تدخّلٍ خارجي؟ يرى بورشنيف السبيل الى حل هذه المسألة في تحليل العلاقات المُتبادلة بين المجموعات الاثنية.
أعرَبَ بورشنيف كذلك، عن تأييده لإعادة النظر في مناقشة 1950 حول مسائل علم اللغة في ضوء حقيقة أنها تمت وفقاً لبرنامج مُحدد سَلَفاً.
أما أوتو نيكولايفيتش بادر Otto Nikolaevich Bader فيقول، أنه على الرغم من الروابط المُعقدة والمُشوشة بين العناصر المحلية والأجنبية، الا أنه يُمكن للمرء في كثيرٍ من الأحيان تتبع الروابط بين الثقافات بشكلٍ مُقنع.
وعلَقَ ميخائيل جيفتر على حُسن توقيت طرح المسألة والطبيعة المُتناقضة للمسألة قيد المُناقشة. تستمر عملية نشوء الاثنيات اليوم، وتطرح جانباً مُهماً جداً من جوانب واقع الدول المُتحررة من الاستعمار. تحولت هذه القضية الى مجموعة كاملة من المشاكل العلمية والسياسية والايديولوجية التي تؤدي أحياناً الى صراعاتٍ حادّة، ومن الخطير أن لا يُحسَب لها الحساب.
ان المُقاربة التاريخية المُقترحة في المقالة لها ما يُبررها. الشيء الرئيسي هو تحليل اتجاهات تطور العلم. كان ريباكوف، الذي أشارً الى نهاية مرحلة، وبداية مرحلة أُخرى في العلم، في اتفاقٍ مع المؤلف، في هذا الصدد. لكن الاعتراف بأنه تم بلوغ نقطة حرجة في تطور العلم يتضمن أيضاً الاعتراف الى الحاجة الى النفي كعنصر بنّاء Constructive في عمليات البحث اللاحقة. في الوقت نفسه، من الضروري أيضاً الكشف عن عدم التوافق الحاصل بين المفاهيم الخاصّة القيّمة والنظرية العامة للمسألة، ويؤدي مثل هذا التناقض بشكلٍ عام الى أزمة مُعيّنة في العلم.
لقد كانت المنهجية، في المقالة الرئيسية والمناقشات حولها، توسَم بأنها مجموعة من التقنيات. ولكن يبدو لي أن المسألة المطروحة يجب تُطرَح بمعنى أوسع وأكثر عموميةً، وهي اسلوب البحث المنهاجي. من المهم، في هذا الصدد، إثارة مسألتين: في المقام الأول، مدى قدرة الأركيولوجيا على رسم حدود المجموعات القديمة، وفي المقام الثاني، إمكانية تأصيل الوحدات المُعاصرة الى العصور القديمة. تتضمن كلا المسألتين مُشكلة استمرارية التطور. فلنفترض أن الوحدات الاثنية المُتطورة باستمرار، تتحول الى شعوبٍ وأُممٍ مُعاصرة. ولكن هل يُمكن للمرء حقاً أن يتبنى مفهوم التطور بشكله الخطي؟ ان تطورها يتضمن بعض التغيرات النوعية (القفزات) والتي لم يتم تعريفها بشكلٍ دقيق.
بالعودة الى معنى المُشكلة، يجب أن نقول أنها، بالنسبة للمؤرخين الذين يُعالجون الفترات المُتأخرة، مُرتبطة بنشأة الأُمم، أي بمُشكلة ذات أهمية علمية واجتماعية سياسية هائلة. ان الموقف العدمي تجاه جانبها التاريخي غير مُبرر على الاطلاق. ترغب الشعوب الفتية التي دخلت ساحة التاريخ العالمي أن تعرف نسبها وأُصولها. غالباً ما يكون تحصيل مثل هذه المعرفة مُعقداً بسبب اندلاع الصراعات القومية والتأملات غير العلمية والتي يُمكن أن تتفاقم الى قومية شوفينية مُتطرفة(ز).
وبالتالي، يؤدي الميل الى تحديد أُصول أُمة مُعينة، وهو أمر غير مُبرر تماماً ولكنه مفهوم، الى مُحاولة اضفاء الطابع الأزلي على التميّز القومي ومواجهته بالأُممية.
