مساعي الإصلاح السياسي في مغرب أوائل القرن العشرين


صلاح الدين ياسين
2023 / 5 / 15 - 22:00     

تقديم:
تضيء الدراسة التالية على مساعي الإصلاح السياسي والدستوري التي نادى بها قسم من النخب المغربية في مطالع القرن العشرين، والتي تعطينا لمحة عن جدلية العلاقة المركبة بين المرجعية الحديثة ونظيرتها التقليدية، التي ما انفكت تلقي بظلالها على التاريخ الحديث للمغرب. وسنحاول فيما يلي تناول أبعاد تلك المطالب الإصلاحية، إن من حيث ظروف بروز الدعوات الإصلاحية (المحور الأول)، أو مضامين تلك المشاريع الدستورية في علاقة بالإشكالية المطروحة في البحث، أي جدلية التقليدانية والتحديث في المغرب (المحور الثاني):
المحور الأول: ظروف بروز مطالب الإصلاح السياسي بالمغرب
برزت فكرة الدستور في السياق الأوروبي بغرض عقلنة التدافع السياسي، من طريق تنظيم العلاقات بين الحكام والمحكومين، ثم ما لبثت أن نضجت هذه الفكرة في العصر الحديث، بالموازاة مع التغيرات المركبة التي عرفتها أوروبا، ليصبح الدستور من أهم مرتكزات الدولة القومية الناشئة. وعليه فقد أضحى الدستور - بوصفه تعبيرا عن العقد الاجتماعي - القانون الأسمى الذي يحد سلطة الحكام، ويكفل الحريات، ويؤطر المجتمع بالاستناد إلى جملة من المبادئ الفلسفية كسيادة الشعب، وسريان القانون، وفصل السلطات، وتحييد الدين.
وقد أدت مجموعة من العوامل إلى بروز مطالب الإصلاح السياسي والدستوري بمغرب القرن العشرين، حيث أسهم التهديد الكولونيالي في تعميق الوعي بحتمية تنفيذ إصلاحات سياسية ودستورية بنيوية، إذ أضحت البلاد حلبة صراع بين القوى الأوروبية، قبل أن تحسم فرنسا التنافس لصالحها، لا سيما بعد مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906 الذي فرض شروطا مجحفة تنال من سيادة المغرب، المثخن أصلا بالديون والثورات وسوء التدبير.
إن الهزائم العسكرية التي مُني بها المغرب أمام القوات العسكرية الفرنسية والإسبانية في نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، وما تمخض عنها من خضوع السلطان لمعاهدات غير متكافئة، ستفضي إلى ما أسماه العروي ب "انفجار البيعة"، لكون أن تلك المعاهدات قبلت المساس بالشرع، والتفريط في التراب، وترك الجهاد كأساس للإمامة، وهو ما سيؤدي إلى ظهور فكر دستوري حديث بالمغرب، بفعل معارضة العلماء والسكان لتدابير السلطان، ومعاهداته مع الأجانب.
وتأسيسا على ما سبق، أفضى التهديد الاستعماري إلى انبثاق معارضة دينية تحت قيادة ثلة من الفقهاء والعلماء، طالبت بوضع حد للنفوذ الأجنبي المتعاظم، وقد تَكَرس حضورها بعد عودة الشيخ محمد الكتاني من الشرق سنة 1904، والذي وقف ضد الإصلاحات الأجنبية، داعيا إلى التوجه نحو تركيا المسلمة . كما تَوَجه وفد من العلماء برئاسة جعفر بن إدريس الكتاني إلى القصر السلطاني في 22 دجنبر 1904، مطالبا بقطع جميع المحادثات مع فرنسا، وطرد كل المدربين العسكريين الأوروبيين، وإقالة وزيرين مغربيين متحمسين للإصلاحات الفرنسية.
