نبيل عناني أبرز مؤسسي الحركة التشكيلية الفلسطينية المعاصرة(1من3)


سعيد مضيه
2023 / 4 / 25 - 09:48     

عرض كتاب مصور : إبداعات نبيل عناني ودراسات فنية لمضامينها النضالية
إصدار دار الساقي عام 2018
تحرير: سليمان مليحات و مارتين مولوي
تصميم: ويل برادي
الكتاب في 176 صفحة منها 61 صفحة تضم المقدمة وستة ابحاث مع صور لوحات توضيحية كتبها كل من بشير مخول، رانا عناني، تينا شيرويل، ندا شبوط ولارا الخالدي وحسني الخطيب شحادة؛ جاءت نصوصهم دراسات متخصصة لفن نبيل عناني وتطور إبداعاته، وإسهاماته الفعالة المثابرة طوال خمسة عقود في تشكيل الثقافة المقاومة الفلسطينية ومضامينها السياسية والاجتماعية.

يتوجب القول ، بداية، ان الثقافة الفلسطينية ابتليت بالعواصف الماحقة: عام النكبة جرى تدمير المجتمع الفلسطيني وتدمير المنجزات الثقافية، والتنويرية في بداية القرن ،على وجه الخصوص ، كانت متدفقة غزيرة ورافعة للوعي الاجتماعي؛ المنورون الفلسطينيون، محمد روحي الخالدي وكلثوم عودة وبندلي الجوزي وخليل السكاكيني ونجيب نصار ونجيب عازوري وغيرهم، نهضوا لتبديد ظلامية قرون التراجع والاندثار تحت وطأة الاستبداد السياسي. بكر المنورون الفلسطينيون إنذارهم من العواقب الكارثية للهجمة الاستيطانية الصهيونية الوافدة بتواطؤ الإدارة العثمانية قبل الحرب العالمية الأولى. فقدت إبداعات المنورين وإبداعات مثقفين وطنيين وديمقراطيين أضافول لثقافة التنوير وتصدوا لكل من الانتداب وربيبته الحركة الصهيونية الاستيطانية.
مرة ثانية هبت العاصفة على الثقافة العربية في فلسطين عام 1967، حيث شرع الاحتلال عملية تدمير لمعالم الثقافة الوطنية وعناصرها . رحل عدد من المثقفين عن فلسطين واستأثر الموت بعدد آخر. شرع جيل نبيل عناني من مستوى متدن مشروعهم الثقافي المناهض للتعرية الثقافية وطمس ثقافة فلسطينية تميز هوية وطنية سعى الانتداب والكولنيالية الاستيطانية الصهيونية جاهدين لطمس معالمها واجتثاث جذورها.
يتوجب القول ان العرض ترجم لقطات قدمت زبدة الأبحاث. ربما لم تطابق بعض المفردات المترجمه الأصل الذي قصده الباحث، ولكن دون الإخلال بالمضمون.
أولا وقبل كل شيء يقتضي الواجب تجاه مريد البرغوثي، الشاعر الكبير الذي رحل مبكرا عن دنيانا، وترك لنا إسهامات ثقافية ثرية، شعرية ونثرية، أن نورد مقدمته النفيسة المدون جزء منها على غلاف َّالكتاب:
"نبيل عناني أحد أبرز الفنانين الفلسطينيين هذه الأيام. رسام ، فنان سيراميك ونحات؛ خلال العقود الخمسة الماضية بنى كاتالوغا فنيا بارزا ، إبداعيا ومتفردا ، رائدا في استعمال مواد محلية من الجلد والحناء والأصباغ الطبيعية والخشب والخرز والنحاس.
"اعتبره الكثيرون المؤسس الرئيس لحركة الفن الفلسطيني المعاصر. ان تطور عناني كفنان قد واكب أحداثا كبيرة في تاريخ فلسطين الحديث. يعكس إبداعه التجربة الفلسطينية المعاشة، تعْرِض استجابات متميزة لقضايا المنفى، الإبعاد، الصراع ، الذاكرة والفقد. رؤية نبيل الفنية تستعيد وتمجد حقيقة غالبا ما يتم نسيانها ، إبداعه يقدح شرارة الذاكرة".
