لماذا لم تتطور الأوضاع الاجتماعية و الاقتصادية العربية في القرون الماضية إلى نظام رأسمالي


غازي الصوراني
2023 / 5 / 3 - 17:23     

من الواضح ان أحد الأسباب الرئيسية، إن لم يكن أهمها على الإطلاق ، يعود إلى "عدم تفوق الإنتاج السلعي في البلدان العربية, بحيث يقوم بتصفية الأسواق المفتتة الضيقة لحساب سوق موحدة واسعة تكون بدورها أساساً لتطوير أكبر لفنون الإنتاج و تنظيماته, فإنه بتكوين هذه السوق الداخلية الموحدة الواسعة تتهيأ الظروف لقيام السوق القومية" على أن هذه الاجابة ، تستدعي سؤالاً آخر : لماذا لم يتفوق الإنتاج السلعي حتى الآن في العالم العربي؟ الواقع أن العالم العربي قد سقط في غيبوبة حضارية كاملة في ظل الفتح العثماني الذي أحكم قبضته على العرب, منذ بداية القرن السادس عشر حتى أوائل القرن العشرين, حيث أدت الحرب العالمية الأولى إلى هزيمة وتصفية الامبراطورية العثمانية ، ومع نهاية الحكم العثماني كانت الدعوة العربية هي دعوة للاستقلال الذاتي الثقافي لم تلبث أن تحددت في بداية القرن العشرين بالوقوف في وجه كل من الاستبداد الشرقي و الاستعمار الغربي, وعندئذ اختلطت الدعوة العربية بالدعوة لاستقلال كل قطر عربي على حدة ، حيث تحقق هذا الاستقلال بصورة شكلية في ظل الهيمنة الاستعمارية المباشرة وغير المباشرة، حتى أن نشأت جامعة الدول العربية كانت انعكاساً في تأسيسها لتلك الهيمنة إن لم يكن بقرار منها.
و إذا كانت الأقطار العربية الآن قد حافظت على استقلالها السياسي الشكلي في معظمه ، و إذا كانت قد طورت اقتصادها وفق أسس رأسمالية واضحة ، فإنها ما زالت مجتمعات رأسمالية مشوهة, بل إن تطورها الرأسمالي لم يصب في مجرى تطوير أسواقها الداخلية المفتتة بقدر ما ربطها أكثر من ذي قبل بالسوق الرأسمالية العالمية ، و لذلك تخلفت عملية تكوين السوق القومية العربية حتى الآن ، و تخلفت القضية القومية العربية بأسرها، ولم تعد قضية الهوية العربية (الوطنية والقومية) مطروحة بقوة على جدول هموم وتطلعات الشعوب العربية أو في مشاعرها العفوية وأحاسيسها ، بل أصبحت مطروحة وموزعة بين قيم الاستسلام واليأس واللامبالاة ، وبين الهوية الدينية العفوية التي تأثرت بظاهرة " الاسلام السياسي" وهنا لابد أن نشير إلى أن بقاء الأوضاع العربية (السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية) على هذه الحالة من التبعية والخضوع للشروط الامبريالية الصهيونية ، فلا مناص من احتمال تزايد انتشار هوية " الاسلام السياسي" في أوساط الجماهير الشعبية تمهيداً للمشهد السياسي القادم ، فهل تبادر قوى اليسار القومي إلى حالة من اليقظة والاستنهاض – السياسي والمعرفي والمجتمعي والتنظيمي – لكي تتحمل مسئولياتها وصنع مستقبل شعوبها قبل فوات الأوان ؟ .
أما المسألة الأخرى في هذا الجانب، فهي تتعلق بالبحث عن الهوية في الظاهرة القومية بما يفتح السبيل إلى الكشف عن العلاقة المباشرة و غير المباشرة فيما بين الهوية و معها التراث من جانب و بين التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية العربية من جانب آخر . ونقصد هنا بالتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية, النظام الاجتماعي الاقتصادي للمجتمع المعين, الذي يتشكل من بنيانين أو هيكلين، أحدهما تحتي هو أسلوب الإنتاج بما ينطوي عليه من قوى منتجة و علاقات إنتاج ، و البنيان الآخر فوقي أو علوي وهو مجموعة العلاقات الاجتماعية الأخرى غير علاقات الإنتاج بالإضافة إلى الوعي الاجتماعي .