وإلى جانب عامل التهديد الأجنبي والاحتكاك بحضارة الغرب، يَبرُز تأثير الأفكار السلفية والإصلاحية بالمشرق على النخبة المغربية، فقد وَفَد تأثير الأفكار المشرقية إلى المغرب عن طريق قنوات متعددة، حيث ينبه عبد الله العروي إلى الهجرة الكثيفة التي قام بها الشباب المغربي إلى الشرق، أين كانت الأفكار الإصلاحية التي نادى بها رواد عصر اليقظة العربية، كالكواكبي ومحمد عبده والأفغاني في أوجها ، دون إغفال الدور الذي لعبته الصحافة العربية في تداول تلك الأفكار، كالأهرام والمؤيد وجريدة لسان المغرب بطنجة.
وفي هذا الصدد، يمكن الإشارة أيضا إلى تأثير الدساتير العربية – الإسلامية، وإسهامها في ظهور الفكر الدستوري بالمغرب، كالدستور التونسي لسنة 1861، والمصري لسنة 1882، والعثماني لسنة 1876. إذ يرى عبد الله العروي أن مشروع جماعة لسان المغرب (سنة 1908)، قد استنسخ منها عبارات حرفية دون أن يمغربها، كالتحجير عوض الغصب، والتسخير عوض التويزة، وعاصي عوض سائب...
وإلى جانب العوامل الموضوعية التي أسهمت في بروز مطالب الإصلاح السياسي، ثمة أيضا عوامل ذاتية في مقدمتها تأزم نظام المخزن التقليدي، إذ لم تفلح الإصلاحات الخجولة التي تمت خلال عهد السلطان المولى عبد العزيز، وخَلَفه المولى عبد الحفيظ، في إعادة تحريك دواليب نظام المخزن. فبالرغم من إحداث بعض السلاطين مجلسا للأعيان، إلا أن هذا المجلس لم يغير سلوكه السياسي، حتى في أحلك الفترات التي مرت منها البلاد، حيث دأبت هذه النخبة على ترديد عبارة: "الخير ما اختاره السلطان" كلما استُشيرت في القضايا السياسية الصعبة.
هذا في حين يُرجع محمد ضريف سبب ظهور مطالب الإصلاح الدستوري إلى فساد النظام الجبائي. فبالرغم من شروع المغرب في العمل بنظام الضرائب الحديثة، ابتداء من أواخر القرن التاسع عشر، والمتأتية من السلع الواردة على المغرب أو المُصَدرة للخارج، فإن المخزن لم يكن يتقاضى منها سوى شطرا ضئيلا، بالنظر إلى أن أغلب تلك المداخيل كان يتم تخصيصها لتسديد قرض حصلت عليه الإيالة الشريفة سنة 1904، كما أن تلك الضرائب لم تكن تخضع لآليات الضبط والمراقبة المتعارَف عليها، بقدر ما كانت موكولة إلى تقوى صاحبها وضميره.
المحور الثاني: الفكر الدستوري المغربي وتداخل المرجعيات
من خلال تفحص مشاريع الإصلاح الدستوري بالمغرب في بدايات القرن العشرين، يمكن الوقوف على حضور المرجعية الغربية الحديثة كمحصلة طبيعية للتأثير المشرقي، الذي استلهم بدوره بعض المبادئ والتقنيات المتضمنة في الدساتير الغربية، وهو ما جسدته بعض دساتير الدول الإسلامية خلال القرن التاسع عشر. ويمكن اعتبار مذكرة الحاج علي زنيبر (سنة 1906) أول نص محلي يستعمل مجموعة من المصطلحات والمفاهيم المتعلقة ببناء الدولة القومية الحديثة مثل الأمة المغربية، والدولة الوطنية، والشعور الوطني، والرابطة القومية، والراية الوطنية، والزي الوطني...
ويَصدقُ ما سبق أيضا على البيعة الحفيظية المشروطة لسنة 1908، التي بالرغم من طابعها التقليداني، إن من حيث الشكل، أو الكثير من مضامينها، إلا أنها تتضمن بعض المفاهيم الحديثة المستوحاة من التجربتين العثمانية والفارسية، كالصيغة التعاقدية بين الحاكم والمحكوم، وتقييد سلطات العاهل، وتأكيد ولو خجول على سيادة الأمة.
