من التّراث النّضالي للعاملات السوداوات بالولايات المتحدة


الطاهر المعز
2023 / 5 / 8 - 14:55     

إضراب مصنع فانستن للفستق 1933

كان الفستق، ولا يزال، يُشكل واحدًا من جبهات الحرب التجارية بين إيران والولايات المتحدة (خصوصًا ولاية كاليفورنيا) يُقدَّرُ حجمها بنحو خمسة مليارات دولارا، سنةيا (أرقام سنة 2020)، وتُعتَبَر إيران أكبر منتج للفستق الطبيعي، بدون مبيدات أو كائنات معدلة وراثيًا، والفستق والجوز من الفواكه منخفضة السعرات الحرارية وغنية بالفيتامينات، ويتميز جوز أو فسْتق إيران أو سوريا بصغر حجمه وبمذاقه المختلف عن فواكه كاليفورنيا الضخمة المُعدّلة وراثيا والمُشبَعَة بالمُبيدات السّامّة...
كانت المناطق الجنوبية الأمريكية تنتج الفستق والجوز والللوز منذ عقود،ثم استوردت الولايات المتحدة شتلات الأشجار من إيران، كما استوردت فسائل أشجار النخيل من تونس والعراق، لتستفيد من مخابر البحث العلمي المتطور وتُعدّل جينات الأشجار وتُصبح أكبر منتج لتمور الدّقلة في العالم، قبل العراق، وثاني أكبر منتج للفستق، وتطمح أن تتفوق على إيران...
بدأت زراعة الجوز والفستق واللوز ونخيل التمر في مساحات شاسعة بكاليفورنيا، وحظيت هذه الزراعات باستثمارات ضخمة، وببحوث علمية متطورة، وسهر عُمال سود مُستعبَدُون ثم عُمّال مهاجرون من أمريكا الوُسطى والجنوبية على تتمية هذه الثروات الفلاحية، حتى أصبحت الولايات المتحدة منافسًا كبيرًا للفواكه الزيتية الجافة، المَشْرِقِيّة المُنتَجة في إيران والمشرق العربي وآسيا، وللتمور من نوع "دقلة" التي لم تَكُن تُنْتَجُ سوى بجنوب الجزائر وتونس والعراق، غير إن فستق كاليفورنيا (مثل اللوز المسطح في الغالب، وهو أقل جودة من اللوز المستدير) كبير جدًا مقارنة بفستق إيران أو سوريا الطبيعي، إذْ تتم معالجة المكسرات الأمريكية والمنتجات الزراعية الأخرى وتعديلها وراثيًا، ويتم إنتاجها باستخدام الكثير من المبيدات الحشرية، ولذلك خلقت الزراعة المكثفة في الولايات المتحدة، كما في أي مكان آخر، خللًا بيئيًا، ويتجلى ذلك في تدمير الغابات وتلوث المياه والقضاء على الحيوانات البَرّيّة والمائية، والطيور والنحل (خصوصًا بمناطق من تَبَقّى من السّكّان الأصلِيِّين)، لزرع مساحات شاسعة بأشجار أو نباتات متطابقة تمامًا، أي عبارة عن نُسخٍ مُطابقة للأصل، وبنفس العيار ونفس الحَجْم والوزْن، ومنها الفستق المُعَدَّل وراثيًا، وتتم معالجته في عشرات المصانع، بولاية "ميسوري" وخصوصا بمحيط مدينة سان لوي، قبل تعبئته في أكياس بلاستيكية صغيرة، من قبل نساء سوداوات يتعرّضْن لأمراض عديدة، ويتقاضين أجورًا زهيدة للغاية...
تحاول الفقرات التالية إحياء ذكرى نضال العاملات السود في مصانع فرز وتكسير وتعبئة الجوز والفستق واللوز، في ظل ظروف عمل سيئة جدا وأجور منخفضة للغاية، إلى أن طفح الكًيْل وتم تنفيذ إضراب منتصف شهر أيار/مايو 1933، لفترة قاربت ثلاثة أسابيع.
