حوار أدبي وفكري مع الروائي حيدر حيدر


رياض كامل
2023 / 5 / 6 - 14:21     

حوار أدبي وفكري مع الروائي حيدر حيدر*
- ولدتَ زمن الانتداب الفرنسي، وشهدتَ تحوّلاتٍ داخلية وخارجية؛ سياسية واجتماعية وأدبية... كيف تمكنتَ، رغم كل هذه الظروف الصعبة، أن تتبع طريق الأدب؟ حدّثنا عن البدايات!
يوم خرج المحتلّ الفرنسي من سوريا كنتُ صغيراً. كان عمري عشر سنوات في الصف الخامس الابتدائي. أذكر أنّ الأستاذ زفّ لنا البشرى بفرح غامر. أصوات فرحة الطلاب دوّت في فضاء القسم وباحة المدرسة. عاشت سوريا واللعنة على فرنسا. كان يوماً سعيداً ومبهجاً عمّ القرية والمدن السورية من أقصاها إلى أقصاها. فرحتنا في المدرسة كانت مزدوجة؛ الأولى برحيل الانتداب، والثانية بخلاصنا من اللغة الفرنسية التي لم نكن نحبّها.
بعد رحيل المحتل الفرنسي استلمت القوى الوطنية السياسية دفة البلاد، وبدأت بتشكيل المؤسسات الدستورية بدءاً من رئاسة الجمهورية والوزراء والدستور والانتخابات والمجلس النيابي.
كانت هناك صراعات بين الأحزاب والاتجاهات المختلفة، أخذت في أحيان كثيرة طابع التناحر حول الأفق المستقبلي لتكوين شكل وكيفية بناء الدولة الخارجة من ظلام الاحتلال.
لم تكد سوريا تستقل من الاحتلال الفرنسي وتداوي جراحها حتى بدأت حرب فلسطين بدخول الجيوش العربية وجيش الإنقاذ عام 1948 إلى فلسطين لمواجهة العدو الصهيوني، والتي أسفرت عن النكبة الكبرى والهزيمة المخزية للجيوش العربية. في أعقاب الهزيمة بدأت الانقلابات العسكرية في سوريا في العام 1949 ولن تنتهي بانقلاب 1970سيئ الصيت.
في تلك الظروف الصعبة والاضطرابات كنت ما أزال في مرحلة الدراسة، في مدينة طرطوس بعيداً عن الهموم السياسية والالتزام سوى بالدراسة. وعيي العام بالأمور السياسية كان محدوداً، لكنّ الهزيمة في فلسطين شكلت جرحاً بالغاً في أعماقنا كطلاب، وخاصة حين كان مدرس اللغة العربية يحدثنا عن فلسطين وبداية العمل الفدائي لمواجهة المحتل الصهيوني المدعوم من الاستعمار البريطاني.
كنت في المدرسة من البارزين في مادة اللغة العربية، على عكس مادة الرياضيات التي كنت أعافها وأمقت حصتها. ومما أذكره أنّ مدرس اللغة العربية أعطانا ثلاثة أبيات من الشعر لكتابة نص إنشائي وتعبيري عن المغزى والدلالة في هذه الأبيات. البيتان الأولان كانا للشاعر "أبو العلاء المعري" هما:
ولو أني حُبيتُ الخلد فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا
فلا نزلت عليّ ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلاد
أما البيت الآخر فهو للشاعر " أبو فراس الحمداني":
مُعلِّلتي بالوصل والموت دونه إذا متُّ ظمآناً فلا نزل القطر
ثم شرح لنا بإيجاز، كيف نعالج الموضوع والفرق والتناقض بين الموقفين: الجماعي الغيري في بيتي أبي العلاء المعري، والموقف الفردي الأناني عند أبي فراس.