وفي هذا السياق, فإن "أسلوب الإنتاج هو الذي يكون الأساس المادي للتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية وهو أيضاً البنيان التحتي الذي يشكل الهيكل العظمي لها. أما البنيان الفوقي, فإنه يرسم للتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية, صورتها الخارجية القانونية و السياسية و الفكرية".
و بالإضافة إلى هيكلي التشكيلة الأساسيين (البنيان الفوقي والتحتي) فإنها تحوي كثيراً من الظواهر الاجتماعية الأخرى مثل صلات الناس الجماعية التاريخية كالعشيرة و القبيلة و الأسرة و الشعب و حتى الأمة ، و مثل العلوم الاجتماعية و بعض التنظيمات الاجتماعية و العلمية و الرياضية و اللغة .
فالتشكيلة الاجتماعية الاقتصادية إذن, "هي تعبير عن فترة كبيرة في تاريخ المجتمع تتميز بمجموعة محددة نوعياً من العلاقات الاقتصادية و الاجتماعية و الفكرية, وكذلك من الحياة الروحية ، أي أنها المجتمع ككل في مرحلة معينة من التطور التاريخي, و هي مجموع العلاقات الإنتاجية المطابقة للقوى المنتجة ، ومجموع الأبنية الفوقية التي تطابق تلك العلاقات الإنتاجية و تكسو الهيكل العظمي باللحم و الدم و الأعصاب".
وهنا, نشير إلى أن التفاعل بين علاقات الإنتاج و القوى المنتجة "يتخذ في البداية صورة التطابق, إلى أن تصبح علاقات الإنتاج قيوداً على نمو القوى المنتجة، إذ أنهما ينموان بشكل غير متساو, و مع ذلك ففي أسلوب الإنتاج توجد الوحدة الجدلية بين العلاقات الفنية و التنظيمية للإنتاج كما تنعكس في صورة القوى المنتجة و بين العلاقات الاقتصادية بين أفراد المجتمع كما تنعكس في صورة علاقات الإنتاج.
و إذا كانت القوى المنتجة هي الجانب الأكثر ثورية في أسلوب الإنتاج فإن الثورة تكمن في قوى الإنتاج نعني في وسائل الإنتاج ، كما هو الانقلاب الصناعي الذي قد يكون بطيئاً و قد يكون متسارع الخطى ، وكذلك الاكتشافات العلمية و الاختراعات التكنولوجية كلها تبعث إلى الوجود بقوى اجتماعية جديدة تأخذ على عاتقها مهمة إعادة تشكيل الحياة الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية ، فالثورة إذ تحرر المجتمع من الأبنية و الهياكل القديمة التي كانت تكبله, فإنها تخلق في نفس الوقت الأشكال الاجتماعية الجديدة التي تناسبها.
الأهمية الخاصة للبنيان الفوقي : يرى د.فؤاد مرسي أن البنيان الفوقي "لا يقوم بشكل تحكمي ، بل يتمشى مع الأساس الاقتصادي للمجتمع, نعني أسلوب الإنتاج ، مع القوى المنتجة و مع علاقات الإنتاج, و يتشكل البنيان الفوقي من مجموع العلاقات الاجتماعية غير علاقات الإنتاج, بالإضافة إلى الوعي الاجتماعي و لذلك يتشكل البنيان الفوقي من مجموعة النظم و المؤسسات و المبادئ التي تعمل في كل من مجالات القانون و السياسة و الفكر" .
ومع أن البنيان الفوقي –كما يضيف د.فؤاد مرسي- يظل محكوماً بالأساس الاقتصادي للمجتمع ، إلا أن دور البشر في هذا المجال هو الدور الأكبر والرئيسي, إذ يتوقف الأمر هنا على النشاط الواعي للناس ، لا سيما أولئك الذين يتصدون لقيادة الطبقات و الفئات الاجتماعية .وهكذا نتبين العلاقة الجدلية بين كل من العامل الذاتي و العامل الموضوعي ، فالعامل الموضوعي هو قبل كل شيء إنتاج مادي و علاقات إنتاجية يحددها مستوى تطور القوى المنتجة الذي تم التوصل إليه من قبل ، أما العامل الذاتي فهو الناس أنفسهم و إرادتهم في التقدم و تنظيم هذه الإرادة في صورة النشاط التحويلي العملي للجماهير في الطبيعة و داخل المجتمع ".
