صراع الأفكار/ جزء 1 من 3 / بقلم بابلو ميراندا /ترجمة مرتضى العبيدي


مرتضى العبيدي
2023 / 5 / 15 - 14:23     

منذ ولادة الطبقات الاجتماعية، كان تاريخ الإنسانية تاريخًا لصراع الطبقات، كما هو موضح بدقة في بيان الحزب الشيوعي عام 1848.
إن السبيل إلى فهم تاريخ البشرية علميًا هو النظر إليه من وجهة نظر المادية التاريخية من خلال نظرية أنماط الإنتاج. ففي كل نمط من أنماط الإنتاج، هناك طبقتان اجتماعيتان رئيسيتان تخوضان صراعًا شرسًا من أجل مصالحهما. تكافح الطبقات الحاكمة للحفاظ عليها وتوسيعها وإدامتها، وتكافح الطبقات المضطهدة لتحقيق تحررها الاجتماعي والاعتراف بمصالحها وتنميتها. عبر التاريخ، وضعت هذه الصراعات وجها لوجه مالكي العبيد ضد العبيد، وملاك الأراضي ضد الأقنان، والآن البورجوازيين ضد العمال.
تتم المواجهة بين الطبقات المتناحرة داخل المجتمع في ظروف ملموسة، في الظروف التي يتطور فيها الإنتاج. في ظل النظام الرأسمالي الإمبريالي، تتصادم البروليتاريا مع البرجوازية في ظل هيمنة رأس المال على العمل، واستيلاء الطبقات المالكة على الثروة التي يخلقها العمال، والتبعية التي تفرضها الاحتكارات الدولية والإمبريالية على العمال والشعوب والأمم والبلدان التابعة.
وفي الأساس، فإن الصراع الطبقي هو الصراع من أجل السلطة السياسية، لتحديد الطبقة التي تمارسها، وبحكم موقعها، تمتلك القوة الاقتصادية (ملكية وسائل الإنتاج والثروة التي يخلقها العمال)، وتمارس الأنشطة الاجتماعية والثقافية من أجل الهيمنة على المجتمع ككل.
في المجتمع الرأسمالي، يدور الصراع بين الطبقة العاملة وطبقة أرباب العمل بضراوة في جميع مجالات النشاط الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي والعسكري، وكذلك في مجال الأفكار. تعكس هذه المواجهات المصالح المادية للطبقات. وهي تتم بشكل مستقل عن إرادة الشعب والمنظمات الاجتماعية والأحزاب السياسية المشاركة فيها. هذه العناصر مع ذلك تساهم بنشاط في هذا النضال.
تعتبر القاعدة الاقتصادية وطريقة هيكلة الإنتاج والتوزيع أساسية في تحديد مواقع الطبقات الاجتماعية وممثليها والمتحدثين باسمها. من ناحية، هناك الطبقات التي تمتلك وسائل الإنتاج الكبيرة، ومن ناحية أخرى، هناك العمال الذين يصنعون الثروة ولكنهم لا يتمتعون بها.
كما نعلم، يتجلى الصراع الطبقي بشكل رئيسي في مجالات الاقتصاد والسياسة والأيديولوجيا، ولكن في المجال السياسي تتركز أكثر تعبيراته حدة وحسمًا. والصراع السياسي هو المواجهة اليومية بين الطبقة الرأسمالية للبقاء في السلطة والطبقة العاملة للإطاحة بها وتولي دور الطبقة الحاكمة.
هناك جانب آخر من جوانب الصراع الطبقي يحدث داخل الطبقة العاملة ذاتها، بين قطاعين: قطاع أدرك دوره في الإنتاج وفي التغيير الاجتماعي، نجد على رأسه حزبه السياسي، الحزب الشيوعي؛ وقطاعات أخرى من نفس الطبقة العاملة، تتأثر بوجهات نظر أرباب العمل، وبالإصلاحية والتحريفية والانتهازية، ولا يتحركون إلا لتحسين أجورهم وحقوقهم الاجتماعية والسياسية.

يتطور النضال السياسي بشكل مستقل عن إرادة الشعب، بما في ذلك المنظمات الاجتماعية والسياسية. جميع الأفكار والمواقف المعبر عنها في المجتمع لها دلالات سياسية. فاللاسياسة غير موجودة. في الواقع، كل طبقة اجتماعية، كل قطاع طبقي يطور أنشطة سياسية. لا يمكن للبشر الهروب من هذا الوضع. إنهم يقومون بمهام سياسية، سواء كان ذلك بإرادتهم، بصفة واعية أو بتأثير القادة الاجتماعيين والسياسيين للطبقات الحاكمة.