في الأسبوع الثاني قدّمنا، نحن طلاب الصف العاشر، نصوصنا. نوّه الأستاذ بعدة نصوص جيدة لكنّه تناول نصّاً من الأوراق المفرودة أمامه وقال: هناك نصّ مميّز ورائع سأقرأه عليكم وتلا النصّ. بعد أن انتهى سمّى التلميذ وكنت أنا. حدث الأمر في جوّ من الصمت والغرابة والغيرة والتعاطف والدهشة وبكائي فرحاً.
بعد الواقعة الغريبة قال الأستاذ: سأنشر هذا الموضوع في المجلة التي أكتب فيها في مدينة حلب. انفرد بي الأستاذ في فسحة الاستراحة وقال: لك هدية مني، كتاب لجبران خليل جبران بعنوان "الأجنحة المتكسرة والأرواح المتمردة"، لكنّ الأستاذ انتقل من مدرستنا قبل أن تصلني هديته.
التشجيع وشغفي باللغة حدا بي إلى المطالعة وبداية شراء كتب الروايات والقصص ذات الطابع العاطفي والرومانسي، حين يتيسّر الأمر مادياً، ونادراً ما يتيسّر جرّاء فقر الحال والراتب الضئيل والمحدود المخصص لنا كطلاب داخليين في المعهد التربوي الذي نحيا فيه.
أول كتاب اشتريته كان كتاب جبران الذي وعدني المدرّس به، بطبعة شعبية رخيصة، كانت صادرة في لبنان. وأوّل قصة حب رومانسية تجرأت على نشرها في مجلة حلبية كانت باسم "نورا"، أحسست بأنني أطير فرحاً حين قرأتها منشورة في المجلة، ومزهوّاً بالنشوة والفرح. أرسلتها إلى صديقتي، فكان أن وقعت في يد أهلها، حيث وضعوا الصديقة في غرفة العناية المشدّدة والرقابة الصارمة، ومنعوها من الاتصال بي. تلك كانت أوّل ضريبة أدفعها للشهرة الأدبية الملعونة والحمقاء.
بعد ذلك ابتدأت الرحلة الماراثونية والدروب الوعرة التي ستقودني إلى محيطات ولجج التهلكة ووعور الأدباء، بدءاً من جبران خليل جبران إلى "نجمة" كاتب ياسين، و"ثلاثية" محمد ديب، و"المصابيح الزرق" لحنا مينه. ثم تواصل الإبحار باتجاه غسان كنفاني "رجال في الشمس"، ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وطه حسين وإحسان عبد القدوس، ثم بدأت قافلة يحيي حقي ومحمود تيمور وآخرين من الكتّاب المترجمين إلى اللغة العربية كالفرنسيين، بدءاً من سارتر وكامو وفكتور هوغو وأندريه جيد وفرانسواز ساغان.
تلا ذلك ما كان يترجم من أعمال الكتاب والروائيين الأمريكيين: همنجواي وشتاينبك وفوكنر. تواصلت الرحلة عبر الكتّاب الروس: دوستويفسكي وتولستوي وتشيخوف وغوغول وبوشكين. ثم الألمان، قرأت بعض أعمال غوته الأولى، مثل "آلام الشاب فرتر"، وقصصا لكافكا وتوماس مان وهرمان هسّه. قسم منها كنت أستعيره من أصدقائي المثقفين الأكبر مني سنّاً، والقسم الآخر كنت أشتريه عن البسطة الرخيصة الثمن. وحتى الآن ما تزال القافلة تسير والشقاء الأدبي والثقافي يتواصل.

- كتبتَ القصة القصيرة والرواية، أيهما أقرب إلى ذاتك؟ وأين وجدك القارئُ أكثر، في القصة أم في الرواية؟
هناك قصص قصيرة حميمة إلى النفس كـ "حالة طلق"، و"غبار الطلع"، و"صمت النار"، "وصخرة الغرانيت"، و"الوعول"، و"رقصة البراري الوحشية". بنيتها الفنية والأسلوبية متماسكة، ولغتها كثيفة وموضوعها حارّ في المضمون والمعنى والدلالة.