و بينما يتخذ دور البشر في تغيير البنيان الفوقي القديم أهمية كبرى, فإن هذا البنيان الفوقي يتميز بطابع محافظ ينطلق من مهمة حماية علاقات ملكية وسائل الإنتاج ، أي المحافظة على النظام الاجتماعي الاقتصادي.
و هنا ينبغي التمييز داخل كل تشكيلة جديدة بين العناصر التي انتقلت إلى البنيان الفوقي من التشكيلة القديمة و بين العناصر التي أوجدتها التشكيلة الجديدة أو المجتمع الجديد . فهذه الأخيرة وحدها هي نتيجة تطور أوضاعه الاقتصادية, أما العناصر الأولى فهي الجذور التاريخية التي يتشكل البنيان العلوي على أساسها, وفي هذا السياق, نشير إلى أن مجتمعاتنا العربية, بسبب تطورها المشوه, التابع والمتخلف, ما زالت محكومة _بدرجات متفاوتة للبنيان الفوقي الموروث علاوة على القيم الاستهلاكية الهابطة التي تشكل اليوم جزءاً أساسياً من البنيان الفوقي المعاصر المحكوم بعناصر وأدوات التخلف رغم أشكال الحداثة الرثة السائدة في ذلك البنيان, حيث نلاحظ أن البنيان الفوقي في فلسطين والبلدان العربية, اتخذ من الماضي علاقات و أفكار اجتماعية لم تعد صالحة منذ بداية القرن العشرين, لكنها تسترد صلاحيتها اليوم _كما هو الحال في معظم المجتمعات العربية و في قطاع غزة خصوصاً_ في ظل التكوين الاجتماعي "الجديد"، فهناك عناصر كثيرة موروثة من أبنية علوية لمفاهيم وشعارات دينية وثقافية لا تنتمي للاستنارة الدينية أو التفسير العقلاني للظواهر الطبيعية والعلمية والسياسية, وتلك هي الإشكالية الكبرى مع التيارات السلفية الرجعية, وبالتالي فإن رفضنا لهذه السلفية, لا يعني أبداً إنكارنا لدور الدين واستمراريته في مجتمعاتنا, بصورة موضوعية, لكننا بالمقابل نؤكد على أهمية التعاطي مع القضايا الدينية في إطار مفاهيم التنوير والعقل والديمقراطية, وفي هذا الجانب نقول بوضوح, أن نضالنا من أجل الخلاص من النظام الرأسمالي وكل أشكال الاستغلال ومن أجل النهوض القومي الوحدوي الاشتراكي, لا يعني بأي حال تجاوز واقع أن الدين الإسلامي سيظل موضوعياً جزءاً هاماً من البنيان الفوقي حتى في ظل النظام الاشتراكي الديمقراطي, ولكن مع أهمية الأخذ بعين الاعتبار التطورات والتحولات المجتمعية الحديثة التي تستهدف الارتقاء بالجماهير الشعبية دون أي تأثير مباشر في انتماءها الديني وتراثها الموروث.
و من هنا استطاع مؤسسوا الماركسية أن يقولوا أن الماركسية قد استوعبت و أعادت صياغة كل ما له قيمة في تطور الفكر البشري من فلسفة و علم و سياسة كما أكدوا لنا أن الاشتراكية لن تبنى من غير العديد من العناصر التراثية الإيجابية, وما أكثرها في تاريخنا.
و مع أن للسياسة في نهاية الأمر منطقها الموضوعي المستقل عن مخططات الأفراد, فإن من الضروري تحويل الناس, خاصة في الحقل السياسي والاجتماعي الطبقي, من أناس سذج يخدعهم الآخرون و يستغلونهم إلى أناس فاعلين ساعين لتحديد آفاق تطور المجتمع في إطار مفاهيم العدالة والمساواة. بما يضمن تحويل النشاط الواعي للناس الذين يصنعون التاريخ إلى نشاط يصب في تحقيق تلك المفاهيم.
