على طريق استنهاض قوى اليسار الماركسي في الوطن العربي لتحقيق الثورة الوطنية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية


غازي الصوراني
2023 / 4 / 27 - 22:44     


لا أعتقد أن تقييم المرحلة الراهنة من وجهة نظر أحزاب وفصائل اليسار الماركسي في مغرب ومشرق الوطن، ينطلق من كون هذه المرحلة هي الأخطر والأشد قتامة في حياة وتطور شعوبنا ومجتمعاتنا ، في ظل ظروف موضوعية باتت تستجدي صحوة العامل الذاتي ، وأقصد بذلك  الحزب/الفصيل اليساري الماركسي الثوري، فهي مرحلة تستدعي منا مراجعة تجارب احزابنا وفصائلنا بعقل موضوعي ونقدي وصولا الى الرؤى والبرامج التي تجسد - عبر الممارسة - مصالح واهداف جماهير العمال والفلاحين الفقراء وكل الكادحين والمضطهدين في بلادنا وتحريضهم ضد كل اشكال ومظاهر الاستغلال الطبقي ومن ثم تنظيمهم والتوسع في صفوفهم تمهيداً لمراكمة عوامل الثورة الوطنية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية .
 إن الأوضاع والظروف السياسية والمجتمعية السائدة في بلدان وطننا العربي في مرحلة الانحطاط الراهنة ، لا تبشر بفرص ثورية في الأمد المنظور، رغم أن وقائع الحياة تؤكد لنا أن هناك أسساً وعوامل موضوعية تستدعي تفعيل نشاط الحركات الثورية الهادفة الى توعية وتحريض وتنظيم جماهير العمال والفلاحين الفقراء وكافة المضطهدين ، للنضال صوب تحقيق هدف اسقاط أنظمة التبعية والتخلف والاستبداد والاستغلال الكومبرادورية الحاكمة في بلادنا من جهة ، ومواصلة النضال صوب انهاء ضد الوجود الامبريالي الصهيوني من جهة ثانية ، لكن تلك الأسس الموضوعية تحتاج بالضرورة الى استنهاض العوامل الذاتية/الأحزاب اليسارية لكي تمارس دورها الطليعي وتفعيله للارتقاء بالتراكمات الكمية والوصول بها الى لحظة التحولات النوعية أو القطع الثوري .
  ففي ظل بشاعة الهيمنة الامبريالية والصهيونية ، وفي ظل بشاعة الاستبداد والتخلف والتبعية والتفكك وعمق الاستغلال الطبقي ، فإن الحاجة إلى الثورة الشعبية الديمقراطية بافاقها الاشتراكية تتزايد، لكن الإشكالية تكمن في استمرار أزمة اليسار العربي أو العامل الذاتي/الحزبي، وفشله التاريخي في الإنتخابات الديمقراطية (النيابية والبلدية والنقابية والطلابية وغيرها ) ما يعني استمرار العجز في مواجهة العدو الوطني والطبقي ، الأمر الذي يستدعي صحوة  واستنهاض أحزاب وفصائل اليسار الماركسي في بلادنا ، بما يحقق الاستجابة النضالية الفعالة التواصلية للظروف الموضوعية وشوق جماهير العمال والفلاحين الفقراء والمثقفين الثوريين  للانعتاق والتحرر من كل مظاهر وادوات التخلف والتبعية والصراع الطائفي وكل اشكال الاستبداد والاستغلال .
فمنذ إنطلاقة أحزاب وفصائل اليسار في بلادنا، -رغم الفروق الزمنية بينها-  صاغت وقدمت مشاريع وطنية تحررية وديمقراطية اجتماعية /طبقية ، تخطت –في معظمها- المستوى الوطني نحو المستوى الإنساني الأرحب عبر مسيرة نضالية وكفاحية شاقة ضد القوى الاستعمارية والامبريالية والرجعية المحلية ، لكن المفارقة أن هذا المظهر النضالي الساطع، لم يصمد طويلاً أمام انهيار التجربة الاشتراكية، وما نتج عنها ورافقها من تحولات عالمية إقليمية ومحلية عززت السيطرة الطبقية الرجعية والتابعة عبر التحالف الكومبرادوري البيروقراطي في الانظمة العربية ومن ثم تكريس السيطرة الامبريالية والصهيونية في بلادنا، حيث شهدت هذه  الأحزاب والفصائل -بدرجات متفاوتة- حالة من الإنكفاء التنظيمي والترهل الفكري والتراجع والانحسار الشديدين في الأوساط الشعبية، وكانت تجربة الانتخابات في بعض البلدان العربية ، دليلاً وبرهاناً ساطعاً على حجم  عزلتها ، وعلى حجم الأزمة العميقة التاريخية المتراكمة في بنيانها على كافة المستويات، الفكرية، والتنظيمية، والسياسية، بدءً من أزمة النظرية والمنهج إلى أزمة الممارسة والتطبيق التي حملت في داخلها أشكالاً من تعدد الرؤى وتباين الإجتهادات –دون عمق نظري في معظم الأحوال- بين كل من المنهج الماركسي والليبرالي وفلسفتهما من ناحية، وغياب الوعي بطبيعة التطور التاريخي الاقتصادي الاجتماعي وأنماطه المتداخلة في بلادنا من ناحية ثانية ، الأمر الذي أدى إلى عجز أحزاب وفصائل اليسار عن متابعة القضايا المطلبية لجماهير الفقراء وهمومها ومعاناتها.
وبالتالي فان هذا القصور أو العجز عن التعاطي والتواصل مع الوعي العفوي للجماهير الشعبية الفقيرة، لم يكن صدفة، ذلك أن القاعدة الاجتماعية لأحزاب اليسار، كانت –وما زالت- في مساحة كبيرة منها – تتكون أساساً من فئات البرجوازية الصغيرة وبعض المثقفين الذين لم ينسلخ معظمهم عن انتمائه الطبقي أو العشائري أو الحمائلي، كما كان تبني هذه الأحزاب والفصائل للمنهج الماركسي الجدلي والفكر العقلاني عموماً، شكلياً ومظهرياً هشاً قابلاً للاختراق الليبرالي، والأصولي، بسبب فشل فصائل وأحزاب اليسار في مراكمة الوعي بالواقع المعاش من جهة أو تعميق المنهج العلمي الجدلي، والفكر العقلاني في صفوف أحزابها وكوادرها من جهة ثانية، مما ادى الى انتشار حالة الهبوط المعرفي و تفكك أو غياب الهوية الفكرية –الماركسية ومنهجها تحديداً- وسيادة أشكال متنوعة فيما يمكننا تسميته بالليبرالية الرثة وما رافقها من مظاهر الفوضى والإرباك، والشللية والتكتلات الضارة، الأمر الذي عزز حالة الرخاوة التنظيمية، التي ترافقت مع تراجع الهوية الفكرية أو التخلي عنها لدى البعض، وهي عوامل أفسحت المجال لتراكم وتفاقم الأزمات الداخلية، التي أدت إلى مزيد من إضعاف دور اليسار على الصعيدين الوطني التحرري، والديمقراطي والمطلبي الداخلي. وبالتالي لم تستطع تطبيق مضامين وآليات ذلك الفكر في أوساط الجماهير الشعبية الفقيرة، رغم حملها لشعاراتها.
على أي حال، تظل الإجابة على سؤال لماذا أخفقت وفشلت – وما زالت تخفق وتفشل – احزاب وفصائل اليسار في الانتخابات النيابية أوالنقابية ، قضية مثارة لمزيد من البحث والتفكيك ومن ثم إعادة البناء، لازاحة التراكمات السلبية وحالة الترهل والجمود والتراجع السياسي والفكري والتنظيمي والجماهيري التي أفرزت مجموعة كبيرة من أسباب الفشل التي أدت إلى عزوف الجماهير الشعبية، نورد هنا بعضاً منها:           
1- غياب الوعي بالنظرية ومنهجها المرتبط بوعي الواقع المعاش، وانتشار الأزمة التنظيمية الداخلية بمختلف مظاهرها ومكوناتها وتنوعها، الى جانب غياب العلاقات الديمقراطيه داخل هذه الاحزاب والفصائل .
2- فشل احزاب وفصائل اليسار في تحويل أي قضية من القضايا التي تتبناها في برامجها وأدبياتها إلى قضية عامة، بسبب عدم اندماجها في اوساط الجماهير الفقيرة وعجزها عن وعي القضايا الاقتصادية الاجتماعية والثقافية لمجتمعاتها الامر الذي اودى بها الى العجز عن تحقيق مطالب الجماهير الفقيرة او الاجابة على اسئلتها.
3-عجز قوى اليسار في تحويل الرفض الجماهيري لمظاهر التخلف والفساد والاستبداد السائدة في الانظمة الحاكمة الى قوة جماهيرية في محيط هذه الفصائل والأحزاب،  مما أدى إلى ما نشاهده اليوم من تمحور الحالة السياسية المجتمعية في كل بلداننا ضمن قطبي الصراع الرئيسيين : القطب اليميني الحاكم وقطب اليمين الديني بكل تلاوينه التي نجحت – في اطار مخططات عدوانية خارجية – في تنظيم عشرات الالاف من اوساط الجماهير الفقيرة عبر استغلالها أو تفاعلها مع عفويتهم وبساطتهم ..  
4- الفشل في بلورة الفكرة المركزية الواضحة والمرشدة لبناء التيار الديمقراطي التقدمي أو الطريق الثالث اليساري الواضح في هويته الماركسية ونهجها الجدلي كطريق وحيد لوعي الواقع من جهة وتجاوزه وتغييره من جهة ثانية.
5- فشل اليسار في تفعيل دوره كحضور فعال في إطار الأطر النقابية العمالية والمهنية وغيرها من المؤسسات.
6- عجز احزاب وفصائل اليسار في بلداننا عن تنظيم أو إكتشاف قيادات جديدة طبيعية، نابعة من بين الجماهير وتحويلها إلى كوادر حزبية.           
7- تزايد حالة الإرباك الفكري الداخلي بين صفوف قادة وكوادر وقواعد احزاب وفصائل اليسار  ، ويبدو أن هذا الإرباك أو اللبس قد أصاب مفهوم اليسار أيضاً، حيث لم يعد مدركاً بوضوح من/ما هو اليسار اليوم؟ هل هو الماركسي أم الناصري أم القومي، أم الليبرالي؟ الأسئلة كثيرة ما يؤكد على اتساع الفجوة –بدرجة كبيرة- بين الهوية الفكرية اليسارية من ناحية وبين الغالبية من كوادر وأعضاء قوى اليسار من ناحية ثانية، وقد أدت هذه الحالة من غياب الوعي، الى استمرار تغريب الواقع، حيث لم تعد افكار واهداف قوى اليسار، اهدافا شخصية لاعضاء الحزب وكادراته، وغاب التلازم الجدلي والثوري بينهما بصورة مفجعة.