أسباب الإضراب
خلال فترة الكساد الكبير ، كان مصنع Funsten Nut في سانت لويس مقسمًا على أساس العرق، وكانت ظروف عمل العمال السود، ومعظمهم من النساء، أكثر سُوءًا ورواتبهم أقل من نظرائهم البيض وحتى من العمال المهاجرين من أوروبا الشرقية، ولذلك أضرب الرجال والنساء السود، في أيار/مايو 1933، في مدينة سانت لويس، وطلبوا من زملائهم البيض الانضمام إليهم، وكانت العاملة الشابة "كاري سميث" ( التي تأثّرت بالأفكار الإشتراكية) تبلغ من العمر ثمانية عشر عامًا فقط، وتعمل في إحدى ورشات مصنع معالجة الجوز والفستق، وهي من المُبادرين لإطلاق الإضراب والإشراف على التّعبئة والدّعاية والتنفيذ، وإنجاح الإضراب، رغم فترة الكساد الكبير، أو نتائج أزمة 1929.
إن ظروف وملابسات ووقائع إضراب عاملات الجوز في مصانع "Funsten" غير معروفة لدى العديد من الإشتراكيين ودارسي الحركة العُمّالية العالمية، لكن هذا الإضراب كان أحد أهم نضالات الطّبقة العاملة – النسائية بشكل خاص - في "الغرب الأوسط" الأمريكي، بالإضافة إلى الإضراب العام لسنة 1877، فقد حَشَدَ إضراب "Funsten Nut Factory" ألفيْن من العاملين، غالبيتهم من السود في خمسة مصانع لمدة ثمانية عشر يومًا. وقادت نساء سوداوات حركة الإضراب، وفي مقدّمتهن العاملة الشابة كاري سميث، التي تَحَدّتْ علانية سُلْطة وعجرفة المشرف على العُمّال، لتشجيع زملائها على المقاومة، وجادلت مدير المصنع لمدة ساعتين، بشأن ظروف العمل والرّواتب، قبل أن تعلن لزملائها: "لا شيء لدينا نخسره، ولذا فلنعلن الإضراب، فلا يمكن لإضرابنا أن يفشل"
كانت "كاري سميث" متعاطفة مع الفكر الإشتراكي ومع الحزب الشيوعي الأمريكي الذي انخرط في هذه المعركة ودَعم المضربين حتى النهاية، وبذلك استفاد الحزب من دَعْمِهِ، بتعزيز موقعه بمناضلين ومناضلات من الطبقة العاملة، ومن السود والنّساء، في الغرب الأوسط الحَضَرِي الذي اتّسم براديكالية بروليتارية تقودها العاملات السود.
ظروف الإضراب
جرى الإضراب في مناخ اجتماعي متوتر، حيث كان اقتصاد مدينة "سان لوي" ( أو سانت لويس) يعتمد على الصناعات الخفيفة التي توظف النساء، مثل المنسوجات وتجهيز الأغذية، وهاجرت إليها النساء السود، ضمن موجة "الهجرة الكبرى" من ولايات الجنوب، هربًا من التّطرّف العنصري، ومن البطالة، بمعدل أعلى من نظرائهن من الرجال، وعملت النساء في مصانع المدينة وتمكنت النساء العاملات من خلق مناخ اجتماعي نضالي مقاوم وإنساني مُتضامن، ما مَكَّنَهُنَّ من الظهور كقائدات بارزات من أجل الحرية والكرامة، وكانت مدينة سانت لويس بولاية ميسوري تُعاني من "الكساد العظيم" ( أزمة 1929) مثل معظم الولايات الأمريكية، خلال ثلاثينيات القرن العشرين، حيث رَكَدَ قطاع الصناعة وانخفَضَ عدد السكان على مدى العقود الثلاثة اللاحقة، وارتفعت نسبة البطالة بالمدينة من 9% إلى 30% من القادرين على العمل، فيما ارتفعت نسبة البطالة لدى المواطنين السود إلى 70%. أما من كانوا يعملون من السود فإن ظروف عملهم سيئة جدا ورواتبهم مُتَدَنِّيَة جدا، ولذلك عانى المواطنون السود بشكل خاص من البطالة ومن الصعوبات المالية والفقر المدقع، فضلا عن العنصرية الراسخة، ويعود الفضل للنساء السود في الصمود وترسيخ ثقافة المقاومة والنضال من أجل الوظائف والرواتب وظروف العمل اللائقة والعدالة الإقتصادية والكرامة، وخوض المعارك السياسية، وتمكّنت النساء من دمج مشاغل الطبقة العاملة بمسائل الحقوق المدنية للسود والمُساواة والعدالة الإقتصادية، وفق وثائق الحزب الشيوعي الأمريكي الذي كان وجوده راسخا في المدينة (إلى جانب التيارات الفَوضَوية)، كما كان العديد من أبناء مواطني ألمانيا التّقدّميين والشيوعيين، الفارين من القمع الذي تلا ثورة 1848، ثم من حملة القمع ضد الشيوعيين سنة 1919، يسكنون المدينة ويُساهمون في النشاط السياسي وفي النضالات المَحَلِّيّة...
