متابعات - نشرة أسبوعية - العدد السّابع عَشَر – 29 نيسان/ابريل 2023


الطاهر المعز
2023 / 4 / 29 - 22:12     

يحتوي العدد السابع عشر من نشرة "متابعات" على التذكير باليوم العالمي للوقاية من حوادث العمل (28 نيسان/ابريل من كل سنة، منذ 1996) وفقرة قصيرة عن بعض جوانب انعدام الأمن الغذائي العربي ( وهو غير السيادة الغذائية) وفقرتان عن الوضع الإقتصادي المُعْتَلّ بالمغرب ثم بتونس، وفقرة تُلخّص تقرير المعهد الدّولي لبحوث السلام بستوكهولم (سيبري) عن الإنفاق على التسلح بالعالم، سنة 2022، تليها فقرة عن بعض الإضرابات في ألمانيا، كجزء من حركة إضرابات عَمّت قارّة أوروبا والولايات المتحدة، كما يحتوي هذا العدد على فقرة بشأن بعض الوضع في تركيا قبل انتخابات يوم الرابع عشر من أيار/مايو 2023، والتذكير بالماضي والحاضر المُظْلِمَيْن لتركيا، وفقرة بعنوان تدفُّقات مالية غير مشروعة، من "الجنوب" إلى "الشّمال"، عن سويسرا كبُؤرة لإخفاء المال المسروق والمُهَرّب، إلى سويسرا كما إلى الملاذات الضريبية الأخرى بالمستعمرات البريطانية والعديد من الولايات الأمريكية، وبالمناسبة هناك تذكير بتورّط سويسرا في فضائع مالية بالشراكة مع آل سعود ورئيس الوزراء الماليزي الأسبق نجيب رزاق، وفقرة بعنوان إنقاذ الرأسمالية وإغراق الكادحين والفُقراء وفقرة عن العلاقات الصينية الروسية ومحاولاتهما إرساء نظام عالمي بمواجهة القوة المالية والعسكرية الأمريكية...

يوم 28 نيسان/ابريل – اليوم العالمي للصحة والسلامة في مواقع العمل
هو اليوم العالمي لإحياء ذكرى العمال ضحايا ظروف العمل السيئة، لتذكيرنا بأن الصحة والسلامة المهنية حق أساسي، وليست خدمة أو ميزة ثانوية يجب التفاوض بشأنها، وتشير التقديرات إلى وفاة أكثر من 3 ملايين عامل سنويا وإصابة عشرات الملايين في مواقع العمل، ورغم انخفاض عدد الحوادث المميتة، إلا أن معدل تكرارها يختلف بحسب القطاعات والمناطق الجغرافية، حيث تبدو قطاعات مثل التعدين وبناء أو تفكيك السفن وقطاع المنسوجات والإلكترونيات وإنتاج المواد الكيميائية مُضِرّة بالصحة بسبب المواد الكيماوية والغُبار وكذلك بسبب الحوادث القاتلة، فيما تستمر الأمراض المهنية في قتل المزيد من العمال، جميع القطاعات بمعدلات تتكرر بشكل غير متناسب مع عدد العاملين ومع بلدان أخرى.
تمت إضافة الصحة والسلامة إلى المبادئ والحقوق الأساسية في العمل، التي وضعتها منظمة العمل الدولية (ILO)، خلال مؤتمر العمل الدولي بجنيف، في حزيران/يونيو 2022، وهذا يعني أن الدول الأعضاء في منظمة العمل الدولية تتعهد باحترام وتعزيز الحق الأساسي في بيئة عمل آمنة وصحية، سواء صدَّقَتْ أم لم تُصَدِّقْ على اتفاقيات منظمة العمل الدولية ذات الصلة.
بالنسبة لنشاط تفكيك السُّفُن، عندما تصبح السُّفُن ومنصات الحفر وغيرها من المباني العائمة، هرمة، لا يُرْجى إصلاحها، يتم تفكيك معظمها في الهند وبنغلاديش وباكستان من قبل العمال المهاجرين أو النازحين من الرّيف، بعقود هشّة، وتدريب غير كافي ومعدات بدائية، للقيام بعمل شاق وخطير للغاية يتم تنفيذه بدون حماية، ويعتبر تكسير السفن أحد أكثر الأنشطة خطورة في العالم، إلى جانب التعدين وصيد الأسماك والبناء والزراعة وما إلى ذلك، وفي بنغلاديش لا يزال العمل بدائيا، ولذلك بقي معدل الحوادث مرتفعًا للغاية، ولم تُصدّق اللحكومة على اتفاقية هونغ كونغ لإعادة التدوير الآمن والسليم بيئياً للسفن.
يتم ربط السفن ثم جَرُّها إلى الشاطئ بواسطة سلاسل إلى موقع الهدم، حيث يتم تقطيعها يدويًا إلى أقسام باستخدام المشاعل ويتم تفكيكها بمطرقة ثقيلة، وأدت ظروف العمل إلى تعدد الحوادث المميتة، وفي ميناء في جاداني الباكستاني، أدى انفجار خزان الوقود لإحدى السُّفُن، سنة 2016، إلى مقتل 28 عاملاً، خلال حادث واحد، كما يتعرض العمال للمواد السامة والمسببة للتلوث البيئي وللسرطان، وبالإضافة إلى ظروف العمل السيئة تتميز ظروف السكن والعيش بغياب السكن اللائق والمياه النّقِيّة والرعاية الطبية.
في الهند، تحسنت ظروف عمل تكسير السفن. بفضل اتحاد نقابي قوي فَرَضَ تصديق البلاد على اتفاقية هونغ كونغ وتنفيذها، ولكن لا يزال معدل الحوادث مرتفعًا ، حيث بلغ عدد القتلى ثمانية سنة 2022.
