تعريف : النائب سعيد إسحق - من النضال الوطني في سورية - 4


مريم نجمه
2023 / 5 / 11 - 19:58     

ما زلنا نُبحر في تاريخ بلادنا ورجالات الوطن بعد مرحلة الإستعمار الفرنسي وبداية عهد الإستقلال , ربما نأخذ صورة عن وضع بلادنا في تلك المرحلة المفصلية الإنتقالية والكثير من الملاحظات والأفكار والدروس والمقارنة بين الأمس واليوم
-----------------------------------------

.. ( ....بعد يومين من استقبال المهنئين والإستراحة قررت العودة إلى الجزيرة فتوجهت مع أفراد أسرتي إلى حلب في طريقي إلى الجزيرة , ونزلت في فندق الحمراء , وبعد وصولي بنصف ساعة أتى مدير الأمن الفرنسي وبلغني قرار المفوض السامي بمنعي من دخول محافظة الجزيرة والفرات .
ولما زارني أصدقائي وأقاربي الموجودون في حلب أطلعتهم على الأمر , فاستأجروا لي داراً في حي السليمانية وسكنت فيها , وفي هذه الأثناء توافد عليّ رجال الكتلة الوطنية بحلب وأبدوا استعدادهم لأي خدمة , لأنني وضِعت تحت المراقبة بصورة دائمة سواء في داري أم عند تنقلي في المدينة , ولن تكتفِ السلطة الفرنسية في ذلك , بل أبعدت أكثر الوطنيين عن مناطقهم إلى الجزيرة وغيرها , وفرّ قسم آخر منهم إلى العراق .
في شباط 1940 وصلتني برقية بوفاة إبن عمي عبد الاحد يعقوب في عامودة , فذهبت إلى محطة بغداد في حلب لأستقل قطار الشرق السريع , وكان يغادر حلب الساعة الثامنة مساء ويصل محطة ( حمدوني ) في عامودة الساعة السابعة صباحاً , وكان يرافقني صهري يوسف صباغ . وعند وصولنا أبلغني قاطع التذاكر أن القطار سيتأخر ثلاث ساعات ريثما يصل من تركيا , فتوجهنا إلى منزل الرئيس خليل الحلو قرب المحطة . وسهرنا عنده إلى الوقت المحدد , ثم عدنا إلى المحطة لقطع التذكرة والسفر إلى عاموده .فوجدت رجال الأمن العام في انتظاري ليبلغوني أمر المفوض السامي بمنعي من السفر , , ثم أخذوني موجوداً إلى مخفر ( باب الفرج ) ووضعوني في غرفة منفردة مهجورة مملؤة بالمياه , وأغلقوا عليّ الباب للنظر في أمري صباح اليوم التالي.
طلب صهري أن يسمحوا له بإحضار سرير وفراش من أحد الفنادق القريبة فرفضوا , فعاد إلى بيته وأوصيته ألا يخبر عائلتي بالأمر . بقيت طوال الليل واقفاً أنتظر طلوع الفجر , وفي الساعة الثامنة صباحاً فتحوا عليّ الباب وأخذوني إلى مدير الأمن العام الفرنسي , وكان برتبة كابتن , فسألني عن سبب سفري إلى الجزيرة , فأجبته أنني استلمت برقية من عامودة بوفاة ابن عمي ,وأنني أريد السفر للإشتراك في مأتمه ولما طلب البرهان على ذلك قدمت له البرقية ,وكانت البرقيات يومئذٍ باللغة الفرنسية , وبعد قراءتها تغيرت ملامحه وقال : سأقابل مندوب المفوض السامي وأطلعه على البرقية , فذهب بسيارته وعاد بعد برهة ليبلغني بأنني طليق لكنني ممنوع من الذهاب إلى الجزيرة . ثم أفرج عني , وكان ينتظرني
قرب المخفر بعض المواطنين منهم المجاهد الأخ عبد الباقي نظام الدين وشقيقه الملازم توفيق , وصهري يوسف صباغ , وعبد الأحد خاجو , وعدد من الوطنيين , فذهبنا جميعاً إلى داري , وأبرقت إلى عاموده معزياً بوفاة الفقيد .
- 15
نشبت الحرب العالمية الثانية بين هتلر والحلفاء فاحتل الألمان فرنسا , وشكلت حكومة فرنسية جديدة برئاسة الماريشال بيتان في مدينة فيشي وعرفت بحكومة فيشي , ولما تأزمت الأوضاع فرّ الجنرال ديغول إلى بريطانيا وشكل مقاومة فرنسية مع الحلفاء , وأخيراً انتصر الحلفاء وانهزم الألمان واحتل الجيش الديغولي سورية ولبنان , فغادرهما الضباط الفيشيون , وعين الجنرال كولي مندوباً للمفوض السامي في سورية , واعترف ديغول في استقلال سوريا , وعيّن الشيخ تاج الدين الحسني رئيساً للجمهورية .