ففي ضوء انتشار بعض مظاهر الإرباك المعرفي لدى معظم أحزاب وفصائل اليسار الماركسي في مشرق ومغرب الوطن العربي، لأسباب تاريخية، موضوعية وذاتية ،  فإننا نشهد فيضاً من الاتجاهات او الاجتهادات الفكرية، المتنوعة من حيث العمق أو التبسيط أو العفوية، بعضها يرى ضالته في الاشتراكية والماركسية ومنهجها، وبعضها الآخر يرى ضالته في الجمع بين الليبرالية والاشتراكية وبعضها يرى في الليبرالية الرأسمالية وديمقراطيتها منهجاً، وبعضها اصبح يرى هويته في الجمع بين الدين والليبرالية والماركسية عبر خليط لا يمكن إلا ان نسميه أو نطلق عليه حالة من الفوضى الفكرية العفوية بصورة عامة لا تملك –في معظمها- وعياً متكاملاً لوجهتها. وبذلك يكون من المحتم على الكوادر الماركسية الطليعية في أحزابنا وفصائلنا ان تخوض المعركة الأيديولوجية –بعقل مفتوح، وبصورة ديمقراطية تحترم الرأي والرأي الآخر باعتبارها ضرورة أولية وماسة في هذه المرحلة، المملوءة بالمخاطر والتعقيدات بسبب عمق أوضاع التبعية والتخلف  الاجتماعي  والاقتصادي والاستغلال في أنظمة الكومبرادور في بلادنا، وتزايد ارتهانها وخضوعها للتحالف الامبريالي/ الصهيوني.
هنا  لا بد لي من التأكيد ، أنه على الرغم من انحيازي المعرفي –بالمعنى الموضوعي- لتحليل الفيلسوف كارل ماركس للأنماط أو التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية للبشرية في كوكبنا ، بدءً من النمط المشاعي ثم العبودي والاقطاعي وصولاً إلى النمط الرأسمالي ثم الاشتراكي، إلا أنني أرى أن هذه السلسلة من انماط التطور التي تنطبق على المجتمعات الأوروبية بحكم طبيعة تطورها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والخصوصيات المشتركة فيما بينها، إلا أنها بالتأكيد لا تنطبق على مجتمعات آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية عموماً ، ومجتمعاتنا العربية خصوصاً.
فالتطور الاجتماعي الاقتصادي في المجتمعات العربية يختلف في شكله وجوهره عن تلك التشكيلات التي تناولها كارل ماركس في إطار المادية التاريخية، حيث لم تشهد مجتمعاتنا نمطاً عبودياً، بمعنى استخدام العبيد في العملية الانتاجية ، وكذلك الأمر لم تشهد نمطاً اقطاعياً على شاكلة النمط الاقطاعي الذي عرفته أوروبا، بل كان أقرب إلى النمط الريعي أو النمط الأسيوي للإنتاج ، حيث انحصرت العلاقات الانتاجية والاجتماعية في كلا النمطين لنوع من المركزية الشديدة التي سادت في التاريخ القديم (ق.م.) في مصر والعراق وبلاد الشام، ثم امتدت وتواصلت في الدولة والدويلات الإسلامية الثيوقراطية عبر تكريس مظاهر الحكم المركزي التفرد والاستبداد التي نلاحظ آثارها ومفاعليها المتراكمة في كافة الأنظمة العربية في التاريخ الحديث والمعاصر مع اختلاف اشكال الاستبداد والقهر، حيث نلاحظ أن الصراع الطبقي في بلادنا ليس صراعا حصرياً بين البروليتاريا والبورجوازية كما هو في البلدان الصناعية ، بل هو صراع تختلط فيه العوامل الاقتصادية مع العوامل الدينية/ الطائفية ، ضمن تطور اجتماعي مشوه تختلط فيه الانماط الطبقية القديمة والحديثة والمعاصرة (النمط العبودي والقبائلي وشبه الاقطاعي والرأسمالي التابع والكومبرادوري). لذلك نجد العديد من الباحثين يتحدثون عن "الاقطاع الشرقي" والنموذج الآسيوي ، والاقطاع القبلي ، والاقطاع العسكري والمجتمع المحكوم بالعلاقات الرأسمالية المشوهه .. والمجتمع المتعدد الانماط ...الخ.
من ناحية ثانية ، لابد من ازالة اللبس والخلط في المفاهيم السائدة حاليا في الكتابات العربية بين تعبيري "البرجوازية" و "الرأسمالية" ... فهما تعبيرين غير متعادلين على الصعيد المفاهيمي .
ولذلك من الادق القول عن البورجوازية في بلادنا ، انها "رأسمالية طفيلية" أو "بورجوازية كومبرادور" او سمساره او وسيطة او بورجوازية صفقات ، مما يعني انها شرائح للرأسمالية وليست للبورجوازية ، لان سماتها الاساسية عدم اشتغالها بالانتاج المادي الصناعي بصفة مباشرة ، وانما يرتبط نشاطها ودورة اموالها بمجال التجارة والخدمات والعقار والتداول او الوساطة و السمسره .
انها بورجوازية تابعة ورثّة ، لا تملك وعياً نهضوياً او تنويرياً ، ولا تسعى من اجل اعادة توظيف ثرواتها في انشاء الصناعة ، بل في التجارة او في البنوك الامبريالية وبالتالي، استمرار دورها في اعادة انتاج وتجديد التخلف الاجتماعي والاقتصادي والثقافي واستعدادها للتحالف مع القوى الرجعية العشائرية والاسلاموية من ناحية ومع القوى الامبريالية والعدو الصهيوني من ناحية ثانية ،وهكذا صوب مزيد من الاحتواء كما هو المشهد العربي المنحط في اللحظة التاريخية الراهنة بسبب عوامل كثيرة من اهمها رثاثة البورجوازية العربية بحيث يصح قول المفكر المصري العروبي الماركسي الراحل د. فوزي منصور في كتابه " خروج العرب من التاريخ "بأن الارتباط كان واضحاً بين خروج الأمة العربية المتزايد السرعة من التاريخ، في عصرنا الراهن، وبين ظواهر مثل استمرار العرب في الخضوع لأنظمة حكم تنتمي إلى عصور غابرة ، ذلك  إن العرب يُدفعون الآن فيتدافعون خارج التاريخ ليس لأن وطنهم هو الوطن الوحيد الذي ينشأ فيه ويستقر في قلبه استعمار استيطاني فاشي هدفه بسط هيمنة العسكرية والسياسة والاقتصاد على سائر البلدان العربية، ليس ذلك وحده هو الذي يُخرج العرب من المجرى العام للتاريخ، فالتاريخ قد يعبر على قوم في هزائمهم، أما الذي لا يتسامح التاريخ به أبداً، فهو أن يدير القوم ظهورهم له ويمضوا متباعدين عنه، وذلك تحديداً هو ما يفعله العرب".
وبالتالي  فإن الكثير من ممارساتنا وأنماط تفكيرنا لا يختلف كثيراً في الجوهر عن ردود الفعل التي قابل بها الهنود الحمر أو الاستراليون الأصليون غزاتهم - كما يضيف د.فوزي منصور - وأن المصير ذاته ينتظرنا ما لم نسارع إلى تغيير ما بأنفسنا وما بأوضاعنا".
   أما بالنسبة لهذا السّبات الروحي والسلوكي لشعوب بلداننا ، يقول د.فوزي منصور ان "لهذا السبات تفسيراته الموضوعية:
1- الاهتزاز العام للقيم الناشئ في الثروات النفطية (في بلدان الصحاري) أو الوافدة (في البلدان الأخرى).
2- الكبت المنظم لكل المبادرات الشعبية.
3- الانشغال وراء لقمة العيش في ظروف عسيرة."
إضافة لما تقدم ، هناك من الظواهر التي تستحق الدراسة، التفكك القومي للعرب في عصرنا الراهن، في مواجهة الغزو الامبريالي /الصهيوني المتسارع لبلداننا، ذلك التفكك او التفتت الذي يكاد – كما يستطرد د.فوزي منصور - يأخذ طابع الانتحار الجماعي"، وفي رأيه أن تفسير هذا التفكك يعود لأسباب متنوعة لكنه يعطي "اهتماماً أكبر لتغلب الصحراء على المدن في اللحظة العربية الراهنة، الصحراء التي تقذف المدن تباعاً ليس فقط بالقيم الجديدة المرتبطة بالدخول "الريعية" ولكن أيضاً بالقيم القديمة القبلية الضيقة  ، وان الخلاص من الوضع الحالي يتمثل في تحول اجتماعي اقتصادي سياسي يغذيه رافدان أساسيان متكاملان هما التوحد القومي والبناء الاقتصادي الاجتماعي الديمقراطي المتجه نحو آفاق اشتراكية".
ذلك إن هذه الحالة من الخضوع والاستتباع والتخلف ، المنتشرة اليوم في مجتمعات بلدان مغرب ومشرق وطننا، جاءت انعكاساً لظروف موضوعية وذاتية تاريخية وراهنة ، فقد خضعت مجتمعاتنا – كما هو معروف - لأشكال عديدة من السيطرة الخارجية التي كرست تخلفها، خاصة الحقبة العثمانية، ثم الحقبة الاستعمارية، وصولا الى السيطرة الامبريالية التي أدت إلى مفاقمة أشكال ومظاهر التخلف والتبعية وصولاً إلى خضوعها وارتهانها واحتجاز تطورها الاجتماعي (الطبقي) والاقتصادي ومن ثم تحولها إلى سوق استهلاكي عبر اداوت كومبرادورية  أوشرائح رأسمالية عير منتجة، وجدت في العلاقة مع النظام الامبريالي ملاذاً آمناً لها، يضمن مصالحها الطبقية الأنانية، بمثل ما يضمن ويحمي أنظمتها السياسية الحاكمة، التي كرست كل مظاهر وأدوات الاستبداد والاستغلال والتخلف، إلى جانب دورها في مجابهة وقمع وخنق القوى والحركات التنويرية العقلانية النهضوية عموماً ، والحركات الديمقراطية واليسارية خصوصاً، في مقابل تكريسها - في اطار أنظمة الكومبرادور ودورها الرئيس في التنسيق مع الامبريالية الأمريكية- لما يسمى باليقينيات المطلقة –الغيبية- بكل تلاوينها ومذاهبها وطوائفها ومفرداتها وحركاتها الرجعية التي أوصلتنا إلى حالة المأزق أو الانسداد الراهن.
اليوم ونحن في مطلع الألفية الثالثة، تتعرض مجتمعاتنا العربية، من جديد، لمرحلة انتقالية لم تتحدد أهدافها النهائية بعد، على الرغم من مظاهر الهيمنة الواسعة للشرائح والفئات الرأسمالية التابعة ، الرثة ، بكل أشكالها التقليدية والحديثة، التجارية والصناعية والزراعية، والكومبرادورية والبيروقراطية الطفيلية، التي باتت تستحوذ على النظام السياسي، وتعيق أيَّ تحول ديمقراطي حقيقي في مساره، عبر اندماجها الذيلي التابع للنظام الرأسمالي المعولم الجديد من جهة، وتكريسها لمظاهر التبعية والتخلف والاستبداد الأبوي على الصعيد المجتمعي بأشكاله المتنوعة من جهة أخرى، من خلال التكيف والتفاعل بين النمط شبه الرأسمالي الذي تطور عبر عملية الانفتاح والخصخصة خلال العقود الثلاثة الماضية، وبين النمط القبلي /العائلي، شبه الإقطاعي، الريعي، الذي ما زال سائداً برواسبه وأدواته الحاكمة أو رموزه الاجتماعية ذات الطابع التراثي التقليدي الموروث.