طَرَحَ جيفتر، فيما يتعلق بتقييم نشاط مار، مسألة ما اذا كان هذا الاتجاه موجوداً في العلم أم أنه اتجاه نشأ بشكلٍ مُصطنع من خلال الوسائل الادارية. ان كان موجوداً، فيجب الاعتراف بأن الاتجاهات العلمية الجادة لا يُمكن استبعادها من العلم ادارياً. ما يحدث عادةً هو اعادة تفسيره بشكلٍ نقدي واستبداله باتجاهاتٍ جديدة. يُقال أن مار لم يكتشف شيئاً، لكنه سعى الى ايجاد وسائل معرفة مراحل تشكّل الفكر الانساني، ومن ثم المُجتمع، من خلال اللغة. هل يتم البحث عن مثل تلك الوسائل اليوم؟ هل تم اثراء العلم في السنوات الأخيرة نتيجةً لذلك؟
ان حدود العلم اليوم، هي المسؤولة عن الحاجة الى التعاون العلمي، الذي يجب أن يحوز أساساً مُحدداً من الناحيتين النظرية والمنهاجية. خلاف ذلك، يبقى الحديث عن مُقاربةٍ مُتعددة المباحث غير مُثمر.
ان مثل تلك الأبحاث مُتعددة المباحث والتخصصات ضرورية، نظراً لاتجاه العلوم نحو الانفصال الشديد، والتي تجمدت على هذا الوضع تنظيمياً.
يقول مونغيت، في مُلاحظاته الختامية،، أن علم الأركيولوجيا قد وسّعَ مصادره بشكلٍ كبير في غضون فترةٍ وجيزة. هذه المادة الجديدة لا تتناسب مع المفاهيم القديمة، وهذا هو الذي يُحدد الأهمية الخاصة للمناقشات النظرية. على الرغم من العدد الكبير من الأعمال المُكرسة للنشوء الاثني، الا أنه لم يُعَر الاهتمام الكافي لتفسير ومبادئ تحليل المصادر. والدليل على ذلك، هو عدم وجود تعريف واضح لأحد المفاهيم الأساسية التي يشتغل بها علم الأركيولوجيا (مفهوم الثقافة الأثرية). أظهرت المُناقشات التي جَرَت على المقالة شرعية وضرورة وضع هذه المسألة على طاولة البحث، وأظهرت التعقيد الخاص لحل مسألة أصل الشعوب المُعاصرة، كونها نشأت، بشكلٍ عام، نتيجة اختلاط واندماج العديد من الوحدات الاثنية. ان مسألة مقارنة الثقافات الأثرية والوحدات الاثنية أسهل بكثير عند حل القضية عندما يتعلق الأمر بالعصور البعيدة، عندما يتطابقان.

* اليكساندر لفوفيتش مونغيت 1915-1974. تخرّجَ مونغيت من كُلية التاريخ من جامعة موسكو الحكومية، ودافَعَ عن رسالته للدكتوراة بعنوان (قبائل الريازان القديمة). عَمِلَ منذ ذلك الوقت، وحتى نهاية حياته في معهد الأركيولوجيا، وقاد بعثات أركيولوجية استكشافية في الأعوام 1946-1950 و1966-1974.
نُشِرَت كُتُب مونغيت حول موضوع الأركيولوجيا في الدول الاشتراكية وفي أوروبا الغربية منذ السبعينيات، واستُخدِمت في الجامعات السوفييتية ككتب لتدريس مبادئ الأركيولوجيا، ولا تزال تُستَخدم في الجامعات الروسية.
من كُتبه: (كنوز الآثار الروسية) 1947، (الأركيولوجيا في الاتحاد السوفييتي) 1955، (في البحث عن الحضارات المفقودة) 1959، ((الأركيولوجيا والحداثة) 1963، (أركيولوجيا أوروبا الغربية-العصر الحجري) 1973.
من مقالاته: (حول مسألة مراكز روسيا القديمة الثلاث) 1974، (تحصينات روسيا القديمة الخشبية وفقاً للحفريات الأركيولوجية) 1947، (حول حفريات كاثدرائية القديسة صوفيا في نوفغورد) 1947 (الأركيولوجيا الأمريكية في خدمة الامبريالية) 1949، (غوردون تشايلد حول أصول الحضارة الأوروبية) 1952، (حول أسرار أثار مدينة بعلبك اللبنانية) 1966، وغيرها مئات من المقالات العلمية.