خلفية إضراب أيار/مايو 1933
كانت "قوانين جيم كرو" سائدة، وهي مجموعة قوانين ومراسيم وإجراءات قومية ومحلية منبثقة عن "مُدوّنة العُبُودية" (Black Codes ) التي تفرض الفصل العنصري في الولايات المتحدة والتي سنتها المجالس التشريعية للولايات الجنوبية من سنة 1877 إلى سنة 1964، وفي سانت لويس، عزز النضال القانوني ضد مدونة الفصل العنصري - المعروفة باسم مُؤَسِّسِها "جيم كرو" - المنظمات الشعبية والنضالات التلقائية والمباشرة التي يقودها المواطنون العاديون، غير المصنفين كمناضلين سياسيين، وكان العمال السود، وخاصة النساء السود ، والشيوعيون هم الذين ألهموا ونَشّطوا النضال القانوني ضد "جيم كرو" ولكن المنظمات الأَهْلِيّة الشعبية هي التي قادت النضال والمقاومة اليومية في بيئة من البُؤْس ومن الفقر المدقع... لقد ولّدت هذه النضالات تضامنًا قويًا وصداقات بين سكان هذه الأحياء الفقيرة التي يسكنها مواطنون سود، ما ساهم في المحافظو على جذوة المُقاومة.
في صباح يوم 8 يوليو 1932، قب حوالي عشرة أشْهُر من إضراب مصانع Funsten Nut ، نظم الفقراء والمحرومون وضحايا الكساد الإقتصادي، مظاهرةً وتجمُّعًا أمام مبنى مجلس المدينة، مطالبين بإطعامهم، وضَمَّ التّجَمُّعُ أكثر من ألف شخص يحملون لافتات تشير إلى رفض إخلاء العاطلين عن العمل من مساكنهم: "لا إخلاء للعاطلين عن العمل" و " سنعمل لكننا لن نتضور جوعًا"، وحمل الأطفال لافتات تطالب "بالحليب المجاني لأطفال العاطلين عن العمل".
بعد بضعة أيام ، احتل عشرات المتظاهرين مكتب رئيس البلدية بينما تجمع حشد من عدة آلاف في الخارج، ونقلت الصحف مقتطفات من خطاب متظاهر أسود، ورد ضمنه "لم يتبق سوى طريق واحد للطبقة العاملة، وهو مسار النضال والمقاومة... أنا أتحدث باسم العمال السود الذين يعرفون كيف يقاتلون وسيقاتلون لكي لا تستمر حالة الجوع ولا تَمُرَّ بسلام..."
عندما تم إبلاغ الحشد بأن رئيس البلدية لن يجتمع مع منظمة الحزب الشيوعي التي قادت النضال وحازت ثقة المتظاهرين، كانت خمسون امرأة سوداء تستعد لاحتلال مكتب رئيس البلدية، لكن كتيبة الشرطة استخدمت الهراوات لقمع المتظاهرين والمتظاهرات بشكل وَحْشِي، وألقت كمية كبيرة من قنابل الغاز المسيل للدموع على المتظاهرين، مما أدى إلى إصابة العديد من الأشخاص.
كانت مُظاهراتُ واعتصاماتُ تموز/يوليو 1932 جزءًا من سلسلة "مسيرات الجوع" في ثلاثينيات القرن العشرين في المدينة، حيث استخدمت الشرطة الأسلحة النارية ضد المتظاهرين وقتلت أربعة، وتم دهس الأطفال، كما ألقت الشرطة القبض على أعضاء مشتبه بانتمائهم للحزب الشيوعي بسانت لويس، بهدف تحميلهم مسؤولية "أعمال الشّغب" خلال الإحتجاجات، ولكن ورغم القمع، استمرت الإحتجاجات واضطر مجلس المدينة إلى إعلان تقديم منحة قدرها 25 ألف دولار لمراكز توزيع الغذاء في المدينة، وفي الربيع التالي لتلك الإحتجاجات، وصل الصراع، منتصف شهر أيار/مايو 1933، إلى مواقع الإنتاج، حيث أضرب عُمال وعاملات مواقع تكسير وتقشير وتعليب الجوز والفستق والمكسرات من عدة مصانع، وانطلقت المشاورات والتحضيرات بعقد اجتماعات سرية، كانت تنظمها وتقودها نساء عاملات سوداوات، وكثير منهن من مناضلات احتجاجات تموز/يوليو 1932...
