الحركة الوطنية الفلسطينية


فهمي الكتوت
2023 / 5 / 3 - 20:43     

عنوان الكتاب الذي صدرحديثا عن (مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت العام 2022 ) للباحث والكاتب الفلسطيني والشخصية الوطنية المناضل عبد القادر ياسين، عن تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، يقع في (690) صفحة من القطع الكبير، ويأتي هذا الكتاب بعد أن صدر للكاتب أكثر من اربعين كتاباً وشارك في إصدار أكثر من خمسين كتاباً مع مؤلفين آخرين. قدم الكاتب هذا العمل التأريخي التحليلي الواسع لمسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية برؤية علمية ومنهجية جدلية للتطور التاريخي، كتاب مميز وبالغ الأهمية.
جاء هذا الكتاب ليتضمن مراحل النضال الوطني الفلسطيني، ولكل مرحلة سماتها الخاصة، اقتصاديا واجتماعيا، وبالتحولات التي شهدها الوطن العربي، بدءًا من تطور الحراك الوطني الفلسطيني تحت الاحتلال البريطاني لفلسطين حتى وقوع نكبة عام 1948؛ ثم مرحلة النضالات الاجتماعية والسياسية الغنية في فلسطين والمنطقة العربية، وصولًا إلى هزيمة عام 1967، وانطلاق العمل الفلسطيني في الخارج، قبل أن تغادر فصائل المقاومة الفلسطينية الأردن (1970-1971) إلى لبنان عقب الغزو الإسرائيلي عام (1982)؛ حيث انتقل مركز ثقل النضال الوطني الفلسطيني الى الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ وكان من ابرزها انتفاضة الحجارة (1987 - 1991) التي استثمرتها القيادة الفلسطينية المتنفذة ابشع استثمار، بدلا من البناء عليها لكنس الاحتلال، فانها انزلقت نحو نفق مظلم وتخندقت في الجانب الأخر من حركة التحرر الوطني الفلسطيني. وباتت تشكل خطرا يوازي الخطر الصهيوني على الشعب الفلسطيني.
يعتبر هذا الكتاب وثيقة هامة لطلاب العلم من الأجيال الشابة وللمناضلين والسياسيين عامة، للتعرف على الصفحات المشرقة لنضال الشعب العربي الفلسطيني، والمحطات التاريخية الزاخرة بالتضحيات، وفي ذات الوقت، التعرف على ضخامة المؤامرة التي تعرض لها الشعب الفلسطيني، ليس من الاعداء وحسب بل من قيادات فلسطينية وعربية على مدى أكثر من قرن من الزمان. من الصعب الاحاطة في كتاب كهذا في مقال حيث فرد الكاتب مساحات واسعة لتغطية ابرز مراحل النضال الوطني الفلسطيني، والتضحيات الفلسطينية. توقفت في مراجعتي هذه عند النكبة الفلسطينية وتداعياتها.
جاءت المعاهدة البريطانية - الأردنية الموقعة في عام 1946 مع إنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، لإعداد شـرقي الأردن من الناحية الدستورية والقانونية لاستيعاب التطورات اللاحقة في المنطقة، فقد عملت بريطانيا على دفع الحياة السـياسـية والاقتصادية والاجتماعية نحو إقامة دولة في شـرق الأردن تكون قادرة على احتواء الآثار الناجمة عن قيام الكيان الصهيوني في فلسطين. وقد أنفقت بريطانيا بسخاء لإنشاء جهاز عسكري يتمكن من الحفاظ على الأمن والاستقرار بعد إبعاد الفلسطينيين من أرضهم وانتقالهم إلى المملكة الأردنية الوليدة، وشكل الدعم الخارجي لموازنة شـرق الأردن أكثر من نصف الإيرادات، خاصة في مطلع العقد الرابع من القرن العشـرين، حيث وصلت نسبة التمويل الخارجي حوالي 75%، علما أن الدعم البريطاني للأردن لم يكن اقتصاديا بقدر ما كان سـياسـيا. فقد كتب السـير اليك كيركبرايد الوزير البريطاني المفوض في مذكراته: «إن أراضـي شـرق الأردن قد خصصت لتكون أراضـي احتياطية لتوطين العرب عندما يصبح الوطن القومي اليهودي في فلسطين حقيقة واقعة» (1) .
محددات النكبة وتداعياتها
القى الكاتب الضوء على محددات النكبة وتداعياتها، ووصف الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية لتفرد العدو الصهيوني بالشعب الفلسطيني في فترة حرجة؛ حين وقف الشعب الفلسطيني وحيدا في مواجهة العصابات الصهيونية المسلحة بين صدور قرار تقسیم فلسطين عن الجمعية العامة للأمم المتحدة (1947/11/29)، ودخول الجيوش العربية فلسطين (1948/5/15)، عدا عن المتطوعين العرب من (دول الطوق والعراق)، الذين جاءوا إلى فلسطين على مسؤوليتهم. ومن غير الممكن أن يتمكن الشعب الفلسطيني أن يُحبط الهجمة العسكرية الصهيونية المدعومة بأضخم ترسانة عسكرية غربية لوحده. ويؤشر الباحث على أسباب العجز بالنقاط التالية:
في مقدمتها اختلال ميزان القوى العسكري لمصلحة الصهيونية، وثانيها الأثر المعنوي السلبي الذي تركته معالجة الإعلام الرسمي العربي للمذابح التي نظمتها العصابات الصهيونية المسلحة، ضد بعض القرى الفلسطينية، وعلى الأخص دير ياسين وتمثل ثالث أسباب العجز بمحاباة الانتداب البريطاني للصهيونية في فلسطين، ورابعها التفكّك النسبي في الجبهة الداخلية الفلسطينية، وخامسها افتقار هذه الجبهة إلى الوضوح السياسي، أما سادس الأسباب، فلعله تمثل بانهيار الاقتصاد العربي الفلسطيني، بمجرد تسريح حكومة الانتداب البريطاني للعاملين في دوائرها، ومؤسساتها، وبعد أن اضطر معظم الورش والمحال العربية الفلسطينية إلى إغلاق أبوابه، تحت وطأة القتال الشرس الذي اندلع بين العصابات الصهيونية المسلحة، والمناضلين العرب الفلسطينيين.
