عن اخفاق وفشل أحزاب وفصائل اليسار الماركسي في بلداننا وسبل نهوضها


غازي الصوراني
2023 / 4 / 19 - 21:56     



لا أعتقدُ أنّ تقييمَ المرحلة الراهنة - من وجهة نظر أحزاب اليسار الماركسي وفصائله في مغرب الوطن العربي ومشرقه - ينطلقُ من كون هذه المرحلة هي الأخطرُ والأشدُّ قتامةً في حياة شعوبنا ومجتمعاتنا وتطوّرهما، في ظلّ ظروفٍ موضوعيّةٍ باتت تستجدي صحوة العامل الذاتي ، وأقصد بذلك الحزب/الفصيل اليساري الماركسي الثوري، فهي مرحلةٌ تستدعي منا مراجعة تجارب أحزابنا وفصائلنا بعقلٍ موضوعيٍّ ونقديٍّ وصولًا إلى الرؤى والبرامج التي تجسّد، عبر الممارسة، مصالح جماهير العمال والفلاحين الفقراء وأهدافهم، وكذلك كل الكادحين والمضطهدين في بلادنا، وتحريضهم ضدّ كلّ أشكال الاستغلال الطبقي ومظاهره، ومن ثَمَّ تنظيمهم، والتوسّع في صفوفهم؛ تمهيدًا لمراكمة عوامل الثورة الوطنية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية .
إنّ الأوضاع والظروف السياسيّة والمجتمعيّة السائدة في بلدان وطننا العربيّ في مرحلة الانحطاط الراهنة، لا تبشّر بفرصٍ ثوريّةٍ في الأمد المنظور، رغم أنّ وقائع الحياة تؤكّد لنا أن هناك أسسًا وعوامل موضوعيّة تستدعي تفعيل نشاط الحركات الثوريّة الهادفة إلى توعية جماهير العمال والفلاحين الفقراء والمضطهدين وتحريضهم وتنظيمهم كافةً، للنضال صوب تحقيق هدف إسقاط أنظمة التبعية والتخلف والاستبداد والاستغلال الكومبرادورية الحاكمة في بلادنا من جهة، ومواصلة النضال صوب إنهاء الوجود الإمبريالي الصهيوني من جهةٍ ثانية، لكن تلك الأسس الموضوعيّة تحتاجُ بالضرورة إلى استنهاض العوامل الذاتيّة/الأحزاب اليساريّة؛ لكي تمارس دورها الطليعي وتفعيله للارتقاء بالتراكمات الكميّة، والوصول بها إلى لحظة التحوّلات النوعيّة أو القطع الثوريّ.
ففي ظلّ بشاعة الهيمنة الإمبرياليّة والصهيونيّة، وفي ظلّ بشاعة الاستبداد والتخلّف والتبعيّة والتفكّك وعمق الاستغلال الطبقي، فإنّ الحاجة إلى الثورة الشعبيّة الديمقراطيّة بآفاقها الاشتراكيّة تتزايد، لكن الإشكاليّة تكمن في استمرار أزمة اليسار العربي، أو العامل الذاتي/الحزبي، وفشله التاريخي في الانتخابات الديمقراطيّة (النيابية والبلدية والنقابية والطلابية وغيرها) ما يعني استمرار العجز في مواجهة العدو الوطني والطبقي؛ الأمرُ الذي يستدعي صحوة أحزاب اليسار الماركسي وفصائله واستنهاضها في بلادنا، بما يحقّق الاستجابة النضاليّة الفعّالة التواصليّة للظروف الموضوعيّة، وشوق جماهير العمال والفلاحين الفقراء والمثقفين الثوريين للانعتاق والتحرر من كل مظاهر التخلف وأدوات التبعية والصراع الطائفي وكلّ أشكال الاستبداد والاستغلال.