في بنغلاديش وباكستان، لا يزال تفكيك السفن نشاطا يدويا في الأحواض الخطرة، كما يُعد تعدين الفحم في باكستان عملا شديد الخطورة، حيث يتم الإبلاغ عن 300 حالة وفاة سنويًا، ولا يتم الإبلاغ عن العديد من الحوادث بسبب أوجه القصور الهائلة، بحسب النقابات، ولا يهتم مالكو أو مشغلو المناجم وكذلك أجهزة الدولة بحياة عمال المناجم، لأنه من الممكن تجنب العديد من الحوادث التي تحدث بشكل يومي، لو تم توفير الحد الأدنى من وسائل الحماية والوقاية، ولا يزال قانون التعدين في باكستان متخلفا، لم يتم تعديله منذ قرن كامل (أعدّه الإستعمار البريطاني بالهند) كما يتم استغلال العديد من المناجم بشكل غير قانوني، وغالبًا ما تستغلها شركات أجنبية ينوبها وكيل محلِّي كون أصحابها في الخارج ويوكلون مهمة استغلالها لمقاولين منمتعاقد من الباطن، أما العمال فالعديد منهم من المهاجرين الأفغان - يعملون باليوم، بدون حقوق ولا معدات السلامة، وتقوم المليشيات المحلية بفرض ومنع الإحتجاجات، وعند وقوع حادث ، نادرًا ما تتدخل فرق الإنقاذ بل يقوم عُمال المناجم بالحفر بوسائل بداية لإنقاذ زملائهم...
لهذه الأسباب، أقرت الحركة النقابية في العالم، منذ 1996، إحياء ذكرى ضحايا الحوادث والأمراض المهنية، يوم 28 نيسان/ابريل من كل سنة ويُعتبر نظام إدارة السلامة والصحة المهنية نهجًا وقائيًا يرمي إلى تطبيق إجراءات السلامة والصحة وتحسين ظروف العمل

عرب
نشرت منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) ، في أوائل نيسان/أبريل 2023، تقريرًا بعنوان "نظرة عامة إقليمية على الأمن الغذائي والتغذية في الشرق الأدنى وشمال إفريقيا" (أي في الوطن العربي)، وتم إعداد هذا التقرير بالتعاون مع الصندوق الدولي للتنمية الزراعية (إيفاد) ويونيسيف وبرنامج الأغذية العالمي ومنظمة الصحة العالمية ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا)، ويكشف التقرير أن 53,9 مليون شخص عانوا من انعدام الأمن الغذائي الحاد في بلاد العرب، سنة 2021 (آخر الأرقام المتوفرة)، بزيادة قدرها 55% منذ العام 2010 وزيادة قدرها خمسة ملايين شخص مقارنة بالعام 2020، ويقدر التقرير متوسط تكلفة نظام غذائي صحي بنحو 3,54 دولارًا للفرد، يوميّا، كمتوسط عالمي، و 3,47 دولارًا للفرد في الوطن العربي، ما يجعل أكثر من نصف سكان الدول العربية، أي 162,7 مليون شخص، غير قادرين على توفير نظام غذائي صحي ، بحسب بيانات سنة 2021، فيما يعاني 154,3 مليون عربي من انعدام الأمن الغذائي بشكل معتدل أو شديد، بنهاية العام 2021، كما يعاني المواطنون العرب من أشكال متعددة لسوء التغذية ويعاني نحو 20,5% من الأطفال دون سن الخامسة من التَّقَزُّم، بينما بلغت نسبة انتشار زيادة الوزن بين الأطفال دون سن الخامسة 10,7% سنة 2020، وتصل النسبة إلى 28,8% من السكان البالغين (18 سنة فأكثر)، وهو أكثر من ضعف المتوسط العالمي، وفقًا لآخر التقديرات المتاحة، بنهاية 2020، سنة "كوفيد -19".
يتطلب الأمن الغذائي والتغذية الصحية للسكان توافر المنتجات الغذائية المغذية والمتنوعة وإمكانية وصول الجميع إليها بأسعار مخفضة، ويمكن التغلب على سوء التغذية والصعوبات الناجمة عنها من خلال تطوير نظام زراعي محلي وإقليمي يسمح للبلدان العربية بتقليل التبعية والقضاء على العجز في الإنتاج ونقص الغذاء، وقد يكون قرار تطبيق هذه الإجراءات البسيطة خطوة نحو السيادة الغذائية.
المغرب:
انطلق حوار الطّرشان بين الحكومة ونقابات الأُجَراء يوم الجمعة 14 نيسان/ابريل 2023، بعد تنفيذ عدة تظاهرات واحتجاجات بعدة مدن مغربية ضد ارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية، وولم يُسفر اللقاء سوى عن تصريحات جوفاء لرئيس الحكومة "عزيز أخنوش" الذي أعلن إنشاء لجنة مُشتركة بمشاركة أرباب العمل، فيما تُؤكّد النقابات على ارتفاع معدل التضخم الرسمي (وهو دون الواقع) بنسبة 8,9% في كانون الثاني/يناير وبنسبة 10,1% في شباط/فبراير وبنسبة 8,2% في آذار/مارس 2023، على أساس سنوي، أي مقارنة بنفس النسبة لنفس الشهر سنة 2022، وعلّلت المندوبية السامية للتخطيط (الهيئة الرسمية المكلفة بالإحصاء) ارتفاع معدلات التضخم بارتفاع أسعار المواد الغذائية بنسبة 16,1% ( وبنسبة فاقت 20% قبل أيام من حلول شهر رمضان) وبسبب الجفاف وأسعار الطاقة و"تداعيات حرب أوكرانيا" بطبيعة الحال ! (يُرجى مراجعة العدد السابق من نشرة "متابعات")...