يضيف مريد برغوثي في مقدمته أيضا:
"في مجتمع يعيش اوضاعا كارثية لا يملك الفنان ترف الانشغال برؤية منفردة ...إبداعات الفنان نبيل عناني تؤدي، في آن واحد، مهام الروائي والشاعر والمؤرخ والمهندس ومخرج الأفلام والموسيقي والمعيد للذاكرة . لوحاته الفنية تلتقط في لحظات حيوات الناس، تلالهم ، كروم زيتونهم، بيوتهم ، جداتهم، ثيابهم المطرزة ، اعراسهم وجنازاتهم .
"في لوحاته الفنية يقوم عناني بدور الروائي، إذ يسرد قصة مجموعة من البشر، بلغ بهم الانسحاق درجة العجز عن إبلاع قصتهم؛ وهو شاعر حين يقبض على منمنمة واحدة، هنا وهناك: ومضة عين ، انحناءة جيد، او أميال من الشجر المهدد؛ هزال جسد تارة ، وقدرة عجيبة تارة أخرى؛ هو مؤرخ، حين تتداعى زمنيا، عبر تشكيلاته الفنية، أحداث الحياة الفلسطينية، بأفراحها وأتراحها ، تعدد سبل اختفائها رغم الفرح ، وسبل تجليها رغم الموت؛ وهو مهندس حين يعيد تركيب حكاية امة جرى تدمير كلا من صوتها وجسدها. من ضمن الرسائل التي تحملها إبداعاته ان هذه هي الأمة التي ما كان لروحها ان تنهار مرات عدة إلا لكونها نهضت مرات عديدة؛ وهو مخرج أفلام حين يختار المنظر، مضيّقا العدسة أو موسعها ، وحين يختار زاوية للكاميرا أو يقرر درجة الضوء او الظل؛ وهو موسيقي إذ ينشغل بوضوح بأشجار الزيتون التي تشغل حيزا في اعماله مثل النغمات الموسيقية ، تدهش بالحانها في موضوع واحد، تارة يرينا كروم زيتون ممتدة من طرف اللوحة حتى الطرف المقابل، وتارة يرسم شجرة زيتون منفردة . في مشاهد أخرى تتغلغل البيوت الريفية الأشجار، أو يترك الأشجار تتغلغل بين البيوت تختلط بتناسق يبعث مشهدا جديدا، مألوفا لأنه يستحضر أسلوبه المعتاد ، ومع ذلك يُدهِش إذ يحتوي جديدا لم نره من قبل .
"الفنان الأصيل ، يرغب ان لا يكون غامضا في احتفائه بحياة الفلسطينيين وطبيعة فلسطين. وأنا أتمعن اللوحات المؤطرة لهذا الفنان تتغافل عيناي عن الأطر، تندلق الرسومات عبرها لتواصل الامتداد وراء حدود الأطر.عثر عناني على العرض المثالي لانشغاله العميق بجغرافية فلسطين وتاريخها، عبر كروم الزيتون وغرز التطريز الفلسطيني؛ نبيل لا يرسم التطريز كما يراه على الفساتين والمخدات ، بل يبدع شيئا جديدا. لم نعد نميزهل التطريز حرفة تنفّذ علي يد فنان، أم هو طقس روحاني يصّاعد بنهاياته المكانية، متحولا الى شِعرمكتوب بالألوان والإبرة. وهذا لا يسلب عناني ما عرف عنه قلة اكتراث بالتجارب( رغم قيامه بتجربة في حالة معينة). فتطور فنه لا يتوقف على قفزات اسلوبية بقدر ما يتوقف على النمو الهادئ، قانعا احيانا، قلقا في احايين، لكنه دوما يتقدم بخطوات ثابتة، وليس بقفزات مباغتة. .... بهذا ننهي المقتبس من مقدمة مريد البرغوثي، الشاعر الراحل".
لكي نتفهم العبئ الذي نهض به نبيل وجيله من الفنانين نعود الى تينا شيرويل توضح "البدايات: نبيل عناني في عقدي السبعينات والثمانينات":
"ينتمي نبيل عناني الى جيل نشأ في عهد تميز بإحساس جديد بهوية عربية جماعيىة، وشهد تحول فلسطين عبر الحرب والاحتلال العسكري ، وكان أحد الطلائع الإبداعية لثقافة المقاومة. وانعكس ذلك خلال حياته الإبداعية الفنية.
