هبة النفط والتحديات التي تواجه المصارف العربية في ظل عولمة الخدمات المصرفية


مصطفى العبد الله الكفري
2023 / 4 / 22 - 22:53     

هبة النفط والتحديات التي تواجه المصارف العربية
في ظل عولمة الخدمات المصرفية

يعد الوطن العربي في جزء كبير منه هبة النفط. والنفط يقع تحت رحمة أسواق الدول الصناعية المتقدمة، فبدلاً من أن يكون وسيلة تدعيم للاستقلال السياسي والاقتصادي، بات وسيلة اندماج وتبعية في سوق عالمية لا ترحم، وبات بالتالي عائده المحدود والمتذبذب بين أموال تستردها دول معينة لتعطينا الغذاء والكساء وبعض أدوات التنمية، وأموال تستردها دول أخرى أيضا ثمنا لأكبر استهلاك سلاح في العالم، وبقية ما نأخذه يعود لذات الدول للاستعمال في أسواقهم ومصارفهم وسنداتهم الحكومية.

بهذه الصورة القاتمة نواجه العولمة:
هذه الصورة الخارجية للنفط، أما الصورة الداخلية فان دولاً نفطية كثيرة كانت تعاني عجزاً في موازناتها في التسعينات بسبب تراجع أسعار النفط. أما أداة التقدم الحقيقية، وهي الصناعة التحويلية، فان نصيبها من الناتج المحلي لم يزد على 11 %. وهكذا بعد 27 عاماً من الطفرة النفطية، لم يزل اقتصادنا يعتمد على المواد الخام بشكل أساسي، ويعجز عن بناء هيكل اقتصادي متطور قادر على تشغيل اليد العاملة حتى أصبحت البطالة كابوساً يرعب كل الدول العربية.
بهذه الصورة القاتمة نواجه العولمة ومتغيرات العصر، فأين موقع الحكومات التي ينبغي أن تخطط وتضع السياسات والبرامج؟ وهل هي حكومات ناجحة أم فاشلة؟ هل تحصل على (الايزو) وشهادات التفوق القياسية بلغة أهل الصناعة والإدارة؟ أم أن نظم الجودة تطردها من نعيمها؟ ومؤشرات الجودة للحكومات لم تعد خافية، فالبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة معروف ويتحدث عن حكومة قادرة على توفير التنمية البشرية من مأكل ومشرب ومسكن وصحة وتعليم، ومفوضية حقوق الإنسان تتحدث عن توافر هذه الحقوق كشرط لمصداقية الحكومة، والبنك الدولي وقبله صندوق النقد يتحدثان عن (جودة وأهلية الحكم) عبر تعبير حديث انتشر أخيرا وهو الحوكمة (governance) وهو مصطلح قدم وصفة نموذجية للحكومة الجيدة فهي حكومة: فيها مشاركة شعبية في صنع القرار، وتؤمن بالشفافية وتمارسها، وتخضع للمحاسبة وتطبقها.
والوصفة هنا تأتي من منبع اقتصادي، فاتخاذ القرارات في المجتمع وهي نهاية رحلة الديمقراطية تعنى باختيار نوعية الحياة ونوعية الحقوق والواجبات. إن ميزانية الدولة تحدد: (من يأخذ).. ونظام الجباية يحدد: (من يدفع).. والقوانين والأنظمة التي تستصدرها الحكومة ويراقب القضاء تنفيذها توزع العدل أو الظلم بين الشعوب في المجتمعات ولكل ذلك انعكاسه على الأداء الاقتصادي وعلى حياة الناس وهو هدف أي نظام، المشاركة والشورى إذن أساس الحكم الجيد، والشفافية أداة المعرفة لمن سيشاركون والمحاسبة طريقة لمقاومة الفساد الذي بات أحد سمات العصر، والفساد من وجهة نظر صندوق النقد والبنك الدوليين معوق للاستثمار لأنه يعطي الفرصة لمن يدفع أكثر، ومن ثم فهو يضرب فرصة المنافسة المتكافئة.