كانت سانت لويس مركز صناعة جوز البقان الذي تتكاثر أشجاره على ضفاف نهر المسيسيبي، بسبب الأرض والمناخ والظروف النموذجية لزراعة البساتين الكبيرة من البقان الطبيعي، ولذلك وُجدت في مدينة وضواحي سانت لويس ستة عشر مصنعًا، سبعة منها مملوكة لشركة Funsten ، يعمل بها حوالي ثلاثة آلاف امرأة في وظائف وضيعة وتنفيذية لتجهيز الأغذية.
في ذلك الوقت ، كان يتم فصل العمال السود عن الآخرين، ولم يكن بمدينة سانت لويس موظفون مدنيون سود في المكاتب والمصالح الإدارية ببلدية أو إدارات المدينة، وكتبت "ميرنا فيشتنباوم" في كتابها عن إضراب مصنع فونستن للجوز، الصادر سنة 1992 (انظر قائمة المراجع أسفله) أن المدينة كانت "المحطة الأخيرة على خط السكة الحديد قبل دخول الجنوب المتطرف في عنصريته، حيث يجب فصل عربات القطار التي يركبها البيض عن عربات المُلَوّنين".
شكلت النساء حوالي 30% من القوة العاملة "في ولاية ميسوري ( حيث تقع مدينة سان لوي، أو سانت لويس) خلال ثلاثينيات القرن العشرين، وكانت المهن المفتوحة للنساء السوداوات تنحصر في تصفيف الشعر والعمل في المقاهي والخياطة والخدمة في منازل البيض وفي المغاسل والعمل في التبغ أو المصانع برواتب منخفضة وفي وظائف مُرهقة، ولذلك كان عددهن مرتفعًا في مصنع تعبئة الجوز التي حافظت، كما جميع مواقع العمل، على مجموعة قوانين وسياسات "Jim Crow" من خلال الفصل المادي بين العمال في مجمل المنشآت.
قبل عامين من الإضراب، أشارت صحيفة سانت لويس بوست ديسباتش المحلية، سنة 1931، أي قبل سَنَتَيْن من انطلاق الإضراب، إلى تخفيض رواتب النساء في مصانع Funsten خمس مرات منذ انطلاق أزمة 1929، فضلا عن الغش في احتساب كمية الجوز المُقَشَّر، أثناء عملية الوزن النهائي، آخر كل يوم عمل ...
كان أجر النساء السود قبل الإضراب في مصنع Funsten Nut حوالي 6 دولارات في الأسبوع، فقد كُنَّ يكسِبْنَ 3 إلى 4 سنتات لكل رطل من المكسرات المقشرة، بينما تحصل العاملات المهاجرات من بولندا على 4 إلى 6 سنتات، وتُؤَدِّي النساء السود مهامّ صعبة وأعملاً تتطَلّبُ مجهودًا بدنيًا، فضلا عن فصل ثمرة المكسرات عن قِشْرَتها بسكاكين صغيرة (قبل ابتكار آلة فصل القشرة)، بينما كان على النساء البولنديات مهمة فرز ووزن القطع، وفي مصنع Funsten كانت عمل النساء السود محدّدًا بتسع ساعات في اليوم فضلا عن ربع ساعة أو نصف ساعة إضافية دون أجر، طيلة خمسة أيام ونصف في الأسبوع ، بدءًا من الساعة السادسة وخمس وأربعين دقيقة صباحا إلى غاية الساعة الرابعة وخمس وأربعين دقيقة، تتخللها فترة راحة بخمس وأربعين دقيقة، لتناول طعام الغداء، وكان يوم العمل أقصَر للنساء البيض: من السابعة صباحًا إلى الرابعة والنصف تتخلله راحة بستين دقيقة لتناول طعام الغداء.
تعمل النساء البيض في الطابق الأول، بينما تعمل النساء السود في قبو بعض المباني وفي الطابق الثاني من البعض الآخر، وكان أجزاء المباني التي تعمل بها النساء السود قذرة ورطبة وبدون نوافذ وبدون تهوية، وتتسبب معالجة ثمرة الجوز في ظهور بقع دائمة على الجلد والملابس، ويتم خصم تكلفة ملابس العمل (المرايل أو المَآزِر) من أجور العمال الأسبوعية، وكانت المراحيض غير صحية رغم أن العمال يتعاملون مع مواد غذائية، فيما ينبعث الغبار من المكسرات، مما يُسبّب السّعال الحاد، ومشاكل في الجهاز التَّنَفُّسِي.