أطلق سراح المبعدين , فعادوا إلى بيوتهم , وسمح لي بأن أسافر إلى عامودة بمفردي , وهكذا سارت الأمور على هذه الحال .
16 -
أصيبت سورية سنة 1942 بقحط شديد بسبب الجفاف فاحتاجت إلى القمح , وكان بعض التجار يهربون الحبوب إلى تركيا بقصد الأرباح , ولما دخل الجيش البريطاني سورية مع الديغولييين تشكل مكتب لشراء الحبوب وتوزيع الطحين على المخابز لتلافي المجاعة , وكان يشرف على هذا المكتب ممثلون عن فرنسا ويريطانيا وسورية .
باشرت المكاتب بجمع الحبوب من جميع المحافظات وفي مقدمتها محافظة الجزيرة , فدعي وجوه الجزيرة إلى بلدية القامشلي للتشاور , وبعد الأجتماع بحضور ممثلين عن الجيش البريطاني والفرنسي برئاسة محافظ الحسكة , طلب من المجتمعين فرض كميات من الحبوب على المناطق والنواحي والقرى , فأجابوا بأن السلطة تفتش القرى وتجمع الحبوب , فلا حاجة لفرض كميات على المواطنين لأن أكثر المزارعين لم يجنوا محصولاً في تلك السنة , ولم يستردوا مؤونتهم , أما السلطة فيمكنها جمع الحبوب من المواطنين القادرين على تأديتها , فاعتبروا هذا الجواب تمرداً على السلطة .
في اليوم التالي , استُدعيت مع الأخ عبد الباقي نظام الدين إلى مكتب ضابط الإستخبارات , فأبلغنا وجوب السفر إلى دمشق لمقابلة الجنرال ( كولي ) قائد الجيش الفرنسي , ومندوب المفوض السامي , كما بلغ ضابط العشائر الشيخ دهام الهادي بضرورة الذهاب إلى دمشق أيضاً لمقابلة رئيس مصلحة العشائر , وكانت الغاية من هذا التدبير القضاء على المقاومة الوطنية في محافظة الجزيرة , فسافرنا بالقطار , أما الشيخ دهام فأخذه جنود مصلحة العشائر إلى دمشق بالسيارة , وبعد وصولنا استدعينا لمقابلة الجنرال كولي , أما الشيخ دهام فسلمه ضباط العشائر إلى الجيش البريطاني الذي كان يستقبل المرسلين من جميع المحافظات لإبعادهم عن سوريا . في اليوم الثاني ذهبنا إلى المندوبية وقابلنا الجنرال كولي الذي استقبلني , وسألني عن قضية الحبوب . قال إنكم تحرضون المواطنين على إخفاء ‘
حبوبهم وعدم بيعها إلى مكتب الحبوب وهذا يسبب مجاعة ونحن في حالة حرب ....فأجبته بأن الجفاف في تلك السنة قد سبّب قحطاً شديداً في الجزيرة , والسلطة قائمة في التفتيش عن الحبوب بشكل دقيق , ومن المؤسف أن تتهم بتحريض الناس على عدم تسليم حبوبهم إلى مكتب الحبوب , في حين أن هذا المكتب يقوم بخدمات إنسانية جليلة , إذ يستلم الحبوب ويقدمها إلى المطاحن , ومن ثم إلى الأفران لتقديم الخبز إلى المواطنين , وهذه الوشاية ضدنا ما هي إلا محض افتراء ولذلك نرجو أن ترسل محققاً أميناً إلى الجزيرة ليحقق في هذه التهمة الشائنة , فإذا صحّت فنحن نرضى بإعدامنا , وإذا تبين أنها مجرد وشاية - وهذا هو الواقع - فيجب أن تنزل العقاب بمن اتهمنا هذه التهمة .... ففكر بالأمر ثم تحدث بالهاتف مع ممثل الجيش البريطاني , مبيناً أن لا بد من إجراء تحقيق معنا , وهذا يتطلب بعض الوقت , لذلك أجّل سوقي وسَوق عبد الباقي نظام إلى إشعار آخر .
أبعد الأشخاص الموقوفون إلى فلسطين , ومنها نقلوا إلى جزيرة " قمرات " في البحر الأحمر ومعهم دهام الهادي , أما نحن فبقينا في فندق أمية بدمشق تحت المراقبة , نثبت وجودنا في مكتب المندوبية مساء كل يوم , طوال خمسة أشهر تقريباً .
أرسل الجنرال كولي الكولونيل فالوي - مدير مكتب الحبوب العام - إلى الجزيرة للتحقيق في قضيتنا , فعاد بتقرير يثبت عدم علاقتنا بقضية الحبوب , لذلك أطلق سراحنا وعدنا إلى الجزيرة , أما بقية المبعدين فظلوا في المنفى حتى نهاية الحرب .) يتبع ....

17 -
المصدر : مذكرات النائب سعيد إسحق .
أعدها وقدّم لها الأستاذ عيسى فتوح