التحديات التي تواجه القطاع المصرفي في الدول العربية:
يواجه القطاع المصرفي في الدول العربية مع دخول الألفية الثالثة تغيرات جذرية إذ سيصبح التمييز بين المصارف والوسطاء وشركات التأمين وصناديق الاستثمار اقل من ذي قبل مع توفير الخدمات المالية والمصرفية عن طريق الانترنت، حيث أن العملاء أصبحوا اليوم يفضلون استخدام قنوات الخدمة الذاتية لإنجازه أعمالهم المصرفية.
لذلك من المتوقع أن تركز المصارف العربية على تعظيم العائد على حقوق المساهمين الأمر الذي يتطلب التخلص التدريجي من النشاطات التي لا تغطي عائداتها كلفة رأس المال المخصص لها وتحويل المزيد من رأس المال للأعمال المصرفية التي ترتفع عائداتها مع الوقت. ويمكن زيادة الربحية عن طريق تقليص النفقات التشغيلية من خلال الاستخدام الفعال للتكنولوجيا الحديثة مثل الانترنت إذا أرادت أن تواجه المنافسة الشرسة القادمة من الخارج. وإذا كان هناك من شك في مدى تأثير هذه المنافسة على الأسواق المحلية، فما علينا سوى أن نلقي نظرة على ما حدث في عمليات تداول الأسهم عبر الانترنت خلال السنوات الأخيرة.
شهد الاقتصاد العالمي في العقود الأخيرة تغييرات هيكلية كبيرة وأصبحت الأسواق الدولية للسلع والخدمات ورؤوس الأموال مترابطة على نحو متزايد. في ظل هذه التغيرات تواجه الاقتصادات العربية تحديات كبيرة أبرزها التحول في الفكر الاقتصادي وأشكال التعاون والتكتل الاقتصادي. ولا تستطيع الدول العربية أن نبقى بمنأى عن التفاعل والاندماج بالاقتصاد العالمي الجديد. والمنطقة العربية بموقعها الاستراتيجي وثرواتها المختلفة وأسواقها المستقبلية المحتملة لن تكون قادرة على العزلة أو الانغلاق، وبالتالي لا يمكن أن تبقى خارج الاقتصاد العالمي. مع التأكيد على أهمية القطاع المصرفي في الدول العربية الذي شهد تغيرات مهمة استجدت على القطاع المالي الإقليمي والعالمي، يُتوقع أن يكون لها أثر بالغ على القطاع المصرفي وهي: [1]

أ - تحرير وعولمة الخدمات المصرفية:
يبدو أن الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية يفرض على الدول العربية منح المصارف الأجنبية معاملة المصارف المحلية نفسها، وسيصبح باستطاعة المصارف الأجنبية دخول الأسواق العربية واستقطاب العملاء بما تقدمه لهم من خدمات مصرفية متطورة قد لا تكون متوافرة في السوق المحلية. كما سهّلت العولمة وتحرير الخدمات المصرفية على المصارف في الدول الصناعية الدخول إلى أسواق الدول الناشئة واستغلال النمو المتوقع لهذه الأسواق، حيث قامت المصارف الاسبانية على سبيل المثال بالتوسع في أميركا اللاتينية والمصارف الألمانية في أوروبا الشرقية والصارف الأميركية في منطقة شرق آسيا.
يثير تحرير الخدمات المالية والمصرفية في العالم القلق في القطاع المصرفي العربي بسبب التخوف من أن المؤسسات المالية الأجنبية أكثر كفاءة من المؤسسات المالية العربية وبالتالي فهي قادرة على السيطرة تدريجياً على القطاعات المصرفية المحلية. ولكن هذا القلق ليس صحيحاً دائماً، فالمصارف الأجنبية قد تتميز في بعض الخدمات المصرفية الاستثمارية وفي التكنولوجيا وفي الصيرفة الخاصة لكن معرفة المصارف العربية لأسواقها المحلية وعلاقتها القوية مع عملائها سيوفر لها ميزة تنافسية كبيرة على المصارف الأجنبية، إضافة إلى أن منظمة التجارة الدولية تسمح بتطبيق التحرر المالي على مراحل إذا ما احتاجت المصارف المحلية إلى مزيد من الوقت لتكييف أوضاعها مع المنافسة الجديدة.