إن مخاطر هذا النمط المشوه من العلاقات الاقتصادية تنعكس بالضرورة على العلاقات الاجتماعية العربية بما يعمق الأزمة الاجتماعية، واتساعها الأفقي والعامودي معاً، خاصة مع استشراء تراكم الثروات غير المشروعة، وأشكال »الثراء السريع« كنتيجة مباشرة لسياسات الانفتاح والخصخصة، والهبوط بالثوابت السياسية والاجتماعية الوطنية، التي وفّرت مقومات ازدهار اقتصاد المحاسيب وأهل الثقة، القائم على الصفقات والرشوة والعمولات بأنواعها، حيث يتحول الفرد العادي الفقير إلى مليونير في زمن قياسي، وهذه الظاهرة شكلت بدورها، المدخل الرئيسي لتضخم ظاهرة الفساد بكل أنواعه، في السياسة والاقتصاد والإدارة والعلاقات الاجتماعية الداخلية، بحيث تصبح الوسائل غير المشروعة، هي القاعدة في التعامل ضمن إطار أهل الثقة أو المحاسيب، بعيداً عن أهل الكفاءة والخبرة، ودونما أي اعتبار هام للقانون العام والمصالح الوطنية، مما يحول دون ممارسة الحد الأدنى من مفهوم المجتمع المدني أو تطبيقاته السياسية بحكم استعمال الاستبداد الناجم عن استفحال الفساد.
و مما هو جدير بالحس بالمسؤولية، أو بالتأمل –كحد أدنى- ليس الخطر الناجم عن هذه الظواهر فحسب، بل أن تصبح هي القاعدة التي تحكم أو تحدد مسارَ العلاقات الاجتماعية والسياسية في مجتمعاتنا العربية وطبيعتها، حينئذ تصبح »مؤسسة« الفساد هي التي تملك السيطرة على دفة القيادة في هذا البلد أو ذاك، وتوجيهها وفق قواعد إدارة الأزمة بالأزمة، وهنا ينتقل الحس بالمسؤولية، إلى ضرورات التغيير الديمقراطي المطلوب في مواجهة هذا الوضع المأزوم، الذي تفرضه طبيعة أزمة التحرر الوطني والقومي، بحكم أنها تعبير عن أزمة هذا التطور المشوه الذي فرضته حالة التبعية البنيوية للإمبريالية، حسب تعبير المفكر الشهيد مهدي عامل –بحيث »تصبح الطبقة المسيطرة أو نظامها في تناقض بين السير في منطق الحركة التحررية الديمقراطية، وهو منطق معادٍ لها، وبين السير ضده (و النتيجة واحدة)، حيث بات السير في منطق التحرر يضع هذه الطبقة (أو التحالف أو النظام) في تناقض مع مصالحها الطبقية، فيقتضى بالتالي بضرورة زوال سيطرتها الطبقية، وكذلك الأمر بالنسبة لسيرها ضد منطق الحركة التحررية حيث تفقد هذه الطبقة التي هي البورجوازية الكولونيالية كل مبرر لوجودها في موقع القيادة"
ولكن الإشكالية الكبرى، أنه في موازاة هذه الأحوال والمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية المحلية الداخلية المأزومة، تراجعت أحزاب وقوى التغيير الديمقراطي التقدمي في بلداننا (وهي أهم مكونات المجتمع المدني)، إلى الخلف بصورة مريعة، وبخاصة القوى اليسارية الماركسية منها، التي لم تستطع –حتى اللحظة- بلورة أو إنتاج صيغة معرفية، سياسية اقتصادية اجتماعية، علمية وواقعية، قادرة على رسم مستقبل المجتمع العربي والخروج من أزمته، وقد ترك هذا التراجع آثاره الضارة في أوساط الجماهير ووعيها العفوي، التي وجدت في الحركات السياسية الدينية ملاذاً وملجأ يكاد يكون وحيداً، يدفعها الى ذلك نزوعها الى النضال ضد العدو الرئيسي إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية من جهة، والنضال من أجل الخلاص من كل مظاهر المعاناة والحرمان والفقر ومواجهة الظلم الطبقي والاستبداد السياسي الداخلي من جهة أخرى.
ففي هذا الزمن الذي يعيش فيه العالم، زمن الحداثة والعولمة وثورة العلم والمعلومات والاتصال، يشهد مجتمعنا العربي عودة الى الماضي عبر تجديد عوامل التخلف فيه، لم يعرف مثيلاً لها في تاريخه الحديث منذ مائة عام أو يزيد، فهو الى جانب ترعرع الأنماط القديمة القبلية والحمائلية والطائفية، والأصولية والتعصب الديني، يوصف اليوم بحق  - كما يقول د.حليم بركات- على أنه »مجتمع شديد التنوع في بنيته وانتماءاته الاجتماعية، أبوي، يعاني النزعة الاستبدادية على مختلف الصعد، مرحلي، انتقالي، تراثي، تتجاذبه الحداثة والسلفية، شخصاني في علاقاته الاجتماعية يعيش حتى الوقت الحاضر مرحلة ما قبل المرحلة الصناعية والتكنولوجية، وبالتالي مرحلة ما قبل الحداثة«
 إن ظهور هيمنة البورجوازية الكومبرادورية والطفيلية وتحالفها مع البيروقراطية المدنية والعسكرية الحاكمة، ورموز الأنماط القبلية وشبه الإقطاعية في بلادنا العربية، في الظروف الراهنة، يشير الى الدور الثانوي للاختلاف التاريخي في نشأة الشرائح الرأسمالية العربية العليا، التي توحدت اليوم في شكلها ومضمونها العام وأهدافها المنسجمة مع مصالحها الأنانية الضارة، عبر نظام استبدادي، تابع، ومتخلف، يسود ويتحكم في مجمل الحياة السياسية والاجتماعية، كظاهرة عامة، تتجلى فيها بوضوح، الأزمة الاجتماعية العربية الراهنة، بتأثير هذا التداخل العميق والمعقد لرموز الأنماط القديمة والحديثة، ومصالحهم المتشابكة في إطار من العلاقات الاجتماعية الفريدة التي تمتزج فيها أشكال الحداثة وأدواتها مع قيم التخلف وأدواته، ساهمت في إضفاء شكلٍ ومضمونٍ خاصٍ ومتميز للواقع الاجتماعي العربي وتركيبته وخارطته الطبقية، بحيث بات من المفيد مراجعة استخدامنا للمصطلحات الغربية، مراجعة موضوعية ونقدية كي لا نعيد تطبيقها على واقعنا بصورة ميكانيكية، كما فعلنا في المرحلة السابقة، خاصة مصطلح »البورجوازية«، عند تناول الشرائح والفئات الرأسمالية العربية التي تشكلت تاريخياً –و إلى الآن- من هذا المزيج أو التنوع الاجتماعي غير المتجانس أو الموحد سواء في جذوره ومنابعه القديمة، أو في حاضره ومستقبله، فمصطلح »البورجوازية« وغيره من المصطلحات التي تحدثت عن تطور التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية وتسلسلها من المشاعية الى العبودية الى الإقطاع الى الرأسمالية، والتي تطابقت مع مضمون التطور الرأسمالي في البلدان الصناعية الغربية، تكاد تكون مصطلحات غريبة في واقعنا وشكل تطوره المشوه، خاصة وأنها لم تتغلغل في الوعي العفوي أو الاعتيادي للجماهير، وكذلك في صفوف القواعد الحزبية العربية كمفاهيم تحفيزية أو رافعة للوعي السياسي والطبقي، لكون هذا المصطلح أو المفهوم مصطلحاً يكاد يكون وافداً، غريباً، نظراً لعدم تبلور الإطار أو الطبقة في بلادنا بصورة محددة، التي يمكن أن يجسدها أو يعبر عنها أو يشير إليها ذلك المصطلح من جهة، ونظراً لما ينطوي عليه أو يتضمنه هذا المفهوم من إعلان ولادة وتشكل طبقة جديدة هي »البورجوازية« كطبقة قائدة لمرحلة جديدة، حملت معها مشروعاً نهضوياً حضارياً عقلانياً تطورياً مادياً هائلاً، عجّل في توليد التشكيلة الاجتماعية الرأسمالية ومفاهيمها المتطابقة معها من جهة أخرى، وفي هذا السياق نؤكد أن المطالبة بمراجعة المصطلحات ذات الطابع التطبيقي لا يعني مطلقا التطرق الى النظرية الماركسية ومنهجها، والتي نشعر بالحاجة الماسة الى إعادة دراستها وتعميق الالتزام بها في هذه المرحلة وفي المستقبل!!
حيث نلاحظ  بوضوح كيف أدت عوامل التخلف الاجتماعي الى غياب وعي الأغلبية الساحقة من عمال وفلاحي وكادحي بلداننا بالظلم الطبقي الذي يعيشونه رغم بشاعة استغلالهم ، ومن ثم تفسيرهم لذلك الاستغلال والظلم بأنه قدرهم المكتوب في الدنيا لا بد من صبرهم عليه وتحمله وعدم التمرد على رموزه حكاما أو رأسماليين ، وهنا أشير الى الدور الانتهازي لفقهاء ومثقفو الأنظمة ووسائل اعلامها  وفضائياتها في تعزيز تلك الافكار .
ان حديثي عن أوضاع التخلف الاجتماعي الاقتصادي في بلداننا ،  وضعف وعي عمالنا بالظلم الطبقي الواقع عليهم ، يعني بوضوح أن طبقة العمال في مجتمعاتا غير متبلورة او ناضجة بصورة موضوعية متكاملة ضمن تطور رأسمالي صناعي ،  بمعنى أنها مازالت حتى اليوم طبقة في ذاتها، ولن تتحول إلى طبقة لذاتها إلا من خلال تطور الرأسمالية الصناعية في بلداننا ، وهو أمر لم يتحقق تماما ،بالمعنى الموضوعي ، بسبب رثاثة العلاقات الرأسمالية عندنا وتحولها إلى حالة كومبرادورية ، وبالتالي فان أهمية الحزب الثوري الماركسي في أن يتولى دوره الرئيسي كحامل للطبقة العمالية أو بديلاً مؤقتاً لها، تتجلى بوضوح ساطع  حيث يبرز دور المثقف العضوي الماركسي بالمعنى الجرامشي في طليعة البناء التنظيمي كما في طليعة التربية والتوعية والتحريض الثوري ، وصولا الى لحظة القطع الثوري للتراكمات صوب ولادة التحول النوعي عبر اشتعال الثورة الوطنية الديمقراطية بافاقها الاشتراكية.
إن تناولنا لهذه الرؤية التحليلية، لا يعني أنها دعوة إلى وقف التعامل مع هذه المصطلحات، بقدر ما هي دعوة للبحث عن مصطلحات ومفاهيم معرفية أخرى إضافية تعكس طبيعة ومكونات التركيب الاجتماعي /الطبقي في بلادنا العربية، بما يلغي كل أشكال الغربة أو الاغتراب في المفاهيم التي سبق استخدامها بصورة ميكانيكية أو مجردة، بحيث نجعل من التحليل النظري والاجتماعي لواقعنا، في سياق العملية السياسية، أمراً واضحاً ومتطابقاً في كل مفاهيمه ومصطلحاته مع هذا الواقع الشديد التعقيد، الذي يشير إلى ان التطور في بلادنا –كما يقول د. برهان غليون- »ليس بنياناً عصرياً على الرغم من قشرة الحداثة فيه، وهو أيضاً ليس بنياناً قديماً على الرغم من مظاهر القديم، ولكنه نمط هجين من التطور قائم بذاته، فقد عنصر التوازن وأصبحت حركته مرهونة بحركة غيره«.