الصراع الأيديولوجي يتطور باستمرار
كما هو الحال في المواجهات السياسية، فإن الصراع الأيديولوجي، ومفاهيم ومواقف الطبقة العاملة والبرجوازية تتعارض حول الطبيعة، والطريقة التي يستغلها بها البشر لتلبية احتياجاتهم، وحول كل الظواهر الاجتماعية، واستغلال العمال واضطهادهم، حول وسائل الإنتاج وتوزيع الثروة. باختصار، في النهاية، لا يوجد نشاط بشري غير مشبع بالأفكار والمفاهيم.
إن صراع الأفكار، أي المواجهة الأيديولوجية بين الطبقة العاملة والبرجوازية، هو التعبير الاستراتيجي للصراع الطبقي. إنها المواجهة بين الثوري الجديد والرجعي القديم، بين الاستقلال والسيطرة الإمبريالية، بين الثورة والثورة المضادة، بين الاشتراكية والرأسمالية.
إن الصراع الأيديولوجي معطى ثابت في مختلف الظروف، وفي مختلف الفترات والأماكن التي تدور فيها المواجهة بين البروليتاريا والبرجوازية. كل تموضع وكل مظهر من مظاهر الصراع الطبقي يعبر، في حد ذاته، عن مصالح الطبقات المتصارعة، في المجتمع الرأسمالي، عن مفاهيم الطبقة العاملة وطبقة الرأسماليين.
في هذه الأوقات، بعد الإطاحة بالبروليتاريا الحاكمة وهزيمة ثورة أكتوبر العظمى والنظام الاشتراكي، يجري النضال الأيديولوجي للطبقة العاملة وحزبها الشيوعي في ظل ظروف غير مواتية. لقد انتصرت الرأسمالية والرجعية في معركة كبرى. وأخمدوا مؤقتًا الفترة المجيدة للثورة الاجتماعية، والمثل الأعلى للاشتراكية والشيوعية؛ لقد أعادوا الرأسمالية على ثلث سطح الأرض وأزاحوا ربع عمال العالم من السلطة.
بعد هذه الأحداث، يعتبر جزء كبير من المجتمع والرأي العام وحتى قطاعات كبيرة من الطبقة العاملة أن الإمبرياليين والرأسماليين هم الفائزون على الاشتراكية. ويعلن الإمبرياليون أن الرأسمالية هي أسمى تعبير عن التطور المادي والثقافي للبشرية، وقد أقرّوا نهاية الثورة والاشتراكية، وباستحالة التحرر الاجتماعي.
ووفقا للأيديولوجيين الرجعيين والإمبرياليين، فقد فشلت الاشتراكية، ولم تكن قادرة على حل مشاكل العمال والشعب، بل إنها أقامت حكومات ديكتاتورية، ودفنت الديمقراطية والحرية، ولم تستطع التعامل مع التطور التكنولوجي والتقني والعلمي للرأسمالية. لقد استخدمت العنف والحرب التي أدت إلى التضحية بالملايين من البشر من أجل لا شيء، فقط لترك الأمور تسير كما كانت من قبل.
في الواقع، هُزمت الاشتراكية، لكنها لم يُقضَ عليها. إن أسباب ومواضيع الثورة الاجتماعية مازالت قائمة، حية، وهي الاستغلال الرأسمالي ونضال العمال والشعوب من أجل تحررهم. ويقود الشيوعيون النضال من أجل الثورة والاشتراكية.
ومع ذلك، فإن الحقائق عنيدة.
إذ لا يمكن إخفاء الإنجازات والحقوق الاجتماعية التي حصل عليها العمال والشعوب بانتصار الثورة والاشتراكية: المساواة الاجتماعية لجميع العاملين، وتكافؤ الفرص للجميع، والقضاء على الجوع والبؤس، والتعليم على جميع المستويات لجميع السكان. إن الصحة الشاملة والضمان الاجتماعي، وتحرر المرأة من الاضطهاد الأبوي والبرجوازي، واستقلال وسيادة الشعوب والأمم التي تولت بناء الاشتراكية، لا تزال موجودة في الذاكرة التاريخية لملايين البشر؛ إنها تشهد على الاختلافات الجوهرية بين الرأسمالية والاشتراكية. فالرأسمالية هي استغلال إنسان لآخر. أما الاشتراكية فهي القضاء على الاستغلال.
في نفس السياق، ليس لدى النظام الرأسمالي الإمبريالي أي جديد يقدمه. إنه مسؤول عن الاستغلال المجحف لملايين العمال في جميع أنحاء العالم، والاستيلاء على الثروة الهائلة التي يخلقونها وتكديسها. إنه مسؤول عن نهب الموارد الطبيعية والسياسات الاستخراجية والتدهور البيئي للكوكب بأسره وإخضاع وتخلف الغالبية العظمى من البلدان التابعة. الرأسمالية هي مصدر البطالة لأكثر من مليار شخص، والفقر الذي يعاني منه مئات الملايين من الناس، وظروف السكن غير الصحية ووفيات الأطفال، ونقص مياه الشرب والصرف الصحي، والنقص الكبير في التعليم العام في جميع البلدان.