ب - التحولات في الفلسفة الإدارية للمصارف العربية:
في ضوء المتغيرات العالمية المستجدة في القطاع المصرفي ينبغي على المصارف العربية الاستعداد لتطبيق ثقافة إدارية جديدة تأخذ في الاعتبار التغير المستمر في أوضاع السوق، وتقوم على شبكة من خطوط الاتصال بين مراكز العمل بدلاً من هرم وظيفي جامد، وتعتمد بشكل أكبر على مبدأ الشراكة مع مؤسسات مالية أخرى بدلاً من العمل بانفراد. وستعتمد المصارف بشكل متزايد في مجال العمليات المساندة والبحث والتكنولوجيا والمنتجات المالية وغيرها من مؤسسات خارجية تستطيع أن توفر هذه الخدمات بكفاءة اكبر. فمثل هذه الشراكة موجودة الآن لكن ستكون الحاجة إليها اكبر في ظل الثقافات الإدارية الجديدة وستصبح إدارة شبكات معقدة من الشراكة والعلاقات الخارجية بأهمية إدارة العمليات الداخلية للمصارف.
في ظل الثقافة الإدارية الجديدة ستدرك المصارف أن التكنولوجيا لا تمكنها من انجاز الأعمال بكفاءة أكبر فحسب لكنها تعطيها المقدرة لتطوير إعمالها بشكل متواصل، والأمر يتعلق باستخدام آخر إصدارات برامج الكومبيوتر كما يتعلق بالثقافة والعقلية السائدة. فالتكنولوجيا يجب أن لا تصبح هدفاً بحد ذاتها ولكن أحد عوامل زيادة الكفاءة للبنك، ولا بد للإدارة العليا أن تكون إدارة إلهامية تثمن الأداء المميز للموظفين وتشجعهم على ابتكار أفكار وخدمات مصرفية جديدة.

ج - انتشار الخدمات المصرفية عبر الإنترنت:
أصبحت الخدمات المصرفية الذاتية أو قنوات التوزيع المباشر مفضلة لدى العملاء، وتقدمها كل المصارف في العالم. وفيما يتعلق بالمصارف العربية فقد استثمرت الملايين لتطوير أجهزة الصرف الآلي لديها ونقاط البيع والبنك الناطق، ويتجه معظمها الآن نحو تقديم الخدمات عن طريق الانترنت ( بنك أون لاين ). لذا نجد أن استخدام الفروع اخذ يتراجع بشكل تدرجي، وقدرت كلفة إنجاز المعاملة المصرفية بواسطة جهاز الصراف الآلي بـ10 في المائة فقط من تكلفة انجازها عن طريق الفرع، وتنخفض هذه الكلفة إلى 1 في المائة إذا تم انجازها من خلال الهاتف أو البنك الناطق وإذا قدمت الخدمة نفسها من خلال الانترنت فإن التكلفة تنخفض إلى ما دون ذلك بكثير. لقد استطاع سيتي غروب من خلال 10 فروع فقط في الهند وباستخدام أجهزة الصراف الآلي والبنك الناطق أن يصبح اكبر مصدر للبطاقات الائتمانية في الهند.
لا تزال المصارف العربية متأخرة كثيراً عن المصارف الأميركية والأوروبية في تقديم الخدمات المصرفية عبر الانترنت والسبب الرئيسي في ذلك يعود إلى عدم انتشار الانترنت في الدول العربية بشكل كبير، حيث أن اقل من 10 في المائة من السكان العرب يستخدمون الانترنت مقارنة مع أكثر من 50 في المائة من السكان في أميركا وأوروبا والدول المتقدمة. ولكافة المصارف الأميركية مواقع على شبكة الانترنت والعديد منها يقدم خدماته من خلال هذه الشبكة، وتشمل الخدمات إدارة الحسابات الجارية بما فيها دفع فواتير وإصدار البطاقات الائتمانية وتوفير القروض السكنية الشخصية وتقديم خدمات الوساطة لشراء الأسهم والسندات إضافة إلى صناديق الاستثمار المشترك.
لقد تشكل في المنطقة العربية كونسورتيوم مؤلف من بنك الكويت الوطني وبنك دبي الوطني وبنك مصر التجاري الدولي والبنك العربي في الأردن والبنك السعودي - الأميركي ليقوم بتطوير سوق الكترونية إقليمية لتبادل الخدمات بين الشركات (B2B)، وصياغة شبكة دفع تابعة له على مستوي المنطقة ككل.

