إبراء ذمة وإخلاء طرف


طارق المهدوي
2023 / 5 / 11 - 10:23     

لم يكن أبي إسماعيل المهدوي (1924 - 1996) شخصاً واحداً بل كانوا ثلاثة أشخاص متعاقبين زمنياً ومختلفين موضوعياً عن بعضهم، إلى درجة أنه يمكن تسميتهم بإسماعيل الأول (1924 - 1967) وإسماعيل الثاني (1967 - 1970) وإسماعيل الثالث (1970 - 1996). أما إسماعيل الأول فقد كان شاباً سكندرياً اضطر بسبب وقوع الإسكندرية تحت القصف المتبادل بين قوات الحلفاء وقوات المحور خلال الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945) للنزوح مع أبويه إلى القاهرة، حيث التحق مبكراً بالحلقة الثانية للحركة الشيوعية المصرية التي استمر يناضل في صفوفها منذ بدايتها سنة 1946 حتى صدور قرار الحزب الشيوعي المصري بحل نفسه سنة 1965، كاستجابة لادعاء مخادع بضرورة توحيد الصف السياسي خلف نظام الحكم العسكري الناصري في معركته الوطنية ضد الكيان الصهيوني، وأما إسماعيل الثاني فهو إسماعيل الأول بعد أن صدمته هزيمة نظام الحكم العسكري الناصري المخزية أمام الكيان الصهيوني في يونيو 1967 ونبهته لحقيقة أنه ليس فقط قد تم تضليله لكنه بعد أن تم تضليله قام بتضليل غيره بترويجه لذلك الادعاء المخادع، فحاول تصحيح المسارات عبر الدعوة إلى إعادة النظر في التقديرات على ضوء المستجدات المعلوماتية واختار لمحاولته ثلاث دوائر هي دائرة الشيوعيين المصريين الموجودين في القاهرة ودائرة أكبر تجمع للشيوعيين المصريين بالمهجر والموجودين في العاصمة الفرنسية باريس ودائرة الأحزاب الشيوعية لحلف وارسو بقيادة الحزب الشيوعي السوفيتي عن طريق لجنة العلاقات الخارجية في الحزب الشيوعي لألمانيا الشرقية، إلا أنه تلقى ثلاث صدمات أخرى في الدوائر الثلاث التي اختارها فاختارت مصالحها الانتهازية الضيقة مع نظام الحكم العسكري الناصري على حساب الواجب المبدأي بتصحيح المسارات، وهكذا سلمه الأمن السياسي الألماني الشرقي إلى الأمن السياسي الفرنسي الذي سلمه إلى الأمن السياسي المصري الذي أعاده إلى القاهرة ليجد نفسه مفصولاً من عمله الصحفي، اضطر إسماعيل الثاني بعد انقطاع دخله للإقامة في منزل أمه بحي الحلمية الجديدة القاهري حيث كانت أخته وزوجها المنتميان إلى جناح سيد قطب في حركة الإخوان المسلمين قد أفلتا من الاعتقال بهروبهما لإحدى دول الخليج لكنهما أخفيا مسدساً وخزنتين من الرصاص في صندوق كرتوني أسفل سرير أم إسماعيل، وهو الصندوق الذي عثرتُ أنا عليه في أواخر سنة 1969 بينما كنتُ كطفل في العاشرة من عمري ألهو أسفل سرير جدتي فحملتُه إلى أبي إسماعيل الذي حمله إلى قسم شرطة الخليفة حيث تسلمه الضابط النوبتجي ليحرر محضراً بالواقعة، وعقب مغادرة إسماعيل لقسم الشرطة مزق الضابط المحضر كي يحتفظ بالمسدس وخزنتي الرصاص لنفسه فلما عاد إسماعيل إلى القسم لمتابعة محضره لم يجده فظن أن الأمن السياسي هو الذي كان قد وضع المسدس داخل المنزل حتى يتم اتهامه بالنشاط الإرهابي، فكانت الصدمة الخامسة التي رغم كونها غير حقيقية إلا أنها أضيفت إلى تراكم كمي مكثف للصدمات أسفر عن تغيير نوعي في مدى ودرجة التوازن النفسي تمثل في إصابة إسماعيل بحالة يسميها الطب النفسي "البارانويا الحادة" والتي من مضاعفاتها الشك غير المبرر للمريض فيمن حوله، وأما إسماعيل الثالث فهو إسماعيل الثاني بعد أن اعتقله الأمن السياسي داخل مستشفى المجانين في أوائل سنة 1970 ليتم إجباره طوال سبعة عشر سنة على تلقي علاجات كيميائية وفيزيائية خاطئة أسفرت عن تطور حالته النفسية من البارانويا الحادة إلى البارانويا المزمنة، التي من مضاعفاتها فقدان المريض للتمييز بين من هو محب أو صديق ومن هو كاره أو عدو مما سمح لبعض الأعداء الكارهين باختراقه وتحريضه ضد بعض الأحباء والأصدقاء.
ورغم شمول الصورة الواقعية الحقيقية عن حياة إسماعيل المهدوي لهذه المراحل الثلاث المختلفة على نحو يمكن معه اعتباره ثلاثة أشخاص مختلفين عن بعضهم موضوعياً فإن الصورة الذهنية المصنوعة عن حياته قد اكتفت بالمرحلة الأولى فقط دون المرحلتين الثانية والثالثة، وهي صورة غير كاذبة لكنها غير كاملة اضطررنا لصناعتها وترويجها من أجل فك العقدة المزدوجة التي كان الأمن السياسي للحكم العسكري قد صنعها بنكييف وضعه كمعتقل سياسي داخل مستشفى المجانين فكانت تدخلاتنا القانونية لدعمه تصطدم بالعقدة الطبية وكانت تدخلاتنا الطبية لدعمه تصطدم بالعقدة القانونية، كما اضطررنا لصناعتها وترويجها من أجل الرد على سفالات خصوم الشيوعيين الشامتين من فاشيين تابعين لنظام الحكم العسكري وفاشيين تابعين للحركة الإسلامية وفاشيين تابعين للاستعماريين الأطالسة، والذين كانوا قد سبقونا بمحاولة صناعة وترويج صورة ذهنية تكتفي بالمرحلة الثالثة فقط في حياة إسماعيل المهدوي دون المرحلتين الأولى والثانية، أما وقد مضى ما مضى وهدأت عواصفه فإن الحق - كل الحق - أحق بالقول!!.