حول الجدلية الموضوعية للتطور الاجتماعي


خليل اندراوس
2023 / 5 / 21 - 12:29     



تتلخص المأثرة العلمية العُظمى لمؤسسي الماركسية - ماركس انجلز- في أنهما كشفا الطابع الجدلي المادي ليس فقط لتطور الطبيعة، بل والمجتمع كذلك. وبذلك وضعا النظرية العلمية الوحيدة للتطور الاجتماعي - المادية التاريخية وهنا اود أم أتطرق الى جوهر الثورة التي أحدثتها الفلسفة الماركسية حول المجتمع وتطوره. والتنبؤ بالمستقبل ليس لكل انسان وحسب، بل وللمجتمع الذي عاش ويعيش فيه ايضا.

وحتى ولو كان هذا التنبؤ التقريبي يخص المستقبل القريب. ان دراسة الحاضر والتنبؤ بالمستقبل ليس فضولا بسيطا بل تعبير عن حاجة علمية! من أجل أن يعمل الانسان اليوم بنجاح يجب ان يعرف ماذا سيكون غدا.

فالرغبة في النضال اليومي الثوري الطبقي القومي الأممي يتطلب من أفراد المجتمع والطبقة العاملة وشرائح المجتمع المختلفة المضطهدة. (بفتح الهاء). دراسة المجتمع الحاضر من خلال فكر وفلسفة جدلية ثورية، والتطلع الى يوم الغد، وخاصة في عصرنا الحاضر الذي يشهد تطورات لا بل ثورة علمية،وعصر هيمنة القطب الامبريالي الامريكي - الأوروبي على العالم، حيث يعمل الغرب الامبريالي الاستعماري وعلى رأسه الولايات المتحدة، الذي يريد صياغة العالم وفق رؤيته الاستبدادية وهيمنة القطب الواحد الامبريالي.

وفقط الفلسفة المادية التاريخية تساعدنا في المعرفة العلمية الصحيحة للحاضر ورؤية المستقبل. وهنا أذكر ما قاله سان سيمون الاشتراكي الطوباوي قبل عقدين من نشوء المادية التاريخية ونشوء الشيوعية العلمية، في آخر مؤلفاته، وعلى طريقته الخاصة، مدى الحاجة الى معرفة علمية حقة للمستقبل، فصرح بفكرة حكيمة وعميقة جدا!" حتى الآن تحرك الناس في طريق الحضارة وظهرهم الى المستقبل، موجهين انظارهم عادة الى الماضي،أما المستقبل فقد رمقوه بنظرات نادرة جدا وسطحية فقط. والآن وقد قُضي على العبودية، فان على الانسان أن يركز انتباهه على المستقبل".

ان تصورات الاشتراكية الطوباوية بقيت بكاملها في حدود الطوباوية ولكن ما كان طوباويا، أصبح علما في مؤلفات ماركس وانجلز ولينين، ويصبح واقعا في عصرنا الحالي من خلال معرفة وممارسة الفلسفة المادية الجدلية التاريخية في النضال الطبفي القومي الأممي من أجل التغيير لا بل الثورة الاجتماعية في عصرنا الحاضر ومن اجل بناء مجتمع حرية الانسان والانسانية مجتمع المستقبل.

وهنا بودي قول الافكار الصائبة عن سير تطور المجتمع جاءت على لسان العديد من الفلاسفة قبل ماركس. وعلى سبيل المثال، فقد أكد الماديون الفرنسيون في القرن الثامن عشر أن الانسان وأراءه وسلوكه نتاج لتأثير البيئة الاجتماعية. وأشار المؤرخون البرجوازيون الفرنسيون (جيزو، تييري، منيه) الى وجود طبقات مُتعارضة والصراع الطبقي في المجتمع.

كما حاول الاقتصاديون الانجليز (من أمثال آدم سميث، ودافيد ريكاردو) ان يجدوا في الاقتصاد اساسا لوجود الطبقات. كما أن الاشتراكيين الطوباويين (سان سيمون، فورييه، أوين) تنبأوا بعدد من سمات المجتمع الشيوعي المُقبل.

