العلم كموضوع فلسفي (الجزء الثاني)


أحمد رباص
2023 / 5 / 15 - 02:08     

2- برتراند راسل (1872-1970) والثقافة العلمية
يؤكد عالم الرياضيات والفيلسوف البريطاني برتراند راسل في كتابه "الروح العلمية والعلم في العالم الحديث" أن العلم حقيقة ثقافية. إن ظهور الروح العلمية قديم تاريخياً ويتميز بمعايير جديدة. إنها ظاهرة حديثة تمثل قطيعة مع آلاف السنين السابقة التي سادت فيها ثقافة ما قبل علمية.
يتم ملاحظة تأثير هذه الروح العلمية بشكل ملموس من خلال تغيير الأعراف وزيادة مجالات دراسة العلوم. بالنسبة إلى راسل، فهي تتميز قبل كل شيء بطريقة تعتمد على الملاحظة والتعميم. بمعنى آخر، يمكن للعالم أن يضع قانونا عاما انطلاقا من حقائق معينة. بالفعل، يتم بناء النظرية العلمية من خلال ملاحظة الظواهر المتكررة، التي يتم من خلالها البحث عن قانون تفسيري. يتم اختبار القيمة التنبؤية لهذا القانون عن طريق التجريب. إذا لم يتم دحضها، فيمكن تعميمها بشكل معقول حتى تصطدم بالحقائق المتناقضة.
هذا المنهج حاضر الآن في طريقة تفكيرنا اليومية. على سبيل المثال، من الملاحظة المتكررة لكوننا نحترق عند لمس ألسنة اللهب، نستنتج أن النار حارقة. بالنسبة إلى راسل، يمثل هذا الاستدلال سمة تميز الولوج إلى العالم العلمي الحديث.
لكن، حسب قوله، يعتبر المنهج العلمي رياضيا أكثر من كونه تجريبيا. هذا هو الحال، مثلا، في تجربة أرخميدس المتمثلة في قياس حجم وكتلة التاج من أجل التحقق من أنه مصنوع من الذهب. قام بهذه القياسات بناء على أوامر من هيرون، طاغية سيراكوزا، الذي أراد التأكد من أن الصائغ لم يخدعه. بدأ أرخميدس بالاستنباط من القياسات المرصودة، ومقارنتها بكثافة الذهب.
وهكذا فإن الطريقة العلمية موروثة عن الإغريق. ليس لها في حد ذاتها حقبة تاريخية، بل إن تأثيرها العام على المجتمع والمؤسسات هو الذي يشكل حقيقة تاريخية.
3- غاستون باشلار (1884-1962) والروح العلمية
على عكس كومت، يعتقد غاستون باشلار أن المرحلة الوضعية ليست غزوا نهائيا. يجب على العالم نفسه أن يبذل جهدا للبقاء مخلصا للروح العلمية، بدلاً من الخضوع للحس المشترك. هذا ما شرحه باشلار في كتابه " تكوين العقل العلمي".
يميز باشلار بين ثلاثة عصور للفكر العلمي: الحالة ما قبل علمية الممتدة حتى القرن الثامن عشر، ثم الحالة العلمية، وأخيراً العقل العلمي الجديد انطلاقا من بداية القرن العشرين. في الحالة الما قبل علمية، يتوقف العقل عند الظواهر المحسوسة التي يلاحظها بفضول. يتعلق الأمر بالحالة "الملموسة".
منذ القرن الثامن عشر، حلل العلماء خبراتهم الملموسة بالانطللق من الافكار المجردة، وبالاعتماد على الهندسة. يجعل المجرد من الممكن فهم الملموس بشكل أفضل، لتأسيس حدوس حسية.
يبدأ العقل العلمي الجديد بنظرية أينشتاين في النسبية العامة. إنه يدعو لوضع الحدس موضع سؤال بعدما عد في السابق بديهيا. هذا يدل على أن العالم لا يمكنه أن يثق دائما في الحدس الذي يطوره انطلاقا من الملاحظات الملموسة. على العكس من ذلك، يمكن للواقع أن يكون مضادا للحدس. لذلك يجب على العالم أن يشكك باستمرار في النظريات الراسخة وأن يطور طواعية نظريات مضادة للحدس.
تتوافق هذه المراحل الثلاث مع ثلاث حالات ذهنية: الروح الطفولية أو الدنيوية، الروح الأستاذية، و "الوعي العلمي المؤلم". وبينما تسعى الروح الأستاذية إلى التدريس بدوغمائية وتبقى متأكدة من معرفتها، تبذل الروح العلمية جهدا للتشكيك في النظريات الراسخة. إنها تجرؤ على تطوير نظريات دون تحيز، حتى بدون "دعم تجريبي ثابت" يسمح لها بالمضي قدما بثقة.
في هذا الإطار، يبني العقل العلمي الحقيقي المعرفة في تعارض مع المعارف السابقة والرأي المشترك. وبحسب باشلار، “الرأي، في القانون، مخطئ دائما. الرأي يفكر بشكل سيء. بل هو لا يفكر. يترجم احتياجات إلى معرفة ". الرأي ينوم العقل. لا ينبغي تصحيحه، بل يجب حذفه، لأن طريقة عمله سيئة في حد ذاتها. حذف الرأي هو المرحلة الأولى من المعرفة العلمية.
(يتبع)