الماكنة الاعلامية


خالد بطراوي
2023 / 5 / 11 - 20:30     

منذ بدء المشروع الصهيوني في المنطقة وذلك قبل بداية القرن المنصرم، اهتم قادة الصهيونية بمجموعة من الأدوات المؤثرة في النفس الانسانية.
أولى هذه الأدوات يتعلق بالروحانيات الانسانية، وفيما يتعلق باليهود جرى توظيف الديانة اليهودية والتوراة لخدمة الفكر الصهيوني ونشره على أوسع نطاق.
وثاني هذه الأدوات يتعلق بتأثير الإعلام فنشطت ماكنة عائلة روتشيلد الإعلامية لتحتل الصدارة في العالم على صعيد الاعلام الذي جرى تكريسه لنشر وتعميم الفكر الصهيوني مرتديا عباءة الديانة اليهودية وكل حكايا التوراة ومكرسا الفكر الغيبي.
ثالث هذه الأدوات إرتبط بالفطرة الانسانية التي تهوى سماع روايات المغامرات والأساطير والدراما و" الخراريف" والروايات البوليسية وكذلك روايات الحب المرتبطة بمفهوم " كل ما هو ممنوع مرغوب".
ورابع هذه الأدوات وربما من أهمها توظيف التأثيرات النفسية والبعد السيكولوجي لخدمة الأدوات السابقة على نحو أصبح معه الفرد مصدقا لكل ما يأتي من دولة ألاحتلال ... أي مصدقا للرواية الإسرائيلية، ما يمّهد لتسهيل السعي لتثبيت دولة الاحتلال بل ولشديد الأسف ينتظرها.
لم نعد نهتم أيها الأحبة بمسألة إعمال عقولنا والتفكير والتمحيص في الرواية الإسرائيلية وأصبحنا نتلقاها كما هي كما لو أنها "رغيف خبز طازج خارج للتو من الفرن" فنلتهمها ونهضمها فورا ( حتى من دون سفن أب).
ظهر الإسرائيلي أو اليهودي في الإعلام وفي الوجدان أنه الذي تتم محاربته بوصفه يهوديا وبوصفه مدافعا عن بلده ( إسرائيل) وبوصفه الذي تعرض للمجازر والمحارق والتصفية وبشكل خاص من المسلمين ومن بعض "المسيحيين" ولذلك كان لزاما عليه أن يدافع عن نفسه ووجوده ودولته حتى لو تطلب الأمر إلى إنشاء جدار فصل عنصري حول كيانه يذكرنا بحكايا وأساطير القلاع والحصون وحصان طرواده وغيرها من خراريف التاريخ.
في قضية النائب الأردني العربي العروبي الفلسطيني السيد عماد العدوان، تلقفنا جميعا الرواية الإسرائيلية وبدأنا حتى نعدد أنواع قطع السلاح التي عرضها الصهاينة ولشديد الأسف فقد تعاطى مع هذه الرواية ليس فقط المواطن العربي العادي ( الذي يدخن النرجيلة على قارعة الطريق) بل والسياسي وكل من وصف نفسه أو لقّبها بالخبير أو الأخصائي أو المحلل أو المختص في الشؤون الإسرائيلية أو غيرها من التوصيفات الرنانة التي نطرب لها ونضعها نياشينا على صدورنا.
ولقد فعل الأردن على الصعيد الرسمي والشعبي بل وعلى صعيد عائلة العدوان ... تلك العائلة العريقة كغيرها من العائلات الأردنية ... عين الصواب، عندما تعاطوا جميعا وبدرجات متفاوته مع المسألة بروية ومن دون ردود أفعال موتورة وكان الهدف الأستراتيجي الأول والأهم هو عوده "ابنهم / إبننا" الى حاضنته .. الى أرض وطنه ... وبعدها يتم التعاطي مع دولة الإحتلال وروايته الركيكة التي – كما قلت – ولشديد الأسف صدقناها أولا ورددناها ثانيا وروجنا لها ثالثا.
في العدوان الإسرائيلي الجاري حاليا على أهلنا في قطاع غزّة، نصدق أيضا الرواية الإسرائيلية، حتى دون التمحيص في أبسط الأمور التي تشكل " ألف باء المنطق".
