مأثرة الصفاء الشعري في-مخطوف من يد الراحة- لمُبين خشاني


باسم المرعبي
2023 / 4 / 20 - 04:47     

إذا كان الانطباع الشائع عن الديوان الأول للشاعر، أي شاعر، بأنه لا يخلو من عثرات، بوصفه رديفاً للبدايات، وأنّ هذه العثرات، عادةً، ما سيتمّ تخطّيها مع التطوّر المفترَض للشاعر، إلا أنّ تصوراً كهذا لا ينطبق على ديوان الشاعر مُبين خشاني "مخطوف من يد الراحة"، الفائز، باستحقاق، بجائزة الرافدين للكتاب الأول. فالديوان ولد بنفَس احترافي، متعالياً على مفهوم البدايات. ومن الجليّ أنّ مراناً متواصلاً على الكتابة الشعرية، قد سبق هذه الإضمامة من القصائد، ما أكسب الشاعر خبرة فنية. قول كهذا، ليس ضرباً من التخمين، بل هو ما تقرره قصائد الديوان، بما اتصفت به من نضج، وصفاء شعرييَن، ما كانا ليتحقّقا لولا حاسة شعرية دائبة على الصقل وبلورة الشعري إلى مداه الأبعد. وهو ما يفسر، أيضاً، التجانس الذي بدا عليه الديوان، ككل. إنّ الصفاء الشعري الذي بدت عليها القصائد ـ وهو ما تشدّد عليه هذه القراءة ـ يتسرّب بدوره إلى القارئ، كشيء من اغتباط، وهو هنا معادل لتحقق الانسجام الجمالي والفني في الديوان.
بقصيدة "العشرون" يستهل الشاعر ديوانه، ويبدو أنّ مثل هذا "التصدير" لم يأت عفواً، إذ يمكن قراءة القصيدة كهوية مكثّفة، تختصر سيرة الشاعر، تدرّجاً من بياض الولادة، حتى صفحة وعي ثقل العالم بأوزاره وأقنعته، بهذا المعنى هي تمثّل نوعاً من "بيان". ومثلما بدا العالم يعيش الازدواج في هذه القصيدة، فالشاعر أيضاً، بدا كما لو أنه يعاني الانشقاق، أو قل التعارض بين إرادتين، وقد رمزَ لهاتين الإرادتين، بيديه: فواحدة تتقرّى الفضيلة، فيما الثانية تتصدّى للحيلولة ذلك، وبينهما يمضي الشاعر مصلوباً، دون أن يكفّ عن المناورة، للخروج مما رُسم له، أو رسم هو لنفسه من مدار لا يتيح كثيراً حرية التحرّك: "يدي الأولى/ تبذل سنةً للفضيلة،/ خطوة نحو خلودها،/ والثانية تحول دون ذلك،/ وأنا مصلوب بينهما". هو نوع من صراع، إذن، يعطي القصيدة بعدها الدرامي، وإن بخفوت. صراع يدور بين قطبين متنافرين تجَسَّدا عبر نزعة التسليم تارةً، والرفض تارةً أُخرى. على أن هذا الاحتدام في الثيمة المشار إليها، يقابله صفاء بيّن انسابت معه القصيدة، طليقةً، وإن حملت ضمناً "تباشير" هذا التضاد وقد تمثّل، بدايةً، بثنائية الدخول/ الخروج، ليتعزّز لاحقاً، بالمزيد:
أدخلُ العشرين/ كمن يخرج من الجنَّة/ لأنام ملءَ ذنوبي/ أخطائي... حاشيتي... ورفاقي./ ملكاً أدخل العشرين./ عرق التاج يسقي زهرة نزقي،/ وتتحلَّق حولي هواجس الإجرام/ مثل أيادٍ حبيبة./ أُسمّي الغيوم على أسماء رغباتي/ وأرقب كيف تصل كلّ واحدة ذروتها ثمّ تذوي.
