كتاب لكل العصور

إبراهيم إستنبولي
2006 / 10 / 28 - 09:45     

قبل ستين عاماً ، و بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها ، و بالتحديد في عام 1946 صدر كتاب جـورج أورويـــل " Farm Animal " – ما معناه حرفياً " مزرعة الحيوانات " ، و لكن هناك من يصبغ على العنوان مسحة دنيوية فيترجمه " حظيرة الحيوانات" أو مع بعض الغضب و السخط " الزريبة " .
و الكتاب ، الذي هو عبارة عن حكاية رمزية عن الحيوانات التي ثارت و انتفضت ضد الإنسان ، كان قد تعرض خلال عدة عقود إلى تفسيرات و قراءات كثيرة و مختلفة . و لكن التفسير الأكثر انتشاراً و شيوعاً – أنه توهمات سياسية .
كتب جورج أورويل في عام 1944 : " إنني أكتب حكاية صغيرة ساخرة يمكن أن تجدوا فيها بعض اللهو و التسلية حين تخرج إلى النور ، إلا أنها مريبة إلى درجة أنني غير واثق سلفاً من أن أحداً ما سيرغب بطباعتها " .
مما لا شك فيه أن " إزعاج " الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية كان أمراً غير مرغوب به و محفوفاً بالمخاطر . و لهذا فقد جاء الرد على طباعة الكتاب من قبل إحدى دور النشر على منوال : " إنه قصر نظر سياسي بكل تأكيد " . من غير السديد ، غير موفق و ليس في الوقت المناسب – هذه هي الإجابات التي كان يسمعها أورويل في مختلف دور النشر و هو يدفع بكتابه للطباعة . و مع ذلك فقد تحقق له ما أراد و تمت طباعة الكتاب في عام 1946 ، و ذلك بعد أن وضع تشرشل في خطابه في فولتون Felton النقاط على الحروف بخصوص الخارطة السياسية في العالم المعاصر .
للعلم فقط نذكّر أن جورج أورويل كان يسارياً ذا ميول اشتراكية – ديموقراطية . و قد أرخت جذوره الأرستقراطية ( و اسمه الحقيقي إيريك بلير ) و تلقيه التعليم في جامعة إيتون Eton بظلالها الغريبة و المتناقضة على الكاتب . فقد راح أورويل يواكب القضايا السياسية المعاصرة لـه و أعرب عن تعاطفه الشديد مع البروليتاريا. و قد ساهم انتسابه إلى الحزب الليبرالي الفوضوي ( لا يمت بصلة إلى الليبراليين الحاليين ) ، و مشاركته في المعارك إلى جانب الجمهوريين في إسبانيا في ثلاثينيات القرن العشرين في تشكّل قناعات الكاتب النهائية . " إن ما رأيته في إسبانيا ، و من ثم – إطلاعي على آليات العمل في الأحزاب اليسارية ، قد خلق لدي قرفاً تجاه السياسة " – كتب أورويل .
يحاول الكاتب تحليل أسباب الهزيمة و الآليات الدقيقة الخفية ، التي تحوّل ، بالتدريج و ببطء و لكن بثقة ، الفكرة الرومانسية إلى ما هو نقيضها و عكسها مباشرة . و كنتيجة لهذا التحليل ظهر كتاباه الشهيرين : الكتاب - الاستعارة " الزريبة " و الرواية – الأنتي يويتوبيا " 1984 " .
لقد كان جورج أورويل مخلصاً في معاداته للشيوعية . و لم تقتصر محاربته للتوتاليتارية على الأدب فقط ، بل تخطت ذلك و تضمنت التعاون مع المخابرات .
ففي عام 1949 قام أورويل بإعطاء الموظفة الشابة في القسم السري في وزارة الخارجية البريطانية لائحة بأسماء الأشخاص ، الذين يشك بتعاطفهم – و على الأرجح ، ليس من دون مبررات – مع الشيوعيين . و لكن من المشكوك فيه أن يكون الكاتب ضحية للهوس التجسسي ، و أن الأمر لا يتعدى أنه ببساطة كان مغرماً في تلك السيدة و أنه حاول الجمع بين ما هو لطيف و ما هو نافع – دعمها في عملها الوظيفي و مساعدتها في الترقية من جهة و كذلك " التنبيه " إلى خطر الأعداء المحتملين .
و يبقى الجانب الأخلاقي في هذه القضية مفتوحاً للجدل . إذ من الصعب ، مثلاً ، التعاطف مع عهد المكارثية McCarty’s في الولايات المتحدة الأمريكية . و لكن التجسس – شيء ، و القناعة التي تختلف عن ما هو سائد في لحظة تاريخية معينة – شيء آخر .