1- See Sovetskaia arkheologiia, 1959, No, 3
2- See A. Ia. Briusov, YArkheologicheskie kul’tury i etnicheskie obshchnosti, ’’ in the collection Sovetskaia arkheologiia, Vol. XXVI, 1956 P. N. Tret’iakov, “K voprosu ob arkheologicheskoi kul’ture,” Sovetskaia arkheologiia, 1962, No. 4 A. P. Smirnov, “K voprosu ob arkheologicheskoi kul’ture,” -ibid., 1964, No. 4 (b) M. Ju. Braichevskii, “Teoretichni osnovi disiidzhen’ etnogenezu,” Ukrains’kii istorichnii zhurnal, 1965, No. 2
3- See A. A. Formozov, Etnokul’turnye oblasti na territosii Evropeiskoi chasti SSSR v kamennom veke, Moscow, 1959
4- See B. V. Gornung, “Iz predystorii obrazovaniia obshcheslavianskogo iazykovogo edinstva,” K V mezhdunarodnomu s’ezdu slavistov, Moscow, 1963 same author, K voprosu ob obrazovanii indoevropeiskoi iazykovoi obshchnosti, an expanded version of his paper at the Seventh International Congress of Anthropological and Ethnographic Sciences, Moscow, 1964
5- See M. G. Levin and N. N. Cheboksarov, “Khoziaistvenno-kul’turnye tipy i istoriko-etnograficheskie oblasti,” SE, 1955, No. 4 S. A. Tokarev, Problems t 6 v etnicheskikh obshchnostei,” Voprosy filosofii, 1964, No. 11
6- A. Ia. Briusov, Ocherki PO istorii plemen Evropeiskoi chaati SSSR v neoliticheskuiu epokhu, Moscow, 1952, p. 20.
7- See A. A. Formozov, op. cit
8- See S. A. Tokarev, op. cit. N. N. Cheboksarov, Problemy proiskhozhdeniia drevnikh i sovremennykh narodov (opening remarks to a symposium at the Seventh International Congress of Anthropological and Ethnographic Sciences), MOSCOW, 1964
9- See C. Hunter Bruce, Tribal Map of Negro Africa, New York, 1956
10- A. D. Udal’tsov, “Rol’ arkheologicheskogo materiala v izuchenii voprosov etnogeneza,’ in the collection Protiv vul’garizatsii marksizma v arkheologii, Moscow, 1953, pp. 14- 15
11- M. Iu. Braichevskii, op. cit., p. 31
12- هذا ينطبق فقط على الأسكيمو الأمريكيين، بقدر ما يتعلق الأمر بالأسكيمو الآسيويين، فإن ثقافتهم تُشبه الى حدٍ كبير ثقافة التشوكتشيين والكورياك.
13- N. N. Cheboksarov, op. cit., p. 15
14- See H. Bauman, R. Thurnwald, and D. Westermann, VCIlkerkunde von Afrika, 1940, p. 665
15- See S.-J. de Laet, L’archeologie et ses problemes, Berchem-Bruxelles, 1954, p. 99. For an analysis of the material showing the noncorrespondence between archeological cultures and ethnolinguistic phenomena, see the book by G. Patroni, La formazione [deil popoli nell’Europa antichissima, Milano, 1951
أ- أُنظر النقد المُوجّه الى مفهوم النشأة الأصلية في مقالة:
الخصائص المنهجية للنقد الحالي للماركسية في الأركيولوجيا، ليف ساميلوفيتش كلين، ترجمة مالك أبوعليا.
