مصير أوروبا -2 على أوروبا استعادة إدارتها الذاتية وتحمل مسئولية أمنها


سعيد مضيه
2023 / 5 / 16 - 19:23     

يرى الكاتب الأميركي باتريك لورنس، أن نظاما دوليا جديدا يتشكل بمبادرة من الصين وروسياتساندها دول من غير دولالغرب المعروفة بماضيها الكولنيالي الامبريالي. ومن الأفضل لأوروبا الغربية ان تسارع لدفع عملية التغيير وتتخلى عن تبعيتها للولايات المتحدة.
ألنظام الدولي الجديد، كما يرى إرهاصاته باتريك لورنس، يقوم على مبادئ طرحها شوإن لاي في خمسينات القرن الماضي واحتضنها مؤتمر باندونغ لدول عدم الانحياز. فالصين بذلك، وهي تقترح المبادئ ذاتها :" الإقرار الجوهري بمبادئ شوإن لاي، العنوان العريض الأول للنظام الدولي الجديد ، يكمن في ’ البيان المشترك حول علاقات جديدة تدخل عهدا جديدا‘ ، الذي أعلن عنه أثناء قمة بوتين مع تشي بينغ على أعتاب أولمبياد بكين الشتوية في العام الفائت". عمل باتريك لورنس .مراسلا لصحف أميركية بالخارج لسنوات عدة ، وهو معلق وكاتب مقالات ومحاضر و مؤلف كتب أحدثها "لم يعد وقت: الأميركيون بعد القرن الأميركي" . اما كتابه الجديد ، "الصحفيون وظلالهم"، فهو تحت الطباعة في كلاريتي بريس. فيما يلي نص محاضرة القاها في الشهر الماضي – إبريل- بسويسرا امام حشد كثيف. وسوف تقدم المادة على حلقتين كي يمكن التمعن في مضمونها :
تجاهل مصالح رروسيا حماقة
بالنسبة للوقت الراهن وللمستقبل المنظور اود القول إن الدولتين اللتين تريا أهمية فائقة في تطوير نظام دولي جديد هما روسيا والصين. وهذا،حسب اعتقادي، يقرر لماذا واين يحتاج الأوروبيون لأن يتعلموا كيف يفكرون لما فيه مصلحتهم .
وهناك مسألة الحجم؛ اقتصاد الصين - يتوقف على كيفية إجراء الحساب- إما ان يكون الأضخم عالميا او التاني من حيث الضخامة، يملك ، بدون شك ، اكبر قاعدة صناعية وهو يتقدم بخطى في ميادين التقنيات الرفيعة لا يستطيع الأميركيون بأي وسيلة منافسة الصين ، إلا من خلال تخريب التقدم التقني للصين. وهذا ما اعتدنا على تسميته "إنفرا ديغ " (ما دون الكرامة)، وهو موجود ، انه سياسة اميركا عام 2003. الاقتصاد الروسي أصغر بكثير ، لكنه المنتج الأكبر للنفط والغاز والمعادن والقمح وغيرها من الموارد. إذن هناك ترابط عضوي؛ التجارة والاستثمار المتبادلين ليستا جزءًا صغيرا من العلاقة. وفي كل لقاء يتحدث بوتين وتشي عن ذلك.
وعامل آخر هو المكانة الجيو سياسية المتوقعة؛ موسكو وبكين على قائمة أعداء الولايات المتحدة ، يتوقف أمرهما على أيهما في يوم ما او اسبوع ما من هو العدو رقم ا والعدو رقم 2؛ طبيعي لديهما إدراك مشترك بالقضية المشتركة – ليس مرة اخرى في إلحاق الهزيمة بالولايات المتحدة او الغرب- إنما اللحاق بالهيمنة الأميركية او تجاوزها.
هالفورد ماكيندر ويوراسيا
والأن نأتي الى موضوع على درجة فائقة من الأهمية . يأخذ كل من روسيا والصين في حسابيهما الأغلبية الواسعة للمناطق اليوراسية، وهذا ،على سبيل المثال، في سياق مبادرة الحزام الصيني والطريق. روسيا وأسيا الوسطى وإيران وحتى سوريا وبلدان اخرى مثيلة ستكون على درجة من الأهمية كرابط بينما تطور الصين خططها لمبادرة الطريق والحزام؛ وكما نعلم جميعا فالمنتهى الأخير لمبادرة الحزام والطريق هي مدن وموانئ اوروبا الغربية.
لا إدري إن كان هالفورد ماكيندر تربطه علاقة متينة باوروبا، لكن علينا ان نأخذ بالاعتبار تفكيره في هذا الزمن .كان ماكيندر بصورة رئيسة خبير جغرافيا عاش ما بين 1861 و1947 وقدم لنا ، خيراً او شرًا ، مفهومي الجيوسياسية والاستراتيجيا الجغرافية. وهنري كيسنغر ،حسنا ام رديئا، كان من بين الشخصيات العامة العديدة التي اعتبرته سلطة ذات نفوذ .
