نظرة في أصل المفاهيم: الحتمية التاريخية


حسين محمود التلاوي
2023 / 5 / 7 - 10:26     

الحتمية التاريخية مفهوم فلسفي يضرب بجذوره فيما يمكن القول إنه فجر الفلسفة الإنسانية؛ حيث يمكن إرجاع أصول المفهوم إلى أعمال الفلاسفة اليونانيين القدماء؛ مثل هيراقليطس وأرسطو. وفي العموم يرجع الفضل إلى "كارل ماركس" في نشر هذا المفهوم — الذي كان محل نقاش على نطاق واسع لعدة قرون — في الفلسفة الحديثة من خلال نظريته في المادية التاريخية. وفي هذا المقال، نمر في عجالة سريعة مفهوم الحتمية التاريخية؛ من حيث الدلالة، والتاريخ، والدور الذي لعبه في نظرية ماركس للتاريخ، مع إلقاء الضوء على أبرز الانتقادات التي وُجِّهَتْ إليها، وأصداء المفهوم في الفلسفات والثقافات المختلفة.

التعريف والأصول
الحتمية التاريخية مفهوم فلسفي يقول إن جميع الأحداث والظواهر في التاريخ محددة سلفًا بسلسلة من العوامل السببية؛ وهو ما يعني أن كل ما يحدث في التاريخ نتيجةٌ لسلسلة أحداث خارجة عن سيطرة الإنسان؛ أي أن الحتمية التاريخية تقول إن جميع الأحداث التاريخية محددة سلفًا وحتمية.
وكما قلنا في المقدمة، يمكن إرجاع أصول الحتمية التاريخية إلى أعمال الفلاسفة اليونانيين القدماء؛ فعلى سبيل المثال، اعتقد "هيراقليطس" أن كل شيء في الكون في حالة تغير مستمر، وأن التغيير هو الثابت الوحيد. بالمثل، جادل "أرسطو" بأن كل شيء في الكون له علاقة سبب ونتيجة. ويجادل الكثيرون بأن هذه الأفكار وضعت الأساس لمفهوم الحتمية التاريخية.

الحتمية التاريخية في نظرية ماركس للتاريخ
تُعَدُّ نظرية "كارل ماركس" عن المادية التاريخية أشهر مثال على الحتمية التاريخية في الفلسفة. وفقًا لماركس، يتحدد مسار التاريخ البشري من خلال الهياكل الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع، وقد جادل بأن الصراع بين الطبقة الحاكمة والطبقة العاملة يمثل القوة الدافعة الأساسية وراء التغيير التاريخي.
اعتقد "ماركس" أن الرأسمالية كانت مرحلة ضرورية في تاريخ البشرية، ولكن في النهاية سوف تُستبدَل بها الاشتراكية. كذلك جادل بأن التناقضات داخل الرأسمالية؛ مثل استغلال العمال، وتركيز الثروة، ستؤدي في النهاية إلى ثورة الطبقة العاملة؛ وهي الثورة التي سوف تؤدي إلى سقوط الرأسمالية، وإقامة مجتمع اشتراكي.

أوجه نقد
على الرغم من القبول الواسع لهذا المفهوم فقد تعرض للكثير من النقد من الفلاسفة والعلماء. ومن بين أبرز الانتقادات أنه يتجاهل دور الفاعلية البشرية في الأحداث التاريخية؛ ووفقًا لأصحاب هذا الانتقاد، تقترح الحتمية التاريخية أن البشر ليس لديهم سيطرة على مصيرهم، وأنهم مجرد مشاركين سلبيين في الأحداث التاريخية.
نقد آخر للحتمية التاريخية هو مبالغتها في تبسيط الطبيعة المعقدة للأحداث التاريخية؛ فيرى أصحاب هذا النقد أن الأحداث التاريخية لا تكون دائمًا نتيجة لعلاقة السبب والنتيجة البسيطة؛ فغالبًا ما تكون هناك عوامل متعددة تساهم في الأحداث التاريخية، وليس من السهل دائمًا تحديد هذه العوامل أو فهمها.

الحتمية التاريخية في الثقافات والفلسفات المختلفة
لعبت الحتمية التاريخية دورًا مهمًّا في العديد من الثقافات والفلسفات المختلفة؛ ففي الهندوسية والبوذية مثلًا يقترح مفهوم الكارما أن جميع الأفعال لها عواقب، وأن هذه العواقب محددة سلفًا.
بالإضافة إلى ذلك، احتلت الحتمية التاريخية مكانًا بارزًا في أعمال العديد من الفلاسفة؛ فعلى سبيل المثال، تقترح فلسفة التاريخ عند "هيجل" أن تطور الوعي البشري محدد سلفًا، وقد جادل "هيجل" بأن التاريخ هو عملية تحقيق الذات، وأن مسار التاريخ يتحدد من خلال تطور الوعي البشري.

خاتمة
في الختام، نقول إن الحتمية التاريخية مفهوم فلسفي يرى أن جميع الأحداث والظواهر في التاريخ محددة سلفًا بسلسلة من العوامل السببية. ويمكن إرجاع أصول المفهوم إلى الفلاسفة اليونانيين القدماء، إلا "كارل ماركس" من نشر الفكرة في العصر الحديث من خلال نظريته عن المادية التاريخية. وقد تعرض مفهوم الحتمية التاريخية للكثير من النقد، لكنه لا يزال يلعب دورًا مهمًّا في العديد من الثقافات والفلسفات المختلفة.