د - ازدياد الحاجة لعمليات الاندماج بين المصارف العربية:
ستواجه البنوك العربية منافسة شرسة من البنوك الدولية العملاقة والتي أخذت تقدم خدمات مصرفية عبر الانترنت. فهذه البنوك لا تحتاج إلى أن يكون لها وجود فعلى وهي تقدم خدماتها بأكثر من لغة مما سيساعدها على جذب أفضل العملاء. ولا تملك المصارف العربية اليوم سوى خيار الاندماج لخلق كيانات مصرفية قادرة على المنافسة في ظل الأسواق المالية العالمية المتحررة، وسيساعد الاندماج على خفض تكاليف التشغيل وتقليل عدد الفروع، وتقليص التشابه والتكرار في الأعمال وتوزيع نفقات التكنولوجيا العالية على قاعدة أكبر، وإتاحة المجال للاستفادة من ميزة اقتصاديات الحجم.
(يتوقع أن يشهد القطاع المصرفي العربي مزيداً من عمليات الاندماج والحيازة خلال السنوات القليلة المقبلة سواء بين المصارف المحلية سعياً وراء الحصول على حصة أكبر في السوق، أو بين مصارف من دول عربية مختلفة تهدف إلى التوسع خارج سوقها المحلية.
كما شهدت السنوات القليلة الماضية عدداً من صفقات الاندماج والشراء غير أن معظم المصارف التي تتحدث عن الاندماج والحياة تبقى توجهاتها حبراً على ورق إذ لم يتحقق حتى الآن سوى عدد قليل من عمليات الدمج الناجحة ... ويبدو أن الاندماج المصرفي في الدول العربية لن ينجح إلا إذا تدخلت السلطات النقدية وأجبرت المصارف الضعيفة على الاندماج).
وأصبح من الضروري إنشاء أنظمة رقابية متطورة لتكون أكثر فاعلية وقادرة على مجاراة التطورات المستجدة في الأسواق المالية الدولية وسيؤدي الطلب المتزايد للشفافية في الأسواق الدولية إلى تسريع تطوير أنظمة الرقابة في دول المنطقة. وستشعر السلطات النقدية أن قدرتها على التحكم في حجم الكتلة النقدية قد ضعف مع انتشار الخدمات المصرفية عبر الانترنت والتوسع في استعمال الدفع الالكتروني في عمليات التجارة على الشبكة العالمية.

المصارف المركزية والتحكم بأسعار الفائدة:
وتستطيع المصارف المركزية تنفيذ سياساتها النقدية من خلال التحكم بأسعار الفائدة بدلاً من التأثير على حجم الكتلة النقدية. لهذا السبب أصبح من الضروري لدول المنطقة تطوير أسواق السندات المحلية حيث أن توافر سوق ثانوية للسندات الحكومية سيتيح للبنك المركزي استخدام عمليات السوق المفتوحة لتحديد أسعار الفائدة حتى في اقتصاد يصعب فيه السيطرة على الكتلة النقدية المتداولة.
كما تحتاج الدول العربية إلى تطوير سوق السندات للشركات لتشكل مصدراً آخر للتمويل عند الحاجة، وذلك لتعويض التراجع في نشاط البنوك الاقراضي عند حدوث أزمات اقتصادية للحد من آثار هذه الصدمات، حيث أن وجود سوق سندات فعال للشركات يؤدي إلى تقليل آثر الأزمات، كما أن وجود مصادر تمويل غير مصرفية أمام الشركات يؤدي إلى تخفيف أثر الأزمات التي قد تتعرض لها البنوك العاملة ( في حال حدوث أزمة أو انهيار الأسعار في سوق العقارات ). وبالمقابل نجد أن الدول التي تعتمد الشركات فيها بشكل رئيسي على التمويل من البنوك وبشكل قليل جداً على سوق السندات قد أخذت وقتاً أطول لحل أزماتها المالية.
هكذا تختلط السياسة بالاقتصاد ويصبح الأداء السياسي الجيد هو الطريق لاقتصاد جيد أين تقف البلاد العربية من كل ذلك؟ سؤال صعب والإجابة عليه أصعب. هنا يجب على الحكومات العربية إدراك أن أدوات تقييم أدائها موجودة وهي بقبول الناس العام وتطور معيشتهم وبقاء أموالهم وعكس ذلك هو تصويت بعدم الرضى. لقد آن للعالم العربي أن يرضى عن حكوماته وهذا لن يأتي إلا بسياسات حكومية جادة تأخذ مصالح شعوبها في عين الاعتبار بصدق وأمانة لا بشعارات واهية.

رابط مصدر الدراسة: http://almustshar.sy/archives/10071