إسقاط حكم الميليشيات هدف قومي عربي ودولي شامل


حسن خليل غريب
2023 / 5 / 19 - 21:37     

بعد أقل من شهرين من توقيعه، تكاثرت التفاسير حول مفهوم الاتفاق السعودي – الإيراني، وطرائق تنفيذه. وهذا ما تمَّ استخلاصه من قراءة عدة مصادر، وخاصة من قبل الجهات التابعة لإيران. ومن أهمها ما تمَّ تسريبه من تقارير ذات صلة بمسؤولين إيرانيين زعموا فيها أن الاتفاق المذكور يشكِّل انتصاراً للمنهج الإيراني من جهة، وللمحور الشرقي المناهض لأميركا والمحور الغربي من جهة أخرى. ونتيجة هذا الانتصار، كل الضغط الإيراني إلزاماً للسعودية بالتوقيع على الاتفاق للمحافظة على أمنها بواسطة الحوار،بعد أن عجزت عن الحصول عليه بالقوة.
وجاءت الحوارت مع بعض من هو ملتزم بخط المنهج الإيراني، وهو منقول من داخل أوساط حزب الله في لبنان، لتؤكِّد صحة تلك التقارير. كما أكدت تلك الحوارات أن هناك مقايضات بين السعودية وإيران على أن تعطي إيران القضية اليمنية للسعودية، وتأخذ سورية ولبنان كمقابل لها. وبين هذا وذاك من مزاعم المحاصصات الإيرانية اعتبرت أن القضية العراقية ستكون كتحصيل حاصل من حصة إيران.
وأما قراءتنا للاتفاق المذكور فقد جاءت من مفاهيم مختلفة، ومن زوايا مختلفة أيضاً، نلخصها بما يلي:
وأما عن المفاهيم فنعتبر أن مبدأ سيادة الدول على أراضيها، لا تعني السعودية وإيران فقط، بل هو مبدأ أممي عام، لا يمكن حصره بين دولتين حتى وإن كان خلافاً بين دولتين خرقت فيها إيران هذا المبدأ، ليس مع السعودية فحسب، بل خرقته في أكثر من دولة عربية، كانت بدايتها في العراق، مروراً بسورية وصولاً إلى لبنان، كهلال متصلة دوله اتصالاً جغرافياً مباشراً. وتلاه خرق من غربي السعودية وجنوبها بواسطة الحوثيين في اليمن. وحسب استراتيجية نظام ولاية الفقيه، ولأنها مبنية على أسس إسلامية مذهبية تستند إلى تكفير النظام الوهابي بشكل علني ومكشوف، وتعمل على إسقاطه، يعني حصار السعودية بمجموعة من الدول التي تهيمن عليها ميليشيات مذهبية تدين بالولاء لأيديولوجيا ولاية الفقيه، يتَّضح أن النظام الإيراني يعمل جاهداً للتدخل بشؤون السعودية الداخلية، كما يعني العمل على اختراق سيادتها الوطنية.
من مجموع ما أنجزه النظام الإيراني، بتشييع أنظمة عربية، يصبح من الواضح مدى خطورة مشروعه على اختراق الأمن القومي العربي بشكل شامل، وتلك نتائج لا تستقيم من دون إسقاط ما بناه من مكتسبات سياسية أيديولوجية حيثما حلَّ في الأرض العربية.
كانت السعودية متضرراً مباشراً من التدخل في اليمن، ومن التدخل في العراق أيضاً. ومن هنا لا ندري كيف يجوز لإيران أن تجيز لنفسها التنازل عن اليمن، وهو ليس ملكاً لها، لتأخذ بدلاً منها في سورية ولبنان، وكأن السعودية ستتنازل عن سورية ولبنان وهما ليسا ملكاً لها أيضاً.