 لذلك لا بد من إزالة اللبس والخلط في المفاهيم، الذي ساد طويلاً في الكتابات العربية، وأسهم –إلى حد ما- في تكريس حالة الإرباك الفكري في أوساط القوى اليسارية العربية وعَزَلها عن الجماهير، وليس معنى ذلك، أننا ندعو إلى تكيّف الوعي الطليعي العربي المنظم، لمتطلبات الوعي العفوي الجماهيري، بالعكس، إنها دعوة –أو وجهة نظر- تستهدف التعامل مع الوعي العفوي بمنهجية ومفاهيم تعكس تفاصيل الواقع المعاش وتعبِّر عنه بصورة جدلية تدفع به الى التطور والنهوض، انطلاقاً من قناعتنا بمقولة ماركس -في مقدمته لرأس المال- »قل كلمتك وامشِ ودع الناس يقولوا ما يقولون«.
لذا ، يصبح ضروريا وملحاً لكي نخوض هذه المعركة الأيديولوجية (السياسية في جوهرها)، أن نؤسس خطنا الفكري، اذ أنه لن يكون ممكنا انجاز بناء تنظيمي صلب دون تأسيس هذا الخط، حيث التنظيم انعكاس للفكرة، وهو شكل التوسط بين النظرية والممارسة .
وبالتالي فإن مرحلة إعادة البناء وتعميق الهوية الفكرية لأحزابنا / فصائلنا اليسارية الماركسية، تفرض علينا بلورة الاتجاه الفكري الماركسي المُعَبِّر عن حركة مجتمعاتنا الصاعدة، وحركة كادحيها وعمالها وفلاحيها الفقراء والشرائح الديمقراطية الثورية من البرجوازية الصغيرة في بلداننا.
كما تفرض علينا أيضا، العمل على تأسيس الأطر التنظيمية الكادرية والقاعدية وفق تربية  تقدمية ملتزمة بالديمقراطية الداخلية منهجا وسلوكاً، كضمانة  لتعزيز التماسك الداخلي، مما يعني ايلاء القضية النظرية اهتماما خاصا. وهنا لا يكون التركيز على هذه القضية، تعبيرا عن "اتجاه ثقافي"، أو "دعوة حزبية ضيقة"، بل تعبر عن حاجة موضوعية، تفرضها الظروف العينية داخل كل بلد من بلداننا، انها المهمة الرئيسية في هذه المرحلة، من أجل فتح آفاق مرحلة ثورية جديدة، بآفاقها التقدمية الديمقراطية.
هنا ، لا بد لي  من الإشارة بوضوح شديد ، الى أن جمود احزاب وفصائل اليسار- في بلادنا- وتمترسهم الميكانيكي عند مفهوم المركزية الديمقراطية وغيره من المفاهيم والمقولات الماركسية واللينينية ثم الستالينية بدون مراجعتها ومقاربتها مع خصوصية هذا البلد او ذاك ، وبدون وعي المتغيرات النوعية في مجرى الحياة الانسانية وتطور العلوم والمفاهيم والافكار السياسية والفلسفية والاجتماعية ، وخاصة عدم وعيهم لمفهوم الديمقراطية بالمعنى الاجتماعي وبالمعنى التنظيمي واولويته ، جعل من هذه الاحزاب هياكل محكومة لنظم وآليات بيروقراطية قديمة غير مواكبة للتطور التنظيمي و للضرورات المعاصرة ، وظلت اسيرة للادوات والمفاهيم القديمة وفي مقدمتها شكلانية وجمود مفهوم المركزية كما سبق تطبيقه في التجربة الستالينية ، على الرغم من ان اطروحات لينين حرصت على التطبيق الخلاق للديمقراطية داخل الحزب على الرغم من أن المتغيرات التي اصابت الاوضاع والعلاقات الانسانية والسياسية والاجتماعية والثقافية المجتمعية ، على المستويين الدولي والعربي ، تفرض على كل احزاب وفصائل اليسار في بلداننا ضرورة الوعي العميق لمفهوم الديمقراطية وتطبيقاته في الحياة الحزبية والسلوك التنظيمي واليومي - بصورة موضوعية وذاتية ملحة - انطلاقا من ان هذه الخطوة اكثر من ملحة وضرورية لضمان سيرورتها ونهوضها وبلورة مستقبل دورها وتوسعها في صفوف جماهيرها، وبدون هذه النقلة النوعية الموضوعية الملحة والجريئة ستظل هذه الأحزاب/الفصائل  تراوح في مكانها محكومة للجمود البيروقراطي وغياب الوعي العميق وتزايد مظاهر الشللية والمحاور الضارة ومن ثم اسدال الستار عليها في انتظار الجديد الثوري الديمقراطي الذي قد يولد من احشائها او من خارج صفوفها.
بهذا التوجه  الديمقراطي المعرفي ، الثوري الماركسي، يمكن  بلورة الدليل المرشد لحركة الجماهير الشعبية الفقيرة، عبرالحزب/الفصيل الماركسي الثوري، القادر على امتلاك الوعي العميق بهويته الفكرية من ناحية وبجوانب الواقع السياسي الاجتماعي الاقتصادي المحيط به من ناحية ثانية.
إن الخطوة الأولى على هذا الطريق تبدأ بالنظرية، والرؤية العلمية الموضوعية لواقع مجتمعانا الراهن، لكي نكون قادرين على مواجهة القوة الأخطر، ونعني بذلك أيديولوجية التحالف الامبريالي الصهيوني من جهة والأيدلوجية الليبرالية الكومبرادورية الرثة التي تعبر عنها الطبقة السائدة إلى جانب الأيديولوجيات اليمينية بمختلف اطيافها ومسمياتها وتفرعاتها وألوانها من جهة ثانية.
وهذا يعني السعي لتأسيس رؤية فكرية سياسية ومجتمعية علمية محددة، تنطلق من المنهج المادي الجدلي، وتحليل واستيعاب الظروف الواقعية ببعديها الوطني والطبقي في كل بلد من بلدان وطننا، لنخرج بتصور نظري علمي، يصلح لأن يكون مرشد عمل لأحزابنا وفصائلنا على مساحة الوطن العربي كله.
واذا كان الواقع هو الذي يحدد النظرية، فإن "اكتشاف" النظرية، ليست قضية آلية (ميكانيكية)، ولا تأتي من الممارسة –بمعنى العمل الجماهيري-، بل تأتي من الدراسة والبحث، وفتح آفاق الحوار والنقاش، والصراع الأيديولوجي الذي ينطلق من أن أي حزب ماركسي، من المفترض أن يعمل من أجل أن يبلور النظرية الثورية، وفي خضم ذلك تطوير وعي الأعضاء بما يؤهلهم، من خلال مجموعات كادرية، لأن يكونوا طليعة واعية، قادرة على اكتشاف الحركة التاريخية في المجتمع، والدفع بها الى الأمام.
في هذا الصدد ، أؤكد على أن الفصيل او الحزب الماركسي الذي يدعي انه يدافع عن حقوق العمال والكادحين يعني ان هذا الحزب منفصل عن العمال والكادحين، فهذا مفهوم خاطئ لأنه يكرس الانفصال عن العمال والكادحين، لذلك فان المعنى الحقيقي لحزب الطبقة العاملة او الفلاحين الفقراء وكل الكادحين والمضطهدين هو ان يكون الحزب جزءاً من هذه الشرائح الطبقية يناضل في صفوفها ويمثل طليعتها الواعية ولا حياة له خارجها ... ولذلك فان مهمته قيادة العمال والفلاحين الفقراء والمضطهدين وتوجيههم وتنظيمهم وتثقيفهم وقيادتهم في النضال الوطني التحرري والنضال الديمقراطي في ان واحد.
إنني لا أتحدث عن الوعي والممارسة (أو النظرية والممارسة) في اللا مكان واللازمان، ولا أتناول قضية فلسفية أو نظرية اجتماعية او اقتصادية او سياسية من أجل الدراسة فقط، بل إنني أحاول أساساً أن أساهم -مع رفاقي- في تأسيس عمل ثوري في واقع محدد، كما في زمان محدد أيضاً، وفي هذا الوضع يكتسب عنصر التثقيف الداخلي أو الوعي أهمية محددة، ومعنى محددًا، وذلك انطلاقا من وعينا بأن الامكانات الثورية الأحزاب والفصائل الماركسية في بلداننا، لا يمكن أن تتعاظم إلا في إطار العلاقة الحية ما بين أيديولوجيتها او هويتها الفكرية وأدوات فعلها التنظيمي في كافة المراتب والهيئات الحزبية عموماً وفي هيئات الحزب القيادية والكادرية على وجه الخصوص.
وبالتالي فإنني أتحدث عن واقع مأزوم منتشر – بهذه الدرجة أو تلك - داخل فصائل وأحزاب اليسار في بلداننا ، وهو واقع يحتاج لجرأة عالية ومتصلة من العمل لتخطي دوائر المراوحة والإحباط ومحاولات تبرير الفشل ، باتجاه التأسيس لعمليات نهوض لابد منها ، كوننا لا نزال ، على ما يبدو ، في المرحلة الأولى من جولات الصراع والتناقض الرئيسي التناحري مع أعدائنا ، الامبرياليين والصهاينة ، وفي جولات صراعنا وتناقضنا الرئيسي مع القوى الرجعية وكل أنظمة التبعية والتخلف والاستبداد البورجوازية العائلية والكومبرادورية الرثة .
لذا يجب أن تتم العملية الاستنهاضية ، وعياً وممارسة ،عبر إعادة تجديد وبناء ودمقرطة كل احزاب وفصائل اليسار، من خلال مراكمة عوامل النهوض والإزاحة المتتالية لكل العوامل المؤدية إلى التراجع أو الفشل ، وذلك مرهون بتأمين شروط الفعالية السياسية والفكرية والتنظيمية والكفاحية والجماهيرية القصوى في قلب الصراع الطبقي، عبر توفير معايير ونواظم وآليات عمل داخلية ، ديمقراطية وثورية ، كعنصر قوة للارتقاء بدور فصائل وأحزاب اليسار ورؤيتها وممارستها وتوسعها وانتشارها في أوساط جماهيرها ، إذ أن بقاء وضع هذه الأحزاب /الفصائل تحت رحمة البيروقراطية القيادية اللاديمقراطية التي قد تؤدي بأحزابها وفصائلها إلى الابتعاد عن الممارسة الديمقراطية الثورية الصحيحة، واغراقها في مستنقعات الردة أو المناهج التقليدية والعقلية الجامدة او الهابطة والانتهازية، وهذا يفتح الباب واسعا داخل التنظيم "أمام توليد بيئة ملائمة للشللية وللنفاق وفقدان الجرأة والصراحة واللعب على التناقضات وشخصنتها ، وفقدان القدرة لدى معظم الأعضاء على المحاسبة والنقد الجريء ، وبالحصيلة ، مزيد من التراجع والتهميش ، وفي مثل هذه الحالة تكمن المأساة ، في أن الحزب هو الذي يدفع الثمن من رصيده السياسي والمعنوي والتنظيمي ، على شكل فقدان الشروط الضرورية لتأدية دوره ووظيفته السياسية التحررية والديمقراطية والاجتماعية على جميع المستويات.
