نكون أو لا نكون


كريس هارمان
2023 / 5 / 10 - 10:10     


الكاتب: كريس هارمان

نشر المقال باللغة الانكليزية في مجلة العامل الاشتراكي، العدد ١٠٨ نيسان/أبريل ١٩٨٨



يجمع أحدث مجلد من أعمال ماركس-إنغلز كتابين من كتابات إنغلز التي روجت لها الستالينية كثيراً، بالتالي يميل الكثير من الماركسيين الثوريين إلى عدم الثقة بهما منذ أواسط الخمسينيات- هما أنتي دورينغ وديالكتيك الطبيعة. يحاجج كريس هارمان بأن الكتابين فيهما الكثير لتعليم الثوار اليوم- بشرط قراءتهما نقدياً.

ما هو مثير للجدل في هذين الكتابين لإنغلز هو عرض أفكاره حول الديالكتيك.

أصر إنغلز على أن تقليد الفلسفة المثالية، الذي بلغ ذروته في بداية القرن التاسع عشر في عمل الفيلسوف الألماني هيغل، قد حقق اكتشافاً عظيماً. كان الواقع يتغير باستمرار ولا يمكن فهم التغيرات التي حصلت باستعمال المفاهيم الثابتة التي نفكر عادة بها. يمكن لهذه المفاهيم وصف بدقة شديدة كيف هي الأمور في لحظة محددة.



ولكن في النهاية، على مدى طويل أو قصير، تتغير الأشياء، ولكي نصفها نحتاج إلى مفاهيم مختلفة تماماً. لفهم سلوك حيوان معين نستعمل مفاهيم البيولوجيا، ولكن في أحد الأيام سيموت الحيوان ويتحول إلى مادة جامدة، عندها لتفسيرها سنحتاج إلى الكيمياء والفيزياء.

المادة في شكلها السائل تخبرنا قوانين الهيدروليك الكثير عنها. وعندما تبرد وتتحول إلى مادة جامدة عندها تصبح قوانين الهيدروليك غير قابلة للتطبيق بالكامل.

لا يمكن فهم شيء بمعزل عن ارتباطاته بأشياء أخرى. كل شيء هو ما هو عليه، لكنه، في الوقت نفسه، في طريقه حتى يصبح شيئاً آخر.

لخص إنغلز، متبعاً المثال الهيغلي، عملية التحول المستمر للواقع بالقول إن الواقع كان دوماً متناقضاً مع نفسه.

“طالما أننا نعتبر الأشياء جامدة، كل شيء بمفرده إلى جانب بعضه البعض، فإننا لا نواجه تناقضات فيها… لكن الموقف يختلف تماماً بمجرد التفكير بالأشياء التي تتحرك، بتغيرها، بحياتها، بتأثيرها المتبادل على بعضها البعض. ثم نصبح مشاركين فوراً بالتناقض”.

الطريقة التي نفكر بها في الأشياء، عادة ما تكون ملزمة بقوانين المنطق الصوري. أبسط هذه الأشياء هو أن الشيء لا يمكن أن يكون في آن معاً نفسه ونقيضه. ينبغي الالتزام بهذه القواعد حتى لا نتحدث بكلام فارغ المضمون. ولكن أصر إنغلز، متبعاً هيغل، عندما ننظر إلى الأشياء التي هي في حالة حركة، علينا معرفة أن قوانين المنطق الصوري تنهار.

يكون الجسم المتحرك عند نقطة معينة وليس [فقط] في تلك النقطة. الإنسان على قيد الحياة وفي طور الموت. كان هناك وقت في الماضي لم يكن فيه كل شيء موجود اليوم [بات] موجوداً. في النهاية، سيأتي وقت لا يعود فيه كل ما هو موجود اليوم موجوداً.

التفكير “ديالكتيكياً” يعني رفض الاكتفاء بمعرفة الأشياء في حالتها الثابتة. إنما البدء لفهم بوعي التناقضات داخلها والتي ترغمها على الخضوع للتغيير. أي البحث عن العناصر في الواقع التي تتعارض مع الوضع الراهن.

بذلك، إن “الفكر الديالكتيكي” ليس شيئاً معقداً جداً. إنما يتعارض جداً مع الكثير مما قيل تقليدياً عن “أسلوب العلم”. خاصة في بريطانيا، ما كان سائداً هو التجريبية- الاعتقاد بأن العلم يتطور ببساطة عن طريق جمع الحقائق حول الأشياء كما هي.

حتى عندما جرى التخلي عن التجريبية بالمعنى الدقيق، يبقى الافتراض المسبق الأساسي هو أن العلم يقوم على اختبار النظريات ضد “الحقائق” الواضحة بحد ذاتها.