ويمكن الإشارة أيضا إلى المشروع الدستوري الذي تَقَدمت به جريدة لسان المغرب سنة 1908، والذي ينطوي بدوره على الكثير من المفاهيم والتصورات الحديثة، كالمواطنة، والمساواة، والسيادة، وتوحيد القانون، وعقلنة الإدارة، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وحق انتخاب الممثلين...، ناهيك بمظاهر أخرى لحضور المرجعية الحديثة في هذا المشروع، من قبيل تدوين الدستور، والإعلان عن حقوق الإنسان والحريات العامة، وإقرار انتخاب الشعب لنوابه، كتعبير عن سيادة وطنية يجسدها برلمان من مجلسين.
ومع ذلك، فإن تلك المشاريع الدستورية لم تعبر عن قطيعة جذرية إزاء مظاهر المرجعية التقليدية، بالرغم من أنها اتخذت من حيث المظهر شكل الإصلاح المشرقي، فقد بقيَ مضمونها لصيقا بالمعارضة الدينية المغربية - معارضة الفقهاء- التي كانت تدعو إلى إعادة تأسيس الشورى التقليدية . ومن ثَم يَبرزُ مدى ثقل التقليد وتأثيره على مضامين تلك المشاريع الدستورية، بالرغم من انفتاحها النسبي على المرجعية الغربية الحديثة.
ففي سنة 1906، وَفَدَ إلى مدينة فاس العالم والمواطن العثماني الشيخ عبد الكريم مراد الطرابلسي ليرفع مذكرة دستورية إلى السلطان المولى عبد العزيز، من منطلق أن السبيل الوحيد للتحرر من السيطرة الأجنبية، هو الانخراط في عملية تحديث لمعظم هياكل السلطنة، دون الانسلاخ عما يعتبره ثوابت إسلامية، وبخاصة الجيش، والشرطة، والجمارك، والتعليم، والأوقاف . وعلاوة على ذلك، نصت تلك المذكرة الدستورية على إحداث مجلس الأمة، الذي أُوكلت له مهمة حل جميع المسائل طبقا للشريعة الإسلامية.
كما حرص محررو مشروع دستور جماعة لسان المغرب على الإبقاء على الثوابت الأساسية للإيالة الشريفة، من طريق اعتبار الدين الإسلامي دينا رسميا للدولة، والمذهب الشرعي فيها هو المذهب المالكي. وقد أعطى هذا المشروع الدستوري مكانة خاصة لمؤسسة السلطان، بوصفها مؤسسة ممتدة الجذور في التاريخ السياسي للمغرب، وهو ما يَبرُزُ من خلال تخصيصه لهذه المؤسسة إحدى عشرة مادة، حيث يُعتبر السلطان "أمير المسلمين وحامي حوزة الدين، إذ يتم تعيينه عن طريق البيعة وينتقل الحكم بالوراثة إلى الأرشد من ذوي القربى".

خلاصة:
شكلت مشاريع الإصلاح الدستوري التي عرفها المغرب إبان مطالع القرن الماضي الإرهاصات الأولى للصراع والتجاور بين دعاة التقليد ودعاة الحداثة، غير أن تلك المساعي الإصلاحية منيت بالفشل من جراء العامل الداخلي المتمثل في استعصاء بنية المخزن التقليدي عن الإصلاح، دون إغفال العامل الخارجي المتعلق بالخطر الاستعماري الداهم، خاصةً بعد توقيع معاهدة الحماية الفرنسية للمغرب في العام 1912.
*مراجع:
* ملين، محمد نبيل. فكرة الدستور في المغرب، وثائق ونصوص (1901-2011). تيل كيل ميديا.
* معتصم، محمد، "النظام السياسي الدستوري المغربي"، الطبعة الأولى، الدار البيضاء: مؤسسة إيزيس للنشر، 1992.
* زين الدين، محمد، "الأنظمة السياسية المقارنة"، الطبعة الأولى، الدار البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة، 2018.
* أكنوش، عبد اللطيف، "السلطة والمؤسسات السياسية في مغرب الأمس واليوم"، الدار البيضاء: مؤسسة بنشرة للطباعة والنشر، 1988.