مع الإيغال في القصيدة، حتى نهايتها، يتأكّد مفهوم التعارض ـ التضاد، عبر أكثر من ملمح، كما في وحداتها المُصاغة في ضوء وعي هذه التعارضات: فـ "الصحراء الوحشية" يقابلها: "القلب ـ الواحة". و"الأمل" رغم ما يحتّمه من محمول إيجابي، إلا أنه يُستدرَك، وفق فلسفة القصيدة القائمة على التضاد، بصفة "الخفيض"، وهو ما ينسحب، أيضاً، على "النسيم" الذي يغدو جارحاً. والمرأة المنشودة في القصيدة وقد أضفى الشاعر على يومها صفة البلبل الصامت، تقابله أيام الشاعر وقد استحالت خفافيش مغنّية، وهكذا، فالبلبل يُعارض بالخفاش، والصمت بالغناء، مع نبرة "التهويل"، عبر استخدام صيغة الجمع لكل من الخفاش واليوم. ولا تني هذه التعارضات تتوالى، بما تنم عنه من همّ فنّي، وفي صلب ذلك يأتي تسخير اللغة، فتغدو "هواجس الإجرام" كناية عن "أيادٍ حبيبة"، ومن ثمّ بلوغ الذروة، فالانحدار المتمثل بالذُوِي، كما في الجملة الأخيرة في المقطع السابق. في الوقت الذي يخاطب امرأة القصيدة ويصفها بـ "السعادة التي ترتدي حزن الثكالى"، صانعاً من هذه المرأة أنموذجاً لاختزال حزن بقية النساء المكلومات، في صورة منقسمة على ذاتها، تتعذّر استقامتها، فهي محكومة بالانشطار، حيث السعادة مسربلة بالحزن! وهو ما يحيل إلى المقطع الأخير في القصيدة، إذ الانقسام، ثانيةً: فالصباح ببهجته المجروحة، يستجلب، بالضرورة، ضدّه: المساء الموحش، والبسمة لا صفاء لها، فهي مرصودة للتمويه: يقيني أنَّ الصباح بهجةٌ مجروحةٌ/ لأنَّ وحشة المساء ما يشغل بالي/ وكل بسمة مُموَّهة لن ترفع مستوى الأمل.
إنّ نسجاً دقيقاً، واعياً، مؤيَّداً بمناورات اللغة، كالذي سلفَ التفصيل فيه، يتكامل بالتزامن مع صوغ محكم لا ينبو عن إطار القصيدة، فثمة اندغام وتجانس كامل، بنْيةً ومحتوىً، وهو ما تصلح معه أن تكون عيّنة لمجمل عمل الشاعر، وإنباءً بلغة وتفكير شعريين ينطقان بالجديد بقدر ما ينطقان بالخصوصية. على أن حضور المرأة ـ الأنثى في فضاء القصيدة، هو إحكام وتعزيز لمبدأ افترضته هذه القراءة، حين دعت هذه القصيدة بالهوية، فما من هوية شعرية تكتمل دون الحضور الفيزيقي أو الحُلمي، على حد سواء، للمرأة، فهي النافذة، بما تعنيه هذه الدلالة، و(الملح في الحياة الماسخة)، على حد تعبير قصيدة "قفزة في الهواء"، حيث الوجود المستمكَن بلغة الشعر، وهذه الأخيرة لها وحدها طاقة تحويل الافتراض/ الحلم، واقعاً، أو تعزيز الواقع وتحشيده، ومضاعفته، وتشديده حدّ أسطرته.
ندب العالم ونقده
تستدعي قراءة "مخطوف من يد الراحة"، تحري كلّ سطر، حتى لما هو "خارج" المتن، كما هو الحال مع العتبة المتمثلة بالإهداء حيث يفصح فيه الشاعر عن انتمائه، دفعة واحدة. كذلك الحال مع المقتبس الشعري من الشاعر عبد الأمير جرص، في قصيدة "العشرون" الذي بدا تضامنياً مع الشاعر الذي رحل مبكّراً، وشكلاً من أشكال التحية وتنويه بمشتركات شعرية، وإقرار بدَين. وإذا كان إهداء الكتاب إلى الأب والأم، يمثّل بِرّاً للجذر العائلي، وإعلاءً له، فإنّ خاتمة الاهداء "إلى شموع تشرين"، بإحالتها، دون لبس، إلى شباب انتفاضة تشرين العراقية، ضد السلطة، يقول ما هو أوسع وأرسخ انتماءً، وأشد جذرية، حيث الانتماء إلى عالم مأخوذ بصيحة الحرية، لا شعاراً أو منحى رومانسياً، وإنما نشداناً لها، كلازمة وجود. لقد مُيّزتْ كلمة خارج، قبل أسطر قليلة بقوسَين، إضماراً لمعنى مغاير وهو أنّ هذا الخارج، وعلى ضوء القراءة السالفة، هو في حقيقته، داخل. وإذا كان الديوان، بدءاً وبداهةً، يمثّل موقف الشاعر الفني ـ الشعري، فهو، وبدرجة متساوية، يمثل موقفه السياسي، كما بدا هنا، لا بالمعنى الضيّق، بل بالمعنى الإنساني الأرحب. من هنا، أيضاً، يتأتّى الوعي بمأزق العالم، وبقدر ما ينحو الشاعر باتجاه ندب العالم، فهو في الوقت عينه، يعني نقده. هو