الاغتراب واللاغتراب: مواجهة بين لوكاتش وهايدجر (الجزء الثاني)


أحمد رباص
2023 / 5 / 21 - 04:52     

الاعتراض الذي تمت صياغته بمثل ذلك التأكيد هو أكثر إثارة للدهشة لأن مؤلفي نص "ملاحظات حول أنطولوجيا الرفيق لوكاتش"، خاصة منهم هيلى وفيهر، أكدوا لاحقا أن ما نفرهم من "الأنطولوجيا" كان مشروع توليفة شاملة (أو وفقا للغتهم، المستعارة من الصيغة الما بعد حداثية، مشروع "الحكاية الكبرى") ، تعيد إصدار طموحات الأنساق العقلانية الكبرى وفلسفات التاريخ في الماضي. كان يورغن هابرماس هو أول من أبدى ترددا مربكا في مواجهة مثل هذا المشروع، عندما أصبح على دراية بمشروع العمل في الستينيات، وفقا لعرض بنية العمل الذي قامت به أنياس هيلر. من خلال الوثوق بهذا العرض المبسط للأشياء، يبدو أنه قد تخلى عن الاهتمام بـالمؤلف الصادر بعد موت لوكاتش.
كيف يمكن التوفيق بين اللوم الناتج عن مواجهة مشروع عفا عليه الزمن حول "فلسفة التاريخ" أو "الحكاية الكبرى" والانتقادات الموجهة إلى الفصل الخاص بالاغتراب والتركيز على التجربة المعاشة للأفراد؟ وليس على البنيات عبر الشخصية ؟
الحقيقة هي أن لوكاتش كان يطور فينومينولوجيا ذاتية حقيقية لفهم خصوصية الاغتراب: لقد صاغ فروقا دقيقة بين التشييء والتخارج، بين تكاثر الكفايات أو القدرات وتآزرها في تكوين الشخصية، بين خصوصية الجنس البشري في حد ذاته وخصوصية الجنس البشري لذاته.
كما حددنا سابقا، بعيدا عن وضع العوامل الموضوعية للاغتراب في الخلفية، فقد عمل على المسك بطرفي السلسلة: قطب كلية الكائن الاجتماعي، بمطالبه وضروراته، وقطب تفرد الأفراد، الذين أكد على وزنهم الذي لا يمكن تعويضه. فكون تفكيره يعطي مكان الصدارة لجوانية الذات، من خلال التأكيد على الفضاء الداخلي، وباكتشاف العتبات المختلفة للذاتية في علاقات التوتر الديالكتيكي بالموضوعية (سيميز ليس فقط بين التشيؤ والتخارج، ولكن أيضا بين التسليع والاغتراب، على الرغم من الروابط بين الاثنين) شكل ميزة كبيرة لتحليلاته، والتي ظل التلاميذ المتسرعين غير ذي إحساس بها بشكل غريب.
وغني عن البيان أن فكر لوكاتش الأخير ، بتحديثه القوي لمفاهيم الجنس البشري وخصوصية الجنس البشري، لم يتمكن من أن يحظى بأدنى تلق سواء من لدن التوسير وتلاميذه.، حيث تنتمي مفاهيم "النوع البشري" أو "الاغتراب" إلى تراث فيورباخي أو مثالي هيغلي قد ولى؛ ولا من لدن محبي فكر الشاب لوكاتش، الذين ظلوا مجمدين في إعجابهم ب"التاريخ والوعي الطبقي"، غير قادرين على قياس خصوبة المسار الذي سلكه منذ طفولته بدء بكتابه عن "هيجل الشاب" ومؤلفيه عن "خصوصية علم الجمال" و"انطولوجيا الوجود الاجتماعي"، ولا حتى من قبل خلف مدرسة فرنكفورت المتوقف عند إعجابه الحصري ب"التاريخ والوعي الطبقي" (تأكيد ينطبق على هابرماس كما على أكسيل هونيث) والمقتنع بأن الطريق التي سلكها لوكاتش بعدما فك الارتباط بكتابه الذي ألفه في مرحلة شبابه لم تؤد (الطريق) إلى نتائج فلسفية مماثلة لتلك التي توصل إليها في كتابه الصادر سنة 1923.
يبدو واضحا لنا، مع ذلك، أن بنية الفكر الموضوعة في العملين التركيبيين "علم الجمال" و"أنطولوجيا الوجود الاجتماعي" (والذي، حتى لا ننسى، يُنظر إليه على أنه مقدمة للأخلاق) كان لها نطاق فلسفي مختلف تماما عن تلك التي هي أساس كتابه المؤلف في مرحلة شبابه.
رفع لوكاتش الأخير تفكيره إلى مستوى العالمية، من خلال اقتراح احتضان مجمل الأنشطة البشرية ورسم التكوُّن الجيني وتكوين الوعي من أجل رسم المسار الذي يؤدي إلى تقرير مصير الجنس البشري.
تعبر الأسئلة التي تمس الاستقلالية واستقلالية الذات كتاب "أنطولوجيا الوجود الاجتماعي". هذا رد فعل حقيقي على الإشكالية التي طورها هايدجر في "الوجود والزمن"، لأن "أنطولوجيا الوجود الاجتماعي" يتحدث بوضوح عن "أنطولوجيا للذات" قادرة على ان تحل بشكل نهائي محل "أنطولوجيا الدازاين".
إذا اكتفينا بمسألة الاغتراب، التي تؤدي كذلك دورا اساسيا في "الوجود والزمن"، فمن الواضح أن مقاربة المسألة في "علم الجمال" وفي "أنطولوجيا الوجود البشري" لها افق اوسع من أفق "التاريخ والوعي الطبقي"؛ هذا الكتاب العائد إلى مرحلة الشباب يركز على تسليع الوعي كنتيجة لمعمار
الذات في مملكة السلع، بينما يطور كتاب "الأنطولوجيا" نظرية عامة عن الاغتراب، والتي تضم التخلق المتوالي للظاهرة واللحظات الحاسمة التي تتخلل تطورها، من خلال اللجوء إلى كل من مؤلفي "الطرواديات" و"أندروماخيه" ليوربيديس (480 ق.م.- 406 ق.م.) عندما يتعلق الأمر بتجسيد اغتراب النساء في المجتمع القديم، وكذا إلى كتب السوسيولوجيا الأمريكية الحديثة، خاصة أعمال رايت ميلز ودفيد ريسمان ووايت، عندما يتعلق الأمر بتوضيح الآثار المتطرفة للاغتراب على المجتمع البرجوازي المتأخر .
(يتبع)