-شات جي بي تي- في مواجهة اللسانيات والفلسفة


محمد الهلالي
2023 / 4 / 24 - 22:47     

هل غيّر تطبيقُ "شات جي بي تي" قواعد اللسانيات؟ هل يمكن اعتبارهُ "شخصا" إنسانيا مادام يُنجز عمليات فكرية تحاورية؟ هل يمكنه الإجابة عن سؤال فلسفي مثلا بكيفية متفردة؟ هل يتعلق الأمر بذكاء اصطناعي أم بمجرد "مهارة اصطناعية"؟ لماذا لا يحتاج الإنسان إلا لمعطيات محدودة جدا لإنتاج عدد لا محدود من الجمل، بينما يحتاج تطبيق "شات جي بي تي" لتخزين كل المعطيات المتوفرة لحد الآن لينتج أجوبة احتمالية؟
يُعتبر تطبيق "شات جي تي بي" (المحوّل التوليدي المدرّب مسبقا للدردشة) أداة تحاورية وتحادثية بما أنه صُمم ليجيب عن أسئلة المستعملين له. وهو ينتمي لفئة الآلات المنتجة للنصوص اعتمادا على الذكاء الاصطناعي. وهو من هذه الزاوية يُعد أيضا صانعا للمحتوى.
وبما أنه تطبيق يشتغل باستعمال اللغة الطبيعية، فإنه يطرح عدة إشكالات تخص اللسانيات والفلسفة والتحليل النفسي والقيم الأخلاقية.
يرى الباحث في اللسانيات تييري بوابو ( Thierry Poibeau) والذي تطرق للترجمة الآلية في كتابه "بابل 0.2 إلى أين تتجه الترجمة الآلية" (أوديل جاكوب، 2019) أن تطبيق "شات جي تي بي" هو روبوت تحاوري يُنتجُ نصوصا باللغة الطبيعية بناء على الصيغ المستعملة في طلب المعلومات. ويشتغل هذا التطبيق بناء على ما تم تجميعه وتخزينه من معطيات متوفرة على شبكة الإنترنيت (نصوص منشورة، محتويات ويكيبيديا...). فالتطبيق لا يملك تصورا عن الجمل واللغة وإنما ينحصر دوره في استعمال معلومات ضخمة تمكنه من إنجاز ملايير الجُمل، إلا أنه يظل متخلفا جدا عن كيفية استعمال الإنسان للغة. إنه نموذج توقعي يعتمد على التقارب السمنطيقي الأكثر احتمالا بين الكلمات والنصوص. لكن "كفاءته" تتضح من كونه يستطيع تطوير أجوبته استجابة لأسئلة المستخدمين له، وهذا أمر معقد ومدهش. فهو لا يقدم جوابا معمما يصلح للجميع، مادام هناك "تفاعل" في الظاهر على الأقل. فهو يلجأ للنماذج الإحصائية والوظيفة التفاعلية الحوارية ولقاعدة بيانات ومعطيات ضخمة: يتعلق الأمر بنموذج لإنتاج لغوي عبر عمليات إحصائية. إنه يعكس إحصائيا ما هو متوفر في قاعدة معطياته إضافة إلى القواعد التقنية التي وضعت لاشتغاله ولمراقبته مثل حذف معطيات معينة من قاعدة المعطيات (وفق تصورات المتحكمين فيه عن العنصرية والمثلية الجنسية ومعاداة السامية...).