وضع ماكيندر عنوانا لأهم أعماله واشهرها " المنعطف الجغرافي للتاريخ"؛ مقالة قدمها الى الجمعية الملكية للجغرافيا عام 1904، وفيها علل ان العالم متمركز على ما أسماه الجزيرة العالمية، الممتدة من شرقي آسيا حتى اوروبا و إفريقيا شمالي الصحراء.
اطلق على امريكا الشمالية والجنوبية مع او سينيا مكانة الجزر النائية او المترامية ، بينما اليابان وبريطانيا اعتبرها جزر أفشور. يبدو هذا بالنسبة لي قليل الأهمية ، لكن لنبقى مع المقالة.
قلب الجزيرة العالمية ، والتي يطلق عليها المنعطف الجغرافي ، تمتد من يانغتسي حتى الفولغا ، وهي اليوم ، كما رآها ماكيندر- المنطقة الأغنى في العالم من حيث الموارد والسكان. في كتاب وضعه بعد ذلك ونشر عام 1919 " المثل الديمقراطية والواقع "- الذي وجدْتُ فيه مدخلا عجيبا – كاد ماكيندر ان يقول :" من يحكم أوروبا الشرقية يحكم قلب العالم. من يحكم القلب يسيطر على الجزيرة العالمية ، ومن يحكم الجزيرة العالمية يحكم العالم"
يبدو أن ماكندر "موظة قديمة " لدى الأميركيين هذه الأيام ؛ لكنني لا أحفل بالموظات ، والى الحد الذي يمكن رفضه كماض اشك في ان ذلك عائد الى كونه وجد نفسه مضطرا ان يقول القليل قبل ازيد من قرن مضى؛ حيث أنه مؤلم جدا للغرب لدرجة لا يحتملها حتى كبار المفكرين في الغرب في الوقت الراهن.
بمقدور الأميركيين التظاهر أنهم يحبذون اعتبار مقالات ماكندر غير مقبولة في الوقت الحاضر ؛ وهم شأنهم في سبل اخرى عديدة، لا يدفعون ثمنا باهظا عن أخطائهم. وإذا جفل الأوروبيون من متطلبات تفكير ماكيندر فسيدفعون ثمنا أغلى ويتورطون في عواقب أخطر.
الوعد العظيم بمستقبل اوروبا
نأتي الى مسألة مصير اوروبا ، عودة الى سؤال البداية: ما الذي يجري ؟ وماذا يفترض في الأوروبيين ان يقوموا به؟ السؤال الذي قد يبدو واضحا الآن - سؤال المصير ، أم الأفضل أن يفهم كالجناح الغربي من اليابسة الأوروبية؟
يوجد ضمنا إما / او مضمرة في هذا السؤال كما طرحته، لكنني لا أعتقد ان اكثر الأجوبة منطقية يتضمن شيئا من هذا القبيل . ارى الوعد الكبير لأوروبا المستقبل ، بافتراض ان لدى قادتها الإحساس الكافي لرؤيته بأعينهم – وهذه "إذا" كبيرة جدا كما أثق- مستلقيا على الطرف الغربي ليوراسيا والطرف الشرقي للأطلسي.
بهذه الوسيلة يمكنها خدمة الهدف الأسمى كما يتضمن القرن الحادي والعشرين- نموذج من الوساطة بين الغرب وغير الغرب ؛ اعتقد ان هافل ، الشخص ذو الرؤية الوازنة ، والتفكير بهذه الطريق ، إن لم يكن تحدث او كتب بهذه الصيغ بالضبط.
إعادة تأهيل الإدارة الذاتية
بخصوص ماذا يفترض فيكم ان تعملوا لست في واد إبلاغ أي شخص ماذا يفعل_بالطبع باستثناء الرؤساء الأميركيين ووزارئهم. لكنني أود مشاركتكم بعض الأفكار بصدد أسلوب الصينيين في طرح وجهات نظرهم حول أكرانيا- بشعور حازم ينأى بالذات ولا يستتبع .
اعتقد انه لأمر حيوي وبمتناول الأيدي ان تشرع أوروبا زراعة –إعادة تأهيل إن أحببتم- إحساسا بإدارة ذاتية بالسياسة الخارجية والأمن ، لم تألفه منذ أيام ديغول، وتشرشل وانتوني إيدن وغيرهم من شخصيات نفس الجيل. بالنسبة لماكرون لدي وقت قصير جدا كي أطرح رأيي بهدوء، لكنه في الماضي أبدى مواقف مصيبة مرات عدة حيال هذه المسألة.