بعد أقل من شهر واحد على دخول الجيوش العربية فلسطين، قبلت الدول العربية في (1948/6/11) عقد هدنة عسكرية مع الجانب الإسرائيلي، مدتها أربعة أسابيع.
قدَّم خلالها الوسيط الدولي، الكونت فولك برنادوت، مشروعه الذي قضى بتوحيد الجزء العربي من فلسطين مع شرق الأردن، على أن تقوم في الجزء الباقي من فلسطين دولة يهودية، ترتبط باتحاد فدرالي مع الدولة العربية المقترحة وأقر مجلس الأمن الدولي هذا المشروع في الرابع من تموز 1948.
بعد أربعة أسابيع من الهدنة؛ يصفها الكاتب بأنها لم تفد إلّا الطرف الإسرائيلي، حيث عزز الصهاينة تسليحهم وذخيرتهم وتنظيم صفوفهم وتعزيزها بمزيد من المقاتلين، بينما شحت الأسلحة والذخيرة في أيدي الجنود العرب، فاختل ميزان القوى لمصلحة العدو الصهيوني، ما أدى إلى تراجع القوات العربية وإخلائها المزيد من المدن والقرى، وأذعنت الدول العربية لهدنة ثانية في (7/18)، بينما أغفلها الجيش الإسرائيلي واندفع مخترقا صفوف القوات العربية، ولم يتوقف إلّا في 1949/1/8.
كما وقعت الحكومات العربية في رودس هدنة مع إسرائيل، بين (شباط وتموز 1949، بعد أن سلمت القوات العربية ما يربو على ثلاثة أرباع فلسطين، لقمة سائغة إلى الإسرائيليين، فأضاف الأخيرون نحو 6700 كلم إلى الأراضي التي كانت مخصصة للدولة اليهودية، بحسب قرار التقسيم) . وبذا اكتملت ملامح نكبة 1948 الفلسطينية. يتضح من ذلك أن دخول الجيوش العربية الى فلسطين كان لتسهيل اخلاء عدد من المدن الفلسطينية الواردة ضمن الدولة العربية الفلسطينية في قرار التقسيم، لصالح العدو، كما لم تدخل الجيوش العربية الارض الفلسطينية للقضاء على الدولة اليهودية كما ادعت، بل لاحتلال أراضي القسم العربي ومنع قيام دولة عربية مستقلة.
حيث أوضح الكاتب الى أن الجيوش العربية فقدت أراضي عربية فلسطينية، أكثر مما فقده المناضلون العرب الفلسطينيون أنفسهم، لمصلحة العصابات الصهيونية؛ فالجيوش العربية دخلت فلسطين، وفي حوزة العرب الفلسطينيين زهاء 82 %من مجموع أراضي فلسطين، وما إن وضعت الحرب العربية - الإسرائيلية الأولى أوزارها، حتى انقلب الوضع وغدا لدى الإسرائيليين نحو 78 % من تلك الأراضي، فيما لم يبق لدى العرب الفلسطينيين سوى نحو 22 % فقط من تلك الأراضي.
يفسر الكاتب إخفاق الجيوش العربية العسكري إلى جملة من الأمور، لعل أهمها:
- ميل ميزان القوى العسكري - كما وكيفا؛عددًا وعُدّة وتدريبًا؛
- عدم إلمام الجنود العرب بطبيعة الأرض التي يُقاتلون فيها، وعدم معرفة طرقها ومسالكها؛
جهل نسبة عالية من الجنود العرب بالهدف الذي يقاتلون في سبيله، وقد أفهمت القيادات السياسية أحد هذه الجيوش بأنه ذاهب إلى فلسطين للمناورة هناك، فيما اعتبرت قيادة سياسية عربية أخرى الحرب في فلسطين "مجرد نزهة"؛ - عجز الدول العربية عن توظيف المزايا الاستراتيجية العربية الموقع والحجم البشري)؛
القهر الطبقي البشع المتفشي في الجيوش العربية؛
- تنافر الجيوش العربية بعضها عن بعض في التشكيل والتنظيم والتدريب والتسليح؛
- قیام خمس قيادات عسكرية للجيوش العربية، في مقابل جيش إسرائيلي موحد، تابع لقيادة واحدة؛
- عدم استيعاب الجنود العرب استخدام الأسلحة التي بحوزتهم، على تواضعها؛
- تخلخل الجبهات الداخلية في الأقطار العربية، بفعل تفشي الفساد وغياب الديمقراطية أساسا؛
- إيلاء نسبة عالية من الضباط الوطنيين العرب قضاياهم القطرية الأولوية، في سلَّم اهتماماته؛
- فساد الأنظمة العربية وخضوع أغلبيتها للاستعمار؛
- الافتقار إلى الخطة العسكرية؛
- افتقاد جماهير الأقطار العربية النضج الثوري ما أعجز تلك الجماهير عن التأثير الملموس في الأحداث؛
هذا كله، بينما توهم الشعب العربي الفلسطيني بأن خروجه من مدنه وقراه، هو أمر مؤقت، ستحسمه الجيوش العربية، سريعا !