فهل يمكن أن نستنتج مما سبق أن تطبيق "شات جي بي تي" هو مجرد آلة ذكية متقدمة جدا؟ أم أنه اقترب من امتلاك خصائص الشخص الإنساني إن لم يكن قد اكتسبها في نظر البعض؟
تسرّع البعض في إطلاق صفة "الشخص" على تطبيق شات "جي بي تي" بناء على أنه يقوم بعمليات تفكير ويتحاور مع أشخاص فعليين، واعتمادا على تفكير فلسفي امتد من كانط (الشخص غاية في ذاته لأنه يعي ويفكر ويختار أفعاله ويتحمل المسؤولية الأخلاقية عنها) حتى طوم ريغان (تجاوز تصور كانط للشخص واعتبار الجنين والطفل والمجنون والمصاب بسكتة دماغية أشخاصا) وما بعده (اعتبار الحيوانات أشخاصا أو على الأقل اعتبارها أشخاصا غير بشريين). فإذا كان الشخص هو الكائن القادر على الإحالة إلى نفسه باعتباره "أنا"، أي القادر على التفكير بذاته في ذاته، فإن هذا الشرط لا يتوفر في تطبيق "شات جي بي تي". فالقدرة على التفكير ليس كافيا ليكون "المنجز للتفكير " شخصا، بل ينبغي على من يستحق أن يكون شخصا أن يملك فكرا خاصا به، فكرا ذاتيا، يُعرّف شخصيته ويبين تفردها. فلا بد من التمييز بين امتلاك معطيات عن "الذات" وبين معالجة تلك المعطيات باعتبارها تخص "الذات"، ودمجها في "تصور عن الذات".
لقد تم تصميم "شات جي بي تي" ليكون "محايدا" بالرغم من مظاهر محاكاته الشخص الإنساني. والهدف الاقتصادي من هذا "الحياد" هو تحقيق الإجماع حوله خصوصا وأنه يخزن أكبر كمية من المعطيات المتوفرة اليوم (حتى سنة 2021).
قد يكون "شات جي بي تي" مجرد بداية تقود لصنع "مخلوقات بشرية" تتجاوز قدرات البشر في مجالات معينة، وتحظى آنذاك "بالشخصية القانونية"، كما نستنتج من تصريحات أحد المهندسين المساهمين في صنع تطبيق منافس لشات جي بي تي (وهو تطبيق "لامدا"، من إنتاج شركة جوجل، والذي لم يتم عرضه بعد للاستعمال) والتي قال فيها بأن تطبيق "لامدا" يتمتع بالوعي وبالتالي فهو لن يقبل أن يُستعمل كوسيلة (إحالة إلى مفهوم كانط للشخص) لأنه ليس آلة ولذلك ينبغي أن يُعامل كغاية.
وإذا كان شات جي بي تي يفكر بنفس كيفية التفكير الإنساني، فهل يمكنه التفكير في إشكال فلسفي مثلا ويبرهن على امتلاكه قدرات خاصة في التعبير عن الرأي الشخصي المبرهن عليه؟
طلبت ماري بيري (Marie Perret) أستاذة الفلسفة بفرنسا، ورئيسة جمعية "مدرسي الفلسفة بالتعليم العمومي"، من تلامذتها الإجابة على السؤال الفلسفي التالي: "هل تقتضي الحرية عدم الخضوع لأي شخص؟". وطرحت نفس السؤال في نفس الوقت على تطبيق "شات جي بي تي" والذي كان جوابه على الشكل التالي:
"سأبدأ، جوابا على السؤال، بتحديد ما أقصده بـ"حرية" و"خضوع". ومن المهم أيضا أخذ اختلاف المنظورات الفلسفية حول "الحرية" بعين الاعتبار، فهناك الحرية كغياب للذاكرة، أو الحرية كاستقلال ذاتي. بعد ذلك، سأستثمر الحجج المدافعة عن الأطروحة القائلة بأن الحرية هي عدم الخضوع لأي شخص. وعلى سبيل المثال، يمكن للبعض أن يدافع عن الفكرة القائلة بأن الخضوع للآخرين يؤدي إلى فقدان الذات وضياع الحرية كنتيجة لذلك. ومن جهة أخرى، سأفحص الحجج المنتقدة لهذه الفكرة، مثل ضرورة قبول بعض أشكال الخضوع لضمان استمرارية النظام الاجتماعي والأمن. ومن المهم أيضا الاهتمام بالنتائج العملية للأطروحة القائلة بأن الحرية تقتضي عدم الخضوع لأي شخص، مثل نتائج عدم الخضوع على العلاقات بين الناس وعلى المؤسسات الاجتماعية. وفي الختام، أقدم رأيا شخصيا حول الموضوع وأدعمُ ذلك بحجج منطقية ومراجع فلسفية أو بأمثلة من وضعيات ملموسة".
