صعود وهبوط الهوية القومية العربية في التاريخ المعاصر


غازي الصوراني
2023 / 5 / 5 - 09:11     


منذ مطلع القرن التاسع عشر انطوى المشروع المصري للنهضة بقيادة "محمد علي " على البعد العربي. ففي القرن التاسع عشر كان المشروع العربي ما زال جزءا من المسألة الشرقية _ كما يقول د.فؤاد مرسي_, "وعندما اتخذ لنفسه بعض القوام في النصف الثاني من القرن 19, كان سعيا للخلاص من السيطرة العثمانية الغاشمة, لكن المشروع العربي _في تلك المرحلة_ ظل دعوة غامضة للنهضة العربية في وجه كل من الاستبداد الشرقي والاستعمار الغربي ".
ومع الحرب العالمية الأولى ، تم تقسيم الوطن العربي بين القوى الامبريالية في الوقت الذي بدأ فيه طرح المشروع القومي، سواء من خلال تبلور الأقطار العربية وسعيها لنيل الاستقلال السياسي, أو من خلال مواجهة الخطر الاستيطاني الصهيوني لفلسطين، وظل الأمر كذلك حتى قامت الحرب العالمية الثانية وتزايد نشاط الحركات التحررية العربية الذي مهد لاعادة طرح المشروع القومي العربي من ناحية، و في المواجهة مع الغزوة الصهيونية والاستعمار من ناحية ثانية ، حيث بدأت تتخلق معالم البعد القومي في العديد من حركات التحرر العربية .وطوال أكثر من سبعين عاما مضت ، ظل المشروع القومي العربي مطروحا على الشعوب العربية بقوة ، سواء كان ذلك في فترات المد السابقة أو في فترات الجزر الحالية.
ولذلك قلنا أن الحرب العالمية الثانية قد أسفرت عن إعادة طرح المشروع القومي العربي بقوة وبخاصة بعد الفشل في صد الغزوة الصهيونية ومن ثم اغتصاب فلسطين وتشريد شعبها وقيام "دولة إسرائيل" . وفي هذه المرة أعيد طرح المشروع القومي العربي على مستويين، _كما يضيف د. فؤاد مرسي_ مستوى النظم ومستوى الشعوب، أما على مستوى النظم، فقد تبلورت قضية الاستقلال السياسي للأقطار العربية بالتفاهم مع الاستعمار في صورة قيام جامعة الدول العربية. وأما على مستوى الشعوب فقد انطلقت حركة التحرر الوطني العربية في مواجهة العدو الواحد أو المشترك ، وتجسدت نواة التوحيد القومي في مواجهة العدو الصهيوني الامبريالي المشترك على أرض فلسطين, وأصبح المشروع القومي العربي مشروعا للتوحيد القومي وليس مجرد مشروع للنهوض العربي, واستند هذه المرة إلى الثورة المصرية وقائدها "جمال عبد الناصر" وتحددت في النهاية معالمه المعاصرة بوصفه حركة للتحرر الوطني والتقدم الاجتماعي والتوحيد القومي .
وهكذا بينما شهدت الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين ازدهار هذا المشروع القومي العربي، فإنه قد انتكس منذ انهيار النظام الناصري في السبعينيات والى الآن.
وفي هذا السياق, نشير إلى أن المشروع القومي العربي, أصيب بهزيمتين فادحتين ، أما الأولى فهي هزيمة عسكرية أمام إسرائيل في عام 1967, أما الثانية فهي هزيمة سياسية تمثلت في إقرار مشروعية الوجود الصهيوني في فلسطين ووضع مبدأ الصلح المنفرد مع إسرائيل, بما يعني تصفية القضية الفلسطينية ولقد تم ذلك في اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978 وبعدها وصولاً إلى أوسلو ووادي عربه.