فمنذ انطلاقة أحزاب اليسار وفصائله في بلادنا - رغم الفروق الزمنيّة بينها - صاغت وقدمت مشاريعَ وطنيّةً تحرّريّةً وديمقراطيّةً اجتماعيّة /طبقيّة، تخطّت – في معظمها - المستوى الوطني نحو المستوى الإنساني الأرحب عبر مسيّرةٍ نضاليّةٍ وكفاحيّةٍ شاقّةٍ ضد القوى الاستعمارية والإمبريالية والرجعية المحلّية، لكن المفارقة أنّ هذا المظهر النضالي الساطع، لم يصمد طويلًا أمام انهيار التجربة الاشتراكيّة، وما نتج عنها ورافقها من تحوّلاتٍ عالميّةٍ إقليميّةٍ ومحلّيّةٍ عزّزت السيطرة الطبقية الرجعية التابعة عبر التحالف الكومبرادوري البيروقراطي في الأنظمة العربية ومن ثم تكريس السيطرة الإمبريالية والصهيونية في بلادنا، حيث شهدت هذه الأحزاب والفصائل -بدرجاتٍ متفاوتة - حالةً من الانكفاء التنظيميّ والترهّل الفكريّ والتراجع والانحسار الشديدين في الأوساط الشعبية، وكانت تجربة الانتخابات في بعض البلدان العربية، دليلًا وبرهانًا ساطعًا على حجم عزلتها، وعلى حجم الأزمة العميقة التاريخية المتراكمة في بنيانها على المستويات كافةً، الفكريّة، والتنظيميّة، والسياسيّة، بدءًا من أزمة النظريّة والمنهج إلى أزمة الممارسة والتطبيق التي حملت في داخلها أشكالًا من تعدد الرؤى وتباين الاجتهادات – دون عمقٍ نظريٍّ في معظم الأحوال - بين كلٍّ من المنهج الماركسي والليبرالي وفلسفتهما من ناحية، وغياب الوعي بطبيعة التطوّر التاريخي الاقتصادي الاجتماعي وأنماطه المتداخلة في بلادنا من ناحيةٍ ثانية؛ الأمرُ الذي أدّى إلى عجز أحزاب اليسار وفصائله عن متابعة القضايا المطلبيّة لجماهير الفقراء وهمومها ومعاناتها.
ومن ثَمَّ، فإنّ هذا القصور أو العجز عن التعاطي والتواصل مع الوعي العفوي للجماهير الشعبية الفقيرة، لم يكن صدفة، ذلك أن القاعدة الاجتماعية لأحزاب اليسار، كانت وما زالت في مساحةٍ كبيرةٍ منها تتكوّن أساسًا من فئات البرجوازيّة الصغيرة، وبعض المثقفين الذين لم ينسلخ معظمهم عن انتمائه الطبقي أو العشائري أو الحمائلي، كما كان تبني هذه الأحزاب والفصائل للمنهج الماركسي الجدلي والفكر العقلاني عمومًا، شكليًّا ومظهريًّا هشًّا قابلًا للاختراق الليبرالي، والأصولي، بسبب فشل فصائل اليسار وأحزابه في مراكمة الوعي بالواقع المعاش من جهة، أو تعميق المنهج العلمي الجدلي، والفكر العقلاني في صفوف أحزابها وكوادرها من جهةٍ ثانية؛ ما أدّى إلى انتشار حالة الهبوط المعرفي وتفكّك أو غياب الهُويّة الفكريّة – الماركسيّة ومنهجها تحديدًا- وسيادة أشكال متنوعة فيما يمكننا تسميته بالليبرالية الرثة، وما رافقها من مظاهر الفوضى والإرباك، والشلليّة والتكتّلات الضارّة؛ الأمرُ الذي عزّز حالة الرخاوة التنظيمية، التي ترافقت مع تراجع الهوية الفكرية أو التخلي عنها لدى البعض، وهي عوامل أفسحت المجال لتراكم وتفاقم الأزمات الداخلية، التي أدّت إلى مزيدٍ من إضعاف دور اليسار على الصعيدين الوطني التحرّري، والديمقراطي والمطلبي الداخلي. ومن ثَمَّ لم تستطع تطبيق مضامين ذلك الفكر وآلياته في أوساط الجماهير الشعبية الفقيرة، رغم حملها لشعاراتها.