من أقرب الروايات إلى نفسي "مرايا النار"، رواية حميمية وشفّافة، ولغتها مكثفة وشعرية. للمجاز الغامض فيها موقع أساسي، كما للخيال والغرابة بُعد سحريّ. كتبتها كما لو أنّني أرى حلماً سريالياً هبط عليّ من عالم نيزكي ملوّن.
أنا، كروائي، أقرب إلى ذائقة القارئ كما أعتقد، وتحديداً في "الزمن الموحش" و "وليمة لأعشاب البحر" و "الفهد". لماذا؟ أعرف قليلاً وأجهل كثيراً. وحده القارئ يجيب.

- ولدتَ في قرية حصين البحر القريبة من طرطوس، وانتسبت إلى معهد المعلمين التربوي في حلب وتخرجت منه، وعشت فترة من الزمن في دمشق... ماذا أعطتك القرية وماذا أعطتك المدينة؟
في القرية كانت التجربة محدودة ثقافياً، لكنّها كانت غنية ببعض الموضوعات التي كتبت عنها كقصة "حميمود" و"العكر" و"صخرة الغرانيت"، و"شجرة الكرز".
فترة الدراسة في حلب، داخل المعهد التربوي، جزء منها كان سياسياً وليس أدبياً. لم أكتب شيئاً هاماً سوى قصة "نورا" التجريبية والرومانسية التي لا قيمة فنية لها. في دمشق، عبر السنوات التي عشت فيها، بدأ النضج الثقافي يتنامى جراء وجود المؤسسات الثقافية، والمجلات والصحف والمكتبات، واللقاء مع المثقفين والحوارات والندوات، ووجود المسرح والسينما والمعارض الفنية. دمشق كانت المخبر والحاضنة الحارّة والأساسية لتجربتي الأدبية والثقافية.

- تبيّن لي من خلال دراسة قمتُ بها حول "نشأة الرواية العربية الحديثة في سوريا" أنّ الباحثين أولوا عناية أكبر للرواية المصرية مما أولوا للرواية الشامية السورية... هل كنتم ترون في الرواية المصرية أنت وزملاؤك الروائيون السوريون مثالا يحتذى بها؟ هل أثّرت فيكم تجربة نجيب محفوظ؟
هناك مقولة يرددها المثقفون العرب: القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، ودمشق تقرأ. هذا القول معقول بنسبة كبرى. الرواية المصرية كانت سبّاقة، كمّاً ونوعاً، عن بقيّة الأقطار العربية، رغم أنّ الكاتب السوريّ فرنسيس مراش بروايته "غابة الحق" سبق محمد حسين هيكل في رواية "زينب". كتبها مراش عام 1862 ونشرها بالمطبعة المارونية في حلب عام 1865، ثم طبعت فيما بعد في بيروت ومصر، كما كتب رواية أخرى هي: "لطائف السحر في سكان الزهرة والقمر"، طبعت في مصر في العام 1907. وهكذا يؤرخ خطأ للبدء بالرواية العربية "زينب" التي كتبت بين عامي 1910 ــ 1911، وظهرت طبعتها الأولى عام 1914.
موقع مصر في البلاد العربية له حق الصدارة حضارياً، منذ الفراعنة التي نقول عنها مجازاً: "مصر أم الدنيا". فهي سبقت معظم البلاد العربية حضارياً وثقافياً، بالإضافة إلى عدد السكان وتوافر نوع من الديمقراطية الثقافية والإعلامية، والانفتاح على الغرب وجامعاته، وانتشار مدرّسيه في مدارس وجامعات البلاد العربية، (بالمناسبة كان مدرسنا في المعهد لمادة العلوم مصريا).
هناك كلمة مأثورة لطه حسين، حين كان وكيلاً لوزارة المعارف، تحض على أولويّة التعليم قبل أيّ شيء آخر حيث قال: بالتعليم ستنهض مصر وترفع رايتها عالية بين الأمم. لذا لم يكن غريباً أن ينال نجيب محفوظ جائزة نوبل للرواية، فهو يستحقها بجدارة، ولا أظن، حتى تاريخ نيله الجائزة، أنّ هناك أيّ روائي عربي يستحق نوبل بدلاً عنه.