إلا أن هذا يدفع إلى طرح أسئلة عميقة و عامة : هل يسمح النظام الديموقراطي اليوم أن تكون لدى بعض الناس قناعات مناهضة و مناقضة للديموقراطية ؟ و أين الحد الفاصل الذي لا يحق لهم تخطيه ؟ و متى تتحول السلطة ، و هي تقضي على مناهضيها و خصومها ، أن تتحول من مدافع عن الحريات الديموقراطية إلى جهاز قمعي ؟
يخشى أن يكون طيف الآراء بهذا الخصوص واسعاً جداً ، بحيث لا يمكن حلّه عن طريق استفتاء بسيط .
نحن نبني عالمنا الجديد ؟
لقد عومل كتاب " حظيرة الحيوانات " بعد صدوره مباشرة على أنه سخرية و ازدراء موجهين حصراً ضد الاتحاد السوفييتي . و على الأرجح ، إن الكاتب قد أراد هذه المهمة بالضبط من وراء عمله ، و ذلك حتى و لو ابتعدنا عن رقعات الدعاية السوفييتية من نوع " هجاء حاقد " ، التي تم إلصاقها بهذا العمل الأدبي . علماً أنه ، و لماذا لا يكون حقداً ؟ . " فالغضب يولّد الشعر " كما كتب يوفينال . إنها ردّة فعل منطقية على خيانة المُثُل ، التي طالما حلم بها أورويل في فتوته .
و بالمناسبة ، إن تقاليد منح ذوات الأربع قوائم صفات بشرية و اللجوء إلى الحكايات و القصص عن الحيوانات لنقل مضمون إنساني محض ، تعود بجذورها ، يا للغرابة ، إلى حوالي ألف سنة مضت . و لا يمكن اعتبار أورويل مجدداً أو مبتكراً في مجال الحكاية الاجتماعية ، و لذلك ليس غريباً أن يكون سويفت Swift أحد أحبّ الكتاب إلى قلبه .
تثور الحيوانات ، التي كانت في البداية تتبع بدقة المكنونات النظرية للعِفْر ( ذكر الخنزير - المترجم ) العجوز مايور ، و تعلن عن إقامة نظام ديموقراطي في مزرعة واحدة . و لكن سريعاً ما يتم تناسي هذه المبادئ ، خصوصاً و أن المنظّر توفي و بالتالي أصبح بالإمكان إجراء بعض الإضافات و التعديلات عليها . و مع مرور الزمن ، بالطبع ، يحصل الشيء الكثير من هذا . و خلال فترة وجيزة ، و بعد معارك مكللة بالنصر و لكنها دموية ضد الناس – الثأريين ، تقوم الحيوانات الأكثر هيبة و بأساً بإجبار سكان الحظيرة ، بداية عن طريق الإقناع و من ثم عن طريق القسر و القهر ، على العيش وفقاً لأنظمتها الخاصة ، التي لا تقل استغلالاً عن تلك التي كانت مفروضة من قبل الأصحاب السابقين . و من ثم يتطلب الأمر البحث عن أعداء داخليين يمكن إلقاء المسؤولية عليهم إزاء الصعوبات " المؤقتة " ، كما يتطلب الأمر إعدامات استعراضية " للمخربين " .
لم ترَ رواية جورج أورويل " حظيرة الحيوانات " النور في الاتحاد السوفييتي السابق إلا بعد مرور 42 سنة على صدورها في إنكلترا و ذلك في عام 1988. علماً أنه قرأها عشرات الآلاف من الناس عن طريق النسخ على الآلة الكاتبة أو التصوير . و مع ذلك فقد جاء النجاح مبهراً – إذ تجاوز عدد النسخ المائة ألف نسخة .
و للعلم ، إن ميزة الحكاية الأمثولة تكمن في أنها لا تنفي وجود بعض التفسيرات الأخرى غير الحَرفية .. إذ عندما ينتهي موضوع الساعة ، فإنها تكشف عن نفسها الطبقات الأكثر عمقاً للنص . لنأخذ ، مثلاً ، التفسير الديني عندما يصبح ثقل المسؤولية تجاه الحرية الممنوحة في نكران الخالق صعبة للغاية و غير محتملة و تتحول إلى عبودية . أو في أحسن الأحوال ، في تحذير أصحاب " حظيرة الحيوانات " لكي لا يفرطوا في استغراقهم .