من هنا تتعدد أشكال الوعي الاجتماعي، تتعدد أشكال الإنتاج غير المادي للمجتمع، كما تتعدد أشكال المعرفة و منها الثقافة التنويرية العقلانية الديمقراطية كشرط للتحرر الوطني والقومي النهضوي الديمقراطي.
و كما أوضح "ماركس" و "انجلز" في كتابهما (الأيديولوجية الألمانية ) فإن أفكار الطبقة الحاكمة في كل عصر هي الأفكار السائدة ، و الطبقة التي تشكل القوة المادية في المجتمع هي في الوقت نفسه القوى الفكرية السائدة في هذا المجتمع ، و الطبقة التي تتحكم في وسائل الإنتاج المادي تسيطر في الوقت ذاته على وسائل الإنتاج الفكري بحيث أن أفكار الذين يفتقرون إلى وسائل الإنتاج الفكري تكون خاضعة لها, وهنا تصبح الثقافة في المجتمع محكومة لازدواجية متناقضة, فإلى جانب ثقافة الحكام توجد أيضاً ثقافة المحكومين, و في كل مجتمع فإن الصراع بين الطبقة السائدة و بين الطبقة المرشحة للسيادة يتحول إلى صراع في مجال الثقافة ، و عندئذ فإن الطبقة المرشحة للسيادة مستقبلاً _نقصد بذلك العمال و الفلاحين وكل الفقراء والكادحين_ تُدْخل في المجتمع أفكارها ووجهات نظرها و تقييمها للنظام السياسي الذي تزمع أن تدمره ، كما تقوم – في نفس الوقت- بتطوير الثقافة الروحية السائدة في المجتمع ، انطلاقاً من أن الثقافة لا تخلق بواسطة الناس فقط ، و إنما هي تخلق من أجلهم أيضاً و هذه الثقافة هي عندئذ معيار إنسانية المجتمع .
فالثقافة توجد و تعمل و تتطور إذن في ظل ظروف اقتصادية و اجتماعية معينة ، و في مناخ سياسي و فكري نوعي معين بحيث أن العلاقة بين الثقافة من جانب و الظروف الاقتصادية و الاجتماعية و المناخ السياسي و الفكري من جانب آخر ليست بالعلاقة البسيطة و بين الجانبين تناقضات حافلة فتطور الثقافة يتحدد بالظروف المادية للحياة الاجتماعية .
و كان لينين و هو يطرح ضرورة الثورة الثقافية قد عالج القديم و الحديث في مجال الثقافة و ذلك بأن طرح مهمة الجمع بين الثورة الاشتراكية من جانب و بين الثقافة البرجوازية و العلم البرجوازي و التكنولوجيا البرجوازية من جانب آخر.
لكن المشكلة تطرح في بلادنا العربية مثلما تطرح في البلدان النامية على نحو آخر، فهذه البلدان تناضل من أجل تحرير أنفسها من الثقافة الغربية ذات الطابع الاستهلاكي الرث, المفروضة عليها بحكم التبعية الخارجية و في نفس الوقت فإن تحديث تلك البلدان ينطوي على استيعاب أفكار الحداثة الغربية, و من هنا فإنها تسعى لدخول القرن الواحد و العشرين بزاد أساسي اجتماعي ثقافي من صنعها هي نفسها ، بوصفها قوى مستقلة مشاركة في صنع التاريخ و ليس بوصفها موضوعاً للنفوذ الأجنبي .
و من هنا يأتي البحث في التراث الثقافي العربي في محاولة لإبراز هذا التراث ذي النزعة الإنسانية و التأكيد على هذه النزعة في مواجهة لا إنسانية الغرب الاستعماري، لكن هذه الدعوة المشروعة تماماً تتحول عادة في التطبيق و نتيجة لعموميتها و عدم تحديدها إلى دعوة ينقصها التمييز – التمييز بين ثقافة و ثقافة .
إن انجاز الثورة العربية "لا يمكن بحال أن يتناقض مع الحفاظ على التراث بل إن الثورة الاشتراكية, و هي مهمة من مهام الأجيال المقبلة لا يمكن أن تقوم في فراغ, بل هي لا تنفي أبداً التمسك بالتراث و القيم الروحية, فالثورة إنما ترمي فقط إلى تحطيم علاقات الإنتاج و عناصر البنيان الفوقي القائمة التي تكبح التطور الاجتماعي و تعيقه مع الحفاظ على كل ما يلاءم العملية الثورية و كل ما هو ايجابي مما ورثناه عن السلف للأجيال القائمة" .