ففي مواجهة الواقع العربي الذي يشله التخلف الثقافي والاجتماعي، الغارق في ظلامات السحر والوهم والغيبيات، يصبح التأكيد على الرؤية والمنطلقات العلمانية عموماً ، والرؤية الماركسية  ومنهجها المادي الجدلي خصوصاً، ضرورة لا بد منها ليس تعزيزا لقوة الحزب وانتشاره وصلابته فحسب ، بل أيضاً لمواجهة وتجاوز كافة مظاهر الاستتباع والخضوع والاستغلال المرتبطة بأنظمة الكومبرادور في بلادنا ، مواجهة جماهيرية جذرية شاملة تمهد لتجاو تلك الأنظمة واسقاطها.
هنا تتجلى الحاجة الموضوعية لاستنهاض فصائل وأحزاب اليسار الماركسي الثوري الديمقراطي ورص صفوفها وتقوية بنيانها في كل أقطار الوطن العربي، حيث تبرز تلك الحاجة كضرورة  موضوعية وذاتية ملحة في الظروف الراهنة المحكومة بكل عوامل التبعية والتخلف والهيمنة الخارجية، علاوة على تفاقم مظاهر الهبوط السياسي والتراجع الاقتصادي والاجتماعي  والفساد والافقار الداخلي مع كل مظاهر القلق والإحباط، التي باتت تشكل مساحة واسعة في الذهنية الشعبية في كل بلدان الوطن، وبالتالي فإن هذه الحاجة الملحة لنهضة اليسار تزداد إلحاحاً في الظروف الراهنة التي تتطلب من قوى اليسار مشاركة فعالة ونوعية في قلب الحراكات والارهاصات الثورية الشعبية العربية وقيادتها وتوجيهها صوب استمرار النضال لتحقيق أهداف الثورة الوطنية الشعبية الديمقراطية، وتجاوز قوى اليمين العلماني والديني ، التي باتت اليوم تتصدر الساحة السياسية عبر حالة استقطاب غير مسبوقة في التاريخ العربي المعاصر ضمن مجموعتين تختلفان شكلاً رغم جوهرهما الواحد : مجموعة الرأسماليين المنضوين تحت لواء السلطة أو أنظمة الحكم، ومجموعة الرأسماليين المنضوين أو المتنفذين في قيادة حركات الاسلام السياسي . أي أن المجتمعات العربية وساحاتها السياسية مسيطر عليها عملياً من جانب قوة واحدة (عبر برنامجين: اليمين "العلماني"، واليمين الديني) وهى الرأسمالية التابعة ، الطفيلية والكومبرادورية بالتحالف مع البيروقراطية الحاكمة وكلاهما محكومان –بهذه الدرجة أو تلك- لقاعدة التبعية والتخلف، كما أن كل منهما لا يتناقض في الجوهر مع الإمبريالية والنظام الرأسمالي ، ما يعني أن التحدي الكبير الذي يواجه قوى اليسار الماركسي في بلادنا اليوم، يجب أن يبدأ بعملية تغيير سياسي جذري ثوري وديمقراطي من منطلق الصراع الطبقي ضد أنظمة التخلف والاستبداد والاستغلال والفساد التي تحكمها سواء باسم الليبرالية الرثة او باسم القبيلة والتخلف الرجعي او الاسلام السياسي، وذلك انطلاقاً من وعينا بأن هذه الأنظمة شكلت الأساس الرئيسي في تزايد واتساع الهيمنة الامبريالية/ الصهيونية على مقدرات وثروات شعوبنا العربية.
فالماركسية لم تحارب المجتمع الطبقي من زاوية الحاجة فحسب، بل حاربته باعتباره جذر الضياع الإنساني وصورة من صوره. وهي قد أكدت دوماً رفضها سائر أشكال وأسباب الضياع الأخرى، وعلى رأسها السحر والوهم والغيبيات.
ففي البلدان المتخلفة، ومنها وطننا العربي، فإن النضال الاشتراكي مطالب بتحقيق الثورتين معاً: ثورة ديمقراطية علمانية على الصعيد الفكري والثقافي، وثورة على الصعيد الاقتصادي تغير علاقات الإنتاج الإقطاعية، وشبه الرأسمالية التابعة والرثة، بعلاقات إنتاج اشتراكية، لتركيز قاعدة مادية لانطلاق اقتصادي جدي يعتمد قواعد التنمية المستقلة. لذا فإن الثورة الاشتراكية في بلد متخلف ستكون- كما يقول المفكر الراحل ياسين الحافظ- هجينة ومشوهة ومبتورة إذا تناولت بالتغيير –إن كان جذرياً- الجانب الاقتصادي، ومن دون أن يترافق هذا التغيير بثورة علمية- علمانية ديمقراطية على الصعيد الفكري والثقافي. فالاشتراكية ليست مجرد خلق وضع اقتصادي مطابق للعدل فحسب، بل هي أيضاً –وقبل كل شيء- نظرة إلى الإنسان والمجتمع تستند إلى منطلقات علمانية وعقلية كرست الإيمان باقتدار الإنسان على صنع مصيره وتشريع نظمه وتنظيم أمور المجتمع الإنساني تنظيماً عقلانياً ديمقراطيا وحراً، دونما أطر مسبقة تشله أو تقاليد محافظة تشوهه أو تعاليم ثابتة تقسره وتشده إلى وراء.
لقد بات عالم اليوم محكوماً بعلاقات دولية جديدة في مركزها نظام القطب الواحد، حيث تتحول العديد من أقاليم ومجتمعات هذا العالم لمناطق سيطرة سياسية اقتصادية وأمنية مباشرة وغير مباشرة لهذا النظام، ولمواقع تغلغل ثقافي – قيمي له عبر أوسع الأبواب، من خلال أشكال السيطرة السياسية والاقتصادية والعسكرية، المستندة الى شبكة تكنولوجية جبارة لوسائل الإعلام والاتصال، حولت هذا الكون المترامي الأطراف لقرية كونية حقًا تتلقى ضخًا كثيفًا بشتى نظريات ومؤثرات نظام العولمة الامبريالي، بما يطرح واقعيا مهام واستحقاقات نوعية جديدة على كافة القوى الماركسية العربية والعالمية، خصوصا على جبهة الايدولوجيا دفاعًا عن ثقافة ديمقراطية ثورية، وصراعًا مع ثقافة تكرس مظاهر التبعية والتخلف والاستبداد، وتشرِّع أوضاع الظلم الاجتماعي الطبقي على المستوى المحلي الوطني والمستويين القومي والأممي. 
في ضوء هذا الواقع فان الفصائل والأحزاب اليسارية على مستوى الوطن العربي، أو على المستوى العالمي تواجه عمومًا مهمة إعادة الاعتبار للأيدلوجيا الثورية (الماركسية تحديداً) كحلقة مركزية، مثلما تواجه كل حزب / فصيل في بلداننا، كمهمة بنائية داخلية، تستدعي ممارسة تنظيمية منهجية لتثقيف أيديولوجي دؤوب، يراكم مفاهيم ومضامين الفكر الماركسي وكل ما هو تقدمي وديمقراطي في التراث الإنساني كما في تراثنا المشترك (العربي والكردي والأمازيغي وغير ذلك من الاثنيات التراثية)، لدى قيادة وهيئات وقواعد كل حزب / فصيل في بلادنا، ليتمكن من النهوض بواقع الحياة التنظيمية -في بلده- استنادا لجدل العلاقة بين الثقافة والتنظيم، حيث ترتقي العملية التنظيمية وتمتلك عناصر الانضباط والقوة، مع المرونة والتجديد والإبداع، قدر ارتكازها لمضامين فكرية تقدمية، وطنية تحررية، وديمقراطية اجتماعية وفق المنظور الطبقي الماركسي، بالاستناد إلى وثائق هذا الحزب/ الفصيل أو ذاك، وبرامجه وأهدافه.
فلا حركة ثورية بدون نظرية ثورية" هذا هو المحدد الرئيسي لهذا المقياس الذي يسعى إلى تحديد درجة استيعاب الكادر الحزبي للنظرية الماركسية ومنهجها المادي الجدلي، وقدرته على تطبيقها التطبيق الخلاق في الواقع المعطى، بما يتضمنه ذلك من القدرة على صياغة المواقف السياسية السليمة التي تستجيب لمهمات النضال الوطني والديمقراطي.
ووفق هذا المقياس يمكن معرفة درجة تمرس الرفاق عموماً والكادر خصوصاً من الناحية النظرية وانعكاس ذلك على مختلف مواقفهم وممارساتهم ، ومعرفة مدى استيعابهم لسياسة الحزب واهدافه وبرامجه وتفانيهم من اجل تطبيق سياساته.
ويمكن الاستدلال على ذلك بالنسبة للرفيق الكادر الحزبي من خلال: الدورات النظرية التي شارك فيها ومستواه في الدورة ومطالعاته الذاتية، ومساهمته في صياغة المواقف السياسية للحزب ومساهمته في مناقشة وثائق وادبيات الحزب وكتابة الملاحظات النقدية والتطويرية حولها ، والتعبير عن مواقف حزبه أمام الجمهور أو في الندوات السياسية والفكرية أو اللقاءات العامة وتقديم اقتراحات حول تحسين نشاط وعمل منظمات الحزب والمؤسسات المحيطة به.
إنني لا أضيف شيئا جديدا إذا قلت إن هذه المهمات هي من واجبات العضو في الحزب او الفصيل الماركسي، "وان العضو الذي يهمل هذه الواجبات أو يتقاعس عن تأديتها بهمة وحيوية ونشاط يجب أن يكون موضع نقد وتثقيف وتطبق العقوبات الانضباطية بحق أي عضو يتكرر إهماله لهذه الواجبات" فكيف عندما يتعلق الأمر بتقييم كادر حزبي، ولذلك تتجلى الحاجة الى ممارسة النقد والنقد الذاتي البناء ، ليس بهدف العقاب التنظيمي ، بل بهدف تذكير هذا الرفيق او ذاك وانعاش وعيه بواجبات العضو التي يمكن تناول أهمها فيما يلي:
- دراسة المنهج العلمي الجدلي والفكر الماركسي والاطلاع على الخبرات الثورية والنضالية في مجتمعه والمجتمعات العربية والاوضاع العالمية ،ورفع مستوى وعيه الذاتي ومعارفه باستمرار من خلال المتابعة الجادة للانتاج الفكري التقدمي.
- دراسة واقع ومشكلات الوضع السياسي ومتابعة ووعي كافة التفاصيل المرتبطة بالاوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لبلده او مجتمعه من خلال الدراسة الجادة لكل ما يصدر عن الحزب من كتب وكراسات ومجلات وصحف وبيانات وكذلك دراسة الواقع العربي ومشكلاته وقضايا المشروع القومي النهضوي على ضوء النهج الاشتراكي العلمي، مع الانفتاح على الخبرات والكتابات الأخرى التي تتسم بالعلمية والجدية .