في هذا السـياق لا بد من اضافة سبب جوهري يتعلق بتواطؤ قيادات الجيوش العربية وخاصة الضابط البريطاني"جون غلوب" الذي كان يتولى قيادة الجيش العربي الأردني، ودوره المريب بسحب الكتيبة الأولى المرابطة في منطقتي (اللد والرملة ) لحماية المدينتين من أي عدوان صهيوني، إلى منطقة طوباس مساء الخميس 8 تموز عام 1948، أي قبل انتهاء مدة الهدنة بيوم واحد، في حين أن منطقة طوباس لم تكن ضمن مسؤولية الجيش العربي في تقسـيمات الجامعة العربية، وفي اليوم التالي، التاسع من تموز، انتهت الهدنة، واحتلت القوات الإسـرائيلية مدينتي اللد والرملة في 12 تموز عام 1947 بعد معارك عنيفة خاضتها القوة الفلسطينية المدافعة عن المدينتين، واستخدمت القوات المعادية الطائرات والمدرعات(2).
يقول عبدالله التل (قائد منطقة القدس) في هذا الصدد: «رأى جلوب أن هاتين المدينتين (اللد والرملة) صمدتا أمام هجمات اليهود المتكررة التي كانوا يشنونها يوميا في أيام الحرب الأولى، فلم يرق له الأمر، وصمم على إنهاء هذه المشكلة حالما تنشب المعركة الثانية، فرتب لتسليمها بسحب الكتيبة المتواجدة في المنطقة». وحول رغبة الإنكليز بتسليم منطقة اللد والرملة يورد التل أسبابا كثيرة، أهمها أن الإنكليز رأوا أنه لا يجوز أن يقتصـر عرض دولة «إسـرائيل» على خمس عشـرة كيلو مترا فقط، ويجب توسـيعها، وقد اختاروا مدينتي اللد والرملة لأنهما تبعدان عن تل أبيب نحو خمس عشـرة كيلومترا (3). وقد ذكر جلوب في كتابه «جندي مع العرب» حول قضـية الدفاع عن اللد والرملة: «منذ بداية الأعمال الحربية أخبرت الملك والحكومة أننا لا نستطيع التمسك باللد والرملة».
اجراءات الضم
رصد الكاتب الخطوات التي اقدم عليها رئيس الوزراء الأردني توفيق ابو الهدى، كتمهيد لإستيعاب اجراءات ضم الضفة الغربية، حيث ادخل ثلاثة وزراء فلسطينيين في حكومته في أيار 1949، هم روحي الخالدي (الخارجية) وخلوصي الخيري (التجارة والصناعة) وموسى ناصر (المواصلات). كما تم استحداث وزارة اللاجئين في 11 آب، وعين راغب النشاشيبي على رأسها، كما أصدرت حكومة توفيق أبو الهدى قانوناً إضافياً لقانون الجنسـية عام 1949 تضمن أنّ المقيمين في شـرقي الأردن، أو في المنطقة الغربية التي تدار من قبل المملكة ممن يحملون الجنسـية الفلسطينية يحوزون الجنسـية الأردنية تلقائياً، ويتمتعون بحقوق الأردنيين ويتحملون ما عليهم من واجبات. وقد تم ذلك قبل تنفيذ إجراءات ضم الضفة الغربية دستوريا وقانونيا للمملكة. كما أصدرت حكومة أبو الهدى قرارا بإلغاء التعامل بالجنيه الفلسطيني، واعتمدت الدينار الأردني وحدة النقد في ضفتي المملكة، ابتداء من الأول من كانون الثاني عام 1950، وأصدر رئيس الوزراء الأردني بيانا أكد فيه على رفع الحواجز بين الضفتين الشـرقية والغربية من المملكة الأردنية الهاشمية، وأعتبرت البلاد الواقعة في الضفة الغربية جزء من المملكة. وهكذا حل اسم الضفة الغربية محل اسم فلسطين، ثم أصدرت الحكومة قوانين ألغت بموجبها اسم فلسطين(4). وفي مطلع كانون الأول 1950جرى حل مجلس النواب الأردني بهدف اجراء انتخابات برلمانية جديدة لتشمل الضفتين في سبيل الإلحاق.
أجريت انتخابات نيابية في السابع من نيسان عام 1950. وقبل أسبوع من إجراء الانتخابات أعلنت حالة الطوارئ في أنحاء الضفة الغربية، ومنعت الاجتماعات والمهرجانات الانتخابية، وطوردت المعارضة الوطنية في مدن الضفة الغربية وقراها، وبثت حالة من الرعب بين المواطنين عبر الإعلان أن كل من يقاطع الانتخابات سـيسجن لمدة ستة أشهر، وجند المخاتير للضغط على الفلاحين لتزييف إرادتهم. ورغم ذلك قوطعت الانتخابات من غالبية الفلسطينيين في الضفة الغربية. وما إن أعلن المجلس النيابي قرار (الوحدة) في 24 من نيسان عام 1950 حتى أعلن وزير الدولة البريطاني في مجلس العموم بعد ثلاثة أيام الاعتراف بالضم، وسـريان أحكام معاهدة التحالف البريطانية - الأردنية لعام 1948 على الأراضـي التي ألحقت بالعرش الأردني جميعها، ثم عاد وأكد هذا الاعتراف بمذكرة موجهة إلى وزير الخارجية الأردني(5).
أشار الكاتب الى رفض عصبة التحرر الوطني الفلسطيني للضم. أود هنا أن اوضح أن الرفض لم يكن ضد مبدأ وحدة الضفتين؛ بل انطلاقا من مبدأ الحفاظ على الهوية الوطنية الفلسطينية، والتمسك بحق الفلسطينيين بإقامة دولتهم الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، والجزء الذي احتلته «إسـرائيل». وإن ضم الضفة الغربية وإلغاء الهوية الفلسطينية كان يعني التخلي حتى عن الأراضـي الفلسطينية التي تضمنها قرار التقسـيم (عكا وقضائها ويافا واللد والرملة، والناصرة وقضاء الجليل).