يتطلب فرز وفصل القشرة سرعة وبراعة وصبرًا وانتباها مستمرا، ومع ذلك فإن الأجر ضعيف للغاية، لكن ظروف العمل السيئة والأجور المنخفضة للغاية ألهمت العاملات الصّبر، وتحضير الإضراب بصبر وثبات، ويظهر ذلك في طريقة تنفيذ الإضراب وفي الشعارات والمطالب الظاهرة على اللافتات وكُتِبَ على اللافتات خارج المصانع "يتم إطعام الحيوانات في حديقة الحيوانات بينما نحن نعمل ونتضور جوعاً"، وقالت "كاري سميث" لعمدة البلدية المنتخب حديثا "برنارد ديكمان" في أحد الإجتماعات "نعتقد أن لدينا الحق في أن نعيش كما يعيش الآخرون... (و) يحق لنا الحصول على أجر يوفر لنا ما يكفي من الطعام والملابس"، وأثناء المفاوضات، أخبرت عاملة تُدعى كارولين لويس رئيس البلدية "إن عَمَلَ النساء مقابل الأجور المنخفضة لا يحميهن من الفقر".
خلال فترة الإضراب، انْضَمَّ الأزواج والأطفال إلى المسيرات من مصنع إلى آخر، داعين النساء اللائي بقين بموقع العمل داخل المصانع، للخروج والمشاركة في الإضراب والمظاهرات، كما كان التضامن، الذي نظمته النساء من سكان الأحياء الفقيرة، بدعم من الحزب الشيوعي في المقام الأول، قبل النقابات، مُهِمًا وحاسمًا لاستمرار الإضراب ولرفع معنويات المضربين.
في اليوم الأول من الإضراب، وقفت النساء السود فقط في الصفوف الأمامية للاعتصام، وفي اليوم الثاني كانت الخطوط متعددة الأعراق، حيث التحقت النساء الأخريات بهن، بعد انطلاق الإضراب، وفق شهادجة عاملة بيضاء قالت: "جاؤوا وقالوا لنا: اخرجوا، إن الإضراب قد بدأ، وبذلك انفَكّتْ عُقدة الخوف، وتركتْ معظم النساء مواقع العمل وخرجن للانضمام إلى المضربين ”.
كان التمييز العنصري في مواقع العمل ب Funsten Nut وفي غيره من المصانع ممارسة مُعتادة، لكن تنظيم الإضراب كان دافعا لكسر عملية الفصل المادي ليصبح الإضراب عملا متعدد الأعراق، بدءًا من اليوم الثاني للإضراب، وممثلًا لواقع حياة الطبقة العاملة في مدينة سان لوي، ولتنوع مكونات الطبقة العاملة، وغالبًا ما كانت الأحياء الفقيرة مأهولة بالسكان والمهاجرين، وهي إما أحياء متعددة الأعراق أو متجاورة، ما يُسهّل عملية بناء التضامن الطّبَقِي بين الجيران.
قامت شرطة المدينة، لمدة ثمانية أيام، بقمع الحشود الغاضبة وتم اعتقال ما لا يقل عن تسعين مضربًا بتهمة "الإخلال بالنظام العام"، وألْقت الشرطة القبض على العديد من النساء في الأماكن العامة، للمثول بشكل عاجل أمام المحكمة الجنائية التي اعتادت التعامل مع الجرائم الخطيرة ومنها جرائم القتل وليس مع عمال مضربين من أجل مطالب بسيطة.
ثمار النضال والوحدة
في اليوم التاسع، يوم 24 أيار/مايو 1933 (دام الإضراب ثمانية عشر يومًا في مصانع المنطقة)، شعر مالكو شركة Funsten والعمدة "ديكمان" بخطر تنامي حركة الاحتجاج، وقرروا البدء في التفاوض مع ممثلي العمال، وبعد اللقاء مع الوفد العُمّالي، خرجت المناضلة العمالية السوداء الشابة كاري سميث، المناضلة كذلك في الحزب الشيوعي، لتُعلن أمام قاعة مبنى البلدية عن عرض الشركة لمضاعفة الأجور، واستجاب ذلك العرض تقريبًا ( بنسبة تفوق 90% ) لمطالب المُضربين، وإثر ذلك ذهبت كاري سميث ورئيس البلدية إلى مقر الحزب الشيوعي حيث تَجَمَّعَ سبعمائة من المضربين وقدموا لهم اقتراح الشركة الذي تم اعتماده بالإجماع، في تصويت علني.