- ان يناضل باستمرار لتعبئة الجماهير الشعبية الفقيرة وتنظيمها والارتقاء بمستوى وعيها السياسي وقضاياها المطلبية وتبصيرها بأعدائها ومخططاتهم ودعوتها للنضال التحرري والطبقي من اجل أهدافها ومستقبلها.
وفي هذا السياق تغدو المقولة الماركسية الشهيرة (لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية) بالغة الأهمية في هذه المرحلة من حياة أحزابنا وفصائلنا اليسارية، ارتباطا بالمتغيرات والتحولات الكبرى التي تعرض لها وطننا العربي إن على صعيد التحولات الطبقية الداخلية التي كرست مظاهر التبعية والتخلف وخضوع الأنظمة الحاكمة في بلادنا للنظام الامبريالي المعولم الذي تسيطر عليه وتقوده الولايات المتحدة الأمريكية، وهي متغيرات عززت دور دولة العدو الإسرائيلي كشريك استراتيجي للامبريالية الأمريكية في تنفيذ المخطط العدواني لمجابهة وضرب قوى التحرر والتقدم الوطني والقومي الديمقراطي في فلسطين وكل أرجاء الوطن العربي.
وانسجاماً مع هذه الرؤية، أقول بوضوح، إنه بمقدار الأسف الذي تثيره الصورة العامة للحالة الفكرية والفعالية الثقافية – بدرجات متفاوتة -في إطار الحياة الحزبية الراهنة لأحزاب وفصائل اليسار الماركسي في مشرق ومغرب الوطن العربي بما تعكسه من انحسار لدائرة الاهتمام الأيديولوجي ، ومن ضعف نظري كادري – متفاوت الدرجات -بالنسبة لاستيعاب ووعي الماركسية من ناحية وبالنسبة لوعي مكونات الواقع السياسي الاقتصادي الاجتماعي الثقافي  بكل تفاصيله في هذا البلد او ذاك، فإنها تثير لدينا قلقاً جدياً يتعلق بكافة الرفاق داخل الحزب عموماً وبالعناصر الشابة الناشئة والعضوية الجديدة- في هذا الحزب او ذاك - التي لم تتدرج خلال مسيرتها الحزبية القصيرة في أي عملية بناء أيديولوجي ثقافي ممنهج ، وهي ظاهرة سلبية خطيرة، تتجلى خطورتها في أن قيادة الحزب /الفصيل ، الى جانب اللجان الفكرية المكلفة بالتثقيف الداخلي، لم تلتزم بأن تقدم لتلك العناصر الشابة، بصورة دورية ومنظمة ، البرامج الثقافية التعبوية المنهجية التي تؤسس لوعيها النظري وترتقي بإمكاناتها الفكرية عبر تلك البرامج -رغم سهولة توفير المواد الفكرية في المرحلة الراهنة في ظل الانترنت ووسائل الاتصال التكنولوجي المتعددة – وبذلك تم اختزال علاقة الأعضاء بالحزب بحدود المهام الوطنية العامة والفعل السياسي الميداني والتضامني العام في هذه المناسبة أو تلك، الأمر الذي أنتج حالة أقرب الى الضعف والتراجع أو الانفصال ما بين السياسة والفكر، ما قد يؤدي الى اقتراب العمل/النضال السياسي ( التحرري والمجتمعي الطبقي) من مستوى العفوية والارتجال والموسمية، وقطع السياق على عملية بناء دعاة ومنتجين للفكر في إطار الحزب/الفصيل من منطلق ماركسي وفق المنظور التحرري المعادي للوجود الامبريالي /الصهيوني ، وبالتلازم مع منظور الصراع الطبقي الاجتماعي ضد مظاهر التبعية والتخلف والاستغلال في هذا النظام أو ذاك، وهي حالة يمكن أن أطلق عليها نوعاً من الاغتراب السالب الذي قد يعيشه هذا الحزب أو الفصيل ، الأمر الذي يوضح  أحد أهم أسباب تراجع أحزاب وفصائل اليسار في بلادنا من جهة ، ويستدعي كل المحفزات الداخلية لقيادة الأحزاب/الفصائل والرفاق صوب العمل المكثف باتجاه الخروج من هذه الازمة صوب النهوض واستعادة احزابنا وفصائلنا اليسارية الماركسية لدورها الطليعي الذي بات ملحا وضروريا في هذه المرحلة المنحطة اكثر عشرات المرات من أي مرحلة سابقة.
على الرغم مما تقدم، أود التأكيد هنا بأنني لست بصدد تقديم تقييم تاريخي لتجربة العمل الأيديولوجي لهذا الحزب أو ذاك رغم اشارتي (للتذكير فحسب) لعناوين أساسية في إطار التجربة العامة لأحزاب وفصائل اليسار بالقدر الذي يسمح به هذا التناول المكثف المباشر قدر الإمكان.
لكن ما أود الإشارة إليه ابتداءً، أن معظم قوى اليسار العربي، -في ضوء تجربتها التاريخية- لم تنجح بتعميم منهاجها الأيديولوجي والتربوي وثقافتها العقلانية على جماهيرها عموماً وعلى قواعدها التنظيمية خصوصاً من الناحية الجوهرية، وظلت الايدولوجيا بوجه عام غير ممأسسة تنظيمياً ومتناثرة ومحصورة او محاصرة او هامشية مهملة، ولم ترتق بأفضل أحوالها لتشكل منهجاً رئيسياً ناظماً للحياة التنظيمية او حالة فكرية جماعية أو قاعدة واسعة لوعي نظري منظم، الامر الذي يستدعي من هذه القوى اليسارية في مشرق ومغرب الوطن، ان تبدأ جدياً بتفعيل البعد الأيديولوجي باعتباره أحد أهم مرتكزاتها وسيرورتها الراهنة والمستقبلية، وذلك عبر الالتزام بمأسسة النشاط الفكري في أحزابها بما يضمن إحياء وتجدد إطار التفاعل الجاري بشأن إعادة الاعتبار للنشاط التثقيفي لهيئاتها القيادية والكادرية والقاعدية، وذلك عبر آليات وأساليب التثقيف الحزبي الداخلي التي أقدمها كمقترح يسهم في تفعيلها مجدداً كتوجه أساسي من خلال الترجمات الملموسة التالية: 
1- الباب الفكري التثقيفي – بحيث يصبح أحد الأبواب الثابتة للاجتماع الحزبي أو ان يخصص له اجتماعاً محدداً كل أسبوعين.
2- تعميم وقراءة مطبوعات الحزب من الدراسات الأيدلوجية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية وأهمية نقاشها ضمن الأطر والهيئات الحزبية.
3- استعادة الدور الحيوي للأطر الطلابية ارتباطاً بدورها المركزي في هذا الجانب.
4- تكليف الرفيق الحزبي (في جميع المراتب) بمطالعة كتاب محدد كل أسبوعين أو كل شهر وتنظيم لقاء ثقافي خاص بأعضاء المرتبة الحزبية لنقاش هذا الكتاب.
إن تطبيق هذه التجربة سيؤدي إلى إغناء وتفعيل مسيرة الحزب / الفصيل الثقافية، الأمر الذي يفرض تطبيق المهمتين التاليتين :
أولاً: العمل على بلورة ووضوح الرؤية التخطيطية الشاملة في كل ما يتعلق باستراتيجية وتكتيكات هذا الحزب أو الفصيل أو ذاك، بكل جوانبها السياسية والتنظيمية والمجتمعية والجماهيرية ... الخ، والتوقف عن الأساليب التي تختزل دور الكادر والأعضاء في المناسبات او الاحتفالات، او في نطاق مهام العمل اليومي الميداني وذرائعه التي جعلت من الاهتمام بالقضايا السياسية الاستراتيجية والقضايا الفكرية وواجباتها مسألة ثانوية أو مهملة، بحيث باتت الاجتماعات الحزبية مجرد لقاءات ناظمة للمهام العملية وللثرثرة السالبة في بعض الاحيان، الامر الذي يؤدي الى تراجع العملية التثقيفية والهوية الفكرية معاً، وهذا يعني تراجع المهمة الرئيسية الأولى التي تضمن تقدم الحزب صوب مساره الطليعي المنشود.
وفي هذا الجانب، أشير بوضوح إلى أن تواصل الممارسات السلبية وانقطاع وتراجع العملية التثقيفية سيسهم في مزيد من تراكمات الأزمة التنظيمية الداخلية بكل أبعادها الانتهازية والليبرالية والدينية الشكلية علاوة على تراكمات أساليب الشللية والتكتلات الذاتية بكل مظاهرها المتخلفة – العفوية أو غير العفوية - التي تعزز حالة الركود الفكري وضعف الانضباط والتفكك الأخلاقي والتربوي من ناحية، والتراجع الجماهيري والسياسي والتنظيمي للحزب/ الفصيل من ناحية ثانية.
ثانياً : التزام الهيئات القيادية في كافة الأحزاب والفصائل، بعقد الحوارات وإصدار التعاميم الخاصة بوثائق المؤتمرات الحزبية إلى جميع المراتب الحزبية، بهدف تعميق الوعي بأفكار ومنطلقات وبرامج الحزب وهويته الفكرية الماركسية، بما يضمن تفاعل الرفاق مع مجتمعهم المحلي، وخاصة العمال والفلاحين وعموم الكادحين والمضطهدين، وأوساط الموظفين والمثقفين في إطار الطبقة البورجوازية الصغيرة، بما يعزز من قوة الحزب السياسية والمجتمعية، وانتشاره في أوساط جماهيره التي تأسس من أجل الدفاع عنها والتعبير عن قضاياها الراهنة ومستقبلها.
     وهنا بالضبط تتجلى أهمية التطبيق الفعال لعملية التثقيف الحزبي والجماهيري كضرورة آنيه واستراتيجية دون انقطاع بما يساهم بإعادة الاعتبار للفكر التقدمي الماركسي كمكانة واهتمام على طريق مراكمة أيدلوجية دؤوبة ضمن إطار التفاعل الديمقراطي الواسع مع الشرائح الاجتماعية المختلفة، وبما يتلائم مع مستجدات الحياة ومعطيات الواقع السياسي الاقتصادي الاجتماعي في هذا البلد أو ذاك، بما يضمن – بصورة منهجية جماعية ممأسسة وبلورة وتطبيق الرؤى السياسية والقضايا الاجتماعية والاقتصادية، وإعادة الاعتبار للتثقيف الفكري داخل الحزب/ الفصيل انطلاقاً من مركزية الفكر الماركسي المادي الجدلي في العملية البنائية الثقافية الشاملة للحزب، وتحديد ماهية العلاقة بهذا الفكر وهذا المنهج بمفهوم الاسترشاد، وهو مفهوم يعكس محاولة فكرية لصوغ علاقة حية بالماركسية ومنهاجها المادي الجدلي تعبيراً عن اتجاه اجتهادي ينطلق من خصوصيات الواقع وظروفه، ويرى بهذا الفكر أداة تحليل لظواهر الحياة المختلفة بعيداً عن النصوصية والجمود العقائدي، وذلك بما يجسد الرؤية الموضوعية بالنسبة للمراجعة الفكرية النقدية، والتفاعل الحي مع دروس التجربة الواقعية ورؤيتها للمضمون الإرشادي النظري التجديدي للماركسية ولحيوية وعلمية منهاجها الجدلي معتبرة الممارسة الحية المعيار والاختبار لمدى استيعاب وتمثل هذه الرؤية.