من جهة أخرى، التقى السيد عبد اللطيف حموشي، المدير العام للأمن الدّاخلي للمغرب، يومي 13 و 14 حزيران/يونيو 2022، بالولايات المتحدة مدير المخابرات القومية الأمريكية ومدير وكالة المخابرات المركزية ( سي آي إيه)، وليام بيرنز، بالإضافة إلى مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي (FBI)، كريستوفر وراي "، وزار هذا الأخير المغرب صحبة واستقبله عبد اللطيف حموشي في الرباط يوم 21 شباط/فبراير 2023، وتجدر الإشارة أن مكتب التحقيقات الفدرالي يحقق في الجرائم داخل الولايات المتحدة، على عكس وكالة المخابرات الأمريكية ( (CIA التي حل مُديرها ويليام بيرنز بالمغرب (ومعه وفد كبير من وكالة التجسس الأمريكية) واستقبله عبد اللطيف حموشي، يوم الجمعة 7 نيسان/أبريل 2023، صحبة سفير الولايات المتحدة بالمغرب، بحسب بيان صحفي صادر عن المديرية العامة لمراقبة الأراضي (DGST) ويُشير البيان إلى قِدَم التعاون بين أجهزة الأمن الأمريكية والمغربية، فالمغرب يلعب دَوْرَ وكيل أمريكا لتنفيذ عمليات التجسس العسكري والصناعي، كما أصبح وكيلاً للإستخبارات الصهيونية وفق ما نُشِر منذ سنتَيْن عن عمليات التجسس بأوروبا وبالوطن العربي، وكانت موضوعات هذه المحادثات الأمنية بين استخبارات الولايات المتحدة والمغرب (بحسب البيانات الصحفية المغربية الرسمية) “تقييم المخاطر الأمنية على المستوى الإقليمي وتوقع التهديدات الإرهابية في منطقة الساحل والصحراء الكبرى"
يتجلى الدّور المُتعاظم للولايات المتحدة بالمغرب، في ارتفاع الإستثمارات الأمريكية، التي أصبحت تحتل المرتبة الأولى للإستثمار الأجنبي المباشر بالمغرب، بنحو 7,4 مليار درهم، من إجمالي استثمارات أجنبية قدرها 21,75 مليار درهم، سنة 2022، بينما تراجعت الاستثمارات الفرنسية من 7,5 مليار درهم سنة 2021 إلى 3,.25 مليار درهم سنة 2022 ما يُشير أن عمالة حُكّام المغرب تحولت من الولاء لفرنسا إلى الولاء للإمبريالية الأمريكية (1 دولار أمريكي = 10,08 درهم مغربي).
تستحوذ الصناعات التحويلية، وقطاعات العقارات والنقل والتخزين والمعلومات والاتصالات على الجزء الأكبر من الاستثمار الأجنبي المباشر بالمغرب سنة 2022، وهذه ليست قطاعات تنتج سلعًا أو خدمات تلبي احتياجات السكان، كما إنها قطاعات لا تخلق سوى قيمة مضافة ضعيفة، وبعضها مُلَوث ويتطلب عمالة كثيفة ورخيصة، وهو ما يتوفّر بالمغرب.
في صفوف الشعب، ضاق الناس ذرعًا بتأثيرات الخصخصة وبارتفاع الأسعار ومعدلات التضخم، وتقدر منظمة الأغذية والزراعة تكلفة الغذاء الصحي في المغرب بـ 2,80 دولار للفرد في اليوم، وهو ما لا يتوفّر لنسبة كبيرة من السكّان، وبحسب تقرير منظمة الأغذية والزراعة ( فاو - مطلع نيسان/ابريل 2023)، يعاني 2,1 مليون مغربي من نقص التغذية، وارتفع معدل انتشار نقص التغذية من 4,4% بين عامي 2018 و 2020 إلى معدل 5,6% من العدد الإجمالي للسكان بين عامي 2019 و 2021، في بلد فِلاحي يُصدّر مئات الأطنان من الإنتاج الزراعي إلى أوروبا، سنويا، وبلغ معدل انتشار التَّقَزُّم بين الأطفال المغاربة دون سن الخامسة 12,9% سنة 2021 وبلغ معدّل زيادة الوزن بين الأطفال دون سن الخامسة 11,3%، فيما بلغ معدل انتشار علامات فَقْر الدّم لدى النساء في سن الإنجاب (15-49) نحو 30% سنة 2019 (آخر البيانات المتوفرة) ولا يتمكن 6,2 ملايين مغربي من تحمل تكاليف نظام غذائي صحي سنة 2020 ، أي حوالي 16,7% من العدد الإجمالي لسكّان البلاد التي هاجر ما لا يقل عن 12,5% من سُكّانها...
تونس
قدّمت رئيسة الحكومة التونسية يوم الثلاثاء 14 شباط/فبرابر 2023 عرضا للمديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي بشأن مدى تقدم برنامج الإصلاحات الذي اشترطه الصندوق لتوقيع الإتفاق النهائي لقرض بقيمة 1,9 مليار دولار، وذلك على هامش أشغال القمة العالمية للحكومات المنعقدة بِدُبَيْ من 13 إلى 15 شباط/فبراير 2023 تحت شعار “استشراف حكومات المستقبل"، من جهة أخرى تحاول الحكومة التونسية الحصول على قروض من أطراف أخرى، ولا تزال تُحاول التّوجّه إلى نادي باريس (مجموعة غير رسمية منذ 1956، بها 22 عضوا دائما من الدائنين ) لإعادة جدولة ديونها الخارجية، لتتمكّن من تمويل ميزانية 2023، بإيعاز من صندوق النقد الدولي الذي تبيّن له أن الدولة على حافة العجز وغير قادرة على تمويل ميزانية 2023 بعد ارتفاع حجم الدّيْن العمومي الذي بلغ بنهاية سنة 2022 نحو 35,8 مليار دولارًا، منها 21,1 مليار دولارا من الدّيُون الخارجية التي تُقدّر "خدماتها" بنحو 1,13 مليار دولارا سنة 2022، في مناخ يتميز بشح العملات الأجنبية وضعف النمو الاقتصادي وتراجع الاستثمار وارتفاع الأسعار ونسبة التضخم المالي وارتفاع حجم البطالة والفقر، بالإضافة إلى تراكم الديون، وانخفاض احتياطي العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي وهذه العملات (كالدّولار واليورو) ضرورية لتسديد الديون الخارجية ولتوريد السلع الأساسية كالغذاء والأدوية والمواد الأولية والطاقة ومواد التجهيز، ولجأت الحكومة التونسية إلى الإقتراض من المصارف المحلّيّة بفوائد مرتفعة.
