دراسات نقدية لإبداعات نبيل عناني– الحلقة الأخيرة


سعيد مضيه
2023 / 4 / 30 - 12:18     

متجدد باستمرار

رغم ان النقاد تناولوا موضوعا واحدا هو إبداع نبيل عناني الفني إلا ان كل ناقد/ة انفرد بجانب محدد ، فجاءت الدراسات متكاملة .

ندى شابوط في بحثها " فلسطين والعالم العربي" ، وبعد أن تتحدث عن الأثر الإيجابي للنهضة على الثقافة العربية ووحدتها، تمضي الى القول : في مختلف لحظات التاريخ العربي قدمت الأنشطة السياسية حيزا للقاءات الوحدة والتواصل بين الفنانين العرب. طبيعي وباستهداف متعمد غدت فلسطين مجالا مستداما للتفاعل غذى المخيال العربي، وفي ذات الوقت احدث تحولا في التمركز في ضوء التفجرات الإقليمية ، مثل الحرب الأهلية بلبنان وحرب الخليج الأولى، غزو إسرائيل للبنان وغزو العراق، منها غدت مركز الاهتمام الدولي، ومن ثم مركز اهتمام الفنانين العرب لمعاصرين.
أسفرت التفاعلات عن تشكيل اتحاد الفنانين التشكيليين العرب"عتم 1971. كلفت اللجنة التأسيسية للاتحاد الفنان العراقي جميل حمودي بالطواف بالمدن الكبرى في العالم العربي ومناقشة المبادرة. اورد بيان اللجنة التأسيسية للاتحاد أن الطموحات التي الهمت الفنانين التشكيليين في مختلف أقطار العالم العربي قد أسفرت على الدوام- قبل كل شيء آخر- عن إبداع حالة من الاستجابة الجماعية والتوافق والإثراء المتبادل فيما بينهم، من أجل تحفيز مواهبهم الإبداعية في بوتقة الحضارة العربية المعاصرة".
عقد الاتحاد مؤتمره الاول للفنون بدمشق في ديسمبر 1971؛ بمبادرة من الجمعية السورية للفن التشكيلي وانتخب الفنان الفلسطيني ، إسماعيل شموط اول امين عام للاتحاد.
تمضي ندى شابوط الى القول، "و الأهم من ذلك أن تشكيل الاتحاد بدّل العلاقة بين العالم العربي وفلسطين، التي غدت مركزية في خيال الفنانين. في تلك اللحظة من التاريخ غدت فلسطين سبب الحشد الجماعي في العالم العربي ومحور الحشد. توضحت هذه النقطة عام 1973 أثناء اجتماع الاتحاد في بغداد. جاء في بيان صدر عن اللقاء، "الفن عموما والفن التشكيلي خاصة، لم ينعزل عن حركة المجتمع، والتاريخ والمرحلة. وإذا كان الفن اتشكيلي العربي- في صيغه التراثية، والمعاصرة – هو منتج العالم العربي بحضارته الثرية والتعددية، التي أغنت عبر فترات تاريخية طويلة ، الحضارة الإنسانية، فإنه أيضا منتج المجتمع العربي الحديث الذي يواجه ضغوطا امبريالية مزمنة، مثل تعميق الانقسامات ، من خلال توسع رجعي يميني . وفي العام 1975 تأمل الفنان الفلسطيني، مصطفى الحلاج، مصر في زمنه وردد صدى لتاملاته فكرة العلاقة الوثيقة والتودد الحميم التي تربط الفنانين التشكيليين العرب.
من الممتع بوجه خاص أن نفهم تشابك التخيل بين فنان فلسطيني كنبيل عناني وبين الفنان العراقي ضياء العزاوي، الذي انشغل مرارا وتكرار في إبداعاته بالموضوع الفلسطيني. في العام 1969 قام العزاوي وخمسة فنانين عراقيين آخرين، ردا على نكسة عام 1967، بالإعلان عن جماعة " نحو رؤية جديدة". وبمناسبة معرضهم الأول أصدروا بيانا اعلنوا فيه التحدي والوعد بصدد تصورهم لدور الفنانين العرب بالمجتمع.
غدت فلسطين في نظر الفنانين العرب موضع الخطاب الذي من خلاله سجلت المقاومة والتضامن والتحدي. تناول الفنانون في العالم العربي ، بمن فيهم العزاوي من العراق وناصر اليوسف من البحرين، احداثا صادمة مثل مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982. كان نبيل عناني أحد أفراد مجموعة من الفنانين ظهرت عام 1988 تحت اليافطة "نحو التجريب والإبداع"، والتي ترجمت ك " رؤية جديدة". ضمت المجموعة الفنانين الفلسطينيين فيرا تماري وسليمان منصور و تيسير بركات. وعلى غرار جماعة " رؤية جديدة" العراقية تجاوبت المجموعة الفلسطينية مع أحداث المرحلة ووجدت في الانتفاضة الأولى لحظة للتغيير من خلال رفض مواد الرسم المستوردة من إسرائيل ، والتي تركث أثرها على التعبير الجمالي. وبنفس القدر تمرد أعضاء المجموعة على الإنتاج الفني لجيلهم، حيث راوه موضوعا مبالغا فيه.