وهذا يعني، حرص أحزابنا/ فصائلنا في مغرب ومشرق الوطن، على مواصلة انتاجها الثقافي وتحليلها لكافة الظواهر والتطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بلدانها، انطلاقاً من رفضها لكافة أوضاع التبعية والتخلف والاستغلال الطبقي والاستبداد من أنظمة الكومبرادور في بلادنا، وذلك استناداً للفكر الماركسي ومنجه المادي الجدلي، بما يضمن تحقيق النتائج الإيجابية الفعالة المعبرة عن مصالح العمال والفلاحين الفقراء وكافة المضطهدين في بلداننا، الأمر الذي يفرض مزيداً من تبلور برامج التثقيف الفكرية والسياسة والمجتمعية الكفيلة بضمان الدور الطليعي لأحزابنا على طيق نضالها من أجل الثورة الوطنية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية.
إن تحقيق هذه الأهداف العظيمة، وضمان سيرورة نضالنا، فإننا نتفق على الأهمية القصوى المرتبطة بتواصل العملية التثقيفية، وفق خطط احزابنا/ فصائلنا، بالاستناد إلى الاتجاهات الأساسية التالية:
1- محورية المنهاج المادي الجدلي في العملية البنائية – الثقافية العامة للحزب باعتبار هذا المنهاج أداة التحليل لمختلف الظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية استنادا لقوانين هذا المنهاج ومقولاته الجدلية، وهذا يعني التثقيف بقوانين المادية الدياليكتيكية العامة الثلاثة وبمقولاتها الجدلية، كما يعني إعادة قراءة او الاطلاع على بعض مكونات التراث الماركسي للثنائي المتميز (كارل ماركس فريدريك إنجليز)، بروحية موضوعية، ثورية ورفاقية ونقدية جديدة تتناول الاتجاهات والمدارس المختلفة بهذا التراث وخاصة اللينيني والستاليني والتروتسكي والماوي، والشيوعية الأوروبية الى جانب الاسهامات الفكرية العربية في هذا الجانب (سمير أمين ومهدي عامل والياس مرقص).
2- إضافة لتناول التجربة العامة لليسار الشيوعي في بلادنا، باتجاهاتها المختلفة وبضمنها التجربة الخاصة بكافة الأحزاب في مشرق ومغرب الوطن، وبما يشمله هذا من نتاجات الفكر الاشتراكي في مصر وسوريا ولبنان والسودان وبلدان المغرب العربي من خلال إسهامات الرفاق: سمير امين ومهدي عامل، محمود أمين العالم وفؤاد مرسي وفهد وخالد بكداش واسماعيل صبري عبدالله واحمد صادق سعد فالح عبد الجبار وصادق جلال العظم وحسين مروة والياس مرقص وهادي العلوي وهشام جعيط وعبدالله العروي ومحمد ابراهيم نقد وماهر الشريف وهشام غصيب ومحمد عابد الجابري ورمزي زكي وحمة الهمامي وعبدالله الحريف وفيصل دراج وغيرهم.
3- الاسترشاد بكل ما هو تقدمي وديمقراطي بالتاريخ الوطني لكل حزب/ فصيل من خلال دراسة المراحل المختلفة لهذا التاريخ وأهم معاركه النضالية والاجتماعية الطبقية بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إضافة للاطلاع على نتاجات رموز الثقافة الوطنية التقدمية في هذا البلد أو ذاك.
4- الاسترشاد بكل ما هو تقدمي وديمقراطي بالتراث العربي الإسلامي من خلال دراسة أهم النتاجات التقدمية التي تناولت هذا التراث، كنتاجات حسين مروة والطيب تيزيني وهادي العلوي ومحمد الجابري وهشام جعيط ومحمد أركون وكمال عبد اللطيف وسعيد العلوي والعفيف الاخضر ونصر حامد أبو زيد، ودراسة نضالات ونتاجات رموز الحركة الإصلاحية الدينية الاجتماعية في مصر والمغرب وتونس والجزائر وسوريا ولبنان...إلخ.
5- الاسترشاد بكل ما هو ديمقراطي بالتراث الإنساني والعالمي بالاطلاع على تجارب الحركات الثورية في فيتنام والهند والصين وجنوب أفريقيا، ودول أمريكا اللاتينية وحركات مناهضة العولمة وصولاً للوضع العالمي الراهن من ناحية القوى والتكتلات المختلفة المؤثرة بسياسات نظام العولمة الامبريالي وما تمثله هذه السياسات من مصالح وأفكار.
6- الاهتمام النظري بقضايا التحرر الوطني ووحدتها الجدلية بعملية الصراع الطبقي ، وبالديمقراطية والعلمانية والمواطنة كأنظمة ومفاهيم وممارسات – والاطلاع على التجارب الديمقراطية الحية وأنظمتها المختلفة، وهموم وفعاليات التجربة الديمقراطية في بلداننا وفق تجربة هذا الحزب او ذاك، وفي هذا السياق أشير إلى أهمية إعادة دراسة تجربة حركة النهضة العربية ورموزها الثقافية وعلاقتها بالآخر (الغرب) ودورها في تحدي التيارات الأصولية والإسلام السياسي، إلى جانب الاهتمام بدراسة التطورات الثقافية والتراثية للأمازيغ والأكراد بما يؤكد على التزامنا بكافة حقوقهم وتطلعاتهم.
7- الاهتمام بقراءة الإنتاج الأدبي والإبداعي العربي والإنساني من الروايات والقصص والموضوعات الثقافية الإبداعية العامة.
     يبقى أن نشير إلى ان طموحاتنا كأحزاب يسارية، بالمعنى الثقافي أو السياسي، ستنتهي إلى سراب ، ما لم نتعامل وفق برامج سياسية فكرية اقتصادية اجتماعية نقيضة، مع الحقبة الراهنة، وما تمثله هذه الحقبة من قفزات هائلة للبشرية ، و من فوران اجتماعي وانقسام طبقي عالمي بشع بفعل آليات العولمة الإمبريالية وأدواتها، التي يسعى القائمون على إدارتها إلى أن تصبح الرأسمالية المتوحشة "روح هذا الزمن" ، فهل ستفرض علينا هذه العولمة – وركيزتها دولة العدو الإسرائيلي - بعداً ثقافياً نتعاطى معه بالإكراه أو بالقدر الذي يحدده لنا أصحابها ؟ أم نبدأ في شق مجرى المعرفة و التفكير في هذا البعد الثقافي الجديد ، وفق رؤية ثورية، ماركسية وقومية تقدمية وإنسانية تسعى للخروج من المأزق الحالي؟ هذا هو المخرج ، الذي يتطلب تحقيقه توحيد الجهود الثقافية العلمية في كل بلدان وطننا، في إطار رؤية سياسية يساريه موحدة ، تستجيب لمعطيات العصر ، و تشكل أرضية ننطلق منها على طريق الحضارة البشرية المعاصرة ، مشاركين في الاستفادة من معطيات العولمة، التكنولوجية والعلمية والإدارية، لنسهم في مناهضتها ومقاومة وازاحة أنظمتها الرأسمالية التابعة في بلادنا، لا أن نصبح عبيداً لأدواتها.
أيها الرفاق ... إنني لا أبالغ في القول، ان هذه المرحلة ليست مرحلتنا ، دون ان يعني ذلك غيابًا او تراجعا لدورنا على الصعيد الجماهيري في كل الظروف، بما يمهد لشق مجرى الطريق نحو المستقبل، فعلى هذا الطريق الشاق الطويل ، المغطى بأشواك الهزيمة و الإحباط ، السائدة في أوساط شعوبنا في هذه المرحلة تأتي أهمية امتلاكنا للنظرية الماركسية ومنهجها وأدبياتها الحديثة والمعاصرة ، جنبا الى جنب مع قراءة كل حزب من احزابنا لواقع مجتمعه بكل أبعاده السياسية و الاجتماعية ، كأساس –راهن ومستقبلي- لا بد من الاستناد إليه من اجل ترسيخ الوعي الوطني و الطبقي، وترسيخ القناعة بالمفاهيم الإيديولوجية و المنطلقات الفكرية المادية الجدلية والمادية التاريخية ، والاقتصاد السياسي والاشتراكية، والاسترشاد بها في مسيرتنا النضالية ببعديها التحرري الوطني و الاجتماعي المطلبي/ الطبقي في آن واحد ، مدركين انها مجرد أفكار و مقولات نظرية لا يمكن تفعيلها بدون استيعاب تاريخنا الوطني والقومي التقدمي الديمقراطي في مشرق ومغرب الوطن، في إطار عملية الصراع الطبقي والحراك الاجتماعي كشرط أول و مدخل أساسي لهذا التفاعل ، عبر منهج الماركسية العلمي النقدي الواضح ، إذ أن من الصعوبة بمكان أن يكون المناضل منا تقدميًا جيدًا دون أن يكون  وطنيًا جيدًا في آن واحد معا ، آخذين بعين الاعتبار التعقيدات الهائلة التي نعيشها في هذه المرحلة ، وما تحمله من معوقات على الصعيد الوطني العام ، و الذاتي الداخلي بكل جوانبه ، وعلى صعيد المعرفة والأفكار التقدمية  التي نسترشد بها ، التي باتت موضع نقد و هجوم ليس فقط من  أعدائها الطفيليين والكومبرادور والبيروقراطية المتنفذه وغيرهم ، و إنما من أفراد كان لهم تجربتهم الحزبية والنضالية، تزعزعت قناعاتهم بها  بدواعي الهزيمة او الردة الفكرية الانتهازية من جهة او بدواعي الرخاوة التنظيمية والأزمة الداخلية والتخلف الثقافي والأيدلوجي وغياب عنصر الوعي من جهة ثانية.
لكننا نؤمن بأن "الحقيقة يجب ان تقال وتصل للجميع" و ما احوج قواعد وكوادر أحزابنا/ فصائلنا المناضلة لهذه الحقيقة في مثل هذا الظرف ، الذي باتت فيه جماهيرنا الفقيرة احوج ما تكون  للتسلح بالاشتراكية كحقيقة معرفية واضحة ومباشرة من ناحية، وكضرورة حتمية لاستمرار الحضارة البشرية، وضمان لا غنى عنه لبقاء الجنس البشري.