عن نفسي أقول إنّني قرأت روايات نجيب محفوظ، وأعجبت بها، ورأيت فيها علامة فارقة في تاريخ الرواية العربية، رغم مصريّتها وخصوصيتها التاريخية. إنما لا أعتقد أنني تأثرت بأسلوب محفوظ أو لغته الروائية أو النسيج العام والحبكة في صياغة عملي الأدبي فيما بعد.

- من يراقب الدراما السورية لا بدّ له من أن يرى مدى غضب السوري على المحتل الفرنسي... أنت عايشتَ هذه الفترة، هل أثّرت عليك؟ وهل كان لها انعكاس على كتاباتك الأدبية؟
لست ملمّاً بشكل عام بالدراما السورية التي عالجت موضوع الاحتلال الفرنسي لسورية، لكنّ بعض المسلسلات التي شاهدت بعضاً منها، مثل "باب الحارة" وتوابعها، عالجت الاحتلال بطريقة سطحيّة وشعبويّة أو تجاريّة. وربما كانت هناك نصوص درامية أخرى عالجت الموضوع بشكل جاد وعميق ومؤثر، لكنّني لم أشاهدها.
موضوع الاحتلال الفرنسي عاصرته صغيراً، وأنا في المرحلة الابتدائية، كما أسلفت سابقاً، ولم يكن في مجال اهتمامي الأدبي. إنما كان في مجال اهتمامي الأدبي المرحلة التي تلت رحيل الاحتلال، التي كان فيها الإقطاع وريث الاحتلال، أكثر قسوة وظلماً من الاحتلال نفسه، كما وضّحت في رواية "الفهد".
فيما بعد سيكون اهتمامي بالاحتلال الفرنسي للجزائر، من خلال روايتي "وليمة لأعشاب البحر". كذلك كان اهتمامي الأدبي واضحاً في موضوع الثورة الفلسطينية والاحتلال الصهيوني لفلسطين.
- حوربت روايتك "وليمة لأعشاب البحر"، وصودرت من بعض الأسواق... كم آلمك الأمر؟ ألا تعتقد أنّ ذلك قد ساهم في انتشارها؟ إلى أي مدى حدّت الرقابة في الدول العربية من تطور الفكر العربي، ومن الإبداع عامة؟ وكيف تعاملتَ مع هذه الرقابة؟ ألا ترى أنّ رقابة بعض المؤسسات والحركات أكثر صعوبة من رقابة الدولة؟
طبعت رواية "وليمة لأعشاب البحر" للمرة الأولى في قبرص على حسابي، وبمساعدة مكتب منظمة التحرير الفلسطينية الذي كنت أعمل فيه. أما الطبعة الثانية فكانت في لبنان، وبعدها في دمشق، وفيما بعد طبعت في مصر.
منعتها الرقابة، عدا لبنان، في جميع البلاد العربية، جرّاء التقرير المعادي الذي قدّمه أحد أعضاء الإخوان المسلمين وكفّر الرواية وكاتبها. ثم اشتعلت النيران أكثر على الطبعة المصرية الخاصة. بدا الأمر مؤلماً ومريراً بعد منعها من الرقابة، وبداية حرب الإسلاميين غير المقدسة ضدّها. المنع والتكفير ساهما في انتشارها، فقد قارنوها برواية سلمان رشدي "آيات شيطانية".
حين قرأها المثقفون التنويريون وكتبوا عنها، إضافة إلى النقد العقلاني الذي صدر في الصحف والمجلات والرسائل الجامعية حولها، اكتُشفت أهميتها الأدبية وقيمتها كعمل فني تعبيري بعيداً عن موضوع الإثارة والهيجان الديني المسعور.