شرعت الدّولة منذ سنوات في خفض قيمة دعم السلع والخدمات الأساسية، لكن تضمنت ميزانية 2023 تحت بَنْد “الإصلاحات الاقتصادية والجبائية” رفع الدعم عن مواد ضرورية بدأت أسعارها في الإرتفاع كالمحروقات والكهرباء والغاز والحليب والسكر والزيت لتطبيق "حقيقة الأسعار"، بما فيها الطّحين ومشتقات الحبوب بحلول سنة 2026، كما تعتزم الحكومة ( بحسب ما وَرَدَ بميزانية سنة 2023) تطبيق كافة شروط صندوق النقد الدّولي ومنها بيع حصة الدّولة في مؤسسات القطاع العام، بما فيها الأراضي الزراعية، و"تقليص كتلة الأُجُور" وتخفيف القيود على الإستثمارات الأجنبية وتنفيذ "الإصلاح الجبائي" بشكل يجعل الأجراء والموظّفين يتحملون عبء النقص في التحصيل الجبائي للدولة من أصحاب المِهن الحرة والشركات، زيادة على الضرائب غير المباشرة، مثل "الأداء على القيمة المُضافة" التي تتضرر منها فئة الفُقراء...
تتعدّى شُرُوط صندوق النّقد الدّولي الجوانب "التّقنية" فهي شُروط تَعَدِّي على سيادة الدّول التي تلجأ للإستدانة، ومنها "إعادة هَيْكَلة الدولة"، تحت شعار "الإصلاح ومحاربة الفساد وخلق مناخ ملائم للإستثمار وللتجارة الحرة وضمان المنافسة وحرية السوق..." واقتصار تدخُّل الدّولة على الجوانب الأمْنِيّة وضمان المناخ الملائم للأعمال بالإستثمار في البُنَى التحتية التي يحتاجها رأس المال الأجنبي والمَحلِّي كالموانئ الجوية والبحرية والطّرُقات والقطاع المصرفي "النّاجع"، وتشجيع الإستثمار عبر الحوافز الجمركية والجبائية، مقابل قَمْع العمل النقابي (وكافة هيكل وأُطُر التّكافُل الإجتماعي) والسياسي المُعارض لسياسات التّقشُّف وخَفْض الإنفاق الإجتماعي باسم "ترشيد الإنفاق"، وتقتصر رُدُود الدّولة على استخدام القوة لِفَضِّ الإحتجاجات والمطالب التي تَصِفُها ب"المُشِطّة" للكادحين والفُقراء.
تجارة السلاح
بلغ الإنفاق العسكري ذروة جديدة قدرها 2240 مليار دولار ( 2,24 تريليون دولارا) سنة 2022ن أو ما يعادل 2,2% من الناتج الإجمالي العالمي، وفقًا لتقرير صادر عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (Sipri) نُشر يوم الاثنين 24 نيسان/أبريل 2023، وهذه هي السنة الثامنة على التوالي من زيادة استثمارات التّسليح، وشَكّلَ اندلاع الحرب في أوكرانيا فرصةً لزيادة ميزانيات الحرب وأرباح شركات تصنيع الأسلحة، فضلا عن ارتفاع عدد المناورات العسكرية التي تنفّذها الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، في أوروبا وآسيا وفي جميع بحار العالم وخاصة على حدود روسيا والصين.
بلغ الإنفاق العسكري في أوروبا 480 مليار دولار سنة 2022، أو بزيادة 13% عن العام السابق - بعد خصم نسبة التضخم - وفقًا للتقرير، وهو أكبر نمو للإنفاق العسكري الأوروبي تم تسجيله منذ أكثر من ثلاثين عامًا والعودة - بالدولار الثابت - إلى مستوى الإنفاق سنة 1989، سنة انهيار جدار برلين.
أعلن الإتحاد الأوروبي، في العشرين من آذار/مارس 2023، إمداد أوكرانيا بمليون قذيفة مدفعية وصاروخ، خلال اثني عشر شهرًا، وللتذكير فإن الولايات المتحدة طلبت من أعضاء حلف شمال الأطلسي ( تُشكل الدول الأوروبية 90% من أعضاء وقُوّة حلف ناتو ) منذ سنوات عديدة زيادة الإنفاق العسكري، وكانت الحرب فُرْصَةً للضغط على أوروبا لتحمل نفقات الأسلحة والعمليات العسكرية في أوكرانيا، وبذلك تسلّمت أوكرانية أسلحة من أوروبا بعد بضع ساعات من بداية الحرب، وفق تصريح تشارلز ميشيل، رئيس المجلس الأوروبي، يوم 12 نيسان/ابريل 2023، وبذلك زاد إنفاق أوروبا العسكري بأكثر من الثلث خلال عشر سنوات، ومن المتوقع أن يستمر الاتجاه في التسارع في العقد المقبل.