تشرح لارا الخالدي بالتفصيل كيف اجتاز نبيل عناني مرحلة التجريب الجديدة باستعمال المواد المحلية ، فتقول في مقالة خاصة: كانت الدعوة لمقاطعة جميع المنتجات الإسرائيلية إحدى الأنشطة المواكبة للانتفاضة؛ في هذه التجربة التي حملت شعار " الخروج الى النور"عام 1989، انطلقت الثورة الجديدة بالفن الفلسطيني.
في العام 1988، ولما يمض سوى أشهر ثلاثة على بدء الانتفاضة، اورد البيان الثالث الصادر عن قيادة الانتفاضة دعوة الفلسطينيين لمقاطعة منتجات إسرائيل. قرر الفنانون المشاركة بالمقاطعة وشكلوا مجموعة "نحو التجريب والإبداع" ، ( لاحقا رجعوا اليه باسم ’ رؤية جديدة‘). بدأ نبيل تجربته مع الجلد وشجعه عثوره بمدينة الخليل على دكان مختص بتصنيع الجلود. تكيف عناني بعد محاولات تجريبة عدة مع المادة الجديدة؛ تطلبت خبرة جديدة تختلف عن خبرة الرسم على الكانافاه والأولوان الزيتية. في أول لوحة اتقنها عناني باستخدام الحناء والجلد والشاي أسماها " الخروج الى النور". ان استخدام نبيل للمواد الأولية المحلية قد أعفاه من التزام الترميز المالوف والذي بولغ باستعماله؛ بينما مضى ارتباطه بالنضال بدون شكوك نظرا لان استعماله المادة بالذات ’نشاط ملتزم‘.على كل حال ، ما إن بدأت الانتفاضة وشعر الفناون انهم تخففوا من عبء الترويج لها، حتى تبين لهم فجاة البنية التحتية التي تنقل إبداعاتهم الجديدة.
بحلول اتفاقية أوسلو عام 1993، التي قصد بها إنهاء الانتفاضة ، واصل نبيل وآخرون طوال عقد التسعينات الرسم بالأدوات الجديدة؛ ربما كان هذا ’النشاط الثوري‘ الأبرز في إبداعاتهم، حيث بدلا من اتباع نظام فني جديد مطابق للنظام السياسي الجديد واصلواإبداع لوحات فنية مطابقة للانتفاضة. عندما سألتُ نبيل عن السبب برر ذلك بكونه يريد استنفاذ التجريب بالمواد الجديدة. جرى تجاهل هذه الحقبة في أعمال الفنانين لصالح العودة الى القديم؛ قد يفهم من هذا توقعات معينة من جانب الفنانين ، او ربما من الفن عامة في فلسطين، حيث ان مفهوم الثوري يعني فقط تصوير الناس ونقل معتناتهم وهمومهم وأفراحهم.
أخيرا نقدم حسني الخطيب شحادة يرصد تجاوب نبيل مع مكابدة شعبه مع قيود الاحتلال وإجراءاته التي لاتتوقف عن إرهاق الناس وجعل حياتهم لا تطاق. كما تلفت نبيل للتاريخ وفن الخط و، مثلما رصد انعكاس تردده في طفولته المبكرة على جده شيخ الطريقة الصوفية،علي داود أبو يوسف، في إبداعه الفني :
عاش نبيل كل مرحلة من مراحل المواجهة والصراع في فلسطين على الجبهات السياسية والاجتماعية والثقافية . وكان دوما يستجيب للأحداث بتحد، وبقوة وإبداع. تجده يخاطب المواضيع التي تؤلمه وتؤلم الفلسطينيين عموما. اوضح محتوى سياسي في لوحات نبيل المتنوعة هو المكابدة اليومية أثناء تنقل الفلسطينيين عبر نقاط التفتيش والتقاطعات التي تعيق حرية التحرك في أرجاء بلدهم المحتل. صور "معبر قلنديا "(2014) بالأوان وهيئات المسافرين بأعْيُنٍ مفتوحة ووجوه ملونة بالبرتقالي المشوب بالخضرة؛ اللون الرمادي الممزوج بالبني والأزرق تعطي معنى الانتظار والتوقع ، والحمامة البيضاء ترمز الى الفلسطيني المسالم ، رغم ان لوحة "معبر قلنديا" تنفي كل سلام او حرية.