وكانت آراء الفليسوف الروسي شيرنيشفسكي (فيلسوف مادي وناقد واشتراكي وثوري روسي. زعيم الحركة الديمقراطية الثورية في ستينات القرن التاسع عشر، وكان له تأثير على فلاديمير لينين وايما غولدمان، والكاتب السياسي الاشتراكي الصربي سفيتوزار ماركوفيتش. تاريخ ميلاد شيرنيشفسكي 1828 في مدينة سارتوف - روسيا وتاريخ الوفاة 29 اكتوبر عام 1889). ومن اقوال تشيرنيشفسكي:" السعادة الشخصية مستحيلة دون سعادة الآخرين". " الشباب - وقت نضارة المشاعر النبيلة. " " الاتجاه الخاطىء يدمر اقوى المواهب". وغيره من الديمقراطيين الثوريين الروس في القرن التاسع عشر مساهمة كبيرة في نظرية التطور الاجتماعي.

ان أفكارهم عن دور الاقتصاد في التطور الاجتماعي وعن الشعب كصانع للتاريخ وعن عدم امكانية التوفيق بين المصالح الطبقية للاستغلاليين والمُستغلين وعن الطابع الطبقي للفلسفة والأدب والفن الخ. . كانت افكارا عميقة بالنسبة لزمانهم.

لوحظ منذ امد بعيد وخاصة الآن أن تطور المجتمع البشري يتسارع وفي زمننا يصبح عاضفا تماما. ولذلك يصبح من اللازم أن تكون وسائل التنبؤ العلمي وكل نظرية المجتمع أكثر تكاملا وهذا ممكن فقط من خلال التعمق وممارسة الفكر المادي الجدلي التاريخي الماركسي وفي عصرنا الحاضر نشهد تعاظم الاهتمام الشديد بقضايا المستقبل، ونشوء اتجاه علمي جديد هو التنبؤ الاجتماعي (الذي اشتهر في الغرب الامبريالي بتسمية "فوتورولوجيا" ). الا أن المادية التاريخية التي وضعها ماركس وانجلز هي في الحقيقة أول شكل علمي للتنبؤ الاجتماعي من الناحية التاريخية.

وهنا بودي القول بأن علم الاجتماع ما قبل ماركس لم يكُن علما حقيقيا. وعيوبه الأساسية تتلخص بأن المثالية كانت هي السائدة بلا منازع في علم الاجتماع ما قبل ماركس. فمثلا الماديون الفرنسيون أوضحوا بأن البيئة الاجتماعية لها تأثير اساسي على الانسان لكنهم خرجوا بنتيجة خاطئة حيث اعتبروا هذه البيئة نتاجا للعقل الانساني. "ان الافكار تحكم العالم" هذه خلاصة وجهات نظرهم عن المجتمع.

وكانت لدى الماديين الآخرين أيضا لما قبل الماركسية نظرة مثالية للمجتمع. فمثلا على الرغم من أن هيجل مثلا أعرب عن افكار قيمة بصدد الضرورة التاريخية وحاول تفسير التاريخ الانساني جدليا، الا أنه وصل في النهاية الى استنتاج خاطىء بأن المجتمع محكوم بارادة ألهية. الرب يحكُم العالم، لذا فأن تنفيذ مشيئته هو تاريخ العالم، تلك هي خلاصة فلسفة التاريخ لهيغل.

وكان عيب آخر لعلم الاجتماع ما قبل ماركس نابعا أيضا من النظرة المثالية الى المجتمع. فعلماء الاجتماع ما قبل ماركس انطلقوا من النظرة المثالية القائلة بأن الافكار تحكم العالم وأن هذه الافكار من صنع أعاظم الرجال - الملوك والقادة العسكريين والعلماء الخ . . . ووصلوا الى النتيجة الخاطئة بأن هؤلاء الرجال العظام وحدهم صناع التاريخ. ولم يتبينوا الدور الحاسم للجماهير الشعبية الشغيلة في التطور التاريخي ولقد عجز علماء الاجتماع لما قبل الماركسية عن تبيان الجدلية الحقيقية المادية للعملية التاريخية وفقط ماركس وانجلز استطاعا ان يبينا كل تعقد وتناقض تطور المجتمع، وأن ينفذا الى أعماق جوهره.

وذللا عُيوب علم الاجتماع المادي والمثالي السابق، وصاغا نظرية جديدة كيفيا للتطور الاجتماعي هي المادية التاريخية. واصبح ذلك انقلابا ثوريا في الافكار عن المجتمع، حيث طرد ماركس وانجلز المثالية من العلم الاجتماعي. وحلا بشكل صائب المسألة الأساسية للفلسفة في تطبيقها على المجتمع، وصاغا الحكم الرئيسي للمادية التاريخية ان الوجود الاجتماعي يحدد الوعي الاجتماعي.