بلغ الإنفاق الحَرْبِي الأمريكي نحو 39% من الإنفاق العالمي 2022، واحتلت المرتبة الأولى، تليها الصين بنسبة 13% وروسيا 3,9% والهند 3,6% والسعودية 3,3% التي لم تحارب لحد الآن سوى العرب والمُسلمين
ويؤكد السيد تيان: "تستثمر الصين بكثافة في قواتها البحرية ، لزيادة انتشارها نحو تايوان بشكل واضح ، وما وراء ذلك ، نحو بحر الصين الجنوبي". في المقابل ، تحاول اليابان ، ولكن أيضًا إندونيسيا ، وماليزيا ، وفيتنام ، وأستراليا أبعد من ذلك ، مواكبة ذلك.
تشكل بريطانيا ألدّولة الأوروبية الأكثر إنفاقًا على السّلاح بنسبة 3,1% من إجمالي الإنفاق العالمي تليها ألمانيا بنسبة 2,5% وفرنسا بنسبة 2,4% وارتفعت واردات الأسلحة إلى أوروبا بنسبة + 93% سنة 2022 وأصبحت أوكرانيا ثالث أكبر وجهة للسلاح في العالم، وارتفعت نفقاتها سبعة أضعاف إلى 44 مليار دولار أو ما يُعادل ثلث الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، دون احتساب عشرات المليارات من تبرعات الأسلحة من الخارج، بينما زاد الإنفاق الروسي على الأسلحة بنسبة 9,2% حسب تقديرات ( Sipri )، واستغلت الولايات المتحدة الفرصة لتفرض شراء طائراتها إف 35 باهظة الثمن إلى فنلندا وبولندا وهولندا والسويد وغيرها...
ألمانيا
اشتهرت ألمانيا، منذ فوز الحزب النّازي بانتخابات 1933، بخنوع سُكّانها – بالحديد والنّار – بذريعة "الإنضباط" والجِدِّيّة، وبعد حوالي تسعة عُقُود، عادت الحركة العُمّالية باحتشام و"بانضباط" إلى المُطالبة بظروف عمل أفضل وبرواتب أعْلَى، وشهدت البلاد عددًا من الإضرابات في قطاعات النقل ورعاية المُسنّين والأطفال وفي الجماعات المَحَلِّيّة، وتشهد ألمانيا هذه الأيام موجة من الإضرابات (إلى جانب فرنسا وبريطانيا ودول أوروبية أخرى) منذ شهر آذار/مارس 2023، منها يوم إضراب شامل هو الأول من نوعه منذ تسعينيات القرن العشرين، في قطاع النقل ( البري والجوي والحديدي) للمسافات الطويلة وداخل المدن، إضافة إلى المطارات الكبرى، تخلّلته جولة من المفاوضات بين النقابات وأرباب العمل، وتُطالب نقابات الأُجَراء بزيادة الرواتب بسبب ارتفاع أسعار الطاقة وارتفاع مستويات التضخم، وقدّرت نقابة "فيردي" زيادة الأجور بنسبة تتراوح بين 10,5% و12% بحسب القطاعات
نشط اتحاد النقابات العمالية "فيردي" خلال السنوات الأخيرة، وتَضُمُّ نحو 2,5 مليون عامل وموظف بالقطاع العام والخدمات العمومية، ودعت نقابة عمّال النقل إلى إضراب آخر يوم 21 نيسان/ابريل 2023، ما أدّى إلى شلل حركة النّقل بالكامل، متزامنا مع إضراب عمال خدمات المطارات، في أكثر أيام الأسبوع ازدحاما، وتتفاوض نقابة عمال سكك الحديد منذ نهاية شهر شباط/فبراير 2023 نيابة عن 230 ألف موظف، من بينهم 180 ألف موظف في "دويتشه بان" ( السكك الحديدية الألمانية)، والباقون يعملون في شركات نقل أخرى...
يُعتبَر اقتصاد ألمانيا هو الأَقْوى في الإتحاد الأوروبي، وذلك بفعل الإستغلال الفاحش للمُنتِجِين والكادحين، وبفعل فَرْض الإنضباط الحديدي المُتوارَث عن بيسمارك وهتلر، وفي ألمانيا، يضطر حوالي مليون مُتقاعد إلى العمل، بسبب المبالغ الضعيفة لمعاشات التقاعد لملايين المواطنين...
تركيا
يحكم حزب الإخوان المسلمين ( العدالة والتنمية) البلاد منذ 2002، وتجري الإنتخابات التشريعية والرئاسية يوم 14 أيار/مايو 2023، في ظل ارتفاع الأسعار ونسبة التضخم ( 50% بنهاية آذار/مارس 2023) وضُعْف النُّمُو وانهيار العُمْلة المَحَلّيّة (اللّيرة)، ما قد يُرجّح كفة زعيم حزب الشعب الجمهوري (تيار كمالأتاتورك، مؤسس الدّولة التركية بعد انهيار الدّولة العثمانية بنهاية الحرب العالمية الأولى) "كمال كيليشدار"، وهو مُرشّح ائتلاف المعارضة في الإنتخابات الرئاسية بمواجهة رجب طيب أردوغان، ومهما كان الفائز منهما، تبقى تركيا عضو نشط في حلف شمال الأطلسي وذات أطماع توسُّعِيّة في سوريا وقبرص والعراق ومجمل المشرق العربي وآسيا الغربية والوُسطى، وتبقى تركيا حليفًا موثوقًا للكيان الصهيوني، وتميّزت فترة حكم حزب الشعب الجمهوري بعمليات إبادة وتطهير عرقي ضد الأرمن والأكراد، واستخدام الأكراد ضد الأرمن، قبل أن يأتي دور الأكراد الذي فَرّ عشرات الآلاف منهم إلى سوريا، وسمح لهم جمال عبد الناصر خلال فترة الوحدة (الجمهورية العربية المتحدة، بين سوريا ومصر، من 1958 إلى 1961) بحرية الحركة والإقامة، فأصبح بعض الزعماء الأكراد الإنتهازيين يُطالبون اليوم بالإنفصال، بدعم أمريكي وأطلسي، لذا ومهما كان الفائز لن يتخلّى عن مشاريع الهيمنة وعن قطع مياه دجلة والفرات عن سوريا والعراق...