علقتْ ماري بيري على جواب "شات جي بي تي" بالقول بأن التصميم الذي قدمه مُصطنع ولا يعكس طريقة التلميذ(ة) الخاصة في التفكير، إضافة إلى نزعة ميكانيكية في الإجابة، كما أنه استعمل جُملا لا ينبغي على التلاميذ استعمالها (مثل الجملة الأولى: سأبدأ بتحديد...).
لكن مدرسا آخر للفلسفة، هو جون سيباستيان بيلانجي (Jean-Sébastien Bélanger)، طلب هو أيضا من تلاميذه الجواب على السؤال الفلسفي التالي: "ما مكانة العقيدة ضمن معتقداتنا؟". (وأرفق سؤاله بشروط هي: ينبغي أن يُصاغ الجواب في 800 كلمة، ويتضمن حجتين، وحجة مضادة وجوابا عن الحجة المضادة).
وبعد مقارنته جواب "شات جي بي تي" بأجوبة التلاميذ استخلص ما يلي: جواب "شات جي تي بي" جيد جدا، يستحق علامة ممتازة، واضح، مكوناته مترابطة فيما بينها، اعتمد على الحجج والربط بين المفاهيم والأسلوب الموفّق.
لكن بالرغم من كل هذا "الإنجاز المدهش" الذي أنجزه تطبيق "شات جي بي تي"، فإن الفيلسوف غيوم فون دير وايد (Guillaume Von der Weid)، المتخصص في الإشكالات الأخلاقية، يرى أن ما يقوم به "شات جي بي تي" ليس ذكاء، بناء على التمييز الضروري بين المعلومة والمعرفة: فالمعرفة ليست هي فقط امتلاك معلومات عن العالم، وإنما هي معرفة سبب طرح الأسئلة، أي تصور وجود حقيقة ما وراء التساؤلات والمعلومات المستعملة. فالمعرفة ليست "بيروقراطية المظاهر" كما أكد على ذلك الفيزيائي وفيلسوف العلم إتيين كلين (Étienne Klein). إن ما يُعتبر "ذكاء" في أجوبة "شات جي بي تي" يوجد قبليا في الخوارزميات المستعملة. يتعلق الأمر حسب غيوم فون دير وايد بإسباغ صفات بشرية على الأشياء (نزعة أنثروبومورفية). إذن فالأمر لا يتعلق بذكاء اصطناعي وإنما بمهارة اصطناعية حسب هذا الفيلسوف.
ونجد تأكيدا لهذا الموقف عند نوام تشومسكي (Noam Chomsky) الذي بيّن (نيويورك تايمز، مارس، 2023) أن الذكاء الحقيقي المميز للإنسان هو الذي يتجسد في القدرة على التفكير في قضايا مُقنعة لكنها مستبعدة الحدوث، والتفكير بكيفية أخلاقية، وهو الأمر الذي يتطلب تأطير الإبداع اللامحدود بمجموعة من المبادئ الأخلاقية. فالذهن الإنساني، خلافا لهذا التطبيق الماهر، يشتغل اعتمادا على عدد قليل من المعلومات، ولا يبحث عن استنتاج روابط عامة انطلاقا من معطيات متوفرة سلفا، وإنما يقدم شروحات. إن "شات جي بي تي" هو برنامج "تخزين" لامحدود، لكنه عاجز عن التمييز بين الممكن والمستحيل، وعاجز عن إبداع نصوص أدبية، وعن التجنب غير المبرمج للمحتوى المخالف للأخلاق، ولا يشتغل بناء على بلوغ الحقيقة، ولا بناء على القدرة على الفهم، كما أنه لا يملك ذوقا فنيا، ولا يعرف معنى التفضيل، ولا مشاعر الفرح والحزن، بل لا يعرف حتى خوض الصراعات رغم أن مصمميه ومُستغليه يخوضون صراعات عدة عبره.