صراع موازٍ، (عوداً إلى ثنائية التعارض): فثمة عالم في طريقه إلى زوال، بطريقة ما، عالم متعَب الهواء! ومقابل هذا الغروب، ثمة شروق، يتمثل بقدوم إنسان، يلتمس الطريق إلى عشرينيته، لكن يحدث ذلك في الوقت الخطأ أو الوقت الضائع. وهو ما يستدعي هنا، بعض ما استهلّ به إليوت قصيدته المعروفة "رحلة المجوس"، حيث: (نزلناها في شرّ وقت من العام)، وكأنّ لسان حال خشاني يقول: نزلتُ العالم في شر أوقاته. وليس في مضاهاة كهذه، أي تلميح بتأثر أو ورود للنبع الإليوتي، إنما هي فكرة، استدعت نفسها، في سياق هذه القراءة. إذن، أيّ نوع من الحوار يمكن أن يُقام في موقف أو وضع كهذا؟ إنه موقف اللاتكافؤ، في أبسط توصيف له. غير أنّ الشاعر لا يريد أن يخرج خالي الوفاض من عالمه هذا، كي لا يقر بخسارته، أو في الأقل منعها من أن تتضاعف، معللاً نفسه بغنيمة الحكمة التي أدرك من خلالها تعب العالم، هذا التعب الذي يلتقي مع جملة "شيخوخه العالم"، الباتّة، كما في قصيدة "بجعة سوداء". فهل كانت هذه الحكمة المتحصّلة هي ثمرة حصاد المنافي، أو ثمرة حيرته، بما أنه هو ذاته صنيعة السؤال، كما في قصيدة "يموت" التي يولد فيها "يحيى ابن سؤال" من شجرة، على طريقة الحكايات الغرائبية، دون أن يكون مثل هذا التوظيف في القصيدة منشوداً لذاته، على رغم أهميته وتشكّل عناصر النص، وإعجازية الأفعال فيه من رحم هذه الولادة الأسطورية. فهل ساهم المناخ السحري الذي احتضن القصيدة أن تكون واحدة من أوفى علامات الصفاء الشعري في الديوان، مع ملاحظة الاستهلال الملحمي، وبعض الإحالات التوراتية: إنّ ما امتزج من دموع التماثيل/ وتراب الآلهة/ كان وشايةً بمأساة جديدة./ وكعادة الطبيعة في الاجترار/ اجترحتْ معجزة أُخرى،/ فانسلّ يحيى ابن سؤال/ من شجرة./... رأى للشمس جذراً/ فكان الذّهب./ ورأى للماء قلباً، فكان الماس. هذه القصيدة، بما انطوت عليه من حكاية وبعد سردي، كانت الأقرب إلى مفهوم قصيدة النثر الأوروبية، لولا تخلّيها عن التوزيع السطري المعهود لتلك القصيدة، ككتلة واحدة، على العكس من قصيدة "ضياع في ليل الجنة" فقد اتخذت الشكل البصري للقصيدة المنوّه بها آنفاً، دون ضرورة عضوية لذلك. على أنّ ملاحظات كهذه، تبقى برّانية ولا علاقة لها بصلب ما هو شعري.
في "مخطوف من يد الراحة" هذا الاسم غير المنبتّ عن روح الديوان، بوصفه تعريفاً، وتتويجاً، ينضفر الهمّ الذاتي، بالوطني، بالإنساني، وهو ما يمكن أن ينضاف، إلى مدلول الهوية التي سبق أن نوهتْ بها هذه القراءة. لكن هذه المرة، هوية فنية ـ جمالية، وإنسانية، جامعة للديوان، في اتجاه نابذ للتكلّف، يشتمل على وضوح الموقف وسطوع الشعر، في انسجام يتعزز، قصيدة إثر قصيدة وبما يتوزعه من أصوات نُطقت عبر ضميرَي المتكلم والغائب: أنا من غرفتي إلى عالم موحش/ أخرج كلّ صباح/ كمن يقع في الفخ مرّتين،/ وأنتِ بنيّة الإنقاذ/ تمدّين أصابعك مثل نخيل مذبوح وتغلقين النافذة ـ قصيدة: "نجمة التراب". تتجلّى هنا نزعة الشاعر في استثمار الموقف لتخطّي منصّة الذات، إلى المسرح الأوسع للمأساة، عبر تشبيه أصابع المرأة المنقِذة بـ "نخيل مذبوح"، بما يحيل إلى مشهدية عراقية، مع ملاحظة مأزقية الموقف وجنائزية الجو، الذي تحتشد به القصيدة، كذلك الشاعر، وقد تماهى مع مفردات عمله، مُضفياً نوعاً من مؤاخاة نادرة على جميع عناصر الديوان الذي انتظمه الأسى، فكان بحق: إشراقة المأساة على جلد العالم، والمغدور الذي ينمو اسم قاتله في لافتات الشوارع، كما في قصيدتَي:"صلاة الخائف" و"مأساة العادي"، على التوالي، مع تكييف الجملة الأخيرة، التي تتكامل وشطرها الآخر المتمثل بجملة شموع تشرين في نصّ الإهداء. وهو برهان آخر على وحدة الروح التي ينطلق منها الديوان، وينطق بها، ككل متكامل، ما يصبّ، أيضاً، في صلب الصفاء الشعري، والفني.