ففي ضوء التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي أصابت المجتمعات والأقطار العربية, غدت الأقطار العربية مجتمعات رأسمالية تابعة, حيث سيطرت عليها الفئات المالية والتجارية الكومبرادورية ذات الروابط الوثيقة برأس المال والتجارة العالميين, واتسعت هوة الفروق الاجتماعية الفاحشة واتخذت الأغلبية الساحقة من النظم العربية مكانها في صفوف الثورة المضادة ، التي جثمت بثقلها الأمني الاستبدادي الرهيب على أنفاس الشعوب العربية حتى الآن, وراكمت مزيداً من عوامل التبعية والتخلف والافقار والقهر.
ان هذا الواقع العربي, المهزوم والمأزوم, أثار _وما زال_ كثيراً من المرارة والرفض لدى الجماهير الشعبية الفقيرة عموماً, ولدى الأجيال الشابة التي فقدت - إلى درجة عالية- الثقة في قدرة ومصداقية القيادات القومية واليسارية وأحزابها على تحقيق الأهداف التحررية والمطلبية الديمقراطية ليس على الصعيد الوطني فحسب ، بل أيضاً على تحقيق المشروع القومي العربي ، بعد أن فقدت كلياً ثقتها في الأنظمة القائمة ، إلى درجة أن هذه الأجيال تتساءل اليوم عن هويتها، فمن نحن ؟ لكن يبدو أن استتباع وهزيمة النظام العربي ، والانتهازية المنتشرة –بهذه الدرجة أو تلك – في صفوف القوى اليسارية والقومية التي هبط وارتد بعضها عبر التصالح مع السلطة والأنظمة ، الأمر الذي دفع قسماً كبيراً من الأجيال الشابة إلى أن تتوجه بنظراتها إلى ملكوت السماوات، من خلال التحاقها بالحركات الدينية الأصولية التراثية –بدوافع واسباب اجتماعية واقتصادية بالدرجة الأولى- , دون ادراك منها أن العودة إلى التراث عموماً والجوانب السلبية المغرقة في سلفيتها خصوصاً قد تعني عندئذ استسلاما لهزيمة المشروع الوطني والمشروع القومي العربي معاً , لأن عملية تأكيد الذات هذه –عبر العودة إلى النصوص الجامدة في التراث السلفي - تُشكل نكوصاً إلى مواقع خلفية للاحتماء بها و الدفاع انطلاقاً منها, خاصة في ظل تزايد مظاهر التخلف والانحطاط والافقار في المجتمعات العربية، وخضوع النظام العربي للشروط الأمريكية/ الإسرائيلية ، الى جانب استمرار عجز وضعف وتراجع القوى الديمقراطية الوطنية واليسارية القومية عن التأثير في هذه الأجيال أو استقطابهم عبر ممارسات سياسية وجماهيرية نضالية تقوم بتعرية وفضح المصالح الطبقية باعتبارها السبب الرئيسي لما وصلت إليه أحوال مجتمعاتنا وشعوبنا، وكذلك عبر الاهتمام بقضايا الشباب ومستقبلهم ، وتوضيح طبيعة تطور العلاقة التاريخية في العصر الحديث, بين الإسلام السياسي و المدنية الحديثة كما طرحها في منتصف القرن التاسع عشر رفاعه الطهطاوي ، ثم محمد عبده و علي عبد الرازق وأحمد أمين ولطفي السيد وطه حسين في ثلاثينيات القرن العشرين في سياق المناخ الليبرالي العقلاني السائد آنذاك، ثم استعراض وتناول أسباب وأهداف نشوء حركة الاخوان المسلمين وظاهرة المد الأصولي الراهنة ، بما يوضح الفارق الخطير في العلاقة التاريخية بين الدين والمدنية الحديثة أو مفاهيم عصر النهضة كما تجلت في العقود الأولى من القرن