على أي حال، تظل الإجابة على سؤال: لماذا أخفقت وفشلت – وما زالت تخفق وتفشل – أحزاب اليسار وفصائله في الانتخابات النيابيّة أو النقابيّة، قضيّة مثارة لمزيدٍ من البحث والتفكيك ومن ثَمَّ إعادة البناء، لإزاحة التراكمات السلبية، وحالة الترهّل والجمود والتراجع السياسي والفكري والتنظيمي والجماهيري التي أفرزت مجموعةً كبيرةً من أسباب الفشل التي أدّت إلى عزوف الجماهير الشعبيّة، نورد هنا بعضًا منها:
1. غياب الوعي بالنظرية ومنهجها المرتبط بوعي الواقع المعاش، وانتشار الأزمة التنظيمية الداخلية بمختلف مظاهرها ومكوناتها وتنوعها، إلى جانب غياب العلاقات الديمقراطية داخل هذه الأحزاب والفصائل.
2. فشل أحزاب وفصائل اليسار في تحويل أي قضيةٍ من القضايا التي تتبناها في برامجها وأدبيّاتها إلى قضيّةٍ عامة؛ بسبب عدم اندماجها في أوساط الجماهير الفقيرة، وعجزها عن وعي القضايا الاقتصاديّة الاجتماعيّة والثقافيّة لمجتمعاتها؛ الأمرُ الذي أودى بها إلى العجز عن تحقيق مطالب الجماهير الفقيرة أو الإجابة على أسئلتها.
3. عجز قوى اليسار في تحويل الرفض الجماهيري لمظاهر التخلّف والفساد والاستبداد السائدة في الأنظمة الحاكمة إلى قوّةٍ جماهيريّةٍ في محيط هذه الفصائل والأحزاب؛ ما أدى إلى ما نشاهده اليوم من تمحور الحالة السياسيّة المجتمعيّة في كلّ بلداننا ضمن قطبي الصراع الرئيسيين: القطب اليميني الحاكم، وقطب اليمين الديني بكلّ تلاوينه التي نجحت – في إطار مخطّطاتٍ عدوانيّةٍ خارجية – في تنظيم عشرات الآلاف من أوساط الجماهير الفقيرة عبر استغلالها أو تفاعلها مع عفويتهم وبساطتهم .
4. الفشل في بلورة الفكرة المركزية الواضحة والمرشدة لبناء التيار الديمقراطي التقدمي أو الطريق الثالث اليساري الواضح في هويته الماركسية ونهجها الجدلي طريقًا وحيدًا لوعي الواقع من جهة، وتجاوزه وتغييره من جهةٍ ثانية.
5. فشل اليسار في تفعيل دوره حضورًا فاعلًا في إطار الأطر النقابيّة العماليّة والمهنيّة وغيرها من المؤسّسات.
6. عجز أحزاب اليسار وفصائله في بلداننا عن تنظيم أو اكتشاف قياداتٍ جديدةٍ طبيعيّة، نابعة من بين الجماهير، وتحويلها إلى كوادر حزبيّة.
7. تزايد حالة الإرباك الفكري الداخلي بين صفوف قادة أحزاب اليسار وفصائله وكوادره وقواعده، ويبدو أن هذا الإرباك أو اللبس قد أصاب مفهوم اليسار أيضًا، حيث لم يعد مدركًا بوضوح من/ما هو اليسار اليوم؟ هل هو الماركسي أم الناصري أم القومي، أم الليبرالي؟ الأسئلة كثيرةٌ ما يؤكّدُ على اتّساع الفجوة – بدرجةٍ كبيرة - بين الهُويّة الفكريّة اليساريّة من ناحية، وبين الغالبيّة من كوادر قوى اليسار وأعضائه من ناحيةٍ ثانية، وقد أدت هذه الحالة من غياب الوعي، إلى استمرار تغريب الواقع، حيث لم تعد أفكار قوى اليسار وأهدافها، أهدافًا شخصيّةً لأعضاء الحزب وكادراته، وغاب التلازم الجدليّ والثوريّ بينهما بصورةٍ مفجعة.
