مرايا الأسر من ادب السجون-2


سعيد مضيه
2023 / 4 / 16 - 11:09     

ذكريات الأسر لا يطويها النسيان

متى وعى امر ’الصديق‘ واستفاق على نفسه؟ هنا يُبرِز الكاتب قيمة الأدب الواقعي كيف يؤثر بالنفوس، إذ يقول على لسان ’الصديق‘ : "كان ذلك منذ عشر سنوات تقريبا ، حينها كنتَ تقرأ قصة ’الرجل الذي نهض من النوم ولم يجد نفسه‘! قلت أذكر جيدا تلك القصة وأذكر حينئذ انه حدث لي شيء غريب! قال :أنا ذلك لغريب".
مضت السنوات الأربع بفوضى داخلية ، لم يعتد حياة السجن ؛ ثم تدارك الأمر وهب العقل، ليردعه: "قال: لا تكن كالدجاج ، لا ينظر أبعد من قدميه! ارفع رأسك وانظر حولك ، وشاهد ما يحدث على الأرض"(32) "أريدك ان تنهض من نومك وتعد نفسك لمواجهة الحياة مجددا"(45).
وهو بدوره ، شان الأسرى القدامى يقدمون خبراتهم بالسجن الى الوافدين الجدد. قلت له(أسير جديد): عليك ان تكون قويا لترفع من معنوياتهم وتشد ازرهم ، حين يأتونك للزيارة ، عليك ان تخفف عنهم، لا تزيد عليهم الهموم والقلق ، ومن الضروري ان تخرج نفسك من هذا الجو.(53)".
في السجن"من امضى سبعة وعشرين عاما في الأسر، ومحكوم بالسجن مدى الحياة ، وفي العقد السادس من عمره، وبينهم شباب في مقتبل العمر، ومحكومون بالسجن لسنوات قليلة او لأشهر معدودة!" يسوق الراوي حال السجناء في ومضات تتناثر عبرالسياق العام بصورة انسيابية بدون تكلف، على لسان هذا الأسير او ذاك، وهي ميزة القاص المتمرس: نزيل "يجد صعوبة في العزوف عن التفكير بالحياة خارج السجن، ويرفض ان يعتاد حياة الأسر. المشكلة انه حكم عليه بالسجن خمسا وعشرين عاما! أكثر ما يقلقه ويخشاه ان يحصل مكروه لوالديه وأن يفقدهما أو يفقد احدهما وهو في الأسر دون ان يودعهما! في الحقيقة ان هذا الهاجس يقض مضاجع معظم الأسرى"(18).
"من مفارقات حياتنا في هذه البلاد، وعلى ارض آبائنا وأجدادنا، وأحفادنا من بعدنا ان شعبنا الفلسطيني هو "العدو" و"الأجنبي"، الذي التقيته وعائلته( كانت العقوبة هي مدة السجن ). هو من طينتي، فلسطيني..."(56).
يسوق الراوي حوارات تتكرر مع "الصديق" القرين : "من الغبن بحق هؤلاء الأسرى ان تصف ‘واقعهم’ بهذا الشكل ، وكأنه من طبيعي والعادي ان يبقوا كل هذه السنين في الأسر، حتى يعتادوا عليه؟! هذا عار على الثورة والفصائل والتنظيمات!!(38).
لا يقتصر الخطأ او الخطيئة في ترك الأسرى هذه المدة ، إنما في التلاعب بالنشاط الوطني، والدخول بمتاهات كان بالإمكان تحاشيها لو توفرت القيادة الجماعية ، متاهات زرعت الملل والإحباط في النفوس .
يقول لأمه ذات زيارة: ألا تذكرين عائلات الأسرى من وادي عارة ، حين كنت تزورين اخي الكبير قبل عشرين عاما تقريبا؟ شهقت شهقة لفتت انتباه الزوار من حولها ! قلت لها:لا تجزعي ولكن هذه العائلة واحدة منهن! قالت: من رأى صبر غيره سهل عليه صبره.(16)
- يتدخل "الصديق"، أي العقل لتقويم مفاهيم مغلوطة تنطبق أيضا على أسرى الجهل والرومنسية السياسية في مجتمع بأسره أسير التخلف، وأسره أوقعه أسيرا فس سجن الاحتلال الكبير ، أكبرسجون العالم!! ".هذا العالم الذي تتوق اليه،"ألحر"، الليبرالي" و"الديمقراطي" قد خصي في ظل العولمة وأصاب خصوصيتك في مقتل "(28),
" الحفاظ على الخصوصية يعني انك تستطيع ان تقرر من تكون ومن تريد ان تكون!!(31).... "وضعكم سيء جدا ، بل أسوأ من سيء جدا! – عم تتحدث؟ - أتحدث عن جدلكم ، الذي اسميته مصيري!
