انتفاضات ايران والعراق ولبنان: ما أسباب الانتكاسات؟


أنور نجم الدين
2023 / 4 / 29 - 10:53     

خلال العقد الأول من الأزمة الاقتصادية التي انطلقت في الربع الأخير من عام 2008، انتشر وباء يدفع المجتمع البشري دون انقطاع نحو حالة من الهمجية والمجاعة والدمار. وكما بينت أحداث الأزمة خلال عشر سنوات 2008-2018، فإن علاجها سيكون فوق قدرة صانعي القرار، فالدولة الوطنية عاجزة كليا عن تقديم أي علاج أو حتى تقليل أضراره. فحسب التجربة، تحدث الأزمة في نطاق محدد، ولكن تتسع رقعتها لينتشر مثل الوباء بين بلدان العالم. فالأزمة هي من الفيروسات الأكثر انتشارا وتدميرا في تاريخ الإنسانية. أما فيروس الأزمة الاقتصادية لا تنتشر من الخفافيش والجرذان، بل تأتي من اختلال التوازن الناتج من الفائض في إنتاج وسائل الإنتاج وأقوات عاملة والسلع التي تدخل السوق يوميا دون حسبان الحساب للحاجات البشرية، الأمر الذي يؤدي مع الوقت إلى ركود تام في الاقتصاد العالمي، أي إلى الانخفاض في الاستثمار والاستهلاك والإنتاج الصناعي والتجارة تصاحبها الإفلاس والبطالة والفقر وارتفاع التضخم والمجاعة في العالم أجمع. وهذا الانهيار الحتمي، سيؤدي إلى اتساع ساحة المعارك الطبقية، كما شاهدناها في الآونة الأخيرة في إيران والعراق ولبنان.
والموضوع الذي نحن بصدده هنا، هو أن المعارك الطبقية هذه، لم تسجل أي تقدم في ايران ولبنان والعراق رغم عدة أشهر من النضال الدموي، والاعتصامات، وقطع الطرق، والسيطرة على موانئ النفط، وتحويل ميدان التحرير في بغداد إلى شكل من أشكال الإدارة الذاتية ورمز حقيقي للتضامن الاجتماعي. فلا تزال الطبقة المسحوقة غير قادرة على القيام بالتقدم في حركتها في العراق أو لبنان رغم استمراريتها. فهل تسجل هذه الطبقة على رايتها أي تقدم في خطواتها اللاحقة التي ستأتي دون شك نتيجة تطوّر الأزمة الاقتصادية إلى الأسوأ؟
إن الوباء الذي أصاب كل مجالات الحياة الاقتصادية، قد يزيد من ثقل الأرستقراطية المالية التي تقف على أكتاف طبقة الفقراء بشكل لا يطاق. وكل ما لديه سلطة الدولة من الدعوة، فهو الإصلاح الانتخابي لا أكثر. أما الحق الانتخابي، لا يعطي الطبقات الفقيرة عصا السحرية للإنقاذ من العبودية الاجتماعية. فما إذاً الضعف الأساسي لحركة طبقة الكادحين في العراق ولبنان وايران؟
أن النضال الطبقي ضد أساليب الاضطهاد الرأسمالي ثانوية في هذه الحركات لحد اليوم. فالنضال كان موجها ضد الإفلاس، أي ضد الرأسمال الكبير: الصناعي والتجاري والمصرفي وضد فساد الاستقراطية المالية. وهذا النضال هو غلاف الانتفاضات في الشرق الأوسط عموما والعراق ولبنان على الأخص. فالنضال كان متواصلاً في كل من العراق ولبنان وايران، ولكن اقتصر فقط على المطالب الآنية لا الهجوم على مصالح الطبقة الأرستقراطية المالية الحاكمة. ولا يمكن أن تسجل طبقة الشغيلة على رايتها أي انتصار ما لم تبدأ باستخلاص نتائج التجارب السابقة أولا، وتوحيد الجهود في أهداف اجتماعية مشتركة ثانيا. ففي الغالب يقع محرك هذه الحركات، أي الشباب تحديداً في لبنان والعراق وكردستان العراق وإيران وتونس والجزائر؛ فريسة للإحباط الذي سرعان ما يتحول إلى اليأس.