إنها ومن دون شك ديماغوجية فاضحة. تبيع إيران ما ليس ملكاً لها وتشتري من السعودية ما ليس ملكاً لها. فأين سنجد مبدأ (سيادة الدول على أراضيها) في مثل هذه المقايضة؟
علماً أن هيمنة إيران على العراق وسورية ولبنان واليمن جاءت من طرف واحد، وإذا كان من وسيط باعها هذه الدولة أو تلك كانت الميليشيات التي قامت إيران بتسليحها وتمويلها. فليس من حق تلك الميليشيات أن تبيع أرضاً لا تملكها، ولا من حق إيران أن تشتري أرضاً لا تملكها تلك الميليشيات. فالبائع والشاري يتصرفان ضد القوانين والتشريعات الدولية.
ولأن أية دولة تكتسب شرعيتها بوجود نظام سياسي واحد يكون مسؤولاً عن إدارة مؤسسات رسمية واحدة، خاصة المؤسسات العسكرية والأمنية، فإن نظام الحكم في هذه الدولة أو تلك، القائم على أسس عسكرية وأمنية ميليشياوية، لهو نظام غير شرعي. وهذا ما ينطبق على كل دولة عربية يزعم النظام الإيراني أنها أصبحت تابعة لها.
فبين التفسيرين، التفسير الذي يتسرَّب من الأوساط التابعة للنظام الإيراني، وتفسيرنا، مساحة كبيرة من الافتراق بالرؤية النظرية والتنفيذ الميداني. وإذا ما صحَّ التفسير الإيراني للاتفاق، وأخذ طريقه للتنفيذ، فهذا يعني تأسيساً لحروب جديدة قادمة تكون الميليشيات أداتها التنفيذية. ولكي نحول دون الوصول إلى هذه النتيجة، نرى أن إسقاط منهج الميليشيات خط مرور آمن لنجاح الاتفاق السعودي الإيراني.

لماذا وكيف؟
رعت الدولة الصينية الاتفاق بناء على رؤية اقتصادية ذات آفاق عالمية استراتيجية:
جاء توقيع الاتفاق بعد أن حصلت الدولة الصينية على اتفاقيات اقتصادية مجزية لاقتصادها مع السعودية، وعينها على توسيع دائرة تلك الاتفاقيات لتشمل المنطقة العربية كلها. ومن المعروف أن الرأسمال جبان يلجأ إلى الملاذات الآمنة.
ولأن الدولة الصينية تعرف مدى خطورة البيئة الأمنية السائدة في المنطقة العربية وجوارها. وتعرف أيضاً أن مصادر الخلل الأمني يأتي من البوابة الإيرانية استناداً إلى اعترافات النظام الإيراني بسيطرته على أربعة عواصم عربية بواسطة ميليشياتها المسلحة في تلك الدول.
كما تدرك الدولة الصينية أن الأمن منفلت في تلك الدول بسبب سيطرة الميليشيات الإيرانية، وإن وحدة تلك الدول مفقودة ولا تستطيع أن توفر أية ضمانة أمنية للرساميل الصينية؛ ولهذا لن تقتنع بوجود بيئة آمنة لرساميلها في المنطقة العربية وجوارها من دون استعادة تلك الدول لقرارها السيادي والأمني منه بشكل خاص. وتدرك أيضاً أن توفير البيئة الأمنية الهادئة لن يتم دون استعادة تلك الدول وحدتها السياسية ووحدة مؤسساتها الأمنية؛ والذي بالتالي لن يتم بغير إسقاط منهج الميليشيات في الحكم.
ووقَّعت السعودية الاتفاق بناء على رؤية اقتصادية استراتيجية سعودية – عربية:
لن ندخل بتفصيل الرؤية الاقتصادية السعودية التي ستكتمل حسب المصادر السعودية في العام 2030، بل سنستخدم منها في مقالنا هذا ما يخدم تحليلنا المقتضب، فنرى أنه لا يمكن لخطة اقتصادية أن تنجح في أحد الأقطار العربية من دون أن تأخذ بالاعتبار عمقها القومي العربي.