كذلك في زيارة الأسرى "(2015)، تفضح الإرهاب في سجون إسرائيل ، نشاهد مجموعة من الرجال باللون الرمادي الفاتح وامراة يقفون قدام ممر طويل باللون الرمادي يعبر عن عزلة المصفدين داخل السجن ومعاناتهم. في نهاية الممر ظِل حارس السجن بجانب بوابة حديدية.السماء باللون الأصفر الغامق والممر الرمادي تكثف بشاعة المشهد. نبيل ، إذ يصور بشاعة السجن وإذلال لحظة العبور، فإنه يواجه فنيا احد نماذج النضال والتحدي يمكن ان تتخذ.
في لوحة "شقيقتان "(2015) تقف كل منهما على طرفي الجدار الحاجز، إحداهما تحمل قوارا به شتلة زيتون، يمكن ان يستدل منها على قصد الفنان دلالة على عدم توفر الأرض لزراعة الزيتون، بينما يتماثل كل من اللباس المطرز والطرحة البيضاء على الراس، ووقفة الانتظار بملامح حزينة على كلا الوجهين. جدار الأبارتهايد يقارنه الرسام بمشهد خضرة مترامية متخيل في أعلى اللوحة.
يرسم نبيل في لوحة " العلاقة "(2013 ست نساء جذب انتباههن لوحةٌ بمشاهد على شكل مستطيل متدرجة تمثل تعاقب فترات التاريخ الفلسطيني، عليها رسومات تعكس حضارة كل فترة. اللوحة عمل فني يكبسل التاريخ الفلسطيني كله منذ ما قبل التاريخ. في الحقبة الأولى إبداع الحضارة الإنسانية، والمرحلة الثانية تؤشر الى تاريخ الجهد البشري. ترى في المراحل التالية صورة قبة الصخرة وقباب كنائس ترمز الى إدخال الحضارة الى بلاد الشام(سوريا الكبرى).نجد مثال نجمة سداسية داخل دائرة اكتشفت في مبنى قديم لكنيسة داخل قصر هشام الأموي بأريحا ، مع بقايا كنائس مستعينا بالألوان والهيئات والرمز للاحتفاء بالتاريخ النبيل.
وفي لوحة "المخيم"(2013 )العنصر الرئيس في الفن التشكيلي الفلسطيني. نرى امرأة بثوب ازرق مقلم بخطوط راسية بيضاءـ تضع يديها على صدرها دلالة البؤس، وعينان مغمضتان؛خلفية اللوحة مزدحمة بالأكواخ تشيع الحزن؛ صفرة السماء الغامقة فوق الأكواخ تكشف هبوب رياح عاصفة وشيك ، لا يظهربالمخيم أدنى إشارة للفرح او البهجة.

"رحلة داخل المخطوطات" سلسلة لوحات أبدعها نبيل عناني عرضت في لندن عام 2007، جمع فيها مختلف الخطوط العربية. ترجع الى خطوط التراسل تعكس تطور منمنمات الحضارة الإسلامية بالعصر الوسيط . استعان نبيل بالوثائق الرسمية مثل تلك التي تحمل أختام الطغرة السلطانية لبني عثمان. وظّف نبيل الأشكال الهندسية من مثلث ودائرة ومربع، نجدها في كل لوحة تقريبا من السلسلة تؤكد حضورها الى جانب الكتابات، تظهر وجوه البشر داخل دوائر ؛ في إحدى اللوحات تقفز كلمة "سلطانية" خارج النص؛ ربما لتحدثنا هذه الكلمة ذات الشهرة بالقوانين والمراسيم الجائرة، إلا أنه في هذه الأيام ربما بدل الحكام والسلاطين القابهم ، لكن ظلم التاريخ لم يتبدل.
تقليديا الخطاطون الذين دونوا القرآن الكريم مارسوا مهنة، اتقنوا جميع الخطوط بالعربية – الثلث، الكوفي، النسخي، طومارر، الرقعة وغيرها، بالإضافة الى اكتساب معرفة بالديانة واللغة والتاريخ والفلسفة الإسلامية؛ فالخطاط ، إذن، لم يكن مجرد فنان، بل هو بحاجة الى ثقافة غزيرة. تلك هي الفلسفة التي يعرضها نبيل في المقابلات ، حين يؤكد أهمية الفن ودوره بالمجتمع. وكما في السابق شارك في إعداد المخطوطة بجانب الخطاط عدد من أصحاب التخصصات المهنية ، وكذلك يبدي العناني شتى المهارات لدى إبداع لوحة لوحده.