لقد أظهر المضربون في مصنع Funsten Nut أن الوسيلة الوحيدة لتحقيق مطالب الحركة العمالية وحركة الحقوق المدنية هي النضال في ظل الوحدة والشفافية، حيث قاوم المضربون بشدة القمع والابتزاز والتّهديد، وأظهروا أمام المَلَأ حدود التيارات الإصلاحية والليبرالية، وربطوا بشكل مُبدع النضالات المحلية من أجل العدالة الاقتصادية بحرية السود ومُساواتهم في الحقوق وفي الواقع، وفتحوا طريقًا جديدة للقيادات النّسائية في صفوف الطبقة العاملة.
أصدَرَت عُصْبَة اتحاد النقابات العمالية (TUUL - رابطة اتحاد النقابات العمالية) كراسا ورد في ختام محتواه "على جميع العمال أن ينتظموا أيضًا ويضربوا!" وكتبت صحيفة (working women - النّساء العاملات" أن إضراب مُقَشِّرَات الجَوْز "أيقظ جماهير سانت لويس بشكل لم يسبق له مثيل منذ سنوات... ( وفاز ) بالتعاطف التام والتضامن من جانب الطبقة العاملة في سانت لويس. . . . وكأن المرأة السوداء قد تدربت لتُلْهِمَ الحركة العمالية لسنوات عديدة ".
كانت هذا الإضراب إيذانا بموجة من النضالات على مدى العقدين التاليين، فقد تمكّنت نساء الطبقة العاملة من إعادة الأمل، وتمكنت العاملات السّوْداوات من دمج قضايا النساء وحريتهن بقضية المُساواة بين جميع البشر (نساء ورجالا، سودًا وبيضًا...) وبالقضايا النقابية وبمكافحة الفقر لبناء القوى الذّاتية للعاملين ولساكني الأحياء الفقيرة والتدريب على برامج الإدارة الذاتية وإضفاء الطابع الديمقراطي على الحياة المحلية والمناطق الحَضَرِيّة.
استمر العمال السود في سانت لويس في الإضراب خلال سنوات الكساد وخلال الحرب العالمية الثانية حيث كانت السلطات وأرباب العمل يتذرعون بوجود قضايا كُبْرى، وكأن حياة العُمّال ليست من القضايا الهامة، وأدّت تلك النضالات إلى تَجْذِير بعض مناضلي حركة الحقوق المدنية، مثل ماريان أولدهام وفرانكي فريمان وديفيرني لي كالواي وأورا لي مالون، وغيرهم، فلم يعد الأمر يتعلق بالحق في التصويت وإنهاء الفصل المادي بين الناس، بل أصبح النضال يتعلق بالمساواة الاقتصادية والحق في السّكن اللائق، وحرية التنقل للجميع الأماكن العامة، وأصبح التيار الرئيسي لحركة نضال السود يُركّز على انتقاد الظلم الاقتصادي.
كان إضراب مصنع Funsten نتيجة عمل طويل الأمد، تم تنظيمه في اجتماعات سرية في أماكن مختلفة، ووفّر الحزب الشيوعي في منطقة "سانت لويس" ( أو سان لوي) ما توفر له من إمكانيات وخِبْرَة لمساعدة المناضلات اللاتي أَطْلَقْن الإضراب وسهرْنَ على حُسْن سير الدّعاية والتنظيم والتّحْرِيض قبل بداية الإضراب وخلاله، وسخّر المناضل النقابي العمالي وليم سينتنر وقته وخبرته لإنجاح إضراب عاملات مصانع الجوز في سان لوي...

المراجع
Keona Ervin: Gateway to Equality: Black Women and the Struggle for Economic Justice in St. Louis - Kentucky Press - 2017 ( النساء السود والنضال من أجل العدالة الاقتصادية في سانت لويس- تأليف الب احثة "كيونا إرفين -)
WJohnson : The Broken Heart of America: St. Louis and the Violent History of the United
States - 2020 ( والتر جونسون: القلب المكسور لأمريكا: سانت لويس والتاريخ العنيف للولايات المتحدة - 2020 لولايات المتحدة)
جاك كونروي المحروم من الميراث - رواية 1933 – ( Jack Conroy The Disinherited – roman 1933 )
Myrna Fichtenbaum « The Funsten Nut Strike » 1992 ( إضراب مصنع فونستن للجوز )