إذا أزحنا جانبا أخطاء ماكرون العديدة فقد حسم بعض المواقف الهامة؛ أوروبا يجب أن تستعيد إدارتها الذاتية من الولايات المتحدة، وعلى أوروبا تحمل مسئولية أمنها، ويجب إدراك أن روسيا جزءٌ من اوروبا ، ومصير أوروبا مندمج بدون انفصام مع مصير روسيا.
النقطة الهامة هنا ان أفكارا كهذه باتت بمتناول الأوروبيين، ببساطة ما يحتاجونة قادة ذوي شخصيات أقوى من ماكرون كي يتقدموا بهذه الأفكار، تطويرها لكسب الموافقة عليها والشروع بوضعها قيد الممارسة.
فات أوروبا فرصة عظيمة تستغلها كي تلعب هذا الدور حين أتبعت على جناح السرعة الولايات المتحدة في حرب أكرانيا.كان يجب أن تصر بقوة على وجوب الاعتراف بمصالح روسيا الأمنية ، حين أصر الحمقى عديمو المسئولية في إدارة بايدن ان المصالح الروسية يمكن تجاهلها.
انزلقت فائدة لتسوية مستدامة من بين أصابع الغرب. كان بإمكان أوروبا ان تمسك بها ؛ وهذا عار عظيم؛ من السهل رؤية أي فرق عظيم كان بمقدور أوروبا ان تنجزه لصالحها ولصالح أكرانيا- التي تكابد الآن – ولمصلحة مجرى التاريخ كذلك.
في هذا الزمن ما زال أمام أوروبا فرصة كي تقر بالحقيقة حول الناتو وأن تتصرف طبقا لهذه الحقيقة. فهذا التحالف قد مضى زمنه ، ولا يمكن بأي طريقة اعتباره دفاعيا ، ويبرهن الآن أنه قوة تدمير بغير حساب.
امام أوروبا فرصة أخرى لإجراء التحول الذي بمقدورها إجراؤه، لو صممت على اتباع درب تشقه بنفسها. إن علاقة أوروبا بالصين ما زالت معلقة بميزان، إذا كنت مصيبا في قراءة الأمور ؛ على اوروبا ان تستغل اللحظة بأقصى قدر عن طريق الامتناع عن المشاركة في كراهية الصين التي باتت الآن سياسة الولايات المتحدة تجاه البر الصيني.
بمقدور أوروبا إنجاز هذا من خلال الديبلوماسية وكذلك في مجال الاقتصاد: عن طريق الارتبط بمشروع مبادرة الحزام والطريق ، على سبيل المثال ، ومن خلال تسفيه جهود سخيفة تبذلها واشنطون لشيطنة هووي لالسبب إلا لدور هووي الرائد في تطوير الجيل الخامس من التكنولوجيا.
مزيد من الديموقراطية
اخرج باستنتاج في فكرتين خاص بترتيبات أوروبا في الداخل. كلتاهما تخصان سبل التقدم ومقرطة القارة.
قبل سنوات خلت طور فرانك وولتر ستاينماير ، حين كان وزير خارجية ألمانيا، خطة واضحة داخل الوزارة لتجديد سياسة ألمانيا الخارجية، أطلق على الخطة " مراجعة 2014"؛ اكمل هندسة الخطة في خريف العام وقدمها ستاينماير الى البوندستاغ في الأشهر الأولى من عام 2015.
كان لهذه الخطة أبعاد عدة؛ غير ان البعد الذي بدا الأكثر إبداعا تمثل في اقتراح الوزير إخضاع السياسة الخارجية لمراجعة وموافقة ديمقراطيتين مباشرتين، وبذا يهيل الجدار التقليدي الفاصل بين السياسة الخارجية وإرادة المواطنين وتطلعاتهم.
لا أدري إن كانت "مراجعة 2014 " موضع دراسة الخطاب الألماني هذه الأيام . بعض الأوراق المدرسية كتبت حولها ؛ اكتشفْتُ ذلك حين رأيتها قبل القدوم هنا . لكنها تبدو فكرة ممتازة.
والفكرة الختامية الثانية تتعلق بأسلوب عمل الاتحاد الأوروبي؛ أرى أن كسرا لحق منذ زمن بعيد بإدارة بروكسل القائمة على مرتكزات ثلاث – إدارة في بروكسل، المالية في فرانكفورت، السياسات البرلمانية في ستراسبورغ –. اود أن أسال زملائي الأميركيين ، متى كان آخر وقت قرأتم خبرا من صحيفة مؤرخة في ستراتسبورغ؟
ولكي نقدم ببساطة الفكرة المركبة التكنوقراط والبنكيون سيطروا على الاتحاد الوروبي ، وباتت الحاجة ملحة للعودة الى الديمقراطية.
اتخيل ان هذه الأنماط من الأفكار تدخل اختلافا هاما في تقرير مصير أوروبا . إنها مسألة الهدف ، لكنها أيضا مسألة كيفة الوصول الى الهدف.
امور على أوروبا ان تطرقها .