بعض لوحاته تتضمن آيات قرآنية، ونماذج من الفن الإسلامي تستعمل على نطاق واسع ؛ يصور نبيل، في لوحته " صفحات القرآن"(2007)، آيات قرآنية في كل لوحة ، بعضها يظهر بالخط الكوفي ، وتظهر أخرى بالثلث أو النسخي.. نرى صفحات قديمة مؤطرة بأشكال هندسية وإعادة إنتاج أعمال ووثائق ذكرت من قبل. في مجموعة محمود درويش " ورد أقل" تبرز أعظم جملة عبر بها في اللوحات "نحب الحياة إذا ما وجدنا لذلك سبيلا "
في لوحة "عنتر وعبلة" (2007) نجد في القسم العلوي صورة من مخطوطة إسلامية لقافلة جمال متجهة الى مدينة مكة تحمل حجاجا . الصورة الأصلية أبدعها الفنان الواسطي في القرن الثالث عشر ميلادي؛ تحتها سوريا اومصر نجد صورة لمعركة اتخذت من مخطوطة عربية أخرى. هذا التراث المرئي الغني يعتبر أحد أهم مصادر إبداعات نبيل في هذه السلسلة . ان انشغال نبيل وشغفه بالخطوط العربية ، كما يتضح في استعمال المخطوطات والنصوص في لوحاته الفنية تعكس اهتمامه العميق بالهوية وباللون والهيئة وبالفكر والفلسفة.
الأرض والزيتون
أشجار الزيتون من أهم الرموز التي يستعملها نبيل في مختلف إبداعاته لوحات كانت ام رسومات او تماثيل. وهذا متوقع من فنان يقر بتعاطفه العميق مع المشاهد الفلسطينية. والزيتون رمز أيضا لفقدان البلاد بعد 1967؛ من خلال عاطفته المتاججة يبدل نبيل المنظر الطبيعي لكرم زيتون الى مشهد سوريالي ، بأستعمال اللون والظلال والخطوط. ننظر الى تصويره للتلال والتضاريس فنرى مسطح الأرض مقسما بين مناطق مزروعة محاطة بسلسلة من الجدران الحجرية؛ نرى بيوتا قديمة في مؤخرة اللوحة، بحيث تغدو كل لوحة عرضا لطبيعة فلسطين وطوبوغرافيتها كما يراها خيال الفنان المولّه.
اللعب بالأبعاد خاصية أخرى لفن نبيل عناني، كما يحدث حين يختارتضخيم شجرة في مقدمة اللوحة بينما بالتدريج يقلص حجوم الأشجار الى أن تتخذ أشكالا شاذة تضيف الى سوريالية المشهد، نفس النمط للبيوت، وهيئات البشر والنصوص. نلاحظ نفس المعالجة لمختلف اللوحات.
نبيل فنان يؤكد بساطة الأشياء؛ ومع ذلك لا يكشف عما يكمن خلف اللون والهيئة وانسيابات اللون التي يقدمها للمشاهد. أبدع رسومات لمختلف الأماكن ما بين العامين 2010 و2013، لكنه قدم كل موقع بنموذج واـسلوب مختلفين ؛ يعكس ذلك التغير الدائم في رؤية الفنان.
"منظر الطبيعة في الربيع"(2012) يظهر كطيف من الألوان المائية الناصعة، تبدو وكأنهأ تبرز من سيكولوجية الفنان او من أعماق عقله اللاواعي. لوحة تختلف تماما عن لوحات المناظر الطبيعية السابقة. اختفت اهتماماته الشديدة بتفاصيل المكان والأشجار وحجارة الجدران والبيوت، لتحل مكانها ضربة فرشاة سائلة تمثل طبيعة لم نرها من قبل. ومع ذلك يظل نفس الفنان الذي يرسم من حدسه التجريبي ومن محبة اكتشاف الألوان والمواد الخام ومعالجة الأشكال بمختلف الأساليب. هذه اللوحة تجسد أحد أساليب نبيل التي تكسر القواعد التي أرساها هو نفسه في رسوماته الأخرى لمناظر الطبيعة.
راقب نبيل منذ عودته من الجامعة وباستمرار التطورات السياسية والاجتماعية والثقافية في فلسطين، معبرا عن مشاعره وأفكاره بصددها في إبداعاته الفنية. دوما ينخرط نبيل في البحث عن طرق جديدة لعرض تجاربه الجوانية. ينظر المرء الى عمله اليوم فيمارس قراءة التاريخ الفلسطيني من منظور فني باللون ومواد أخرى يستمد في تشكيلها تراثا ثقافيا مديدا ترك بصمته على التربة الفلسطينية. يبدع نبيل ، إذ يستعمل تجريبية متعددة المواد والمشاعر والأفكار، تنافرا صارخا بين الواقع المؤسي مخفيا خلف اللوحة وجمال فنه الممتع . هذا التجاذب الداخلي يبدو اللغة المميزة للفنان نبيل عناني .