ففي ضوء انتشار بعض مظاهر الإرباك المعرفي لدى معظم أحزاب اليسار الماركسي وفصائله في مشرق الوطن العربي ومغربه، لأسبابٍ تاريخيّة، موضوعيّةٍ وذاتيّة، فإنّنا نشهدُ فيضًا من الاتّجاهات أو الاجتهادات الفكريّة، المتنوّعة من حيث العمق أو التبسيط أو العفوية، بعضها يرى ضالته في الاشتراكيّة والماركسيّة ومنهجها، وبعضها الآخر يرى ضالته في الجمع بين الليبرالية والاشتراكية، وبعضها يرى في الليبرالية الرأسمالية وديمقراطيّتها منهجًا، وبعضها أصبح يرى هُويّته في الجمع بين الدين والليبراليّة والماركسيّة، عبر خليطٍ لا يمكنُ إلّا أن نسمّيه أو نطلق عليه حالةً من الفوضى الفكريّة العفويّة بصورةٍ عامةٍ لا تملك – في معظمها- وعيًا متكاملًا لوجهتها. وبذلك يكون من المحتم على الكوادر الماركسية الطليعية في أحزابنا وفصائلنا أن تخوض المعركة الأيديولوجيّة بعقلٍ مفتوح، وبصورةٍ ديمقراطيّةٍ تحترمُ الرأي والرأي الآخر، باعتبارها ضرورةً أوليّةً وماسةً في هذه المرحلة، المملوءة بالمخاطر، والتعقيدات؛ بسبب عمق أوضاع التبعيّة والتخلّف الاجتماعيّ والاقتصاديّ والاستغلال في أنظمة الكومبرادور في بلادنا، وتزايد ارتهانها وخضوعها للتحالف الإمبريالي/ الصهيوني.
من هنا أتوجّه إلى كلّ الرفاق عمومًا، والشباب والشابات خصوصًا بالقول: إنّ البحث في الماركسية يجب أن يبتدئ من التخلّص من إرث الأفكار البالية الرجعية والمتخلفة والشوفينيّة وكل أدوات الاستبداد الداخلي ومظاهره، أو تقديس القيادة وعبادة الأفراد، وامتلاك الوعي بالمنهج الجدلي المادي وتطبيقاته على الاقتصاد والمجتمع والثقافة، كما على كل جوانب الواقع عبر الممارسة التنظيميّة والنضاليّة في أوساط الجماهير، كما أتمنى عليهم، بل أطالبهم بأن يمارسوا مراكمة وعيهم ونضالهم الكفاحي والسياسي والديمقراطي، انطلاقًا من قناعتهم بأنّ أحزاب اليسار الماركسيّ العربيّ وحدها التي تملكُ الرؤية الاستراتيجيّة النقيضة للوجود الإمبرياليّ الصهيونيّ في بلادنا، ولكلّ قوى اليمين الليبرالي والرجعيّ، وهي وحدها أيضًا التي تملكُ الرؤية الاستراتيجيّة الكفيلة بإنهاء كل مظاهر التبعيّة والاستغلال والقهر الطبقيّ وتحقيق الديمقراطيّة والعدالة والمساواة من منظور الثورة الوطنيّة الديمقراطيّة... وهي من ثَمَّ وحدها التي تمثّلُ المستقبل لشعوب بلداننا عمومًا، وجماهيرها الشعبيّة من العمّال والفلاحين الفقراء خصوصًا، ينصهرون في وحدةٍ سياسيّةٍ طبقيّةٍ مجتمعيّةٍ واحدةٍ تلغي التمايزات الشوفينيّة الإثنيّة كافّةً بين عربيٍّ وكرديٍّ وأمازيغيٍّ وأرمني... الخ، يعيشون ويبنون واقعهم ومستقبلهم معًا، تحت راية التقدّم والديمقراطيّة والاشتراكيّة.