قبل ثلاثة أسابيع من تاريخ الإنتخابات، أطلقت الشرطة حملة مداهمات واعتقالات واسعة، يوم 25 نيسان/ابريل 2023، شملت ما لا يقل عن 110 أشخاص ( ربما 150 بحسب بعض المصادر)، في 21 محافظة، منهم محامون وصحافيون وفنانون وسياسيون، بذريعة "مكافحة الإرهاب" وتستهدف الحملة حزب العمال الكردستاني، عشرين محاميا وخمسة صحافيين وثلاثة ممثلي مسرح وسياسي...
يتبنّى الرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه "العدالة والتنمية" إرث الدّولة العثمانية، ويدعو إلى عودة الخلافة، أي الهيمنة على العرب والمسلمين وإخضاعهم لتركيا، مع الإشارة أن الأكراد أبناء المنطقة أما الأتراك فإنهم من آسيا الوُسْطى، ويعود أصل العثمانيين إلى قبائل تركمانية من وسط آسيا ( بين جبال الطاي وبحر قزوين)، اضطر أفرادها للفرار من غزو المغول، والترحال نحو الأناضول، خلال فترة حكم "السّلاجقة" (الرُّوم) سنة 1123 م، وتعود تسمية العثمانيين إلى فترة هزيمة السلاجقة ( دولة قُونِية) أمام المَغُول، حيث أعلن القائد التركي عثمان استقلاله عن السلاجقة ولقّب نفسه "عاهل آل عثمان"، وانتقلت قيادة جيش المرتزقة الذي استعان به خلفاء الدولة العباسية، من السلاجقة إلى العثمانيين، وحَكَمَ الدولة العثمانية 36 سلطاناً، وروج مؤسسو الدولة العثمانية أن مؤسس الدولة السلجوقية الأمير سلجوق، هو يهودي من يهود القوقاز، والدليل أنه سَمَّى أبناءه: داوود وإسرائيل وموسى ويونس وميكائيل، وحارب السلاجقة الدّولة الفاطمية، إلى جانب الدّولة العباسية، وشملت دولة السلاجقة، في القرن الحادي عشر (ميلادي) العراق والشام وخراسان (إيران) وآسيا الصغرى وكرمان، وبعد هزيمة الدّولة السلجوقية، ازداد عدد الأتراك الذين يتلون مناصب إدارية وعسكرية عُليا في بلاط الخلفاء والأمراء العباسيين، خصوصًا خلال فترة حكم المعتصم (توفي سنة 842)، وكانت تلك بداية ظهور دور الأتراك (كمرتزقة ) إلى أن أسسوا دولتهم وهيمنوا على العرب، باسم الإسلام، وعلى جزء من أوروبا...

روسيا والصّين
حدّدت روسيا والصين هدفا يتمثل في ارتفاع قيمة المبادلات التجارية إلى 200 مليار دولارا سنة 2024، وبلغت 185 مليار دولارًا بنهاية سنة 2022، ونما حجمها بنسبة 116% خلال عشر سنوات، وفق تصريح الرئيس الرّوسِي فلاديمير بوتين، يوم 13 آذار/مارس 2023، وارتفعت حصة التجارة المُقَوّمة بالعُمْلَتَيْن المحلِّيَّتَيْن، وفي مجال الإستثمار أقَرّت اللجنة الروسية الصينية للتعاون الاستثماري عشرات المشاريع بقيمة 165 مليار دولارا...
تدعو روسيا والصين إلى تأسيس نظام دولي "مُتعدّد الأقطاب" تَكُون الدّولتان نَوَاته الأولى، كبديل لنظام "القُطْب الواحد" الذي تُهَيْمِنُ عليه الولايات المتحدة، أي تغيير مركز قيادة النظام الرأسمالي العالمي، مع البقاء ضمنه ولا توجد أي إشارة إلى وضع حدّ للتعامل ضمن قواعد رأس المال المَبْنِيّة على استغلال الطبقة العاملة والكادحين من مياومين ومزارعين ومُهَمَّشين وفُقراء، وهيمنة على الشُّعُوب المُسْتَعْمَرَة والواقعة تحت الإضطهاد، ولنا في العلاقات الوطيدة للصين وروسيا مع الكيان الصهيوني نموذج للعلاقات المصلحية والإنتهازية التي تُريد أنظمة الصين وروسيا إرساءها كبديل زائف أو مَغْشُوش للهيمنة الأمريكية.

إنقاذ الرأسمالية وإغراق الكادحين والفُقراء

بعد أيام قليلة من تعثر بنك وادي السيليكون، خَصّصَ الاحتياطي الإتحادي الأمريكي ما يقرب من 300 مليار دولار لإنقاذ المصارف، بينما يرفض المُشرِفُون عليه تمويل الاحتياجات الأساسية للسكان، مثل الرّعاية الصحيّة والسكن اللائق ومعاشات التقاعد والخدمات العامة، وغالبًا ما تَتَعَلَّلُ الحكومات بنقص الأموال أو بعجز الميزانية لتبرير خصخصة الخدمات العامة أو إلغاء الحوافز الاجتماعية ... ومع ذلك، كلما واجه رأس المال المالي والشركات الكُبْرى صعوبةً مالية أو اقتصادية (أحيانًا بسبب الخيارات الخاطئة أو سوء التّصرّف)، تجد الحكومات مبالغ كبيرة من المال، في زمن قياسي، لتوزيعها مجانًا على المصارف والشّركات، وخلال الأزمة الحالية للمصارف ترفض الحكومات والمصارف المركزية التي تقدم المال العام للأثرياء، أن تضمن للزبائن استرداد أموالهم المُودَعَة في المصارف الأمريكية أو الأوروبية التيس أعلنت إفلاسها أو عجزها عن مواصلة نشاطها...