إن الصعوبة في أي وجهة نظر على هذا النحو، بحسبما أشار إنغلز في ديالكتيك الطبيعة، هي:


“مهما كان احتقار المرء لكل الأفكار النظرية، لا يمكن للإنسان أن يأتي بحقيقتين طبيعيتين على علاقة ببعضهما البعض، أو فهم الصلة القائمة بينهما، من دون التفكير النظري، إن السؤال الوحيد هو ما إذا كان تفكير الإنسان صحيحاً أو لا، ومن الواضح أن احتقار النظرية هو الطريقة الأكثر تأكيداً للتفكير الطبيعاني، وبالنتيجة بشكل غير صحيح”.

ويشير إلى أن التجريبيين الكلاسيكيين مثل فرانسيس باكون أو إسحق نيوتون انتهى بهم الأمر إلى اعتناق أعمق التكهنات الميتافيزيقية (حول الخيمياء في إحدى الحالات ورؤيا يوحنا في الحالة الأخرى).

لكن إنغلز رفض بكل بساطة التخلي عن اهتمام التجريبيين بالحقائق- لأن كل ما سيتبقى بعدها سيكون من الخرافات. هذا ما جعله يفترق بشدة عن نقاد التجريبية الذين ارتبطوا بالكثير من “العلم الراديكالي” في العشرين سنة الأخيرة. كان هدفه هو “الفكر الديالكتيكي”- فهم الواقع بكل تعقيداته المتغيرة باستمرار، وفهم الجانبين من طبيعتهما المتناقضة، ورؤية كل “حقائق” التجريبيين والسيرورات العميقة التي تتخلص باستمرار من تلك الحقائق.

حتى الآن، كل شيء على ما يرام، يقول بعض نقاد إنغلز، ولكنهم يتساءلون عن الذي يأتي بعد في كتابي أنتي دورينغ وديالكتيك الطبيعة. لأن إنغلز استعار من هيغل ما يشير إليها بـ”قوانين الديالكتيك الثلاثة”.

يقول إنها التالية: “قوانين تحول الكم إلى النوع والعكس صحيح”، و”قانون تداخل الأضداد” و”قانون نفي النفي”.

تعرضت معادلاته لهجوم شديد. قيل، إذا كانت تعني شيئاً، فيجب تفسيرها كما فعل الفلاسفة الستالينيين في الثلاثينات والأربعينات باعتبارها قوانين تاريخية فائقة تحدد، قبل أي تحقيق علمي، كيفية تطور الطبيعة والتاريخ.

على أساس هذه الحجج، انفصل معظم الماركسيين عن إنغلز في العقود الأخيرة.

أخشى أن يكونوا قد رموا الطفل مع مياه الحمام. توجد أخطاء في العديد من الحجج التي يستعملها إنغلز في أنتي دورينغ وفي ديالكتيك الطبيعة. ولكن هناك كذلك حجة أساسية تبقى جداً مهمة.

هذه هي: أصرت المادية التقليدية، عن حق تماماً، على أنه لا يوجد سيرورات خارقة للطبيعة. الحياة، وفي أعلى مراحل الحياة، العقل والوعي، هي سيرورات مادية. ولكن المادية التقليدية اعتبرت هذه العمليات المادية مجرد تفاعل ميكانيكي بين المكونات الأساسية التي يتألف منها الكون.

لفهم الظواهر المعقدة في الكيمياء والبيولوجيا وعلم النفس والتاريخ البشري، كل ما كان ضرورياً هو اختصارها إلى قوانين فيزيائية تحدد تفاعل الذرات.


تكمن المشكلة في هذه المقاربة أنها تؤدي فوراً إلى التخلي عن أي محاولة حقيقية لفهم علمي للظواهر الأكثر تعقيداً. إن وصف كل التفاعلات الفيزيائية بين الذرات التي تسببها هي مهمة تتجاوز قدرة أي عقل بشري، لذلك ينتهي الأمر بالماديين البسيطين إلى انتهاج أحد الخيارين:

إما أنهم يتجاهلون تعقيدات الواقع ويختزلون التاريخ والمجتمع بعلم البيولوجيا (كما يفعل علماء البيولوجيا الاجتماعية وعلماء نفس الفئران).

أو ينتهي بهم الأمر بإعادة إدخال المفاهيم الدينية المثالية من الباب الخلفي، ورؤية الوعي كمسألة منفصلة تماماً عن الواقع المادي.

إن الهدف من “قلب” إنغلز المادي لهيغل هو للتغلب على هذه المشكلة. إنه يلح على أن بنية الواقع نفسها تجعل النمو مركباً من المكونات الأساسية للكون، ولكن لا يمكن اختزاله بكل بساطة.

حجة إنغلز لخصها تروتسكي على نحو جيد.