المبدأ إذن هو الحفاظ على التراث و عدم رفض الانجازات القيمة للعصور السالفة بل تمثلها و إعادة صياغة كل ما له قيمة مما أنجبته الثقافة طوال آلاف السنين, فثقافة اليوم هي محصلة للخلق الجديد و للتراث المتجدد, و من ثم فإن التراث يعتبر استمراراً للتطور الحضاري و بهذه الصفة فهو ضروري .
إن التراث بهذا المعنى هو ظاهرة استمرار التطور الحضاري, بعبارة أخرى فإن علينا أن نميز بين نوعين من التراث : الأول هو النوع الذي يعبر عن سلطان العجز و الركود و الروتين عن سطوة القديم على عقول و سلوك الناس و عن قوة العادات و التقاليد, و هو إن لم يتفق مع مسيرة تطور المجتمع نفسه فلا حاجة إليه و النوع الثاني و يمثل استمرار التطور الحضاري للمجتمع, أي صلاحية المعرفة المتراكمة لخدمة الحاضر و المستقبل, فهذا هو التراث حقاً الذي يقوم ليس فقط على قوة العادات و التقاليد، بل يستند إلى استمرار الحاجة إليه، و يجوس في المجتمع مثلما تجوس المياه الباطنية فتغذي جذور النبات فيزداد نماء, هو بالدقة تراث متصل أو ثقافة ممتدة أو حضارة مستمرة – و من ثم يتكفل مثل هذا التراث بنقل خبرة الماضي إلى المستقبل و تتمثل مهمتنا بالدقة في هضم و تمثل النتائج الايجابية المتراكمة بفضل استمرار الحضارة الروحية للبشرية.
ان استمرار وتأجج الصراع الوطني، والقومي بدرجات أقل، ضد الاستعمار البريطاني والفرنسي، وصولاً إلى مرحلة ما بعد عام 1958 حيث بدأت السيطرة الامبريالية الامريكية على العديد من مناطق الوطن العربي، واشتعال الصراع ضد المصالح والمخططات الامبريالية الامريكية ، خاصة عبر النظام الوطني ، القومي, الذي قاده جمال عبد الناصر منذ العام 1952 حتى 1970 حيث بدأت مرحلة جديدة عنوانها : تكريس الهزيمة عبر تكريس التبعية والخضوع للنظام الامريكي وحليفة الصهيوني ، وهي مرحلة ممتدة في الزمان العربي حتى اللحظة ، لكن بالرغم من كل هذه الحالة التراجعية العربية الرسمية ، وتزايد تكريس الحالة القطرية في دول النفط خصوصاً ، إلا أن الإحساس الشعبي –العفوي- الفلسطيني والعربي، بقي وما زال مخلصاً للهوية القومية ويتطلع إلى تحقيق هذه الهوية وتجسيدها في نظام عربي وحدودي تسوده العدالة الاجتماعية والديمقراطية، وإذا صح هذا الاستنتاج ، فإن "الأزمة القائمة ليست ، على هذا الأساس ، أزمة هوية ، وإنما هي أزمة مجتمعية أساسها اخفاق القوى القائدة للمجتمع العربي من التصدي لمواجهة التحديات التي يواجهها "، الأمر الذي يتطلب من قوى اليسار الماركسي العربي أن تبادر إلى تحول مسئولياتها ، من حيث التفاعل والتوسع والانتشار في صفوف الجماهير الشعبية ، بما يحقق انتقال وتطوير الإحساس الشعبي العفوي لكي يتفاعل بدوره ويستجيب لمفاهيم وأهداف وشعارات هذه القوى التي يتوجب عليها الادراك الواعي للأبعاد والأسباب التاريخية ( الحديثة واالمعاصرة) التي تستدعي النضال من أجل تفعيل الهوية الوطنية تمهيداً لبلورة الهوية القومية ، وذلك عبر الاحاطة بعاملين هامين في هذا الجانب :
أولا: مراحل تطور الهوية العربية في التاريخ المعاصر:
منذ مطلع القرن التاسع عشر انطوى المشروع المصري للنهضة بقيادة "محمد علي " على البعد العربي. ففي القرن التاسع عشر كان المشروع العربي ما زال جزءا من المسألة الشرقية _ كما يقول د.فؤاد مرسي_, "وعندما اتخذ لنفسه بعض القوام في النصف الثاني من القرن 19, كان سعيا للخلاص من السيطرة العثمانية الغاشمة, لكن المشروع العربي _في تلك المرحلة_ ظل دعوة غامضة للنهضة العربية في وجه كل من الاستبداد الشرقي والاستعمار الغربي ".