"نظرة للوراء الى عقد اسبعينات مباشرة عقب حرب 1967، والمجتمع الفلسطيني يخوض غمار إدراك المعني والتحول والعواقب – الاجتماعية والسياسية والاقتصادية –للحياة تحت وطاة الاحتلال الإسرائيلي. مع تكشف الحقيقة على الأرض، كان زمنا حيث رفع العلم الفلسطيني يودي الى السجن، وحيث اخضع الإبداع الفني لنفس الأوامربقوانين الطوارئ المطبقة على المنشورات ، وحيث المعارض الفنية تغلق بأوامر عسكرية . حينئذ لم توجد بالمناطق المحتلة مدرسة او أكاديمية فنية. وجد الإنتاج الفني في ظروف صعبة محفوفة بالمخاطر؛ كانت الرسوم تصادر والمعارض تغلق إذا حملت رسائل سياسية؛ صنفت الأوامر العسكرية الرسم مثل المناشير، إذ أخضعتها، من حيث الجوهر، الى نفس ترتيبات الرقابة ، شأن أي مادة مطبوعة أخرى. حظرت الأوامر العسكرية غير الشرعية ان يجتمع في عمل فني الألوان الأربعة للعلم الفلسطيني – الأحمر ، الأبيض، الأخضر والأسود؛ في ظروف كهذه استعيض عن ترويج الأعمال الفنية بالبوسترات. حظر على الفنانين أو معارضهم السفر خارج البلاد، واعتقل عدد من الفنانين.
"التقى نبيل عناني، أثناء معرضه الأول عام 1972، بسليمان منصور وعقدت بينهما في الحال صداقة ، فجاء تأثيرهما المشترك عظيما في تطوير الفن الفلسطيني بالمناطق المحتلة وفي تنظيم الفن في العقود التالية. لهما فضل إخراج الى حيز الوجود رابطة الفنانين الفلسطينيين ، غاليري 79، مركز الواسطي للفن، الحلاج غاليري، الجمعية الفلسطينية للفن المعاصر واول أكاديمية دولية للفن في فلسطين. تعكس هذه الإبداعات المتميزة لهذين االفنانين أن الإيمان بالمسئولية الاجتماعية ودور الفنان كان جزءا من الإبداع والحياة اليومية، الى جانب إبداع أعمالهما الفنية".
نتحول الى بشير مخول، تناول بالتحليل العلمي دور الذاكرة الفردية والجماعية، ومن خلالهما علاقة الذاكرة بالتاريخ:
نبيل عناني شخصية قيادية بين جيله من فناني فلسطين ، قدم إسهاما بارزا في تطوير الفن الفلسطيني، ولعب دورا واضحا في تركيب هوية وطنية حديثة ، خاصة في ما يتعلق بالذاكرة الوطنية . ينتمي الى حركة فنانين اضافوا بصورة متميزة ضمن عملية تطوير الهوية الوطنية الفلسطينية والاعتراف بها، وفي النضال المتواصل من أجل الدولة...رغم اتساع أمداءاسهاماته، أود أن أولى الاهتمام الخاص بفكرة توظيف الذاكرة في أعماله الإبداعية، وكذلك عرض التفاعلات المعقدة بين التاريخ الشخصي والتاريخ السياسي اللذين يدوران حول محورالذاكرة.
من المفيد ، بداية ، الإقرار بوجود تباينات واهتمامات تتعلق بمشروعية وصدقية العلاقة بين التاريخ والذاكرة. فالذاكرة لا تعتبرممارسة محايدة؛ ورغم انها الى حد كبيرتجربة شخصية، إلا انها الى حد كبير تتلاقى مع إحساس الفرد ومع الهويات الجماعية، ومع الولاء، والتبعية والقومية. العلاقات معقدة ومفعمة، بشكل خاص، تلك التي تربط بين الذاكرة والتاريخ والهوية والوطنية في السياق الذي يبدع فيه نبيل عناني تشكيلاته الفنية، مشكلا رواية رؤيوية من الذاكرة تحيا في الظلال المحفوفة بالمخاطر، ألقت بها ضربات النكبة واستمراريتها في الاحتلال والاستعمار الاستيطاني الكولنيالي الإسرائيلي المتواصل.