ولأن الخطة السعودية، التي ستقوم بتوظيف رساميل طائلة، تأخذ عامل الأمن بعين الاعتبار لتوفير ملاذات آمنة لها. وإن عوامل توفير الملاذات الآمنة شبيهة بالتي قمنا بتفصيلها في كلامنا عن الجانب الصيني لن نكررها مرة أخرى. وإنما نعيد التذكير بأن تلك الملاذات يمكن أن تكون موفورة بإسقاط الميليشيات الإيرانية في كل دولة عربية تريد أن تستفيد من الرساميل السعودية. وإن السعودية ليست معنية بالتنفيذ لأنها لم تؤسس ميليشيا واحدة في أي قطر عربي من جهة؛ كما أن منطق الانتقائية بين هذا القطر العربي أو ذاك لتطبيق الاتفاق، أو منطق المحاصصة بين السعودية وإيران، كما تؤكد ما تسرَّب عن النوايا الإيرانية، يُشير، إذا ما غفلت أو استُغفلت الصين والسعودية عن تلك النوايا، إلى أن الاتفاق سيموت قبل أن يُولَد. ولكن، كما نعتقد، لن تمر الديماغوجية الإيرانية مرور الكرام عند الدولتين الصينية والسعودية.
الاتفاق شامل وليس موضعياً:
إما أن يكون الاتفاق شاملاً أو لا يكون، تلك هي قرارات الدول التي تبني عن بصيرة، لأنها تبني تلك القرارات على أسس علمية تضعها مراكز أبحاث موثوقة. وأما منطق الدول التي تبني قراراتها على القطعة، خاصة أنها ترهن نجاحها على تدخُّل من قوى غيبية، فإنها تعيش على الأوهام والخداع. وعليها أن تدرك أن للدول المدنية الحديثة والمعاصرة مجسَّات ومقاييس علمية تجعلها تعي المخاطر قبل أن تقع بنسبة عالية من الفرضيات. وعلى من قاموا بتحاليل عشوائية قائمة على النوايا، وهم ممن يخططون للنظام الإيراني، أو من أتباعهم، أن يستيقظوا من أضغاث الأحلام الغيبية، لأن الأحلام الغيبية يمكنها أن تخدع الجماهير المُثخنة بالتعصب، وليس غيرهم.
لكل هذا، رعت الصين الاتفاق لأن لها مصالح اقتصادية استراتيجية في عموم المنطقة العربية وجوارها لا لكي تتفرِّط بها؛ بل رعته لكي ينجح، ولن تضع مصالحها رهينة اتفاق هشٍّ يمكن لأي خطأ من الميليشيات الإيرانية أن تهزَّه، أو أي خطاب موتور أن يزعزع أركانه. كأن ترقعه في اليمن، وينفتق في العراق. أو ترقعه في سورية، وينفتق في لبنان. وهكذا، فإما أن يكون اتفاقاً شاملاً أو لا يكون.... وليس من المستغرب أن تكون السعودية قد بنت مشروعها الاستراتيجي، وإن بطموحات وأحجام أقل من الصين، على أسس اقتصادية لا يمكن أن تكون علمية من دون أن تأخذ بالاعتبار العمق الاقتصادي القومي العربي.

المكتوب الصيني يُقرأ من عنوان حاجته للاتفاق وجرأته على رعايته:
بين موجبات الأهداف الصينية من رعاية الاتفاق، وموجبات الأهداف السعودية من التوقيع عليه، يبقى الرهان على نتائج التنفيذ. والنظام الإيراني، كما أكدنا في متن المقال، مسؤول عن التنفيذ مسؤولية كاملة. وإذا حصل خلل فيه سيتحمل مسؤولية فشل الاتفاق، وعندئذ ستكون له تداعياته السلبية من قبل الدولة الصينية التي لا نحسب أنها ستغفر للنظام الإيراني إسقاط حلم صيني طالما راودها في تاريخها الحديث والمعاصر. وأنها رعت توقيعه، ليس لتدخل في مساومات ديماغوجية مع النظام الإيراني الذي اشتهر بممارسة تلك الوسائل. بل رعته لتنفيذه، لا لمضيعة للوقت مع نظام إيراني يدرك تماماً أن هكذا اتفاق سينقذه من أزمات داخلية ضاغطة، وأزمات دولية أكثر من ضاغطة.