العشرين, فبينما طرحت في الماضي بوصفها علاقة جدلية بين العقلانية والتنوير من ناحية وبين النزعات والتيارات الدينية من ناحية ثانية, فإنها طرحت من قبل حركة الاخوان المسلمين، وما زالت إلى الآن – في القرن الحادي والعشرين !!! - كعلاقة ميتافيزيقية من جانب واحد, و بينما طرحت في الماضي بوصفها تناقضاً غير عدائي يقوم على الحوار العقلاني والاستنارة الدينية , تطرح الآن بوصفها تناقضاً عدائياً لا يحل إلا بإلغاء أحد طرفيه, حيث تبدو العودة إلى السلفية أو الاصولية أو التراث اليوم -في أحد أوجهها- بمثابة صرخة احتجاج في وجه الغرب الأقوى منا حالياً و في هذه الحدود تصبح تلك الدعوة مجرد رد فعل أكثر منها فعلاً أصلياً, و تبدو كاحتجاج سلبي ضد الغرب يركز على بعث ما مضى و ليس على خلق جديد يواجه تحديات الحاضر و احتياجات المستقبل على قاعدة رفض ومقاومة الرأسمالية ونظامها الإمبريالي ، والانحياز الصريح للفقراء والكادحين من جهة والتحام النضال الوطني التحرري والديمقراطي في كل قطر عربي في إطار المشروع الاستنهاضي القومي الوحدوي التقدمي الكفيل وحده باجتثاث الوجود الصهيوني في بلادنا واستعادة فلسطين كلها كدولة ديمقراطية ، إلى جانب حل المسألة اليهودية في إطار المجتمع العربي الاشتراكي الموحد من جهة ثانية .
على أي حال ، ولكي نغلق الباب في وجه أي تفسير تشكيكي أو تكفيري أو انتهازي مغرض أو منافق ، ضد موقنا الموضوعي من مسألة التراث ، فإننا نقول بصراحة ووضوح ، إن موقفنا ينطلق من النظر والتعامل مع التراث باعتباره جزءاً من الثقافة العربية، و باعتبار الثقافة تطوراً من خلال تطور البشر أنفسهم, ما يعني أننا نستطيع التمييز بين نوعين من التراث ، النوع الأول هو التراث المحفوظ أو المخزون و ذلك هو التراث المتحفي, أما النوع الثاني فهو التراث الحي الذي يتواجد بشكل أو بآخر في الممارسات الحية للشعوب ، و ذلك هو التراث فعلاً . و في هذه الحدود فلا مشكلة هناك ، لكن المشكلة تبدأ حينما تبدأ المحاولة للتسوية أو الدمج الاحادي بين الهوية و التراث بحيث يصبح هو المكون الوحيد لها, وعندئذ فإن التراث يعمل "وكأنه كان في خزانة حديدية محكمة الإغلاق "و تصبح هذه القراءة السلفية للتراث قراءة لا تاريخية لا تفيد سوى التكرار, تكرار التراث نفسه, بل تتم عندئذ "قراءة المستقبل بواسطة الماضي و تصبح العملية هي رفض للواقع وهجرة إلى الماضي المتخيل و تخل عن المستقبل، وبالتالي افتقاد الاستقلال التاريخي أو العجز عن تحقيق هذا الاستقلال"، ما سيؤدي إلى تكريس أهداف ومصالح الشرائح الاجتماعية الطبقية في كل من النظام العربي الحاكم والمجتمعات العربية ، ومن ثم تكريس التبعية الإمبريالية ، وتجديد التخلف ، وتزايد مظاهر الفقر والمعاناة والاضطهاد للطبقات والشرائح الفقيرة في ظل انقسام طبقي حاد غير مسبوق في بشاعته بين أغنياء أو أثرياء مستغلين (بكسر الغين) وطفيليين لصوص وسفهاء وبين فقراء كادحين معدمين لا يجدون -في معظمهم- قوت يومهم وأولادهم ، كما لا يجد بعضهم مأوى له وعائلته سوى في المقابر !!!؟ .