ولم تكتف عصبة التحرر الوطني الفلسطيني بالرفض، بل تصدت لإجراءات الضم(6)، ونظمت مظاهرة شعبية حاشدة ترأسها أحد قادتها، القائد النقابي والشخصـية الوطنية موسى قويدر، في 31 من آذار عام 1950 في مدينة نابلس لمقاومة إلحاق الضفة الغربية، وذلك تعبيرا عن تصميم الشعب الفلسطيني على تنفيذ قرار هيئة الأمم المتحدة. وقد عزز موقفها مقاطعة أكثرية الشعب الفلسطيني لمؤامرة الانتخابات، على الرغم من التهديد والإرهاب والتضليل. وقوبلت المظاهرة بعنف من عساكر كلوب والأجهزة الأمنية، إذ بلغت الوحشـية والشـراسة حدّ أن ساقت قوات الأمن شخصـيات قيادية وراء الخيل إلى عمان، حين توقف الجنود ليسقوا خيولهم في وادي الباذان على مداخل مدينة نابلس. وشـرب المعتقلون من مياه الوادي، وبسبب الضـرب الشديد والقسوة في المعاملة والإرهاق استشهد المناضل روحي زيد الكيلاني، كما تعرض رضوان الحلو للإعياء الشديد، وكان المشهد على مرأى المواطنين، ما دفع العسكر لإحضار سـيارات لنقل المعتقلين إلى عمان.
قامت عساكر كلوب بارتكاب جرائم وحشـية أخرى بحق أهالي بلدة (سلفيت) والقرى المجاورة لها، وساقت كثيراً منهم إلى السجون والمعتقلات التي فتحت أبوابها في مناطق متعددة من شـرقي الأردن، وزجّت بمئات المعتقلين من الشعبين الأردني والفلسطيني فيها بهدف تمرير مسـرحية الانتخابات النيابية.
أصدرت اللجنة المركزية لعصبة التحرر الفلسطيني بياناً جاء فيه: «إن المستعمرين الأميركيين والإنكليز بالتآمر مع الحكومات العربية ومع زعماء فلسطين العرب ومع قيادة الحركة الصهيونية قد تمكنوا من منع تنفيذ قرار هيئة الأمم المتحدة الصادر في 29 من تشـرين الثاني عام 1947، وقد سحق استقلال الشعب الفلسطيني، ومزق وطنه إلى ثلاثة أجزاء، وشـرد منه نحو ثلاثة أرباع مليون شخص. وقد استطاع الاستعمار البريطاني أن يحتفظ بسـيطرته على جزء من أراضـي الدولة العربية الفلسطينية، وهو الجزء الذي ألحقه قسـرا بشـرق الأردن، فاللجنة المركزية لعصبة التحرر الوطني ترى أن هذا الجزء من القسم العربي الفلسطيني مع شـرق الأردن أصبحا يكونان دولة واحدة، وأن هذه الدولة خاضعة خضوعا تاما لسـيطرة الاستعمار البريطاني، إذ على الرغم من الاستقلال الصوري الذي منحه الاستعمار البريطاني لشـرق الأردن بعد الحرب العالمية الثانية، فإن سـيطرته بقيت كما هي ولم تمس قط، وقد جعلت المعاهدة العسكرية شـرقي الأردن قاعدة عسكرية بعد أن ألحق الاستعمار البريطاني هذا الجزء من الدولة العربية، وأصبح الشعب العربي الفلسطيني والشعب العربي الأردني يرزحان تحت نير العدو المشترك، وهو الاستعمار البريطاني، ونير حلفائه الإقطاعيين. لقد كانت قضـية الشعب العربي الفلسطيني ولا تزال قضـية نضال ضد الاستعمار، ومن أجل التحرر الوطني والديمقراطية، وهي قضـية الشعب الأردني في شـرقي الأردن. ولكي يستطيع الشعبان مواصلة النضال من أجل تحقيق هدفهما في التحرر الوطني والانعتاق ينبغي لهما أن يوحدا نضالهما ضد عدوهما المشترك«(7).

تتبع الباحث ولادة الاحزاب الأردنية في بداية الخمسينات (الحزب الشيوعي الأردني، حزب البعث العربي الاشتراكي، الحزب الوطني الاشتراكي، حركة القوميين العرب، حزب التحرير اضافة الى جماعة الاخوان المسلمين، وغيرها من الاحزاب الهامشية) وتناول دور الحركة الوطنية الأردنية، وهجومها على النفوذ البريطاني، وتجليات وحدة نضال الشعبين الأردني والفلسطيني، خلال الانتخابات النيابية الثانية التي شاركت فيها الأحزاب السياسية والقوى الوطنية بمختلف اطيافها.
بدأت تتشكل مرحلة جديدة في البلاد بتشكل مجتمع أردني فلسطيني جديد من الناحية السكانية. كما برزت للمرحلة الجديدة مشاكلها وتحدياتها، ومن أبرز التحديات الظروف البائسة للاجئين الفلسطينيين في الضفتين، ومخيمات للاجئين، وانتشار البطالة، وعدم توافر الحاجيات الأساسـية كالمدارس والخدمات الصحية الأساسـية. إضافة إلى تراجع الأوضاع المعيشـية للأهالي في مدن الضفة الغربية عقب النكبة، إذ فقدت الضفة الغربية قسما مهماً من مواردها الاقتصادية بسبب احتلال الجزء الأكبر من فلسطين. فقد كانت الضفة الغربية تؤمن جزءاَ كبيراً من احتياجاتها من المناطق التي احتلت في فلسطين، وعن طريق موانئها ومرافقها العامة، وباحتلالها قطعت الصلات والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية بين الناس. كما فقد العمال والموظفون في المؤسسات الرسمية والموانئ ومصفاة البترول في حيفا أعمالهم، إضافة إلى العمال الزراعيين والفلاحين الذين كانوا يعملون في قطاع الزراعة الذي يشكل مصدراً أساسـياً لأرزاقهم، كما أن مصادر بعض الخدمات المتعلقة بالمياه والكهرباء لمناطق القدس ورام الله وبيت لحم كانت من الجزء الذي احتل من فلسطين في حرب 1948. أما قرى مناطق الحدود فلم تفقد جزءاً كبيراً من أراضـيها وأملاكها وحسب، بل أضحى قسم كبير من أهالي هذه القرى دون مصدر رزق ودون وسـيلة عمل. إذ إن أكثر من 38% من أراضـي مناطق الحدود أصبحت مدخلا لـــ «إسـرائيل» نتيجة خطوط الهدنة بين الأردن والكيان الصهيوني عام 1949(8).