- او ليس كذلك؟
- لا ، هو ليس كما تعتقد! لكن اتعرف؟ يذكرني هذا الجدل والخلاف، او الاختلاف إن اردت ، بتنظيرات واختلافات اليسار."(95). ..."هكذا كان التوافقيون يقفزون من لحن الى آخر، ومن قطب الى نقيضه، والفراغ سيد الموقف!
سأل ’صديقي‘ : ألم يملأه أحد؟!‘
"تبسم ’صديقي‘: وسألني ’أتعرف ما هي مشكلتك؟ مشكلتك انك تطرح الأسئلة ، تطرق الأبواب الخاطئة!...أترى ، أنت لاتطرح السؤال الصحيح ،أو المهم!
"قلت نافذ الصبر : أنطق الجوهرة ، خلصنا!"
-كان عليك ان تسأل عن ضرورة وجود اليسار اليوم، عن دوره في خضم ما يدور على الساحة الاعتقالية أو غيرها!
قلت: أنا لا أعرف ، ولن أجيبك ، حتى ألقى ما يرضيني,
"قال :أنأ ساجيبك بما قاله الشهيد ماجد ابو شرار: ’لاتنتصر ثورة لا يسار فيها‘"!(100)
"– كان على اليسار أن يملأ الفراغ ، ويأخذ دوره التاريخي النضالي والطليعي ، ويؤدي المهام المنوطة به.
يرد الصديق: "عليه ان يملأ مكانه أولا ، ويوحد صفوفه أيضا بدل ان يملأ اروقة الفنادق ومكاتب المنظمات غير الحكومية وشاشات التلفاز"(97).
كانه يود ملء الفراغ الذي تركه حكيم الثورة ، بأن الثورة لا تنتصر إلا بقيادة اليسار.
"الاحتلال لا يزول من تلقاء نفسه! الاحتلال ، كما قال حكيم الثورة :’مشروع رابح ، ولن يحزم حقائبه ويرحل إلابعد ان يتحول الى مشروع خاسر‘ (209)’
ثم يدخل الكاتب في حوارات، هي في نظري زائدة ومتناقضة مع ما سبق من تعريف ل’الصديق‘، كتلك التي أدارها معه بصدد الخروج من السجن، (210،211) . فطالما هو يجول في رأس الكاتب فما الحاجة والضروة لأن يخرج في كتاب ؟!
يعود الكاتب الى الاعتراف الذي لا بد منه:
"يجب ان أعترف لك بأنني سررت بالتعرف عليك ومناقشتك مع انك اتعبتني ، وأهلكتني وأقلقتني ، وأخفتني في أحايين عديدة ، مع هذا فقد ساعدتني كثيرا، على معرفة أمورما كنت لأعرفها لولاك، فشكرا لك صديقي"(217).
تذكر الراوي بعض رفاق السجن؛ "وفي السجن أسرى لا علاقة لهم ب’ابو العُرّيف‘ ،في السجن أسرى هم ’ملح الأرض وماؤها ‘، وفي السجن كوادر بكل ما للكلمة من معنى!(110):
وليد(دقة)، الرفيق المحكوم بالمؤبد ، والذي أمضى أكثر من نصف عمره في الأسر نصحه قائلا ’إعمل لأسرك كأنك محكوم مؤبدا، واعمل لحريتك كأنك ستتحرر غدا‘ "(23)
قال ’الصديق‘: كم مرة سأقول لك ان الأسرى ليسوا جميعا على شاكلة واحدة !سأعطيك مثالا بدل ان أشرح لك ...أتعرف من حرر شوكت؟ --سيكون قد أنهى محكوميته وتحرر! – قال لا، ليس كذلك تحرر بعد ان قام الرفيق وحيد بإصرار جاوز العناد بكتابة الطلب تلو الآخر ، مطالبا بحضور أخصائيين لفحص حالة ’ابو شوكت‘وقد تم له ذلك، وبعد ان كتبوا تقاريرهم وبناء عليها أعد كل الأوراق اللازمة، مرفقة بالتقارير الطبيه"(121).
