أي مَوْقِع لنا في هذا العالم؟


الطاهر المعز
2023 / 4 / 19 - 22:47     

نشر رئيس غانا الأسبق كوامي نكروما، قبل الإنقلاب الذي أطاح به سنة 1965، كتابًا بعنوان "الاستعمار الجديد" وينمّ محتوى الكتاب عن رؤية واضحة للهياكل الاستعمارية الجديدة لفترة ما بعد الاستعمار، والتي تَضْمَنُ الحفاظ على منظومة الاقتصاد الاستعماري القديم والمتمثل في تعمّد الدّول الإستعمارية إفقار الدول المستقلة حديثًا بجعلها تعتمد على التمويل الخارجي، ما يخلق تبعية دائمة وأزمات اجتماعية...
كان القضاء على هذا الإطار الإستعماري واحدًا من أهداف تأسيس حركة عدم الانحياز (التي بدأ التحضير لها سنة 1955، وتأسست سنة 1961) وبعد أكثر من ستة عُقُود، لا تزال تلك المعركة غير مُكتمِلَة، غير أن موازين القوى لم تَعُد مُواتية كما كان الحال خلال العقود الأولى من انطلاق مشروع "العالم الثالث"، بل نجحت القوى الإمبريالية في تقويض مجمل أشكال السيادة الوطنية ونجحت في إهدار الكرامة الإنسانية للعاملين والفقراء في البلدان الرأسمالية المتطورة، وفي إفقار وإخضاع العديد من الشعوب المستعمَرة والمستعمَرة الجديدة، بواسطة الحُكّام المَحلِّيِّين الذين تم تنصيبهم وإدامة حُكْمِهِم بفضل الإستخبارات الإمبريالية والضّخ الإعلامي، وبالخصوص بفعل الإنقلابات والحُرُوب الإقليمية والدّاخلية ضد شعوب إفريقيا وأمريكا الجنوبية وآسيا، ونظمت الإمبريالية ونفذت الانقلابات والاغتيالات والحصار والعقوبات الاقتصادية، فضلا عن حرب المعلومات وحرب الثقافة، لجعل الطبقات الكادحة والشعوب الواقعة تحت الهيمنة الشعوب تشكك في قُدُراتها الذّاتية وفي قوتها.
ابتكرت الإمبريالية، كمرحلة متقدمة من تطور النظام الرأسمالي، واستخدمت تقنيات جديدة مثل الأقمار الصناعية وقواعد البيانات عبر الإنترنت، واستبدلت الأشكال القديمة للإنتاج في المصانع (الأشكال "الفُوردِيّة") بسلاسل عالمية من المنتجات الأساسية، بعيدًا عن معاقل الرأسمالية والحركة العُمّالية، لتُساهمَ بذلك في تغيير هياكل وأداء الاقتصاد العالمي وفي إضعاف الحركات النقابية والتيارات التقدمية على المستوى الدولي، حيث لم تهدف هذه التطورات الجديدة إلى القضاء على الهياكل الاستعمارية القديمة، بل سمحت للإمبريالية باستمرار سيطرتها على آليات استخراج فائض القيمة والسيطرة على العلوم والتكنولوجيا والموارد والتمويل وأنظمة التسلح وإنتاج ونشر المعلومات ...
عملت "مدرسة التبعية" على إثراء الفكر السياسي الاشتراكي الدولي من خلال اتّبَاع نهج يحاول تكييف الأفكار الاشتراكية مع حالة البلدان المستعمرة مُباشَرَةً أو الواقعة تحت الهيمنة، مستلهمةً من التقاليد التحررية المختلفة في العالم وكذلك من تراث الطبقة العاملة الأوروبية (مثل كومونة باريس عام 1871) والأمريكية، ومن حركات التمرد والثورة في أمريكا الجنوبية، وحركات التحرر الوطني وقادتها ورُمُوزها...
أدت الأزمات المختلفة للرأسمالية إلى ظهور أنواع جديدة من الحركات السياسية والاجتماعية، ذات المقاربات المتنوعة لمواجهة الرأسمالية وعواقبها، حتى في بلدان "مركز" الرأسمالية، ولكنها كانت حركات تلقائية، تمكّنت تيارات "الديمقراطية الإجتماعية" من السيطرة على قيادتها، فبقيت هذه الحركات بلا هدف وبلا برنامج وبلا بوصلة تُشير إلى تغيير الوضع لصالح الكادحين والفُقراء.
أما الصراعات الحالية بين القوى الإمبريالية التقليدية والقوى الصاعدة الجديدة (الصين وروسيا) فهي انعكاسٌ لِرَفْضِ الولايات المتحدة وأوروبا قواعد الرأسمالية الليبرالية التقليدية التي أرْسَتْ أُسُسَها، ورَفْضِ أي شكل من أشكال المنافسة ...