الرقابة في بلاد العرب سيف مسنون ومعادٍ للأعمال الأدبية الجادّة والعميقة، والتي تكشف المستور والمسكوت عنه، خاصة في مجال الثالوث المحرم: الدين. الجنس. السياسة. جميع أعمالي الأدبية، عدا "حكايا النورس" و"الفهد" و"الومض" طبعت خارج سوريا في لبنان أو العراق.
ليست الرقابة الحكومية، وحدها، التي تحارب حرية التعبير. هناك المؤسّسة الاجتماعية المشبعة بروح التقليد والتراث المتخلف، الموروث منذ أكثر من ألف عام. وهذه المؤسّسات الدينيّة المتحجّرة تشكّل الوباء والفيروس المعادي لأيّ تعبير أدبيّ يدفع باتجاه النقد والتقدّم وروح العقل والتنوير.

- قلتَ: "أنا أراهن على القارئ، هو الذي أُقدم له عملي الأدبي، خصوصاً وأنّ هناك عددا من النقاد يطبّقون نفس النظريات النقدية على كل الأعمال الروائية، وليست لديهم الذائقة ليستنبطوا من كل عمل مميزاته الخاصة التي تختلف عن الأعمال الأخرى"... هل ما زلت تحمل نفس الرأي؟ ألستَ راضيا عما كتب عنك من أبحاث؟
حين قلت: أنا أراهن على القارئ، كنت أزيح الناقد المتعالي والفقيه الذي لا يُشق له غبار في تحويل النص الأدبي، تحت مجهره، إلى جثّة بحيث يشرح ما هو مشروح في النص، ويسرد الوقائع والأحداث المسرودة في النص، ويخبرنا كم هو ضليع في اكتشاف السيرة الذاتية للكاتب، وهيمنة الراوي على النص.
إذا استثنيت النقاد الجادّين، والذين كتبوا عن أعمالي رسائل جامعية كفؤاد عزام، ومحمد برادة، وعبد الرحمن أبو عوف، ورضوان قضماني، ومراد كاسوحة، ومحمود أمين العالم، وعلي نسر، وغادة عبد الله خليل، فإن الذائقة النقدية للآخرين تبدو قاصرة عن الإدراك العميق للرؤية الفنية والعمق النفسي لما أشار إليه الدكتور فؤاد عزام في البعد المجازي للأسلوب والسرد التحليلي للغة ذات الدلالة الحداثية. الكثيرون من أولئك النقاد لخّصوا العمل المُعطى، وكأن القارئ أمّي وقاصر عن إدراك ما يُقرأ.

- هل تسنى لك الاطلاع على الإنتاج العربي الفلسطيني؟ وهل أنتم مطّلعون بما يكفي على أدبنا وعلى ثقافتنا ودراساتنا؟ ما رأيك بدراسة الدكتور فؤاد عزام حول رواياتك؟
منذ أواسط الستينات وأنا منخرط في المناخ الفلسطينيّ، حتى حين كنت ضابطاً احتياطياً في الجيش، حيث استلمت سريّة فدائييّن، رغم أنني سوريّ. السرية كانت جزءاً من جيش التحرير الفلسطيني المرتبط بالجيش السوري في دمشق. كانت علاقاتي مع المثقّفين الفلسطينيين قوية ومميزة، ومن خلال هذه العلاقة تعرفت على الأدب الفلسطيني رواية وشعراً. عملت مع الشاعر يوسف الخطيب في مجلة "الطليعة"، التي كانت تنشر بعض الأعمال والدراسات الفلسطينية في دمشق. من خلال عملي مع المقاومة في الإعلام الموحد، ومحرّراً في وكالة وفا، وانتسابي إلى اتحاد الكتاب الفلسطينيين، تعرفت على الأدباء الفلسطينيين جميعاً، وعلى أعمالهم الأدبية والنقدية والفكرية، وفي المقدمة الأعمال الشعرية لمحمود درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زياد، ومعين بسيسو، وعز الدين المناصرة، وروايات غسان كنفاني، وأميل حبيبي، كما قرأت روايات يحيى يخلف، ورشاد أبو شاور، وحسن حميد، وكنت صديقاً لعدد من الكتاب والمثقفين الفلسطينيين، كمحمود درويش، وفيصل دراج، ويحيى يخلف، والمناصرة، وأبو شاور، من الذين تواجدوا مع المقاومة في بيروت. إذ شاركنا معاً، خلال حصار المقاومة في بيروت، في إصدار جريدة المعركة حتى خروج المقاومة من لبنان.