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=783939
16- See M. G. Levin and N. N. Cheboksarov, op. cit
17- See N. N. Cheboksarov, op. cit., p. 14
18- See Narody Vostochnoi Azii, Moscow and Leningrad, 1965, p. 96
19- يكتب كروبنوف، الذي يدرس ثقافة العصر الحجري الحديث في القوقاز، يقول: "ان كان يجد المرء في شمال القوقاز وما وراء القوقاز، وحتى في المناطق الشرقية والوسطى من آسيا الصُغرى (الأناضول) عند مُنعطف الألفية الرابعة الى الثالثة وأثناء الألفية الثالثة قبل الميلاد، نقول ان كان يجد المرء: "أ- أُسلوب حياة مُستقر وأشكال اقتصادية مُشتركة في المنطقة (الزراعة، الرعي، صناعة الفخار المُتقدمة) ب- مُستوطنات صغيرة من نوعٍ واحدٍ تقع على التلال، مع مساكن مُستديرةٍ أو مُستطيلةٍ، ومواقد محمولة، واستخدام الطوب الطيني، جـ- أنواع مظُوحّدة من الفخار، مع الزخرفة الحلزونية السائدة والأدوات الحجرية والعظمية، فلماذا لا يرى المرء في تجانس اللُقى المادية الأثرية هذا، انعكاساً للوحدة الاثنية، أي افتراض وجود مجموعاتٍ قَبَليةٍ ذات صلة تتحدث بلغاتٍ أو لهجاتٍ قريبةٍ جداً؟"
E . I, Krupnov, “Dr evnei shaia kul’ tur a Ka vkaza i kavkazskaia etnicheskaia obshchnost’, ” Sov. arkheologiia, 1964, No. 1, p. 39
لكن تتعارض هذه الفرضية بشكلٍ مُباشرٍ مع الوضع الحالي في شمال القوقاز، حيث يُمكن أيضاً رؤية تشابهٍ ثقافيٍ بين الشعوب التي بالرغم من ذلك، تتحدث لُغاتٍ مُختلفةٍ تماماً وبالتالي لا تُشكّل وحدةً إثنية. تشهد السمات الثقافية التي ذكرها كروبنوف على وجود نمطٍ اقتصاديٍ وثقافيٍ واحدٍ أكثر من كونها تشهد على وحدةٍ اثنيةٍ ما.
20- ان حُجج العُلماء الذين ينسبون هذه الظاهرة الى انتشار الثقافات غير كافية حتى الآن لاقناع أنصار التشابه التدريجي لعناصر الثقافة.
L. S. Vasil’ev, ‘Nekotorye problemy genezisa mirovoi tsivilizatsii v sovremennykh zarubezhnykh issledovaniiakh,” Narody Azii i Afriki, 1966, No, 2, pp. 171-180
21- See I. P. Rusanova, Kurgany polian XI1 -veka, Moscow, 1966
22- See G. S. Knabe, uVopros o sootnoshenii arkheologicheskoi kul’tury i etnosa v sovremennoi zarubezhnoi literature, ” Sovetskaia arkheologiia, 1959, No. 3, pp. 243-257
23- See R. Hachmann, G. Kossack, and H. Kuhn, Vblker zwischen Germanen und Kelten, NeumUnster, 1962
24- See A. Ia. Briusov, op. cit
ب- تطورت هذه الحضارة وازدهرت في أواخر العصر الحديدي (منذ حوالي 450 قبل الميلاد إلى بداية الغزو الروماني في القرن الأول قبل الميلاد)، بعد حضارة هالشتات في أوائل العصر الحديدي دون أي انقطاع ثقافي محدد، وتحت زخم نفوذ حضارات البحر الأبيض المتوسط الكبير من الإغريق في بلاد الغال قبل الاحتلال الروماني والحضارة الإتروسكانية وثقافة غولاساكا. يتوافق نطاقها الإقليمي لما يُشكل الآن فرنسا وبلجيكا وسويسرا والنمسا وجنوب ألمانيا وجزء من تشيكوسلوفاكيا وأجزاء من شمال إيطاليا وسلوفينيا وهنغاريا، بالإضافة إلى أجزاء مجاورة من هولندا وكرواتيا وغرب رومانيا وغرب أوكرانيا.
25- See H. I. Eggers, EinfUhrung in die Vorgeschichte, Munich, 1959, pp. 199-254
26- See’s.-J. de Laet, op. cit., p. 98
27- P. N. Tret’iakov, “Etnogenicheskii protsess i arkheologiia, 1962, No. 4, p. 15
28- G. F. Debets, M. G. Levin, and T. A. Trofimova, “Antropologicheskii material kak istochnik izucheniia voprosov etnogeneza, ” Sove s hchanie PO me todologii e tnoge ne tiches kikh issledovanii, MOSCOW1, 951, p. 6.
29- V. V. Martynov, “Problema slavianskogo e tno ge ne z a i lingvoge ogr af ic he s koe izuc he nie Pripiatskogo Poles’ia, ” in the collection Problemy lingvogeografii i etnografii i areal’noi dialektologii (Tezisy dokladov), Moscow, 1964, p. 33.