لذلك لابد من وقفة مراجعة جدية لاستنهاض أحزاب وفصائل اليسار في بلادنا ، بالمعنيين الموضوعي والذاتي ، خاصة وأن ما ينقص معظم كوادر وأعضاء قوى اليسار هو الدافعية الذاتية أو الشغف والإيمان العميق بمبادئه عبر امتلاك الوعي العلمي الثوري في صفوف قواعده وكوادره ، فبينما تتوفر الهمم في أوساط الجماهير الشعبية واستعدادها دوما للمشاركة في النضال بكل إشكاله ضد العدو الامبريالي والصهيوني ، وضد العدو الطبقي المتمثل في أنظمة التبعية والتخلف والاستغلال والاستبداد والقمع ، إلا أن أحزاب وفصائل اليسار لم تستثمر كل ذلك – عبر الممارسة اليومية - كما ينبغي ولا في حدوده الدنيا ، لأنها عجزت – بسبب أزماتها وتفككها ورخاوتها الفكرية والتنظيمية - عن إنجاز القضايا الأهم في نضالها الثوري ، وهي على سبيل المثال وليس الحصر: أولا – عجزت عن بلورة وتفعيل الأفكار المركزية التوحيدية لاعضاءها وكوادرها وقياداتها واقصد بذلك الفكر الماركسي وصيرورته المتطورة المتجددة.ثانيا-عجزت بالتالي عن تشخيص واقع بلدانها (الاقتصادي السياسي الاجتماعي الثقافي ) ومن ثم عجزت عن إيجاد الحلول أو صياغة الرؤية الثورية الواضحة والبرامج المحددة ، كما عجزت عن صياغة البديل الوطني والقومي في الصراع مع العدو الامبريالي الصهيوني من ناحية وعن صياغة البديل الديمقراطي الاشتراكي التوحيدي الجامع لجماهير الفقراء وكل المضطهدين من ناحية ثانية .ثالثا - عجزت عن بناء ومراكمة عملية الوعي الثوري في صفوف أعضاءها وكوادرها وقياداتها ليس بهويتهم الفكرية الماركسية ومنهجها المادي الجدلي فحسب بل أيضا عجزت عن توعيتهم بتفاصيل واقعهم الطبقي ( الاقتصاد، الصناعة ، الزراعة ، المياه ، البترودولار ، الفقر والبطالة والقوى العاملة، الكومبرادور وبقية الشرائح الرأسمالية الرثة والطفيلية ، قضايا المرأة والشباب ، قضايا ومفاهيم الصراع الطبقي والتنوير والحداثة والديمقراطية والتخلف والتبعية والتقدم والثورة ...الخ ) فالوعي والإيمان الثوري (العاطفي والعقلاني معا ) لدى كل رفيقة ورفيق، بالهوية الفكرية وبضرورة تغيير الواقع المهزوم والثورة عليه ، هما القوة الدافعة لأي حزب أو فصيل يساري، وهما أيضاً الشرط الوحيد صوب خروج هذه الأحزاب من أزماتها ،وصوب تقدمها وتوسعها وانتشارها في أوساط جماهيرها على طريق نضالها وانتصارها .
وفي هذا السياق فان الخطوة الاولى ، تقتضي منا تخطي احد اهم جوانب الأزمات الذاتية الداخلية في أحزابنا، التي تطال الهوية الايديولوجية والاطار الفكري العام ، وتحاول ان تصيبه بالرخاوه التي تكاد ان تحول بعضنا الى غرباء عن الواقع من حولنا ، بعد ان تعطلت ادوات هذا الاطار ، واصابه الكثير من مظاهر الارباك و الفوضى والتراجع، إلى جانب تزايد التوجهات الليبرالية الهابطة او النزعات الدينية المتطرفة، وهذا يستلزم منا اعادة التعامل بكل وعي وقناعه والتزام بالنظرية الماركسية ومنهجها النقدي ، وتفعيلهما عبر الممارسة ، في تطوير واستنهاض العلاقات التنظيمية الداخلية لحزبنا ، تمهيدا لتعميق التواصل الفعال والمؤثر مع كل مكونات الحياة الاجتماعية والسياسية و الاقتصادية والثقافية في بلادنا ، لتشكل هذه العناوين مدخلاً موضوعياً وعملياً يعزز الدور السياسي والديمقراطي المطلبي العام لأحزابنا/ فصائلنا في اوساط جماهيرنا، وبما يساهم في كسر حالة العزلة والانكفاء التي نعيشها اليوم ، صوب الدور المستقبلي الذي نتطلع اليه ونناضل من اجله .
وبالتالي ، علينا جميعا تأكيد وتعميق الإدراك والالتزام –بقناعة كاملة وبروح تغمرها العزيمة والتفاؤل- بأن كل حزب أو فصيل من أحزابنا في مشرق ومغرب الوطن، هو حزب المستقبل، عبر دوره الطليعي في تغيير هذا الواقع المرير بالتلاحم الوثيق بين كافة أحزابنا على صعيد الوطن، كما على الصعيد الأممي، لذلك فإننا معنيون في هذه المرحلة بالعمل الجاد نحو تصفية الحساب مع اتجاهات الفكر الأخرى بكل أشكالها وعناوينها الليبرالية الجديدة والرجعية المتخلفة، ومواصلة النضال بروح عالية من الإرادة الثورية، صوب المستقبل الذي ستتحقق فيه أماني وتطلعات جماهيرنا الشعبية الفقيرة في الخلاص من المعاناة والقهر السياسي والطبقي بكل مظاهره وأشكاله ، منطلقين في ذلك من ان توجهاتنا الوطنية وممارساتنا النضالية تسترشد بعمق ، بالمقومات الفكرية والمنهجية للماركسية والأفكار الاشتراكية وما تمثله من منطلق معرفي، ثوري وموقف أممي في جوهره ، ولن يكون قادرا على تحقيق هذه المهام الا حزب طليعي مناضل يسترشد بنظرية الطليعة ، وكما يقول لينين "نحن نسير جماعة متراصة في طريق وعر وصعب، متكاتفين بقوة ، يطوقنا الأعداء من جميع الجهات وينبغي لنا ان نسير على الدوام تقريبا ونحن عرضة لنيرانهم ، لقد اتحدنا بملئ ارادتنا ، اتحدنا بغية مقارعة الاعداء بالذات ، لا للوقوع في المستنقع ، احرار في النضال لا ضد المستنقع وحسب بل ايضا ضد الذين يعرجون عليه" . 
تلك هي رسالة القائد الثوري الرفيق لينين ، بما تتضمنه من محفزات معرفية ثورية موضوعية وذاتية يمكن أن يستلهمها ويعيها بعمق كل رفيق من رفاقنا في ارجاء وطننا الكبير،  فأن تكون ماركسياً  يا رفيقي ، يعني أن تكون اولا وطنيا وديمقراطيا جيدا ، وأن تبدأ بتراثك التقدمي والتراث الانساني والفلسفي الديمقراطي العظيم ، اليوناني والاوروبي ، خاصة عصر النهضة والاشتراكية الطوباوية والثورة الفرنسية والحداثة بكل جوانبها ، أن تكون ماركسياً يعني أن تبدأ من ماركس، ولكن لا تتوقف عنده، أو عند أحد كبار خلفائه في العصر الحديث والراهن ، انطلاقا من ضرورة تطوير النظرية وتجددها وتجسيدها للواقع المتغير المعاش. فهناك فرق بين أن تكون ماركسياً، أو أن تكون ناطقاً بالماركسية. أن تبدأ من ماركس، يعني أن تبدأ بالجدلية المادية ومنهجها. وبهذه الروح يجب، في رأيي ، أن ننظر في قضية النظرية الثورية واهدافها السياسية ،التحررية والديمقراطية المجتمعية أوالطبقية اليوم بغض النظر عن اسم الحزب شيوعيا او اشتراكيا او عماليا اواي مسمى آخر طالما يعلن التزامه بالماركسية ومنهجها من جهة ويؤكد التزامه والتزام قيادته وكوادره واعضاءه بالمنهجية والمفاهيم الديمقراطية داخل الحزب وخارجه بعيدا عن المركزية والبيروقراطية المقيته، و في خدمة تطوير وعي الرفاق لممارسة نضالهم من اجل تحقيق اهداف الجماهير الشعبية الفقيرة .
ووفقاً لهذا الأساس ، فإن الحفاظ على الماركسية ومتابعة رسالتها الإنسانية لا يكمن في الدفاع اللاهوتي أو الدوغمائي عن تعاليمها، وإنما بالنقد الدائم لأفكارها وتجديدها ارتباطاً بأهدافنا العظيمة من أجل التحرر الوطني والقومي الديمقراطي التقدمي. وبالتالي ان طرح السؤال ما الماركسية ذو أهمية وله معنى. إذ أننا أمام هدف تحديد ماهية الماركسية بالذات، وكيف نطبق المنهج المادي الجدلي على واقعنا بكل خصوصياته؟ وهي أسئلة لا يمكن الإجابة عليها دون التخلص الواعي من الأفكار المثالية أو الغيبية، ومن ثم البحث في الجدل المادي وفي تطور الاقتصاد السياسي والصراع الطبقي والحراك الاجتماعي وفق رؤية ثورية وبرامج واهداف تجسد طموحات الجماهير العمالية والفلاحين الفقراء وكافة المضطهدين.
من هنا أتوجه إلى كل الرفاق عموماً والشباب والشابات خصوصاً بالقول: إن البحث في الماركسية يجب أن يبتدئ من التخلص من إرث الأفكار البالية الرجعية والمتخلفة والشوفينية وكل ادوات ومظاهر الاستبداد الداخلى او تقديس وعبادة القيادة او الافراد، وامتلاك الوعي بالمنهج الجدلي المادي وتطبيقاته على الاقتصاد والمجتمع والثقافة ، كما على كل جوانب الواقع عبر الممارسة التنظيمية والنضالية في اوساط الجماهير ، كما أتمنى عليهم بل أطالبهم بأن يمارسوا مراكمة وعيهم ونضالهم الكفاحي والسياسي والديمقراطي انطلاقاً من قناعتهم بأن أحزاب اليسار الماركسي العربي وحدها التي تملك الرؤية الإستراتيجية النقيضة للوجود الامبريالي الصهيوني في بلادنا ولكل قوى اليمين الليبرالي والرجعي، وهي وحدها أيضاً التي تملك الرؤية الإستراتيجية الكفيلة بإنهاء كل مظاهر التبعية والاستغلال والقهر الطبقي وتحقيق الديمقراطية والعدالة والمساواة من منظور الثورة الوطنية الديمقراطية ... وهي بالتالي وحدها التي تمثل المستقبل لشعوب بلداننا عموما وجماهيرها الشعبية من العمال والفلاحين الفقراء خصوصا ، ينصهرون في وحدة سياسية طبقية مجتمعية واحدة تلغي كافة التمايزات الشوفينية الاثنية بين عربي وكردي وامازيغي وارمني.. .الخ يعيشون  ويبنون واقعهم ومستقبلهم معا تحت راية التقدم والديمقراطية والاشتراكية  .
أيها الرفاق ... إن مسيرتنا سوف تمضي في طريقها رغم كل ما هو كائن، ومن أجل ما سيكون... قد يهتز من مصاعب الطريق من يهتز...قد يحبط من حجم الاخفاقات من يحبط... قد يسقط في خندق الأعداء بفعل الاغراءات من يسقط.
ومع ذلك فإن قافلة الماركسية في بلدان العالم الفقيرة والمهمشه ، وفي بلدان وطننا العربي، وفي الطليعة منها أحزابنا، سوف تواصل مسيرتها ، حتى تبلغ غايتها في التحرر والعدالة الاجتماعية على طريق تحقيق اشتراكية عصرية متجددة ذات وجه أنساني ، وذات محتوى ديمقراطي .