ارتفع عدد سكان المملكة الاردنية من 465 الف نسمة عشية حرب 1948م، الى نحو 1.370 نسمة بعد ضم الضفة الغربية، منهم نحو 800 الف في الضفة الغربية. كان طبيعيًا أن توجّه السيطرة الاستعمارية الاقتصاد الأردني نحو خدمة أغراضها الاستراتيجية، بصورة أساسية، وانهالت المساعدات والهبات المالية من الدول الإمبريالية، أنفقت معظمها على الإدارة والجيش وأجهزة القمع والمشاريع غير الإنتاجية، وبعد الغاء المعاهدة البريطانية – الأردنية في اذار1957 احتلت الولايات المتحدة المركز الأول في تقديم المساعدات للأردن. قبل أن تتدفق المساعدات العربية بعد وقوع الضفة الغربية في قبضة الاحتلال الصهيوني في حزيران 1967.
التصدي للمشاريع الاستعمارية
على الصعيد السـياسـي بدأت مرحلة جديدة على مستوى الإقليم بجر الأردن إلى أحلاف عسكرية، ومحاولة فرض سـياسة التوطين وإنهاء حالة الصـراع مع الكيان الصهيوني، وقد أخذت هذه السـياسات أشكالا متعددة، وما نشهده في هذه الأيام من صـراع مرير مع الإمبريالية والصهيونية بهدف تصفية القضـية الفلسطينية قد بدأ منذ أوائل العقد الخامس من القرن الماضـي، أما الخطوة الأكثر استفزازا فتمثلت بمحاولة تشكيل فرع لاتحاد شمال الأطلسـي باسم قيادة الشـرق الأوسط، وهو مشـروع الدفاع المشترك الأميركي-الإنكليزي-الفرنسـي-التركي، متضمنا إقامة الصلح بين الحكومات العربية و«إسـرائيل». ومكافأة العدو الصهيوني بعد اغتصاب فلسطين وتشـريد أهلها. ومع فشل مشـروع الدفاع المشترك لم تتوقف المحاولات الأميركية، فقد توالت المشاريع الاستعمارية على المنطقة العربية، والاتفاقيات الثنائية، وشهد الأردن والوطن العربي سلسلة من المشاريع الاستعمارية التي استهدفت النيل من الاستقلال الوطني للبلدان العربية.
كما فضح الكاتب ما ورد في (البيان الثلاثي) الصادر عن الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في 25 أيار عام 1950 الذي شدد على ضرورة الاحتفاظ بمستوى معين من القوات المسلحة لكل من إسرائيل والدول العربية، وأعلنت الدول الثلاث التزامها بذلك، من أجل إعادة توطيد أركان السلم والمحافظة على السلام في هذه المنطقة. وتعهدت هذه الدول بردع كل دولة في المنطقة تحاول أن تستعدي على الحدود، أو خطوط الهدنة لدولة أخرى. أي تجميد الصـراع العربي الإسـرائيلي، وتسليح دول المنطقة لحفظ أمنها الداخلي. وقد رفضت الجامعة العربية البيان في حين لم تنس اللجنة السياسية للجامعة التذكير بما سبق أن كررته الحكومات العربية عن نيَّات العرب السلمية. واهتمت اللجنة بتبرئة الدول الاستعمارية الثلاث التي لم تقصد من تصريحها محاباة إسرائيل، أو الضغط على الدول العربية، لتدخل في مفاوضات مع إسرائيل.
بعد فشل مشـروع قيادة الدفاع عن الشـرق الأوسط اقترح ونستون تشـرشل، رئيس وزراء بريطانيا، حلفاً آخر عرف باسم (منظمة الدفاع عن الشـرق الأوسط)، وذلك أثناء زيارة قام بها إلى الولايات المتحدة الأميركية في 14 من كانون الثاني عام 1952، وقد تشكل هذا الحلف في أيلول من العام نفسه من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وتركيا واستراليا ونيوزلندا واتحاد جنوب أفريقيا، أما الدول العربية فقد قابلت هذا المشـروع بحذر شديد مع أنها المستهدفة به، وقد فكر بعضها في الانضمام إليه وفق شـروط محددة مثل مصـر التي اشترطت إمدادها بالمعونات العسكرية والاقتصادية، لكنها لم تنجح في مسعاها ففشل المشـروع (9).
