أما زالت القضايا القومية ذات راهنية؟


رضي السماك
2023 / 4 / 26 - 23:24     

على الرغم من الردات المتعاقبة التي تشهدها حركات التحرر الوطني العربي، وسائر الحركات الساعية للتغيير الديمقراطي التقدمي في عالمنا العربي، وذلك منذ هزيمة 1967 إلى يومنا هذا، حيث يتضاعف اليأس في التغيير وأضحى أشبه بالحُلم بعيد المنال، إلا أن ثمة واقعاً يوحد العرب -موضوعياً- يتمثل على الأقل في المعاناة منه، ما يؤكد في الوقت نفسه أن ثمة تشابه بين البلدان العربية في الظروف والأوضاع السياسية والاقتصادية والمعيشية. ولنأخذ على سبيل المثال ثورات الربيع العربي التي وقع بعضها أوائل العقد الماضي، وبعضها الآخر في أواخره، لنتساءل: هل هي بالمصادفة أن تقع في هذه البقعة الجغرافية من العالم تحديداً جميع تلك الحركات ؟ ولماذا لم تقع في بلدان إسلامية قريبة أو مجاورة؟ أليس هذا دليل قاطع على وجود رابط ما يجمع الشعوب العربية من آلام وآمال مشتركة؟
على إننا إذا ما نحينا جانباً خصوصيات كل حركة سياسية قُطرية ومطالبها ومهامها على حدة، نجد من حيث المبدأ ثمة ما يجمع هذه الحركات وشعوبنا العربية حول قواسم وأحلام مشتركة، خُذ على سبيل المثال، لا بل على وجه الخصوص أن شعارين لطالما تغنت بهما الأحزاب القومية وبررت أنقلاباتها العسكرية بهما،ألا هما "القومية العربية" و " الوحدة العربية"، ولطالما أتهمت الشيوعيين وقوى اليسار عامة بمعاداتهما، فهل صحيح إن اليسار وقف من حيث المبدأ ضد هذين الشعارين؟ حسبنا هنا أن نقدم ثلاثة نماذج من كبار كتّاب ونشطاء اليسار الراحلين ما يدحض هذه الفرية الشائعة جملةً وتفصيلاً:
النموذج الأول: ويمثله المفكر الراحل سمير أمين، ففي كتابه الموسوم" الاُمة العربية" والذي يتكون من جزءين، الأول بعنوان " القومية والصراع القومي" والجزء الثاني بعنوان " البُعد الثقافي" والصادر عن مطبعة مدبولي 1988 بالقاهرة، يأخذنا أمين في رحلة تاريخية طويلة من خلال دراسته لما أطلق عليه "لنمط الأنتاج الخراجي" الذي ساد اقتصاديا في البلدان العربية بدرجات متفاوتة. وهو يرى أن الاُمة العربية لم تتكون تاريخيا إلا نتاج الإندماج التجاري العربي، وأن الطبقة التي قامت بالتوحيد هي طبقة التجار- المحاربين، أما في العصر الأمبريالي فيرى أمين أن طبقات البرجوازية الكومبرادورية والملاكية ورأسمالية الدولة عاجزة عن تحقيق الوحدة العربية. وهذا يعني في رأينا إيمانه مبدئيا بالوحدة العربية، لكنه لا يرى أفقا لإمكانية تحقيقها على أيدي تلك الطبقات أو إشراكها في مشاريعها؛ لانتفاء مصالحها إذا ما تحققت ، في حين لطالما توهم القوميون بامكاننية إشراك تلك الطبقات في مشاريع الوحدة.
النموذج الثاني: ويمثله المناضل القيادي الشيوعي والمفكر الأقتصادي الماركسي الراحل الدكتور فؤاد مرسي، ففي كتابه الموسوم" نظرة ثانية إلى القومية العربية" الصادر عن سلسلة كتاب الأهالي، أبريل 1989، بالقاهرة، يؤكد مرسي بصريح العبارة أن العالم العربي يمر بأزمة مستحكمة، وأن ما يجري فيه منذ هزيمة 1967 ضد حركة التاريخ ، وأن حركة التاريخ في المنطقة إنما تتمثل في القومية العربية، التي مهما يكن الرأي فيها فهي في النهاية من صنع التاريخ، مضيفاً: " فالقومية العربية حركة تاريخية تعبر في الواقع عن حتمية تاريخية موضوعية هي حتمية أنتصار حركة التحرر الوطني على أعدائها مهما طال الزمن." لكن هذا المطلب المنشود الحُلم، لا يراه مرسي يتحقق بالحتمية الأتوماتيكية من تلقاء نفسه، وإنما بنضال البشر الواعي. وهو أيضاً -كسمير أمين- يأخذ يرى أن البرجوازيات العربية الحاكمة، وهي برجوازيات مشوهة كما يصفها مرسي، ليس من مصلحتها تحقيق الوجدة العربية لأن أطماعها الطبقية الأنانية إنما تربطها برأس المال العالمي والأحتكارات الدولية، ومن ثم فهي تقف حجر عثرة في وجه انجاز مهام التحرر الوطني، و التي لا يمكن فصمها -موضوعياً- عن مهام التحرر الاجتماعي.
النموذج الثالث: ويتمثل في المناضل القيادي الشيوعي العراقي الراحل عامر عبد الله، ففي دراسة له أعادت نشرها "الثقافة الجديدة" العراقية (آذار- نيسان عام 2000) يقوم عبدالله بتشريح العوامل التي حالت دون تحقق الوحدة العربية، ومنها اصرار الأنظمة القومية الحاكمة في الستينيات على الأنخراط في مشاريع للوحدة الأندماجية الفورية، كما حدث من خلال الوحدة المصرية السورية 1958- 1961، والتي أنتهت عملياً إلى الفشل الذريع ، وما ذلك إلا لرفضها لمشاريع التدرج الواقعية، فضلا عن رفضها أن تتم هذه المشاريع وفق خيارات ديمقراطية شعبية بحيث تظللها أنظمة ديمقراطية. لا ينكر عامر عبدالله بطبيعة الحال بأن الأستعمار عمّق التجزئة بين الأقطار العربية ووضع عراقيله للحيلولة دون تحقيق الوحدة العربية، لكن لا يتردد في الوقت نفسه أن ينحي باللائمة على الأنظمة والحركات القومية لمسؤوليتها المشتركة مع الأستعمار والأمبريالية في هذا الأخفاق، ومن ثم وأد حلم الشعوب العربية من أجل تحقيقها.ولهذا فإنه يرى أن طريق الوحدة العربية ينبغي أن يبدأ من التحرر من الأمبريالية، ومن التصدي الحازم للعدوان الأمبريالي- الصهيوني، وسياسة التوسع والهيمنة الأمريكية- الأسرئيلية وسياسة نهب الثروات الوطنية وحل المسألة الديمقراطية، وأنه ينبغي المرور أولا بما أسماه "مراحل أنتقالية وحلقات وسيطة"، بمعنى إقامة أنظمة أتحادية أو وحدوية بين قطرين متجاورين أو أكثر حيثما نضجت الظروف الصرورية التي تسمح بذلك.
ومع أن حل مهام القضايا القومية، وبضمنها مسألة الوحدة العربية، أضحت اليوم أكثر تعقيداً بكثير من تعقيدها في الأزمان التي كُتبت فيها تلك الدراسات الثلاث الآنفة الذكر، إلا أننا نرى جوهر ما ذهبت إليه عن شروط تحقق الوحدة، وعوامل تعثرها -موضوعيا وذاتياً- ما زال يحتفظ بصحته بوجه عام .