فؤاد التلاوي محكوم بالسجن ثلاثين عاما ، يحتاج الى عملية زراعة قرنية في كلتي عينيه! إدارة السجون تقول انه لا يوجد حاجة لهذا الإجراء، ما دام الأمر لايشكل خطرا على حياته.(24)
"ذهب الذين نحبهم".. ينعي الكاتب حسام كناعنة؛ أحبة رحلوا، كان اولهم الرفيق يامن، كثير التأمل. تمضي الأيام ويامن يمارس أحلامه، مقاوما الاحتلال. في فجر احد الأيام جاءت قوات الاحتلال مدججة بالجرافات والآليات لتنتقم من يامن وأهله ولتعاقبهم ، هدمت البيت. اتصل يامن، بعد ان وصله الخبر بوالده ليطمئن على أهله، فقال له الوالد مطمئنا :’لاتقلق يابا هدوا البيت ، لكن بقيت المصطبة ، بقيت في مكانها‘"(162) في السادس من تموز2004 كان يوم استشهاد يامن ورفيقه امجد مليطات –ابو وطن".
تفقد الراوي رسائل زوجته اليه" لا أعرف ان كنت سأكون موجودة عند تحررك من السجن . بقي لي خمسة الى عشرة اعوام لأحيا ، هكذا أخبرني الأطباء. انا اريد أن أواصل الحياة وأن انجب طفلا ، واريد أن أرى العالم ، وأن أراك ثانية"(165) .صعقت حينها وغضبت ، لأني لم أكن أعلم بمرضها ، ولم أعلم ان كنت سألتقيها ثانية"(166).
هايل او ’ابو الهول‘ كما أطلق عليه رفاقه وأصدقاؤه تحببا لهامته الضخمة وهمته العالية ، ابن ثمانية عشر ربيعا حين اعتقل... أمضى تسعة عشر عاما في الأسر، متنقلا بين قلاعه ، وأفرج عنه فقط بعد أن انهكه مرض السرطان، واستفحل في دمه وجسمه ، كان قد أصيب باللوكيميا."(169). أذكرجملة كان يرددها كثيرا :"ستصدأ قضبان السجن قبل ان تصدأ إرادتي"(171).
سيطان بعد تحرره تابع علاجه بصبر وعناد، واستانف حياته وتشبث بها بإصرار، تزوج ، قاوم المرض وصمد عامين متتاليين حتى غلبه وانطفأ قنديله الذي أضاء ليالينا بالبهجة، على مدار سنوات أسره"(172).سيطان " يحب القراءة ويجيد الكتابة والتأليف ، ويتقن الأشغال اليدوية ويتفنن بها. كان التقني اأخير الذي نلجأـ اليه حين يتعطل اي جهاز من ادواتنا الكهربائية، التي إن بحثت عنها في سوق الروبابيكا فلن تجد لها مثيلا"(173).
" انه الثاني من نيسان ، الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد ميسرة ابوحمدية، كان من أعز أصدقائي...كان رجلا قل نظراؤه ، يحظى باحترام وتقدير الأسرى من كل التيارات والفصائل ، وكان عليه إجماع وتوافق وطني، في ظل الانقسامات الفصائلية والمناطقية والفئوية... كان معْلما ومعلّما، مثقفا ، صاحب موقف ورؤية ، يعرف ما يريد، وحين تحتاجه تجده ! وكان صلبا لم يهزه حكمهم بالمؤبد، ولم يهزه السرطان... قال لي قبل استشهاده بفترة ، انه سوف يستشهد في الأسر ولن يخرج منه حيا"(174-75).
قلت للصديق ليث: حدثني المزيد عن الرجل.؟ قال : استشهد اللواء ميسرة ابو حمدية ، وهو ابن خمسة وستين عاما ، وكان قد أمضى أحد عشر عاما في الأسر. كا يحب الناس، والناس يبادلونه الحب والاحترام، وكان يحب مدينة الخليل ، التي يطلق عليها ’جدة المدن‘ ".
- جدة المدن !هذه كنية جميلة ، تليق بمدينة الخليل وعراقتها...."(176)
- أحضر جثمان ميسرة أبوحمدية الى مدينته الخليل ، بعد ان لفظ أنفاسه الأخيرة في السجن، وكان مقيدا ، كما حدث محاميه. تحدث عنه المحامي وأشاد برباطة جأشه وهو يواجه الموت.
- لم تستطع أسرته وداعه ، تعذر مجيئها من عمان.
- سرنا في جنازته، جمهور غفير من أبناء المدينة والمحافظة . ووري ثرى المدينة ، احن عليه . حقا خلف ذكراه تحثّ وتلهم.