فيما يتعلق بالإجراءات المتخذة، خلال الأزمة الأخيرة، في الولايات المتحدة، معقل الرأسمالية الاحتكارية، رفع الاحتياطي الإتحادي الأمريكي سقف ضمان الودائع لتجنب فقدان الأثرياء أموالهم، وأسارَعَ بتزويد المصارف بالسيولة الضرورية بسرعة مذهلة. وهكذا حول الاحتياطي الإتحادي نفسه إلى منقذ للمصارف ذات "الأصول الفاسدة"، لما خصّصَ مبلغ 300 مليار دولار لتوزيعها على المصارف، كما أعاد نظام تبادل السيولة مع المصارف المركزية الكبرى في العالم، لتثبيت سعر الصرف، كما تصرف المصرف المركزي السويسري بنفس الطريقة وفتح على الفور خط قروض بأكثر من 100 مليار فرنك سويسري لتأمين عملية استحواذ اتحاد المصارف السويسرية على مصرف كريدي سويس، وخلق مصرف ضخم جدا، وأشرف المصرف المركزي السويسري على عملية الاستحواذ، بإيعاز من الحكومة.
تعود جذور الأزمة المصرفية الحالية إلى التحول في الدورة المالية الناتج عن السياسة النقدية للدول الرأسمالية المتطورة ومصارفها المركزية، والتي تتمثل في تزويد المصارف بمبالغ كبيرة من السيولة المجانية (الخالية من الفوائد) منذ سنة 2008، فكانت أموالاً "سَهْلَة" لم تكن ناتجة عن استثمارات، بل كانت أموالاً مجانية للأغنياء الذين لا يُساهمون سوى بنحو 20% فقط من الضرائب والرسوم التي يتم تحصيلها من قبل هذه الدول نفسها التي تطبق الصرامة (التقشف وخفض الإنفاق الإجتماعي) للعمال والموظفين وصغار الفلاحين والفقراء.
تجهد المصارف المركزية مرة أخرى لإنقاذ المصارف وإنقاذ الرأسمالية ولكنها ترفض تمويل مشاريع المرافق العامة أو المشاريع الجماعية في أحياء الطبقة العاملة وفي الريف الذي يفتقر سُكّانُهُ إلى البنية التحتية والنقل العام والمدارس والمستشفيات وما إلى ذلك.

تدفُّقات مالية غير مشروعة، من "الجنوب" إلى "الشّمال"
سويسرا، مأوى اللصوص
أعلنت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أنَّ الدّول الرأسمالية المتطورة تُخصّص مبلغًا وسطيا بقية 120 مليار دولارا، وارتفع المبلغ إلى أكثر من 160 مليار دولار، سنة 2020، " لدَعْم التنمية في الدّول الفقيرة ومساعدتها على مواجهة الأزمة الصّحّية"، ولئن بدا هذا الرقم ضخمًا، ويتم تقديمه كمساعدات، فهو في الواقع لا يفوق 0,3% من الناتج المحلي الإجمالي للدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي التزمت بتخصيص 0,7% من دخلها القومي الإجمالي "للمساعدة الإنمائية الرسمية ذات الطابع العمومي"، والمُساعدات هي في واقع الأمر استثمارات مُرْبِحَة اقتصاديا وإعلاميا وسياسيا...
تُشير الوقائع والأرقام أن الأموال لا تتدفق باتجاه واحد من الشمال إلى الجنوب، أو من الدّول الرأسمالية المتطورة إلى الدول "النامية"، بهدف تنميتها، بل إن البلدان الغنية تتلقى تدفقات مالية قادمة من الدول الفقيرة أكثر بكثير مما يتم تحويله في الاتجاه المعاكس، وفق مُذكّرة صادرة عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، سنة 2020، وتُظهر المذكرة أنَّ بعض نماذج التنمية التي فرضتها الدّول الغنية فشلت وتسبّبت في أضرار كثيرة، فضلاً عن تكبيل الدّول الفقيرة بالدّيون الخارجية (بتعلة تحقيق التنمية ) ما اضطر هذه الدّول لتخصيص مبالغ هامة لتسديد حصص الدّيون وفوائدها، بدل الإنفاق على التنمية والخدمات الأساسية، وبلغت حصّتها من الناتج المحلي الإجمالي نحو 60% في الغابون و46% في أنغولا، مقابل 3% إلى 4% في معظم دول أوروبا الغربية، فضلا عن معاناة الدّول المُقْتَرِضَة من عجز الميزان التجاري لأنها تستورد أكثر مما تُصدّر، أو تُصدّر المواد الخام التي لا تستقر أسعارها، كما تُسدّد حصص الدّيون بالعملات الأجنبية، وأكّد تقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية ( بنهاية شهر آب/أغسطس 2021) إن مئات المليارات من الدّولارات تتدفق من الدّول "النامية" باتجاه الدول المتقدمة كل عام، أي تهريب الثروات ورؤوس الأموال من الفقراء إلى الأغنياء، وبقيت هذه الدّول تدور في حلقة مفرغة، حيث بلغ العجز المتراكم على البلدان النامية بين سنتَيْ 2000 و2017 حوالي 11 تريليون دولارا، أو ما لا يقل عن ثلاثة أضعاف القيمة الإجمالية المُدرجة تحت عنوان "مساعدات" وفق الأرقام الرسمية، التي لا تتضمن المبالغ المُهَرّبة من قِبَل الشركات والمصارف الأجنبية والمحلية والصفقات المشبوهة وغسيل الأموال والتهرب الضريبي، وتزوير فواتير التوريد والتّصدير إلخ.