وبعد خروج المقاومة من بيروت سافرت إلى قبرص، وهناك تأسّست مجلة "البلاد" المهتمّة بالوضع الداخليّ في الأراضي المحتلة. وكنت مسؤولاً عن القسم الثقافي في المجلة، وبدأنا ننشر الكثير من الأعمال الأدبيّة والنقديّة، والقصص القصيرة لأدباء الداخل.
من خلال ما شرحت ترى أنّ علاقتي بفلسطين والأدب الفلسطيني لم تكن عابرة، بل عضوية وأساسية في حياتي حتى إن أصدقائي كانوا يسمونني بالفلسطيني أولاً ثم السوري ثانياً.
دراسة الدكتور فؤاد عزام كانت مفاجأتي المدهشة، للمرة الأولى تشير رسالة جامعية، وعلى نحو شمولي ومعرفي إلى أعمالي الأدبية، استناداً إلى النظريات النقدية الحديثة والعلوم الإنسانية.
ــ كشفت الرسالة أهمية البناء الروائي للشخصيات في الزمان والمكان، والبنية الداخلية، النفسية لهذه الشخصيات المأزومة، ونهايتها المهزومة، المؤسسة على صراع غير متكافئ بين سلطة قوية قمعية وشعب مظلوم منتهك، بهدف فضح هذه الأنظمة القمعيّة كما يشير الدكتور فؤاد في إشارته المهمة إلى السرد التخيلي والشعري والمجازي في الأسلوب واللغة ذات الدلالة الحداثية.
ــ المفارقة بين الرواية التقليدية /رواية الوصف الخارجي/ المعتمدة على رؤية العالم خارجياً، وإهمال العالم الداخلي والنفسي للشخصية، والذي يركز عليه الأديب حيدر حيدر لإنارة الأعماق المستورة والمحرمة.
ــ الإشارة إلى البعد الملحمي، كما نلمحه في "الفهد" ورواية " وليمة لأعشاب البحر".
ــ الالتزام الإيديولوجي والبناء الفني الحداثي في الحبكة الروائية، من خلال رؤية نقدية للعالم الذي تعيش فيه شخصيات رواياته.
أخيراً أحب أن أوجّه للدكتور فؤاد شكري الجزيل على جهده الرائع والشمولي والمعرفي.

- لا نستطيع أن نحاور الأديب حيدر حيدر في هذه الفترة بالذات، في ظل ما تمر به سوريا، دون أن نسأل ماذا ينتظرنا؟ ما هو حال المثقف اليوم؟ هل هناك من انفراج في الأفق؟
في بعض أعمالي الأدبية، وتحديداً في رواية "وليمة لأعشاب البحر"، وعبر حواراتي مع الآخرين، توقعت اندلاع الحروب الأهلية العربية ردّاً على صعود الدكتاتوريات العسكرية، وتحويل بلاد العرب عن مسار الديمقراطية الشعبية إلى مسار الدولة الأمنية والبوليسية، الطاغية والمهيمنة.
كان الأمل معقوداً على حروب أهلية لشعوب مقهورة ومذلّة ومهانة، لكننا فوجئنا بحروب دينية وطائفية، وبربيع عربيّ دمويّ وأسود في أقطار عربية كالجزائر وسوريا واليمن والعراق.