صدقنا فورا ما روجته الاكاذيب الإسرائيلية من أن نحو (20 أو 40) طائرة عسكرية تشارك في العمليات الجوية ضد أهلنا في قطاع غزة وأن كامل مساحة أرض القطاع ( التي لا تتعدى الـ 400 كم مربعا) قد جرى تأمينها عسكريا من الناحية الجوية.
لو دققنا في هذا الخبر، وهذا الكم من الطائرات ( بغض النظر أكان 20 أوم 40 طائرة) لوجدنا أن تحليق أربع أو خمس طائرات بالقرب من سماء قطاع غزة ذات المساحة الصغيرة تكفي بل وتزيد عن "تأمين الغطاء الجوي" ولو دققنا أكثر لوجدنا أن هذه الطائرات لا تحتاج لأن تكون بالضبط فوق سماء قطاع غزة كي تنفذ غاراتها بل على مسافة من الغلاف الجوي للقطاع، ولو راجع كل منا ذكرياته ليست البعيدة ( أيام طائرات الهوكر هنتر) لوجد أن الطائرات العسكرية الحديثة تحدث ضجيجا عاليا أثناء تحليقها وتخلخل الطبقات الجوية وأن سماع هدير 20 أو 40 طائرة سيصل العمق الإسرائيلي نفسه ويطال الضفة الغربية بل وربما يصل الأردن، وقد تنهار الواجهات الزجاجية في بعض المباني الحديثة.
ليس الهدف التقليل من حجم وشراسة العدوان الصهيوني على قطاع غزة وأهلنا هناك ، بل لفت النظر الى أن هناك عدّة أهداف صهيونية من وراء ترويج هكذا روايات، أهمها إيهام الرأي العام العالمي أن دولة الإحتلال تواجه حربا ضروسا وعدوانا من قطاع غزة نفسه كي تبعد الأنظار عن حقيقة أنها تستهدف المدنيين، وثانيها للحصول على الدعم المالي الذي يرتقي الى مستوى أكذوبة مصاريف دولة الاحتلال على العتاد العسكري بشكل عام والضروري للحفاظ على بقائها، وبشكل خاص مصاريف هذا العدوان الغاشم، فالسياسة تعبير مكثف عن الإقتصاد والحرب تعبير مكثف عن السياسة.
أمام ذلك كله، ما السبيل لتقديم رواية أخرى، الرواية الحقيقية؟
بكل بساطة الخطوة الأولى تكمن في عدم قبول الرواية الصهيونية حول كل شىء، فالشاعر الراحل محمود درويش لخّص لنا التطبيع في جملة واحدة ( التطبيع :- هو القبول برواية الإحتلال عن التاريخ)، والخطوة الثانية بتقديمنا نحن الرواية الصحيحة المستندة الى العلم والمنطق وإعمال عقولنا والمدعمة بالوثائق والرسومات التي تكون ناطقة بما فيها.
عندما حصلت مجزرة المسجد الأقصى المبارك في الثامن من تشرين أول ( أكتوبر) عام 1990، وقف الناطق الرسمي لدولة الإحتلال أمام كاميرات الصحافة وهو يعرض صورا لحجارة يصل وزن كل منها حوالى (5 كغم) وزعم أنها إلقيت من باحات المسجد الأقصى الأعلى في مستوياتها من فوق الجدار الذي يفصلها عن باحة حائط البراق ( المبكى) الأخفض في المستوى.
بكل بساطة، قامت مؤسسة " الحق" الفلسطينية آنذاك بتكليف مهندس قام برسم مقطع هندسي للحائط أظهر فيه أن أقل إرتفاع للحائط يتعدى الـ 15 مترا، وأقل عرض له يتعدى الـ 3 أمتار، فإذا تمكن أحد الشباب الفلسطينيين ( كما المنجنيق) من إلقاء حجر وزنه 5 كغم أعلى من هذا الإرتفاع وهذا العرض ووفقا لفيزياء المقذوفات فإنه قادر على حصد ميداليات الذهب جميعها في ألعاب القوى ورمي " الجلة" العالمية.
والذي حصل وقتها، أن الناطق الرسمي بإسم دولة الإحتلال قدّم إعتذاره لكافة وسائل الإعلام على روايته التي تتنافى مع العلم والمنطق.
آن الأوان أن ننفض الغبار عن أسمالنا ونصنع ماكنتنا الإعلامية.