وهكذا، فإذا نظرنا إلى الوضع عن كثب، فسنكتشف بسهولة أن سبب الانتكاسات ليس هو سلطة قوية أمام جماهير الكادحين، بل العقبات التي تحملها الحركة الجماهيرية داخلها. فأكثر ما يمكن فهمه، هو أن الدروس التي اكتسبتها الطبقة الشغيلة، لا تزال بعيدة عن التغلب على الحواجز التي تعكس العقبات التي تواجهها حركة الجماهير الكادحة في لبنان والعراق، وهو ما يقلب بالطبع ميزان القوى لصالح الطبقة السائدة. فما هو ضروري ليس هو التعاون فحسب، بل التخلي أيضاً عن الشعارات والأفكار التقليدية من الحركات الطبقية القديمة التي لا تؤدي إلا إلى تسميم الحركة وتسليحها بمختلف الأسلحة العتيقة، كالانتخابات مثلا. فإن الانفجار العام وتحول التذمر إلى انتفاضات بفضل حوادث اقتصادية عالمية الشأن، مثل تضخم الأسعار وغلاء المعيشة، ذات أهمية عظيمة بالنسبة للحركات الاجتماعية التي ستظهر في آن واحد في كل مكان وتصبح دعامة اجتماعية لبعضها البعض. وهذا الغلاء، لا علاقة له بجائحة كورونا أو حتى بالحرب الروسية-الأوكرانية، كما يقال. فارتفاع تضخم الأسعار يحدث كل 10 سنوات على الأقل. والسبب هو قانون اقتصادي يفرضه التقدم المستمر في الأساليب الإنتاجية الرأسمالية ذاتها، فنتيجة للنزاع التىافسي بين الرأسماليين، سيضطر كل رأسمالي فردي إلى تحسين أدواته الإنتاجية لمجرد البقاء في ساحة المنافسة. أما الزيادة في قيمة القوة الإنتاجية، وعلى الأخص قيمة رأس المال الثابت، ينشط الفائض في الإنتاج والفائض في السكان والأزمات والمضاربة وتضخم الأسعار. هذا بالإضافة إلى ارتفاع أسعار المواد الأولية نتيجة لاستخدام نفس الطرائق الجديدة في إنتاج هذه المواد الأولية. وإضافة هذه الزيادة إلى أسعار المنتجات الصناعية بين حين وآخر، يعني في الواقع ارتفاع قيمة الإنتاج ثمة ارتفاع الأسعار السوقية لهذه المنتجات. هذا وبالإضافة إلى النسبة الفعلية بين طلب المواد الأولية والمواد الغذائية وبين عرضها بسبب الحرب الروسية-الأوكرانية. وكما هو معلوم، فتنفق الطبقة الشغيلة عموما وفي كل مكان أجورها على حاجات استهلاكية ذات ضرورة أولية. وبالتالي فإن الارتفاع العام في قيمة النتاج، يعني الارتفاع في الحاجات المعيشية للشغيلة. فالمنتجون لهذه الحاجات، أي الرأسماليين، يعوضون عن زيادة قيمة رأسمالهم الإنتاجية التي يدفعونها، بارتفاع أسعارهم السوقية وبانخفاض الأجور وطرد الملايين من العمل. فحسب آخر تقرير لبرنامج الأغذية العالمي بلغت نسبة انتشار الفقر في العراق أكثر من 30%، وفي ايران 60%. كما وارتفعت معدلات البطالة في لبنان بعد تزايد تسريح العمال والموظفين وإفلاس مئات الشركات والمؤسسات بذريعة الحد من الخسائر المالية بعد تفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد. وفي الحالة هذه، لا بد من وقوع الاصطدامات من جديد بين الطبقات. أما درجة شدتها تحددها درجة تطور الأزمة الاقتصادية إلى الأسوأ. ففي تعمق الأزمة الاقتصادية والصراعات الاجتماعية الجديدة، ستفقد الطبقة الشغيلة القدرة على القيام بأية حركة واسعة دون استخدام قوتها المتعاظمة بصورة منتظمة، فالشرط الضروري للتقدم، هو الانتظام في حركة اجتماعية منظمة تربط بين أجزائها مجالس الشغيلة. فلا يمكن للحركة أن تحرز النجاح، دون إقامة المجالس والإدارة الذاتية في جميع المجالات.