يحتفي بالمرأة
نجد واضحا في ثنايا إبداعات نبيل انبهاره بالماضي الى جانب الجزء الذي تلعبه الذاكرة الراهنة في تطوير الهوية الوطنية والحفاظ على التراث الثقافي الفلسطيني . بالنسبة له، لا تتشكل رؤيته الفنية من العرض الحرفي للماضي أو سجل حقائق التاريخ ومواقعه ؛ إنما صور الماضي التي يجري التعبير عنها بوضوح بواسط اللغة البصرية التي بها يعيد تركيب الماضي وقراءته، وما ينطوي عليه من احتمالات. تلك الصور هي في الغالب شفافة و’ فلسطين بدون التباس‘. لسبب ما، يظل الماضي جزئيا تنكريا، لكنه للغرابة أيضا ذاكرة محددة في ذات الوقت . باستمرار ينقب نبيل عناني في الذكريات المعطلة التي تركت ندوبا من أثر الرضوض المستدامة للنكبة واستمرارية الكولنيالية الإسرائيلية. في لوحة الأمومة(1983) يعيد للذاكرة إحساسا بالخسارة الذاتية والجماعية بعرض ممثلن للماضي الذي يرمز أيضا للحاضر؛ ذاكرة شاشة جماعية – ذاكرة سعيدة للحب والاتحاد، تقي المتلقي من التأثيرات المؤلمة للذاكرة التاريخية للنكبة ، بينما لا تنسى في نفس الوقت، وهي تقوم في الحاضر أيضا بدور صورة الأم تحمي اطفالها من دمار وضنك قادمين، وذلك في محاولة لتقديم إحساس بالامان مفترض وربما كاذب.

تشهير بسرقة الأرض والتاريخ
يوجد حاجة متواصلة في أعمال نبيل للبحث عن بقايا الماضي، والسعي لاستعادة استنتاجات وتمرير رسائل ورموز لما ضاع ، على أمل ان يجده الفلسطينيون يوما ما؛ هذه الحاجة هي تعبير لحالة مستدامة تفعل فعلها داخل الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني. في لوحاته "بتير"(2012) ، "قرية فلسطينية" (2013)، و"خلف المشهد" (2013) يعرض لنا الفنان التجسيد بان الذاكرة ليست ثابتة، سائلة أحيانا . يستطيع المرء ان يرى في مجموعة لوحاته ان بالكاد ملاحظة التمييز بين ما هو متخيل وما هو بالذاكرة. يفهم من هذا ان الفنان يتطلع الى المستقبل ولا ينظر للماضي؛ فالماضي كما تتخيله الذاكرة يتم تركيبه ذاتيا؛ هنا يلوّح ب "الأمل" من خلال استعادة الصورة الى حالة من الاعتيادية او حتى الطوباوية . تغدو إعادة التخيل الممثلن هذه للماضي المشبعة بالحنين تخيلا متوقعا للمستقبل – إلهام بما سيأتي، وليس ذكريات للماضي. في لحظة شروعه بالرسم تتدخل اعتبارات اخرى لتترك تأثيراتها. حتما التحديات التي تفرضها الميديا، بالرسم ومواد اخرى ربما تحد من القدرة على جسر الفجوة بين التوقع والغياب. عندما يرسم من الذاكرة بالطبع تغدو القضايا الراهنة اكثر تعقيدا بكثير. التخييل المتطور ، موضوعا كان أو رواية بالذاكرة ، يجري ترميزه، فيغدو أقل سيولة؛ يحدث نظام غريب للسرد المنظور. لم يعد يحكي حكايته الخاصة ، إنما حكاية الشعب الفلسطيني. تتغير التصورات مع إبداع اللوحة، الصورة تظهر الماضي صلبا ، وتبدع تصورا جذابا بكيانات لم تكن موجودة أبدا بالمقام الأول.
في الوقت ذاته ، بصفته فنانا يستند الى تجربته وكيف يرى العالم ، يشتبك نبيل عناني بنشاط ، بسيرورة التفسير، بالمعنى الذاتي والمعنى المادي؛ ومع التزامه التام بالقضية الفلسطينية وانخراطه في التجربة الجماعية من خلال الذاكرة ، يلعب الدور الرئيس في الاعتراف المتبادل بهوية فلسطينية غير مشكوك فيها .
الحنين للماضي[نوستالجيا] عنصر قوي في إبداع نبيل عناني، مثلما هو لدى عدد آخر من الفنانين المجايلين. لسبب وجيه: يُنظَر في الغالب بعين الشك الى الحنين للماضي، وحتى باستهانة ، خاصة بالنظر لارتباطه بالرؤية القومية ؛ والتهمة الموجهة اليه كونه في العادة استحضار لماضٍ لم يوجد قط ، وذلك لكي يجد الجواب على رغبة مشكوك بها في الحاضر- كون هذا الماضي المثالي المتخيل موجه لشطب حسابات أخرى للماضي ، أو لاستئصال حقائق غير ملائمة. وعلى كل حال، فالحنين للماضي الموجود في إبداع نبيل عناني ، وفي أعمال فنانين فلسطينيين كثر، هو رد فعل لسرقة الماضي على يد قوة كولنيالية احتلالية . إنه نوع من الحنين المميز لما دعاه سبيفاك، ’الجوهرية الاستراتيجية‘، حيث ذو الرتبة المتدنية مضطر لاتخاذ حالة تأكيد هوية قوية وجوهرية لكي يحافظ على البقاء، وكا ستراتيجية مقاومة للاحتلال الكولنيالي. يلعب الحنين في إبداع عناني دورا في الحشد والتعبئة ، وفي نفس الوقت يعبر ذاتيا وجماعيا عن الخسارة والتوق الى مستقبل أفضل.