توقف الكاتب عند محاولات جر الأردن الى الاحلاف، وفي اطار السعي الحثيث لضم الأردن إلى حلف بغداد، حيث أشار الى التحركات المريبة التي جرت لإقناع الأردن على المشاركة في الحلف… زار جلال بایار، رئيس الجمهورية التركية، ووزير خارجيته فطین ،زورلو ،الأردن بين 2 و 1955/11/8، حيث استقبلا، رسميًا، استقبالا حافلا أما الشعب فأغلق الحوانيت وسيّر المظاهرات الصامته احتجاجًا على هذه الزيارة وتبعهما الجنرال البريطاني، سفاح الملايو، سير جيرالد تمبلر (Sir Gerald WRobert Templer في الشهر التالي. وكان : نصيبهم . جميعا الاستقبال بالمظاهرات والإضراب العام. واضطرت حكومة سعيد المفتي إلى الاستقالة، عقب زيارة تمبلر مباشرة (1955/12/14) ، بعد استقالة الوزراء الأربعة الذين كلفوا بوضع صيغة رد حكومة الأردن على العرض البريطاني بدخول الأردن «حلف بغداد». كما أجبرت المظاهرات الدامية هزاع المجالي، خَلَف المفتي، على تقديم استقالة وزارته، بعد ستة أيام من توليها مهماتها. فعاجل الملك حسين مجلس النواب بالحل (1955/12/21)، إلّا أن عددا من النواب اعترض على أساس أن حل المجلس لم يكن دستوريًا. وفي 4 كانون الثاني 1956، أصدر المجلس العالي قراره الذي قضى بأن الإرادة الملكية بحل المجلس النيابي لم تستوف شروطها الدستورية. وأعيد العمل بالمجلس النيابي إياه. وبعد أن تفجرت البلاد بالمظاهرات الشعبية سارعت حكومة إبراهيم هاشم إلى تقديم استقالتها، لتخلفها حكومة سمير الرفاعي (1956/1/9) التي ضربت بيد من حديد حركة الجماهير وقواها المنظمة، وإن نفت حكومة الرفاعي في بيانها الوزاري ميلها إلى الارتباط بأي حلف.
تسارعت الأحداث، مُسجّلة المزيد من النجاحات للحركة الوطنية. وفي الأول من آذار 1956 ، عمد الملك حسين - تحت تأثير الضباط الوطنيين والحركة الوطنية - إلى تنحية الجنرال البريطاني ،غلوب قائد الجيش، ونحى معه غالبية الضباط البريطانيين في الجيش الأردني.

اول حكومة حزبية نيابية في تاريخ الأردن
هيأت الظروف المحلية والعربية بروز حركة وطنية أردنية فاعلة في خمسينات القرن الماضي، شكل النهوض الوطني المعادي للهيمنة البريطانية، والنضال ضد القيادة البريطانية للجيش الأردني، وإنهاء المعاهدة البريطانية حوافز قوية لالتفاف الجماهير الشعبية حول الحركة الوطنية الأردنية، بهدف التخلص من النفوذ الاستعماري البريطاني في الأردن، الذي يعدّ المسؤول الأول عن نكبة فلسطين، حيث كان لهذا المناخ السياسي اثر ملموس في نتائج الانتخابات النيابية التي جرت في 21 تشرين الأول 1956.
وفي معرض حديث الكاتب حول الانتخابات النيابية؛ اشار الى أن (الأحزاب الوطنية تكتلت والتقت في جبهة متحدة، ووحدت شعاراتها وسياستها في الخطوط العريضة للإصلاح الداخلي والسياسة الخارجية، وكادت هذه الجبهة تنجح، نجاحًا ساحقا، لولا الاختلاف بين البعث وباقي الأحزاب الوطنية، على توزيع المقاعد؛ ما أدى إلى خروج البعث من الجبهة ومهاجمتها). ليسمح لي صديقي عبد القادر ياسين توضيح ما يلى؛ لم يشارك حزب البعث والأحزاب الوطنية والقومية في الجبهة الوطنية التي شكلها الحزب الشيوعي عشية الانتخابات النيابية عام 1954، مع طيف واسع من الشخصيات الوطنية بقيادة عبد الرحمن شقير الذي انشق عن حزب البعث بسبب رفضه المشاركة في الجبهة، لكن ما جرى عشية انتخابات 1956؛ تبلور ائتلاف معارض لا تحكمه لوائح أو مواثيق مكتوبة، ولكن تجمعه مطالب موحدة وتحركات نيابية وشعبية مشتركة بين الحين والأخر، يقوده رؤساء أحزاب المعارضة أو ممثلوهم مع بعض الشخصـيات الوطنية المستقلة، وشارك في هذا الائتلاف الوطني أحزاب: البعث العربي الاشتراكي، والحزب الوطني الاشتراكي، وحركة القوميين العرب، والحزب الشـيوعي، والجبهة الوطنية، وبعض الشخصـيات الوطنية المستقلة(10).
اما النقطة الثانية تتعلق في اشارة الباحث؛ (انصبت دعاية الاحزاب الانتخابية على السياسة الخارجية) علما أن برنامج الجبهة الوطنية تمحور حول الوضع الداخلي مع عدم اغفال الجانب الخارجي. فقد ركز برنامج الجبهة على إلغاء المعاهدة الأردنية البريطانية، وإلغاء النقطة الرابعة، وحول الحريات العامة وحقوق المواطنين، وعلى ضـرورة إلغاء القوانين الاستثنائية وخاصة قانون الدفاع، والاهتمام بمتطلباتهم المعيشـية والخدماتية. ودعت الجبهة إلى سن قانون انتخاب ديمقراطي يلغي العشائرية والطائفية، ويكفل نزاهة الانتخابات وعدم التدخل فيها، وإلى إنهاض الاقتصاد الوطني وتحريره من الهيمنة الاستعمارية، ومكافحة الغلاء وارتفاع الأسعار والاحتكار، كما أبدت الجبهة اهتماما كبيرا بمصالح العمال والفلاحين فهم يشكلون الطبقات الأكثر فقرا. وعكس البرنامج اهتمامه بالتعليم والصحة والثقافة. وهنا لا بد من التنويه أن الحزب الشـيوعي والجبهة كانا من أوائل القوى الأردنية التي اهتمت بالمرأة ودعت إلى اتخاذ السبل الكفيلة بنيل حقوقها.على الصعيد الخارجي دعت الجبهة إلى التعاون مع الشعوب العربية لتحرير الوطن العربي من الاستعمار، وفي سبيل استكمال السـيادة والوحدة. وأشار البرنامج الانتخابي للجبهة إلى العلاقة بين كفاح العرب وكفاح باقي الشعوب المناضلة ضد الاستعمار، وأكدت بشكل واضح على ضـرورة قيام حكومة تسـير بالأردن مع قافلة البلدان المتحررة، وفي مقدمتها مصـر وسوريا، وعدّ البرنامج «إسـرائيل» التي أقامها الاستعمار بأساليب البطش والعدوان لتخدم مصالحه دولة غير شـرعية ، لذا لا صلح معها. ودعا البرنامج إلى العمل على عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم واسترداد حقوقهم كاملة في فلسطين. ومقاومة مشاريع التوطين والإسكان، سواء أكانت فردية أم جماعية.