30- V. A. Nikonov, Vvedenie v toponimiku, MOSCOW1,9 65, pp. 165-166
31- Albert Dauzat, La toponimie francaise, Paris, 1960, p. 64
32- See the collection Teoreticheskie problemy sovremennogo sovetskogo iazykoznaniia, Moscow, 1964, p. 21
يُمكن للمرء أن يستشهد بأمثلة على ظهور لُغةٍ ثالثة، مثل اللغات الكاريولية، التي تختلف في تركيبها النحوب ومُفرداتها عن اللغات التي تستند اليها، لُغات سوائحل البحر الأبيض المُتوسط، التي نشأت نتيجة اختلاط الفرنسية والاسبانية والألمانية والايطالية والعربية، حيث اندمجت المُفردات وانمحت الفروق النحوية بينها.
33- See Vestnik drevnei istorii, 1951, No. 2, pp. 7-8, and the collection Protiv vul’garizatsii marbizma v arkheologii, p. 6
جـ- صحيح تماماً أن المزاعم التي تؤكد امكانية البحث عن العناصر الثقافية لأي أُمّة حديثة في العصر الحجري، هي مزاعم خاطئة بالتأكيد. وكان ستالين كذلك، يؤكّد بصورة خاطئة أنه "من الخطأ المُطلَق الاعتقاد بأن تداخل لُغتين مثلاً، يُنتِج لُغةً ثالثة لا تُشبه أية واحدة من اللغتين المُتداخلتين، وتتميز عن كُلٍّ منهما من حيث الكيفية. فالواقع أنه خلال التداخل، تخرج احدى اللغتين، عادةً، ظافرةً... بينما تفقد اللغة الأُخرى كيفيتها شيئاً فشيئاً، وتضمحل بالتدريج". ولكن ستالين، لم يزعم في كتابه (حول الماركسية في علم اللغة) أنه يُمكن البحث عن لغة وطنية في العهود القديمة ما قبل العبودية، بل كان يؤكّد أن (عناصر) اللغة، هي التي يُمكن ايجادها في العصور القديمة. يقول: "ينتُج من هذا كله أن اللغة وبناءها لا يُمكن اعتبارها نتاجاً لعهدٍ من العهود، بل أن بناء اللغة ونظام قواعدها والمضمون الأساسي للقاموس، هما نِتاج عهودٍ عديدة. وأنه ليصح الافتراض بأن (عناصر)-التشديد من المُترجم- اللغة الحديثة قد تكوّنَت منذ أقدم العصور، وقبل عهد الرق، وكانت يومئذٍ، لُغةً قليلة التعقيد، وذات قاموس فقير، ولكن كان لها نظام قواعدها الخاص، الذي كان بدائياً حقاً، الا أنه كان، مع ذلك، نظاماً قواعدياً". وهكذا، نرى، أن ستالين كان يتحدث عن تطور بُنية اللغة وعناصرها خلال مسيرة التاريخ، وأن بُنيتها وقواعدها كانت تغتني وتتطور باستمرار، ولم يكن الحديث يدور عند ستالين، حول أصل اللغة الحديثة، وأين يُمكن ايجادها، كما يقول مونغيت.
حول الماركسية في علم اللغة، جوزيف ستالين، نُسخة الكترونية، ص20، 23
34- تعود هذه الآراء الى الفترة الأولى من تطور علم اللغة المُقارن (القرن التاسع عشر) والى مظثخططات "شجرة أنساب" اللغة التي طرحها اللغوي الألماني اوغست شلايخر August Schleicher. مع ذلك، اليوم ليس صحيحاً من الناحية العلمية أن نستند على هذه الشجرة.
see V. 1. Abaev, “Skifoevropeiskie izoglossy, ” Na styke Vostoka i Zapada, MOSCOW1,9 65, p. 146 V. Pizani, “K indoevropeiskoi probleme, Voprosy iazykoznaniia, 1966, No, 4
35- See V. Pizani, Etimologiia, Moscow, 1956, pp. 43-53 same author, “Obshchee i indoevropeiekoe iazykoznanie,” in the collection of the same title, MOSCOW1965.
أول من عبّرَ عن هذه الفكرة كان علم اللغات المُتميّز تروبتسكوي N. S. Trubetskoi الذي مات عام 1938.