العولمة والعنصرية
ان الانتقال السريع الى العولمة والوجه المتغير لوسائط الاتصال تعني اننا نمر بأهم تحول اجتماعي واقتصادي بالتاريخ؛ تشجع قوة العولمة الأفراد وحتى الدول على تمييز الذات عن الآخرين وتأسيس هوياتهم الخاصة المتميزة. لهذا السبب اكتسب البحث عن الجذور والانبهار بفكرة الأصول أهمية اكثر. يذكرنا [إدوارد] سعيد بأن اكتشاف الذاكرة الجماعية هو ما من شأنه أن يوحد الناس ببعضهم البعض؛ ذاكرة الأسرة، المجتمع المحلي، العرق، ومجمل الماضي المكرس. تلك هي القوة التي لعبت دورها في إبداعات نبيل وهي ما حرك حنينه البارز . وعلى كل حال، فالعولمة ، وما واكبها من تعاظم اللامساوة والاسترقاق، تفضي أيضا الى نماذج انعزالية مدمرة من الحنين للماضي، وألأشكال المعاصرة للنشاط السياسي الفلسطيني حذرة جدا من الوقوع في مخاطر القومية العنصرية والإقصائية؛ وهذا يعود بصورة رئيسة الى ان هذا بالذات هو ما يناضلون ضده. وإبداع نبيل عناني ، على كل حال، يقدم كذلك نقاطا استمرارية وطاقة مشاعر محلية –ذاكرة المكان الذي يقيم فيه المرء حاليا.
شرع نبيل عناني عام 2012 إعأدة رسم صورتذكارية خاصة لأسر لم تلتقط للاطلاع العام، تعود الى ما قبل النكبة، اخذها من المصورخليل رعد؛ الصور تنبض بالتماسك الأسري قبل الشتات . في سلسة الصور’الحياة قبل 1948‘ قدم نبيل عددا من هذه الصور لوحات مثل ’أسرة أيوب من صفد‘ ، و’أسرة مقدسة‘. في رسوماته هذه يحاول الاندفاع متفلتا مما التزم به في السابق من مواثيق؛ يحاول، بطرق معينة، إعادة رسم الصور بتفاصيل شكلية جديدة ترتبط بتصور ذاكرته وسيرورات الرسم. وهذا منطلق جديد لنبيل، من خلاله يحاول التحدي، مختطا ميثاق ذاكرة باعتباره ذكريات المجموعة، بطريقة يمكن ان يزاح معها الستارعن شيء جديد.
هي صور لأشخاص ليسوا من عائلته، اشخاص يألفهم ، يجمعها كي يجعل الناس المرسومين طبقا لنماذجه وموضوع رسوماته ، بحيث يصبحون بصورة جوهرية مألوفين لديه من خلال سيرورة الرسم. فأن ترسم شخصا ما ، وتجعله موضوعا لإبداعك، هو شكل من نسج العلاقة، وفي حالة نبيل تندمج الرسومات عبررابطة فوق العادة وملزمة بين ذاكرة حياته الخاصة والذاكرة ’موضع البحث‘ والحياة المتضمَنة بالصورة الفوتوغرافية. من خلال هذه السيرورة تغدو الرسومات موضوعا جوانيا ، وبصفتها رسومات يغدو الموضوع جزءًا من ذاكرة اوسع ، ذاكرة جميع الأسر الفلسطينية . وهذا مكون مبهر إضافي لتجربته الشخصية والمباشرة ومثال جيد كيف تتشكل عن طريق العلاقة هويات جماعية.
ما علق بذهني من هذه الصور، وما أعتقد ان نبيل يناله من الرسومات حقيقة انها التقطت قبل النكبة؛ صورت أسرا مترابطة لم تتشتت بعد ، تقيم بالديار التي على وشك ان تمزقها شظايا الحرب والاحتلال الكولنيالي.