وقد جاء تشكيل الجبهة الوطنية من الشخصـيات الوطنية التقدمية وبمشاركة الحزب الشـيوعي الأردني، بعد أن تبددت الآمال بمشاركة حزب البعث العربي الاشتراكي. يقول بهجت أبو غربية في مذكراته: «التقيت مع ممثلي الحزب الشـيوعي فهمي السلفيتي وفائق وراد في بيت حسن النابلسـي في عمان، وكانا مختفيين عن أنظار السلطة، وقد تخلف عن اللقاء عبدالله الريماوي، فمثلت حزب البعث وحدي، وكنت مزودا برأي الحزب. وعند بدء الحوار الذي استمر ساعات عدة طرح فهمي السلفيتي وجهة نظر الحزب الشـيوعي، مبينا أهمية وضـرورة قيام الجبهة الوطنية، وأكد على أن نجاحها يتوقف على اشتراك حزب البعث فيها. فشـرحت وجهة نظر حزبنا الذي لا يوافق على الصـيغة الوحدوية والقيادة الموحدة الدائمة التي يصـر عليها الحزب الشـيوعي، وأن البديل الذي نطرحه هو التنسـيق الميداني بين الحزبين وأي حزب آخر، وأي شخصـيات وطنية مستقلة تلتقي حول موقف معين، لأن حزب البعث حديث التشكيل، ويحتاج فترة زمنية ليتعرف الشعب على هويته وحقيقة مبادئه وأهدافه القومية. وفي ضوء ذلك انسحب الدكتور عبد الرحمن شقير من حزب البعث العربي الاشتراكي احتجاجا على رفض البعث المشاركة في التحالف مع الشـيوعيين، وانضم إلى الجبهة الوطنية، وأصبح قائدها لاحقا.



المشهد الأخير لحكومة النابلسي
أشار الكاتب الى أن أزمة حكومة النابلسي لم تكن وليدة يومها، بل كانت متوقعة منذ أعلنت الحكومة عن عزمها على إلغاء المعاهدة البريطانية – الأردنية. وسبقت هذه الأزمة بوادر ملموسة، برفض نظرية «الفراغ» الأمريكية، ونفي وجود خطر شيوعي يهدد البلاد. ما دفع القصر الأردني وأنصاره إلى إثارة قضية النشاط الشيوعي وضرورة مكافحته، بعد ما أرسل رسالته الشهيرة إلى النابلسي في (2/3/1957) ، طالبه فيها بالحد من النشاط الهدام» في البلاد. لم يدم صمت حكومة النابلسي طويلًا؛ إذ وقف بعدها، متهما الولايات المتحدة، صراحة، بأنها تتدخل في شؤون الأردن الداخلية. وكشف النقاب عن الضغط الاستعماري الذي تتعرض له حكومته لحملها على الانفصال عن السياسة العربية التحررية التي تنتهجها مصر وسورية. وتوالت الأحداث واستفحلت الأزمة.
أثارت الأزمة الأردنية نقاشا حادا حول تطبيق مشـروع آيزنهاور من عدمه، غير أن الرئيس آيزنهاور ووزير خارجيته دالاس لم ينتظرا نهاية هذا النقاش، إذ أعلنا بأن استقلال وأمن الأردن حيويان بالنسبة للأمن الأميركي، وأصدر آيزنهاور أمراً إلى الأسطول الأميركي بالتوجه إلى شـرق البحر المتوسط، وأشار دالاس إلى أن عملا قد اتخذ لصالح الأردن للتصدي لخطر الشـيوعية الدولية ولدعم نظام حكم الملك حسـين.
من جهة اخرى يقول عبد الرحمن شقير(11): من أهم أسباب التوتر الصورة المشوهة التي كانت تنقلها بعض العناصـر المشاركة في الوزارة والمحسوبة على القصـر، والتي تتمثل في أن نضال المعارضة، لا سـيما الجبهة الوطنية والشـيوعيون، ألبس تهمة الرغبة في الإطاحة بالحكم الملكي، في حين كانت المعارضة خالية الذهن تماما من التصدي للقصـر أو معارضته. وكان كل همها التصميم على المحافظة على الحكم الوطني الديمقراطي وعلى الدستور والمكتسبات الديمقراطية، والابتعاد كليا عن الأحلاف الأجنبية وعن شـرك مبدأ آيزنهاور.
