قراءة في كتاب -نقد الحقيقة- لعلي حرب


صلاح الدين ياسين
2023 / 5 / 3 - 00:02     

من أبرز مصنفات الفيلسوف والمفكر اللبناني علي حرب، صدر الكتاب في العام 1993 عن المركز الثقافي العربي. تتحدد الأطروحة الرئيسية للكتاب في القول بنسبية الحقيقة وتعددها واختلاف زوايا النظر إليها، إذ تناول حرب هذا الموضوع صدورا من حسه الفلسفي المرهف، وأسلوبه البياني السلس. وليس يخفى ما يتصف به هذا العمل من راهنية في الفضاء العربي الإسلامي، في ظل استفحال النزاعات والفتن، التي تجد أساسها - إلى حد بعيد - في تشرنق كل طائفة على نفسها وتعصبها لمذهبها، فضلا عن النزوع إلى استبعاد المختلف (تكفير، تبديع، وصمه بالخيانة والعمالة... إلخ) عوض استيعابه والتحاور الخلاق معه.
وهكذا استهل المؤلف عمله بالتعرض لانفتاح قراءة النص على حتمية الاختلاف، بحيث يورد المقولة المقتبَسَة التالية: "النص متماثل في الأعيان، مختلف في الأذهان"، ومؤدى ذلك أن النص أيا كان نوعه (كتب مقدسة، نصوص فلسفية، آثار شعرية... إلخ) يحتمل – بطبيعته – قراءات متباينة ومختلفة، تبعًا لاختلاف العصور والأنظمة الثقافية والمعرفية، والإيديولوجيات والمنطلقات الفكرية التي يصدر عنها القارئ. ولذا فإن القراءة، في تقدير المؤلف، ليست محض رجع صدى لما يخطه الكاتب من كلمات وعبارات، أو تَلَقف أعمى للمعنى الذي يُفترض أنه يروم الإفصاح عنه، بمقدار ما هي دينامية يحاور فيها القارئ النص وذاته في آن، بحيث يميط من طريقها اللثام عن جوانب مطمورة من ذاته، كما أن القراءة، بهذا المعنى، تميل إلى إثراء النص وإعطاء زخم جديد له، بما هي مُدخل لاكتشاف أبعاد مجهولة وغير مطروقة ثاوية وراءه.
الاختلاف في الشرط الإسلامي
لم يألُ علي حرب جهدا في الذود عن مشروعية الاختلاف بما هو معطى طبيعي، باعتبار أن الوحدة – التي هي صنيعة العقل والثقافة وعامل لا مندوحة منه لتوليد المجتمع والحضارة – لا تعدو أن تكون، في صميمها، تجميع للمختلف واستيعاب له. وهكذا انصرف الكاتب إلى ملامسة واقع الاختلاف في التجربة التاريخية الإسلامية، بدءا من الخلاف السياسي والعقائدي المستحكم حول الخلافة، مرورا باختلاف التفاسير والقراءات حول النص القرآني، وصولا إلى الاختلاف لدى الفقهاء الذين عملوا على تضييق نطاقه ومداه، من طريق قصره على "الفروع" (الاجتهادات الفقهية العملية والأحكام الشرعية) دون أن يطاول الأصول النظرية.
كما يذهب صاحبنا إلى أن هامش الاختلاف والانفتاح على الآخر في الخطاب الفلسفي والصوفي كان أوسع بكثير قياسًا لنظيره الفقهي، مع التنبيه على أن المتصوفة قد تفوقوا على فلاسفة الإسلام في هذا الصدد، إذ اعتبر ابن عربي، مثلا، أن "للحق وجوه مختلفة"، وأن العوالم جميعها على شساعتها وكثرتها تلتقي في تعبيرها عن الخالق، مهما تباينت الأديان والمعتقدات من حيث الظاهر.
الحقيقة من منظار الفلسفة
تطرق علي حرب إلى الخطاب الفلسفي الكلاسيكي بشأن الحقيقة (أرسطو، هيغل...) الذي ينظر إليها (= الحقيقة) بحسبانها تَطَابق أحكام الذهن مع الواقع العيني الموجود. فالفلسفة، عند المفكر اللبناني، ليست مجالا لتفريخ الحقائق اليقينية والأحكام القطعية، بقدر ما هي توليفة تضم في طياتها فيضا من الحقائق في نسبيتها وتَعَددها. وآية ذلك إخفاق كانط في مشروعه (نقد العقل المحض) الرامي لتحويل الفلسفة إلى علم وتكييفها مع قواعده، إذ حدث، في الواقع، خلاف ذلك عندما انفتحت العلوم الطبيعية (الرياضيات، الفيزياء... إلخ) على النسبية والاحتمال والتراكم المعرفي الجدلي.
والواقع أن نيتشه (1844-1900) قد أسس طورا جديدا في تعاطي الفلسفة مع الحقيقة والتمثلات المقترنة بها، مكرسا بذلك قطيعةً جذرية مع الخطاب الكلاسيكي. إذ ليس ثمة، في حسبانه، وجود للحقيقة، بل تأويلات للحقيقة لا تكاد تنفصل عن الذاتية (الرغبة، الجسد... إلخ). ولعل فوكو (1926- 1984) بمنزعه التفكيكي قد استأنف التقليد عينه حين تَعَرض للإكراهات التي تمارَس على الذات في سعيها الدائب لتحصيل المعرفة والحقيقة ( إكراهات من طبيعة لغوية، جنسية، اجتماعية، سلطوية... إلخ). كما لم يوفر مؤلف الكتاب المنطق – من حيث هو القواعد الناظمة والموجهة للتفكير – من نقده، وذلك مرده إلى اختزاله (= المنطق) للواقع ومفارَقته له، ذلك أن المنطق إذ هو يتغيا وحدة المعنى وتماسكه وبساطته، يتأدى بنا، في المحصلة، إلى إهمال الواقع في اختلافه وتعقيده، ومن ثم حجب الحقيقة بدل تعريتها وكشفها.