مع تطور الثورة التقنية العلمية، وتقدم التقنيات والتكنولوجيا، وتحسين أدوات الإنتاج، والروبوتات والحوسبة، وإنشاء 4G، والفيزياء الإلكترونية، والإنترنت وتكنولوجيا النانو، ألغيت مئات الآلاف من الوظائف. وكان لهذا تأثير كبير على الظروف المادية للطبقة العاملة وعلى نفسية ووعي البروليتاريين.
ويتم اليوم توقيف عدد لا بأس به من المصانع الكبيرة التي تضم تجمعات كبيرة من العمال واستبدالها بمرافق صناعية عالية التقنية بكثافة عمالية أقل، ويتم توزيعها عبر المناطق والبلدان. تنقل الدول الإمبريالية صناعاتها القذرة والملوثة من بلدانها، بحثًا عن العمالة الرخيصة والماهرة تقنيًا. في بعض البلدان مثل الصين والهند توجد مصانع كبيرة تضم عشرات الآلاف من العمال. ويؤدي نمو النقل البري والبحري والجوي إلى تقريب الأسواق والمواد الخام من بعضها البعض، وزيادة أرباح الاحتكارات.
تنمو الرأسمالية باستمرار وتراكم الثروة ومركزتها. ولتحقيق هذه الأهداف، لا يمكن الاستغناء عن القوى العاملة، التي لا تزال، اليوم كما في الماضي، المصدر الرئيسي لإنتاج الثروة.
لقد نمت الطبقة العاملة عدديا بشكل لم يسبق له مثيل. فهي الآن منتشرة في جميع أنحاء الكوكب. أصبحت القوى الاقتصادية الناشئة، الصين والهند والبرازيل وتركيا، وكذلك الدول الأخرى التي تستضيف الوحدات الصناعية للبلدان الإمبريالية، مثل بنغلاديش وفيتنام وإندونيسيا، مقراً لتجمعات كبيرة من العمال. كما هو الحال دائمًا، فإن الإفراط في استغلال العمال هو المكون الرئيسي لفائض القيمة.
تتأثر الغالبية العظمى من الطبقة العاملة بأفكار ومقترحات أرباب العمل وبالإصلاحية والانتهازية والتحريفية. فمعدل الانتماء للنقابات في الطبقة العاملة منخفض للغاية: فهو لا يتجاوز 10٪ فقط في عدد قليل جدًا من البلدان. لقد فقدت النقابات الطبقية مكانتها. أما المظاهر الرئيسية لنضال الطبقة العاملة في العديد من البلدان الأوروبية، في الهند والصين، في البرازيل والأرجنتين والولايات المتحدة، هي مظاهر المعارضة النقابية. إنهم يسعون إلى إيجاد اجابات فورية للوضع المادي، وفي بعض الحالات لديهم ميولات سياسية، كما هو الحال في الأرجنتين والبرازيل، حيث يعارضون النيوليبرالية والفاشية. في كل الظروف والأماكن، هم يواجهون الرأسمالية.
أما الأحزاب الشيوعية القديمة، التي خاضت معارك بطولية ضد الفاشية والديكتاتوريات، ضد الرأسمالية ومن أجل الاشتراكية، فقد انتهى بها الأمر إلى الوقوع ضحية للانتهازية. لقد علقوا في وحل التحريفية الحديثة، وفقدوا طبيعتهم الطبقية وأصبحوا منظمات إصلاحية. لقد فقدوا قوتهم ووجودهم في الطبقة العاملة، فتضاءل عددهم لدرجة أنهم أصبحوا تعبيرات صغيرة ليس لها تأثير يذكر على السياسة.
حاولت الانتهازية البرجوازية الصغيرة والتروتسكية أن تحل محل الأحزاب التحريفية ونجحت إلى حد ما.
في الواقع، تخضع معظم الحركة النقابية لحكم الاشتراكية الديموقراطية، التي لا تمثل المصالح الحقيقية للطبقة العاملة؛ إنها رافعة لمساعدة النظام الرأسمالي الذي يمنحها بالمقابل تنازلات صغيرة.
هذه هي الظروف -وليس هناك غيرها -التي نواجهها، نحن الشيوعيين اليوم، وفي ظل هذه الظروف يجب أن نواصل النضال من أجل الثورة والاشتراكية.
يجب أن يتطور النضال من أجل التحرر الاجتماعي وتحرير العمال، ومن أجل استقلال وسيادة البلدان التي تسيطر عليها الإمبريالية، في مجال الأفكار، والنضال الأيديولوجي. ولكن لكي تؤدي إلى الإطاحة بالرأسمالية وتأسيس سلطة الشعب والاشتراكية، يجب أن تحدث الثورة.
من الضروري أن نبدأ من بعض المشاكل المفاهيمية.