لم يكتب لهذا الانتصار أن يحقق أهدافه، فقد تسارعت الأحداث. ووجه الملك رسالة إذاعية إلى رئيس الوزراء يعجب فيها من تأييد الحكومة للشـيوعيين ويندد بأعمالهم ويشكك بأهدافهم، وطالب بإلغاء رخصة جريدة «الجماهير» التي يصدرها الحزب الشـيوعي واشتد الخلاف بين الحكم والحكومة، حيث أعلن النابلسـي بأنه لا يوجد أي خطر شـيوعي في الأردن. على إثر ذلك استدعى رئيس الوزراء القيادي الشيوعي عيسى مدانات لزيارته في مكتبه بالرئاسة، لإبلاغ قيادة الحزب الشـيوعي بوقف إصدار جريدة الحزب «الجماهير»، فالرئيس وحكومته، لا يمكن أن يقْدِموا على إصدار قرار بتعطيل صدور الجريدة، ولكنه يناشد الحزب الشـيوعي أن تتخذ قيادته نفسها قراراً بوقف إصدارها تجنباً لفتح معركة جانبية تصـرف الانتباه عن التركيز على الموضوع الرئيسـي الذي نحن بصدده، وهو العمل على إلغاء المعاهدة البريطانية التي تكبل الاستقلال الوطني لبلدنا. رفض مدانات وقف اصدار الجريدة، وهي مكرسة لمساعدة الحكومة الوطنية والشعب في النضال المشترك من أجل إلغاء المعاهدة وتحقيق التحرر الوطني، وبعد التشاور مع الأمين العام للحزب فؤاد نصار ومع أعضاء هيئة تحرير الجريدة ، كان رد الحزب بأن الاستجابة لمثل هذا الطلب سـيكون بداية لإرباك الحكومة، وعرقلة عملها في المعركة لإلغاء المعاهدة، وستتتالى الضغوط حتى تفقد الحكومة ثقة الشعب بها وتنهار أخيراً من تلقاء نفسها. وتم الاتفاق على تكليف حليفي الحزب د. عبد الرحمن شقير والمحامي يحيى حمودة، للقاء رئيس الوزراء، لكنهم لم يخرجوا بنتيجة، فاقدمت قوات الأمن على اغلاق المطبعة ومصادرة الجريدة.
في 15 نيسان عام 1957 تشكلت حكومة حسـين الخالدي بعد اقالة حكومة النابلسي، فكان رد فعل الحركة الوطنية، بعقد المؤتمر الوطني في نابلس في 22 من نيسان عام 1957 بمشاركة الأحزاب والقوى الوطنية وغالبية النواب المنتخبين، وبالتحديد (23) عضوا من أعضاء مجلس النواب، أي أكثر من نصف عدد الأعضاء الكلي للمجلس، واتخذ قرارات منها دعوة رئيس الحكومة الدكتور حسـين الخالدي إلى الاستقالة بعد أن أعلنوا أنهم سحبوا الثقة من حكومته، ودعوة الشعب الأردني في ضفتيه إلى الإضـراب العام والقيام بمظاهرات في 24 من نيسان عام 1957، كما طالبوا بإلغاء لجنة التحقيق العسكرية، وإطلاق سـراح الضباط المعتقلين وإعادتهم مع غيرهم من الضباط الذين لجؤوا إلى سوريا إلى مراكزهم القيادية في الجيش، كما طالب البيان برفض مشـروع الرئيس الأميركي آيزنهاور، ومحاربة المؤامرات الاستعمارية التي تهدف إلى إبعاد الأردن عن المواقف العربية المتحررة، والمطالبة بتحقيق الاتحاد الفدرالي بين سوريا ومصـر والأردن لضمان الاتجاه التحرري للقومية العربية، والتمسك بسـياسة الحياد الإيجابي، ومحاربة المؤامرات الاستعمارية التي تهدف إلى إخراج الأردن من هذه السـياسة، ومطالبة السلطات في الأردن باحترام الدستور نصا وروحا، واحترام حريات المواطنين جميعاً، والمحافظة على وحدة الشعب مع الجيش.
وفي اليوم الموعود، 24 من نيسان عام 1957، اجتاحت عمان مظاهرات جماهيرية ضخمة تنفيذاً لقرار المؤتمرالوطني، وذهب وفد المؤتمر للقصـر الملكي دون أن يحقق شـيئاً. وفي منتصف ليل ذلك اليوم صدر بلاغ يعلن الأحكام العرفية، ومعارضة القصـر لاستمرار الحكم الوطني الديمقراطي، ووجه الملك خطاباً بعد منتصف ليل 24 من نيسان معلناً أن الحكم الوطني كان يهدف إلى الإطاحة به، وأن بعضاً من قوات الجيش تمردت عليه، فأعلن الأحكام العرفية ومنع التجول وحل البرلمان، وكلف إبراهيم هاشم بتشكيل وزارة عين فيها سمير الرفاعي نائباً للرئيس، وفلاح المدادحة للداخلية، وسليمان طوقان حاكماً عسكرياً عاماً. وعُطلت الصحافة، وقامت هذه الحكومة بحملة اعتقالات شملت آلاف المواطنين الوطنيين (الشيوعيين والقوميين والمستقلين)، وملأت بهم السجون في المحافظات كافة، ونقلت الآلاف إلى سجن الجفر الصحراوي، وفرضت الإقامة الجبرية على سليمان النابلسـي في بيته طوال ثماني سنوات دون أن يغادر منزله، وخيم ظلام دامس على امتداد ثماني سنوات عجاف (منذ أواخر نيسان عام 1957 حتى أواخر نيسان عام 1965)
____________________________________________________________________________________________

) Alex Kirkbride, A Crackle of Thorns London 1956, pp 19.20
2) عبدالله التل: كارثة فلسطين (مذكرات)، صفحة 250
3 المصدر نفسه، صفحة 247.
4) الجريدة الرسمية، العدد رقم 970 بتاريخ 14-2-1949.
5) هاني خير: التطور العملي للدستور الأردني 1921-1989، ص 122. راجع الحركة الوطنية الأردنية، عصام السعدي، 46-53. صفحة 193.
6) تنظيم ماركسـي تشكل في عام 1944 أبرز المؤسسـين ( فؤاد نصار، اميل توما، توفيق طوبي، اميل حبيبي، مخلص عمرو عبد الله البندك(
7) المقاومة الشعبية/ جريدة الحزب الشـيوعي الأردني-العدد السادس، حزيران 1951.
(8 Economic Survey of Jordan. British Middle East Office 1953, p. 16. (8 R.S.
9) أدنسن: واشنطن تخرج من الظل، السـياسة الأميركية تجاه مصـر 1946-1956، صفحة 97.
10) بهجت أبو غربية (مذكرات).
11) عبد الرحمن شقير: (من قاسـيون إلى ربة عمون مذكرات)، صفحة رقم 128