ومع الحرب العالمية الأولى ، تم تقسيم الوطن العربي بين القوى الامبريالية في الوقت الذي بدأ فيه طرح المشروع القومي، سواء من خلال تبلور الأقطار العربية وسعيها لنيل الاستقلال السياسي, أو من خلال مواجهة الخطر الاستيطاني الصهيوني لفلسطين، وظل الأمر كذلك حتى قامت الحرب العالمية الثانية وتزايد نشاط الحركات التحررية العربية الذي مهد لاعادة طرح المشروع القومي العربي من ناحية، و في المواجهة مع الغزوة الصهيونية والاستعمار من ناحية ثانية ، حيث بدأت تتخلق معالم البعد القومي في العديد من حركات التحرر العربية .وطوال أكثر من سبعين عاما مضت ، ظل المشروع القومي العربي مطروحا على الشعوب العربية بقوة ، سواء كان ذلك في فترات المد السابقة أو في فترات الجزر الحالية.
ولذلك قلنا أن الحرب العالمية الثانية قد أسفرت عن إعادة طرح المشروع القومي العربي بقوة وبخاصة بعد الفشل في صد الغزوة الصهيونية ومن ثم اغتصاب فلسطين وتشريد شعبها وقيام "دولة إسرائيل" . وفي هذه المرة أعيد طرح المشروع القومي العربي على مستويين، _كما يضيف د. فؤاد مرسي_ مستوى النظم ومستوى الشعوب، أما على مستوى النظم، فقد تبلورت قضية الاستقلال السياسي للأقطار العربية بالتفاهم مع الاستعمار في صورة قيام جامعة الدول العربية. وأما على مستوى الشعوب فقد انطلقت حركة التحرر الوطني العربية في مواجهة العدو الواحد أو المشترك ، وتجسدت نواة التوحيد القومي في مواجهة العدو الصهيوني الامبريالي المشترك على أرض فلسطين, وأصبح المشروع القومي العربي مشروعا للتوحيد القومي وليس مجرد مشروع للنهوض العربي, واستند هذه المرة إلى الثورة المصرية وقائدها "جمال عبد الناصر" وتحددت في النهاية معالمه المعاصرة بوصفه حركة للتحرر الوطني والتقدم الاجتماعي والتوحيد القومي .
وهكذا بينما شهدت الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين ازدهار هذا المشروع القومي العربي، فإنه قد انتكس منذ انهيار النظام الناصري في السبعينيات والى الآن.
وفي هذا السياق, نشير إلى أن المشروع القومي العربي, أصيب بهزيمتين فادحتين ، أما الأولى فهي هزيمة عسكرية أمام إسرائيل في عام 1967, أما الثانية فهي هزيمة سياسية تمثلت في إقرار مشروعية الوجود الصهيوني في فلسطين ووضع مبدأ الصلح المنفرد مع إسرائيل, بما يعني تصفية القضية الفلسطينية ولقد تم ذلك في اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978 وبعدها وصولاً إلى أوسلو ووادي عربه.
ففي ضوء التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي أصابت المجتمعات والأقطار العربية, غدت الأقطار العربية مجتمعات رأسمالية تابعة, حيث سيطرت عليها الفئات المالية والتجارية الكومبرادورية ذات الروابط الوثيقة برأس المال والتجارة العالميين, واتسعت هوة الفروق الاجتماعية الفاحشة واتخذت الأغلبية الساحقة من النظم العربية مكانها في صفوف الثورة المضادة ، التي جثمت بثقلها الأمني الاستبدادي الرهيب على أنفاس الشعوب العربية حتى الآن, وراكمت مزيداً من عوامل التبعية والتخلف والافقار والقهر.