“نحن نسمي ديالكتيكنا “مادياً” لأن جذوره ليست في الجنة ولا في أعماق “إرادتنا الحرة”، إنما في الواقع الموضوعي، في الطبيعة. نما الوعي من اللاوعي، وعلم النفس من علم الفيزيولوجيا، والعضوي من غير العضوي، والنظام الشمسي من السدم. على كل المستويات من هذا السلم، تحولت التغيرات الكمية إلى نوعية…”

يرى إنغلز أن “الحياة” هي تكوين معقد للمادة قادرة على إعادة إنتاج ظروف وجودها.

ما إن تتشكل المادة في الأجسام المعقدة التي تشكل “الحياة” تجد فعلياً “تداخل الأضداد”. فالحياة تعتمد على الامتصاص الدائم للمواد من بيئتها وتراكم المواد فيها. “الحياة تتكون أساساً من حقيقة أنها هي نفسها وفي الوقت عينه شيء آخر…”

يمكن فهم أول قانونين لإنغلز من “قوانين الديالكتيك” ليس بكونهما قانونين تاريخيين فائقين يحددان كيف يكون عليه الواقع، إنما بالأحرى كتفسير للبنية العامة للواقع. مثل هذا التفكير ضروري لأنه من دونه سيكون تجاهلاً للسمات المركزية للواقع ويسقط في التجريبية والمادية البسيطة، وفي النهاية، في المثالية الصوفية.

ولكن ماذا عن “القانون” الثالث المسمى نفي النفي؟

هنا يبدو إنغلز نفسه أقل إقناعاً. فالأمثلة التي قدمها بدت مبتذلة أو يصعب فهمها.

فلنأخذ على سبيل المثال شجرتي البلوط والجوز. يحصل النفي المزدوج، ولكن ينتهي به الأمر بكل بساطة إلى إعادة إنتاج نقطة البداية. التركيز عليها لا يصور الواقع أنه بتغير مستمر، إنما يراه، بدلاً من ذلك، ثابتاً، كدائرة وليس كدوامة.


أدت حجج إنغلز الضعيفة إلى أنه غالباً ما تخلى الماركسيون اللاحقون عن نفي النفي.

ومع ذلك، من الممكن، والمفيد، تقديم وصف له يضعه في وسط الماركسية. كل ما هو مطلوب هو إدراك أنه ليس سوى سمة من تلك التركيبات المعقدة الذاتية التكاثر من المادة التي نسميها الحياة، ولا تجد شكلها الكامل، حتى تؤدي ظهور تركيبات أكثر تعقيداً لها وعيها.

تنفى الأشياء غير العضوية باستمرار بالمعنى البسيط ولكن التافه لمعاناة التغيير بسبب العوامل الخارجية. ولكن ما إن تؤدي المادة إلى ظهور كائنات حية، يحصل التغيير. تتفاعل الكائنات الحية من جديد مع البيئة الخارجية، وتحولها. والتغيير ليس مجرد تغيير دوري (كما توحي المقارنة مع شجرة البلوط): فالكائن الحي قادر على أن يشمل وجوده السابق وعلى تجاوزه، من أجل “نفي النفي”. كانت هذه هي الطريقة التي تحولت بها الأرض كلها حيث أن أكثر أشكال البروتين بدائية أدت خلال ملايين السنين، إلى مجموع الحياة التي نعرفها اليوم.

لوقت طويل، حصل هذا “النفي” بشكل أعمى، عبر سيرورة من الانتقاء الطبيعي. ولكن في مرحلة معينة من التاريخ الطبيعي، كان البقاء لكائنات حية قادرة على أكثر من مجرد استجابة عمياء، كائنات يمكن أن تجري حسابات منطقية حول ما كان يحصل لها وتستجيب للتحكم الواعي في العالم من حولها.

هذه الكائنات نتجت عن البيئة الخارجية ولا يمكن فهمها على نحو منفصل عنها. رغم ذلك، فهي قادرة على التصرف بطريقة تتجاوز تلك البيئة، إنها أشياء يمكن أن تصبح موضوعات.

يحصل “نفي النفي”، كما هو مفهوم، في الجنين عندما تؤدي المادة غير العضوية إلى نشوء حياة عضوية، وتجد تطورها الكامل عندما تكتسب الحياة العضوية قوة دماغية واعية.

إنها مركزية للفهم الماركسي لأنها تمكننا من فهم كيف أن البشر متكيفون مع المجتمعات التي يجدون أنفسهم فيها، وهم فيها أكثر من مجرد تكيف، لأن ذلك يمكننا من فهم إمكانية الممارسة الثورية. ولذلك، بالطبع، وجدت الستالينية مناسباً التخلي عن الأخيرة، ولهذا السبب لا بد من قراءة الكتابين المنشورين في المجلد الأخير من الأعمال المجمعة من جديد.