36- See Sovetskaia etnografiia, 1950, No, 4, pp. 19-20
37- A. D. Udal’tsov, “Teoreticheskie osnovy etnogeneticheskikh issledovanii, ” Izvestiia AN SSSR, seriia, istorii i filosofii, 1944, No. 6, p. 258
38- P. N. Tret’iakov, Vostochnoslavianskie plemena, Moscow, 1943, p. 9
39- See V. V. Ivanov and V. N. Toporov, “K postanovke voprosa o drevneishikh otnosheniiakh baltiiskikh i slavianskikh iazykov,” in the collection IV Mezhdunarodnyi s’ezd slavistov, Doklady, Moscow, 1958
40- P. N. Tret’iakov, Finno-ugry, balty i slaviane na Dnepre i Volge, Moscow and Leningrad, 1966, p. 4
41- See D. E. Evgen’ev, “Voprosy etnogeneza turok v turetskoi istoricheskoi literature, in the collection Etnicheskie protsessy i sostav naseleniia v stranakh Perednei Azii, Moscow and Leningrad, 1963, pp. 75-76
د- الكرومانيون هو اسم غير رسمي للانسان الأوروبي الحديث. تقود أقدم البقايا المعروفة للبشر الشبيهين بالكرومانيون بتأريخها من خلال الكربون المشع إلى 43,000 سنة قبل اليوم. والكرومانيون كانوا مفتولي العضلات ويتمتعون بصحة جيدة. وكانت أجسادهم عمومًا ضخمة وصلبة البنية وعضلاتهم قوية. وكانت جبهتهم مستقيمة وطويلة وحواجبهم خفيفة. والكرومانيون هم أول بشر (جنس هومو) تكون لديهم ذقن ناتئة. تبلغ قدراتهم الذهنية نحو 1,600 سنتيمتر مكعب، أي أكثر من متوسط الإنسان المعاصر. ومع ذلك تشير الأبحاث الحديثة إلى أن القياسات البدنية لمن يُسمون «بالكرومانيين» لا تختلف كثيرًا عن الإنسان المعاصر بالقدر الذي يسوغ إعطاءهم اسمًا منفصلاً.
هـ- الموستيرية هي ثقافة أثرية من العصر الحجري، وترتبط في المقام الأول بإنسان نياندرتال في أوروبا، وبدرجة أقل أقرب الإنسان الحديث من الناحية التشريحية في شمال إفريقيا وغرب آسيا. تقع الثقافة الموستيرية إلى حد كبير في الجزء الأخير من العصر الحجري القديم الأوسط، العصر الحجري القديم الأوراسي الغربي. استمرت ما يقرب من 160 ألف الى 40 ألف عام قبل يومنا هذا. وسبقتها الفترة المعروفة باسم لوفالوا أو لوفالوا-موستيرية ومن أهم المواقع التي تعود إلى هده الفترة موقع جبل (يغود) في المغرب والذي عثر فيه على أدوات حجرية تخص هذه الفـترة (مكاشط) وكذلك على بقايا الإنسان والحيوان، وتوجد كذلك في فرنسا.
و- كانت الثقافة اللوساتية موجودةً في العصر البرونزي المتأخر والعصر الحديدي المُبكّر (1300 ق.م-500 ق.م) في مُعظَم منطقة ما يُعرَف اليوم ببولندا وأجزاء من تشيكوسلوفاكيا وألمانيا الديمقراطية وغرب أوكرانيا. كان هناك اتصال وثيق مع العصر البرونزي الاسكندنافي. يُمكن أيضاً رؤية آثار للتأثيرات التي تركتها عليها ثقافة هالشتات في الزخارف (الأبازيم والدبابيس) والأسلحة.
ز- ولهذا السبب بالذات يبدو لي أن رأي غريغوري سولومونوفيتش بوميرانتس هو أقرب للصواب، عندما قال: " أنه من الخطأ الحديث حول أخطاء ما قبل الحرب وما بعدها على أنها مُجرّد انحرافات طفيفة بسبب النضال ضد الايديولوجيا الفاشية. ان طرح مسألة أولوية أي عرق أو أمّة لا معنى له علمياً ولا يُمكن تبريره بأي شكلٍ من الأشكال لأنه ينقل النقاش الى ملعب منهجية العدو." لأن العدو الفاشي قائم، سواءاً الفاشية الألمانية القديمة أم الفاشية الجديدة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتعصب القومي ذو التنويعات الافريقية والآسيوية كذلك.

ترجمة لمقالة:
A. L. Mongait (1968) Archeological Cultures and Ethnic Units, Soviet Anthropology and Archeology, 7:1, 3-25