حدث انحراف بنيوي وتاريخي في مجرى الثورات، التي تحولت إلى مذابح وتدمير وتقسيم أهلي طائفي. حرفت الثورة الإيرانية، دينية الطابع، المسار الثوريّ الديمقراطي الشعبيّ، كما هو مفترض، نحو المسار الديني الطائفيّ، شيعة في مواجهة سنّة، كما حدث في اليمن والعراق وسوريا ولبنان. هذا الربيع الدموي والطائفيّ أدّى إلى تقسيم البلد الواحد، وتعميق روح الكراهية الطائفية، وترسيخ الضغينة في أعماق الشعب الواحد، معيدة التاريخ العربي إلى الوراء، إلى ما يزيد عن ألف عام، إبان الصراع بين الخليفة عليّ بن أبي طالب وعدوه معاوية بن أبي سفيان، في أعقاب مقتل الخليفة عثمان بن عفان. ما حدث كان أسوأ من تقسيم سايكس ــ بيكو سيّئ السمعة لبلاد العرب، وتسليم فلسطين إلى الصهاينة.
في سوريا مثلاً، إضافة إلى مجازر الإرهاب الإسلامي الوحشي المدعوم أميركياً وتركياً انقسمت البلاد وتجزأت، وتحوّلت إلى ما يشبه الولايات المسيطر عليها من قبل أميركا وتركيا والأكراد وإيران وروسيا.
حتى النظام في سوريا، المورّث أبدياً وطائفيا، ما عاد سيّد نفسه وقراره المستقل. وهو، بالإضافة إلى قمع معارضيه وهيمنة الدولة الأمنيّة، يواصل سياسة الإرهاب والسجن والتجويع والقمع، كما يعاني المواطنون من فقدان المواد الأساسية للحياة، كالخبز والبنزين والمازوت والكهرباء، إضافة إلى الغلاء، كما في السفر برلك العثماني، واستشراء الفساد في مفاصل الدولة جميعها، وسيطرة المافيات والسرقات والنهب، وظاهرة التسوّل وانتشار حوادث القتل والانتحار جرّاء الجوع والفاقة.
هذا هو حصاد الربيع العربي الذي ختمه العربان الأشاوس بما تبقّى لهم، وبيعهم بلدانهم إلى شايلوك في البازار التطبيعي الجديد.

- هل حدث تطوّر في الأسلوب بين الرواية العربية الواقعية والاجتماعية وبين الرواية الحديثة؟
في رأيي حدث تطور مهم وأساسي فيما ندعوه الرواية التعبيرية، الأكثر عمقاً في مشهد الزمن الذي ما عاد خطياً ومستمراً، بل صار متناوباً ومموّجاً عبر تيار الوعي، أو تيار الذاكرة.
كما حدث تطوّر في الكشف عن أعماق النفس اللاشعورية والدوافع الداخلية، كالأحلام والكوابيس والرؤى المحرّمة والمستورة في اللاوعي. هذه الدوافع والمكنونات لم تولِها الرواية الواقعية والتقليدية كبير الاهتمام.
في التعبيرية تمايزت اللغة والأسلوب والتخييل، وامتزاج الشعريّ بالملحميّ بالنفسيّ، مما يولّد نسيجاً جديداً لرؤية العالم على نحو شمولي أعمق، وهذا لم نكن نلمحه في الرواية الواقعية التي تعنى بالوصف والأحداث والوقائع اليومية الخارجية.

- بعد هذا العمر الحافل بالعطاء، هل نتوقع أن نرى ما هو جديد من الأديب حيدر حيدر؟ هل تعدّ لكتابة خلاصة تجربتك في الكتابة وفي الحياة عامة؟
قبل أشهر انتهيت من تجهيز يوميات الضوء والمنفى، وهي يومياتي منذ بدء حياتي الأدبية والثقافية. وهي الآن بحوزة دار ورد، كان من المفروض أن تكون قد طبعت، لكنّ الكورونا أخّرت الطباعة وحاربتنا كما لو أنها عدو جديد. بانتظار الفرج على المدى القريب وهو غير قريب على ما يبدو.

• نص الحوار الذي أجريته مع الروائي الراحل حيدر حيدر قبل وفاته بسنتين، وقد صدر ضمن كتابي "حوارات في الفكر والأدب"، الدار الأهلية، عمان، 2021.