ان هذا الواقع العربي, المهزوم والمأزوم, أثار _وما زال_ كثيراً من المرارة والرفض لدى الجماهير الشعبية الفقيرة عموماً, ولدى الأجيال الشابة التي فقدت - إلى درجة عالية- الثقة في قدرة ومصداقية القيادات القومية واليسارية وأحزابها على تحقيق الأهداف التحررية والمطلبية الديمقراطية ليس على الصعيد الوطني فحسب ، بل أيضاً على تحقيق المشروع القومي العربي ، بعد أن فقدت كلياً ثقتها في الأنظمة القائمة ، إلى درجة أن هذه الأجيال تتساءل اليوم عن هويتها، فمن نحن ؟ لكن يبدو أن استتباع وهزيمة النظام العربي ، والانتهازية المنتشرة –بهذه الدرجة أو تلك – في صفوف القوى اليسارية والقومية التي هبط وارتد بعضها عبر التصالح مع السلطة والأنظمة ، الأمر الذي دفع قسماً كبيراً من الأجيال الشابة إلى أن تتوجه بنظراتها إلى ملكوت السماوات، من خلال التحاقها بالحركات الدينية الأصولية التراثية –بدوافع واسباب اجتماعية واقتصادية بالدرجة الأولى- , دون ادراك منها أن العودة إلى التراث عموماً والجوانب السلبية المغرقة في سلفيتها خصوصاً قد تعني عندئذ استسلاما لهزيمة المشروع الوطني والمشروع القومي العربي معاً , لأن عملية تأكيد الذات هذه –عبر العودة إلى النصوص الجامدة في التراث السلفي - تُشكل نكوصاً إلى مواقع خلفية للاحتماء بها و الدفاع انطلاقاً منها, خاصة في ظل تزايد مظاهر التخلف والانحطاط والافقار في المجتمعات العربية، وخضوع النظام العربي للشروط الأمريكية/ الإسرائيلية ، الى جانب استمرار عجز وضعف وتراجع القوى الديمقراطية الوطنية واليسارية القومية عن التأثير في هذه الأجيال أو استقطابهم عبر ممارسات سياسية وجماهيرية نضالية تقوم بتعرية وفضح المصالح الطبقية باعتبارها السبب الرئيسي لما وصلت إليه أحوال مجتمعاتنا وشعوبنا، وكذلك عبر الاهتمام بقضايا الشباب ومستقبلهم ، وتوضيح طبيعة تطور العلاقة التاريخية في العصر الحديث, بين الإسلام السياسي و المدنية الحديثة كما طرحها في منتصف القرن التاسع عشر رفاعه الطهطاوي ، ثم محمد عبده و علي عبد الرازق وأحمد أمين ولطفي السيد وطه حسين في ثلاثينيات القرن العشرين في سياق المناخ الليبرالي العقلاني السائد آنذاك، ثم استعراض وتناول أسباب وأهداف نشوء حركة الاخوان المسلمين وظاهرة المد الأصولي الراهنة ، بما يوضح الفارق الخطير في العلاقة التاريخية بين الدين والمدنية الحديثة أو مفاهيم عصر النهضة كما تجلت في العقود الأولى من القرن العشرين, فبينما طرحت في الماضي بوصفها علاقة جدلية بين العقلانية والتنوير من ناحية وبين النزعات والتيارات الدينية من ناحية ثانية, فإنها طرحت من قبل حركة الاخوان المسلمين، وما زالت إلى الآن – في القرن الحادي والعشرين !!! - كعلاقة ميتافيزيقية من جانب واحد, و بينما طرحت في الماضي بوصفها تناقضاً غير عدائي يقوم على الحوار العقلاني والاستنارة الدينية , تطرح الآن بوصفها تناقضاً عدائياً لا يحل إلا بإلغاء أحد طرفيه, حيث تبدو العودة إلى السلفية أو الاصولية أو التراث اليوم -في أحد أوجهها- بمثابة صرخة احتجاج في وجه الغرب الأقوى منا حالياً و في هذه الحدود تصبح تلك الدعوة مجرد رد فعل أكثر منها فعلاً أصلياً, و تبدو كاحتجاج سلبي ضد الغرب يركز على بعث ما مضى و ليس على خلق جديد يواجه تحديات الحاضر و احتياجات المستقبل على قاعدة رفض ومقاومة الرأسمالية ونظامها الإمبريالي ، والانحياز الصريح للفقراء والكادحين من جهة والتحام النضال الوطني التحرري والديمقراطي في كل قطر عربي في إطار المشروع الاستنهاضي القومي الوحدوي التقدمي الكفيل وحده باجتثاث الوجود الصهيوني في بلادنا واستعادة فلسطين كلها كدولة ديمقراطية ، إلى جانب حل المسألة اليهودية في إطار المجتمع العربي الاشتراكي الموحد من جهة ثانية .