الوعي هو انعكاس لحركة المادة في دماغ الانسان، فالوعي هو نتاج تطور تاريخي قال لينين:" ان "الجدل الحقيقي" يتقدم " عن طريق التحليل الدقيق للعملية بكل تحديدها، فالقضية الاساسية للجدل هي : أنه لا توجد حقيقة مجردة، فالحقيقة دائما مُحددة" (لينين خطوة الى الأمام وخطوتان الى الخلف شيء عن الجدل).

وقال انجلز:" لا يمكن ان تكون هناك مسألة بناء قوانين الجدل في الطبيعة، بل مسألة اكتشافها فيها وانضاجها منها. . . فالطبيعة هي محك الجدل". (انجلز انتي دوهرينغ المقدمة والمدخل) وهنا نقول بأن مجال الوجود الاجتماعي يشتمل على الحياة المادية للمجتمع وقبل كل شيء نشاط الناس الاجتماعي،أي تلك العلاقات الاقتصادية التي تتشكل بين الناس في سياق الانتاج. والوعي الاجتماعي هو عبارة عن الحياة الروحية للناس، أي تلك الافكار والنظريات والآراء التي يسترشدون بها في نشاطهم العملي. وماركس وانجلز بتأكيدهما أسبقية الوجود الاجتماعي على الوعي الاجتماعي انطلقا من أن الناس، قبل الانهماك في العلوم والفنون والفلسفة وما شابه ذلك، كان عليهم الحصول على الغذاء والشراب والملبس والمأوى، وعليهم بغية ذلك ان يعملوا أن يُنتجوا القيم المادية.

وينجم عن هذا أن "انتاج الوسائل المادية المباشرة وبالتالي كل درجة معينة من التطور الاقتصادي للشعب أو للعصر يشكلان الأساس الذي تتطور منه مؤسسات الدولة والآراء الحقوقية والفن وحتى المعتقدات الدينية لأولئك الناس، والذي يجب الانطلاق منه بالتالي لتفسيرها، وليس العكس، كما كان الحال من قبل". (ماركس وانجلز المؤلفات المجلد 19 ص 350 - 351). ان أبراز ماركس وانجلز للعلاقات الاقتصادية، العلاقات الانتاجية، بوصفها العلاقات الرئيسية والحاسمة من بين العلاقات الاجتماعية العديدة قد مكنهما من صياغة مفهوم التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية، وهو من أهم المفاهيم الاساسية للمادية التاريخية.

ان التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية هي مجموع الظواهر والعمليات الاجتماعية (الاقتصادية والايديولوجية والعائلية والمعيشية والخ) القائمة على اسلوب معين تاريخيا لانتاج الخيرات المادية. ان تطور المجتمع هو عبارة عن الحلول الحتمي لتشكيلة اجتماعية اقتصادية اكثر تطورا محل اخرى قديمة. وتتجدد الحركة التقدمية للتاريخ البشري في الانتقال من التشكيلة المشاعية البدائية الى التشكيلة العبودية ثم الاقطاعية، ثم الراسمالية وأخيرا التشكيلة الشيوعية.

وهذا التطور نحو الشيوعية هو أمر حتمي تاريخي. ففشل بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي ليس نهاية للتطور الحتمي نحو مجتمع المستقبل مجتمع حرية الانسان والانسانية المجتمع الشيوعي وذلك لأن الثورة الاجتماعية الطبقية وتجربة المرحلة الانتقالية وبناء الاشتراكية قد تفشل مرة او مرتين أو أكثر ولكن ستنتصر في النهاية لانها التطور الحتمي للمجتمع الانساني. ومن اعظم افضال ماركس وانجلز بانهما كشفا الجدلية الموضوعية للتطور الاجتماعي.

(يتبع)

المراجع:

-اصول الفلسفة الماركسية - تأليف جورج بوليترز.

-بغاتوريا- ملامح المستقبل انجلس والمجتمع الشيوعي .

-مدخل الى المادية الجدلية - موريس كونفورت .

-اسس المعارف الفلسفية - افاناسييف.