قدّرت منظمة النزاهة المالية العالمية، قيمة التدفقات المالية غير المشروعة سنة 2019 "بنحو 20% من مجمل التجارة في البلدان الناشئة ذات الاقتصاد المتقدم"، وتدخل هذه الإستثمارات ثم تخرج مُضاعفة دون أي إسهام في التنمية، بينما تحتاج البلدان الفقيرة توجيه هذه المبالغ لتطوير القطاعين الفلاحي والصناعي والبُنية الأساسية والصحة والتعليم والبحث العلمي، وقدّر البنك العالمي المبالغ التي يتم اختلاسها، ب 20 إلى 40 مليار دولار سنوياً من قِبَل زعماء سياسيين فاسدين، لإخفائها في حسابات مصرفية بالملاذات الضريبية، ومن بينها سويسرا والعديد من الولايات الأمريكية ومُستعمرات (جزر صغيرة قليلة السكان) بريطانية، وعندما يتم اكتشاف وثائق تثبت وجود هذه الأموال بالمصارف الأجنبية، يعسر، بل يكاد يستحيل استرداد هذه الأموال المنهوبة، وسبق أن نشرت بعض وسائل الإعلام، منها صحيفة "زود دويتشه تسايتونغ" الألمانية، تسريبات مُوَثَّقَة قبول مصرف "كريدي سويس" (قبل استيلاء اتحاد المصارف السويسرية عليه) أموالاً مشبوهة المصادر أودَعها مسؤولون فاسدون ومجرمون ومُنتهكون حقوق الإنسان...
انتقام؟
عند إعلان انهيار مصرف كريدي سويس، طلبت سويسرا من السعودية – التي تمتلك حوالي 7,5% من أسهم كريدي سويس، إنقاذه وضخ مبالغ مالية كبيرة، لكن رفض آل سعود، وأعلن رئيس مجلس إدارة المصرف الأهلي السعودي (عمّار الخضيري) أن الأهلي السعودي لا يُمكنه تقديم المزيد من الأموال لأسباب تنظيمية، وإنه سوف يبيع أسهمه بمجرد بلوغها سعرًا مناسبًا، وساهم هذا التصريح في انخفاض سعر أسهم كريدي سويس وفي تهافت المودعين على سحب أموالهم (رويترز 15 آذار/مارس 2023) وادّعت وسائل الإعلام السويسرية إن هذه التصريحات شكّلت بداية النهاية لثاني أكبر مصرف سويسري، فيما تعزو وسائل الإعلام السعودية انهيار المصرف إلى "سلسلة من الفضائح على مدى سنوات عديدة، وتغييرات في الإدارة وخسائر بمليارات الدولارات، واستراتيجية غير ملهمة خلقت الفوضى التي أدّت إلى انهيار المصرف البالغ من العمر 166 عاماً " (موقع قناة "العربية" )
ردّت وسائل الإعلام السويسرية (بإيعاز من الحكومة الإتحادية ) بإعادة طرح قضية وقعت بالفعل، لكنها تعود إلى سنة 2015، وتتمثل في علاقة السعودية بماليزيا خلال فترة حكم نجيب رزاق الذي شغل منصب رئيس وزراء ماليزيا من 2009 إلى 2018، والذي أسّس الصندوق السيادي "ماليزيا ديفلوبمنت برهاد" لتعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية في ماليزيا، وجمع الصندوق مليارات الدولارات المحصلة من الضرائب، وتم إيداعها في سويسرا، لكن الصندوق أصبح مُثقلاً بالديون بعد ست سنوات، وبدأ مكتب المدعي العام الفدرالي السويسري تحقيقاً ( خريف سنة 2015) بشأن ما إذا كان جزء من أموال هذا الصندوق السيادي قد تم اختلاسها وتدفقت عَبْر حسابات في مصارف سويسرية...
خلقت هذه القضية جدلا واتهامات للنظام السعودي الذي يدعم نجيب رزاق وأدّت إلى انتخابات أزاحت نجيب رزاق وآل سعود، وفي سنة 2021، حكَمَت محكمة ماليزية على رزاق بالسجن لمدة 12 عاماً بتُهمة الفساد التي جاءت على خلفية اختلاس ملايين الدولارات من الصندوق السيادي الماليزي، واستأنف رئيس الوزراء السابق هذا الحكم، لكن سويسرا (خلافًا لبلدان أخرى) لم تَقُم بإعادة الأموال المُجَمَّدة إلى ماليزيا، وبعد انهيار مصرف كريدي سويس ورفض آل سعود ضخ أموال إضافية، أحيت سويسرا هذه القضية، ووجه مكتب المدعي العام السويسري، يوم 25 نيسان/ابريل 2023، اتهامات إلى مديرين تنفيذيين لشركة الطاقة "بترو سعودي" أمام المحكمة الجنائية الفدرالية (موقع سويس انفو 26 نيسان/ابريل 2023)، بتهمة "اختلاس وغسيل 1,8 مليار دولار" من خلال مشروع مشترك بين الصندوق السيادي الماليزي "1MDB" الاستثماري وشركة "بترو سعودي".
للتذكير: لما أعلنت الولايات المتحدة تجميد أصُول المصرف المركزي الأفغاني البالغة حوالي تسعة مليارات دولارا، رفضت سويسرا إعادة مبلغ قدره 3,5 مليار دولار، من أموال الشعب الأفغاني، كانت ولا تزال مودعة في صندوق ائتمان سويسري، كما أعلنت شروطًا تعجيزية لإعادة الأموال التي هربها حسني مبارك أو زين العابدين بن علي أو العديد من الحكام واللصوص من الفلبين إلى هايتي...