على أي حال ، ولكي نغلق الباب في وجه أي تفسير تشكيكي أو تكفيري أو انتهازي مغرض أو منافق ، ضد موقنا الموضوعي من مسألة التراث ، فإننا نقول بصراحة ووضوح ، إن موقفنا ينطلق من النظر والتعامل مع التراث باعتباره جزءاً من الثقافة العربية، و باعتبار الثقافة تطوراً من خلال تطور البشر أنفسهم, ما يعني أننا نستطيع التمييز بين نوعين من التراث ، النوع الأول هو التراث المحفوظ أو المخزون و ذلك هو التراث المتحفي, أما النوع الثاني فهو التراث الحي الذي يتواجد بشكل أو بآخر في الممارسات الحية للشعوب ، و ذلك هو التراث فعلاً . و في هذه الحدود فلا مشكلة هناك ، لكن المشكلة تبدأ حينما تبدأ المحاولة للتسوية أو الدمج الاحادي بين الهوية و التراث بحيث يصبح هو المكون الوحيد لها, وعندئذ فإن التراث يعمل "وكأنه كان في خزانة حديدية محكمة الإغلاق "و تصبح هذه القراءة السلفية للتراث قراءة لا تاريخية لا تفيد سوى التكرار, تكرار التراث نفسه, بل تتم عندئذ "قراءة المستقبل بواسطة الماضي و تصبح العملية هي رفض للواقع وهجرة إلى الماضي المتخيل و تخل عن المستقبل، وبالتالي افتقاد الاستقلال التاريخي أو العجز عن تحقيق هذا الاستقلال" ، ما سيؤدي إلى تكريس أهداف ومصالح الشرائح الاجتماعية الطبقية في كل من النظام العربي الحاكم والمجتمعات العربية ، ومن ثم تكريس التبعية الإمبريالية ، وتجديد التخلف ، وتزايد مظاهر الفقر والمعاناة والاضطهاد للطبقات والشرائح الفقيرة في ظل انقسام طبقي حاد غير مسبوق في بشاعته بين أغنياء أو أثرياء مستغلين (بكسر الغين) وطفيليين لصوص وسفهاء وبين فقراء كادحين معدمين لا يجدون -في معظمهم- قوت يومهم وأولادهم ، كما لا يجد بعضهم مأوى له وعائلته سوى في المقابر !!!؟ .
ثانياً: البحث عن الهوية العربية في سياق العملية القومية ونشأتها في أوروبا:
لقد بدأ الاتجاه نحو الدولة القومية في أوروبا في القرن السادس عشر, و سادت الظاهرة القومية فيها ابتداءً من القرن التاسع عشر ، وكان عهد انتصار الرأسمالية الحاسم على الإقطاع مقترناً بانتصار الحركات القومية, "و أساس هذه الحركات من الناحية الاقتصادية موجود في الإنتاج لا في التبادل, فعندما يتفوق الإنتاج السلعي أي الإنتاج من أجل السوق على غيره من أشكال الإنتاج, و عندما تصبح له الغلبة بالنسبة إلى هذه الأشكال الأخرى, فإنه يستدعي قيام البرجوازية بالاستيلاء أو بالسيطرة على السوق الداخلية, و من ثم العمل على توحيد الأراضي التي يتكلم سكانها لغة واحدة في دولة واحدة و إزالة كل حاجز من شأنه أن يحد من تحقيق ذلك الهدف القومي أو الوحدة في دولة سياسية قومية واحدة".
والسؤال هنا ؟ ........... يتبع إلى المراحل التاريخية لتطور الهوية الوطنية...