لقد "تقدمت" الرأسمالية الصينية فأصبحت قادرة على التنافس مع الرأسمالية الأوروبية والأمريكية واليابانية، في مجالات مثل التقنيات الحديثة كالروبوتات ونظام الجيل الخامس للإتصالات (5 G )، والذكاء الاصطناعي، والتقنيات "الخضراء"، كاللوحات الشمسية وغيرها، كما تفوقت بعض الشركات الصينية على الشركات الغربية في العديد من هذه المجالات، وكان الرد الوحيد من الإمبريالية الأمريكية هو تصميم أجندة خطيرة للصراع ضد الصين وروسيا، فالولايات المتحدة دولة عدوانية تريد فَرْضَ المواجهة بدلاً من التعاون أو التنافس مع القوى الرأسمالية "الناشئة" الجديدة، في ظل وضع يتميز بغياب أو ضعف الحركات الثورية أو الحركات السياسية والاجتماعية الجماهيرية في بلدان "الشمال" لإظهار التضامن أو التحالف مع حركات "الجنوب" في جبهة تقدّمية دولية موحدة.
إنه نظام عالمي أقامته وفرضته الإمبريالية يتمحور حول المزيد من السيطرة الإمبريالية، لكن أزمة 2007-2009 أظْهَرت تراجع الهيمنة "الغربية" وتحوّل ميزان القوى في العالم، فيما استفادت الصين من هذه الأزمة واستغلّتها لتوسيع حصتها في السوق الدولية، ونجحت في تنمية الإقتصاد تحت سيطرة الدولة وبقيادة الحزب "الشيوعي"الذي أظْهَرَت قيادته (وهي فقس قيادة الدّولة ) براعة فائقة في تطوير الرأسمالية، وشكّلت هذه التطوّرات التي تقودها الصين مُنطَلَقًا للاستفزازات الأمريكية، برئاسة باراك أوباما ( كان جوزيف بايدن نائب الرئيس وهيلاري كلينتون وزيرة للخارجية)، خاصة منذ العام 2012 حيث أعلن القادة الأمريكيون عَلَنًا مُحاصرةَ الصين عسكريا، ما أكّدَ مخاوف الصين التي سارعت في بناء مشروعها الإقليمي والدولي المسمى مبادرة الحزام والطريق، وتزامن ذلك مع تغييرات في هياكل الدولة الروسي باستعادة سيطرة الدولة على قطاع المحروقات والطاقة والمعادن التي تُصدّرها إلى أوروبا، وتنتمي كل من الصين وروسيا إلى عدة مجموعات، من بينها مجموعة بريكس ومجموعة شنغهاي، وحاولت دول أخرى في منطقة "أوراسيا" أو أمريكا الجنوبية تأكيد سيادتها على قرارها وعلى مواردها، مثل المكسيك والأرجنتين وإندونيسيا وإيران.
أدت هذه العملية إلى تسريع الاستفزازات الأمريكية التي بلغت ذروتها في نزاع مسلح بالوكالة بين الولايات المتحدة (من خلال الناتو وأوكرانيا) وروسيا، فضلاً عن التهديد بإطلاق الحرب بين الولايات المتحدة والصين عبر جزيرة تايوان الصينية.
إن تراجع القوة الأمريكية واضح ولكنه بطيء للغاية لأن الولايات المتحدة لا تزال قوة عظمى بفضل القوة العسكرية وبفضل هيمنة الدّولار وبفضل قوة الإعلام، ومن الطّبيعي أن تعمل الصين أو روسيا على استغلال بوادر الضُّعْف الأمريكي لتحقيق مكاسب لصالحها، لكن لا يُمْكن لكادحي العالم وشُعوبه المُضْطَهَدَة التّعويل على أي كان لتحريرها، بل إن هدف الصين هو احتلال مرتبة الولايات المتحدة، ويُخْطِئ من يُعوّل على أي قوة خارجية لتحرير فلسطين أو طرد الغُزاة وأتباعهم من ليبيا واليمن وسوريا والعراق والصّومال وغيرها.
إن التقدميين العالميين مُضْطَرُّونَ لإطلاق نقاش صريح ولإصدار مواقف عَلَنِيّة ضد الممارسات العدوانية الإمبريالية الأمريكية والأطلسية، لكنهم غير مجبرين على دعم المشروع الصيني الدّاعي إلى عالم رأسمالي متعدد الأقطاب، فهو مجرد خطة "لإعادة ضبط" الهيمنة وتقسيم جديد للحصص من الاقتصاد العالمي ومن التجارة الدّولية، بين القوى الإمبريالية القديمة أو التّقليدية والقوى الناشئة، في إطار قواعد النظام الرأسمالي العالمي ( ربما قواعد مُحْدَثَة أو مُنَقّحَة أو جديدة)، مع المُحافظة على علاقات الإستغلال والهيمنة.
إن العمل من أجل خلق توازنات جديدة يفرض على الثوريين والتقدميين في العالم أن يضعوا نصب أعينهم وضع العمال والعاملين غير المستقرين، وصغار الفلاحين، والعاطلين عن العمل والفقراء في العالم بأسره، في دول "الشمال" وكذلك في "الجنوب"، لأن هؤلاء هم أول ضحايا العولمة الرأسمالية والإمبريالية، فضلا عن الشعوب الواقعة تحت الإحتلال (مثل الشعب الفلسطيني) عشرات الملايين من اللاجئين والنّازحين، سواء في عالم "أحادي القطب" أو "متعدد الأقطاب".
السؤال الذي يستحق أن يطرح هو: كيف نبني قواتنا ونطور الاستراتيجيات والتكتيكات التي تقود الشعوب الخاضعة للسيطرة والطبقات الكادحة إلى تحرير نفسها من الاستغلال الرأسمالي والقمع الإمبريالي.