المُثقف المقيت


هيثم بن محمد شطورو
2023 / 4 / 16 - 09:15     

كثيرة هي المقولات شبه الفلسفية التي أغرت عقولنا بهالة شبه سحرية، ذاك أنها تحقـق الاختلاف عن الثـقافة المتعارفة، فتكون لونا مغايرا مريحا لعين العقل التي تبحث عن تـنوع الألوان، ولكنها هل هي حقيقية؟ حين ننظر إليها من زاوية المنطق فإنها تظهر بوضوح تفاهتها وأن قيمتها الوحيدة في كونها تـنعش الوعي المراهق الباحث عن التمرد على ما هو كائن ومتعارف عليه. مثلا، ماذا تعني مقولة "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان" التي أطلقها المتفلسف الانكليزي "هوبز" نتيجة لبحثه المتخيل في أصل الإنسانية كحيوانية متوحشة وبالتالي فالإنسان ذئب لأخيه الإنسان؟ طبعا تلك الإسقاطات حول أصل الإنسان تضل دوما مثيرة لسخرية المنطق العقلاني المحاذر من الأهواء الفكروية التي تأخذ بلباب العقل نتيجة موقف واقعي من المجتمع أو بكل بساطة موقف يمتد لبعض الحالات النفسية التي تعاني من التوحد أو التوحش أو النرجسية الفائقة التي تريد أن تحكم على العالم كله بالسلب ليظهر في كونه هو الايجابي الوحيد في العالم بل في التاريخ الإنساني. هناك متفلسفون مارسوا التجارة ومارسوا التملق والتقلب بين المناصب والولاءات، ثم يخرج علينا بشبه نظرية يحقق بها فرادته بفرادة نظرته تلك والتي هي في النهاية لا تعدو في كونها ترهة متضخمة أخذت بها عقول هاوية مراهقة، ويتم النظر إليه كنبي. الإنسان ذئب لأخيه الإنسان مثلا حققت إشعاعها لسبب جوهري ووحيد وهو كونها تـفـند وتضرب مقولة أن الإنسان ابن الله المسيحية وأن أصوله إلى آدم الهابط من السماء مخلوق الله المبارك. أي أن ذاك الإشعاع ناتج عن رغبة جامحة في تكسير مقولات الكنيسة وعدتها النظرية المستـندة إلى الكتاب المقدس، وذاك الإشعاع لتلك المقولات هو في النهاية إرادة ثورة وتمرد على الكنيسة التي هي سلطة كابحة للمفكر خارج ردهاتها. إذن تلك المقولات ما هي إلا مقولات حربية لإثبات الذات، حقيقـتها في الصراع السياسي الواقعي المتمحور في الثورة على الكنيسة وإسقاط سلطتها.
فبالنسبة للعقل المتعالق بالحقيقة فإنه يرتفع عن الأهواء، التي لا تحقـق سوى البناءات الوهمية الزائفة التي تـنتج عنها تجارب عبثية تؤدي إلى ضياع الإنسانية كقيمة في ذاتها باعتبارها عقلا. وانظر كم صغنا من أوهام حتى وجدنا أنفسنا نتعالق بذواتـنا الباهتة المعالم بمقولات وتـنظيرات وإيديولوجيات متـقافزة على الواقع وبالتالي غير قادرة على التحقق، ويقول لك في النهاية أنه أفنى سنوات عمره في الأوهام...
وهذا لا يعني بالمرة موقفا محاذرا من الفلسفة بقدر ما يدعو إلى التـفكير في القراءة وأن قراءة الفلسفة تكتسب معناها وقيمتها ليس في حفظها وإنما في جعلنا نفكر انطلاقا من واقعنا المحسوس وتأملاتنا الفكرية، فبذلك فقط تكتسب العقول مرانها التـفكري وبالتالي يمكنها من عيش متعة التـفكير في ذاتها أولا ومن ثم في إنتاج نظرة فلسفية ذاتية من شأنها أن تكتسح مساحة من الوعي العام حسب النشاط الذي نقوم به في الواقع وحسب أحقية أو حقيقية ما نتصل به فكريا في مرحلة ما من التاريخ العام والتاريخ الفردي للكينونة التي لا تـنفك تؤسس نفسها دوما بدون أي مركب نقص ذاتي. وإنه لمن أكثر ما يثير المقت عند كثير من المثـقـفين هو تعاليهم على الواقع الحي. فمثلا وعند مقولة "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"، وبالنظر إلى واقع المجتمع الذي نعيش فيه والثـقافة العامة للمجتمع ونسبة تـفـشي العنف ونسبة تـفـشي قيم التسامح والتراحم وغيرها من خطوط مقارعة الفكرة بالواقع فهل الإنسان ذئب لأخيه الإنسان؟ الذئب بمعنى الحيوان المفترس ولكنه لا يفترس من فصيلته ولكن مقولة هوبز تتجاوز هذه الحقيقة الواقعية فيكون الذئب مفترسا لذئب، وبالتالي فالمجتمع مجتمع ذئاب يفترس بعضه بعضا وهذا لا ينطبق على مجتمع الذئاب فكيف نريده أن ينطبق تخيليا على المجتمع الإنساني؟ والذئاب لا تـفـترس الماعز مثلا إلا في حالة جوعها مثل بقية الحيوانات المفترسة، وفي النهاية فالمقولة تتجاوز من كل صوب الواقع الفعلي الحي للأشياء. ولكن لنقـل أنها أغرتك فعليا. فهل المجتمع الحي الذي تعيش فيه هو " ذئب لأخيه"؟
ينطبق هذا المثال على كل التـشبيهات والاستعارات اللغوية التي تحولت إلى مقولات يترنح بعض الثـقـفوت المراهق فكريا سكرا بترديدها وكأنه مسك الشمس بيديه، ومن ثم يحقق تميزه الوهمي ما بينه وما بين نفسه فقط على الآخرين، ويسخر من ثـقافة الشعب ومن الواقع الفعلي فيطلق صيحته العبثية ببؤس الواقع والتخلف وغير ذلك من الاطلاقات المقيتة التي لا تعبر إلا عن دائرة من الأوهام تـتـشدق بمختلف الكلمات، وهكذا لا يحقـق شيئا ويـبتعد عن ممارسة فعل التـنوير لأنه يفـتـقده بالفعل، فنكون إحصائيا بلدا يمتلك مثـقـفـين، ولكن فعليا فهو لا يمتلك إلا فـقاقـيع تافهة أنانوية تمارس ساديتها في التـشكيك في المتعارف عليه، وحين يكون أمام نـقاش جدي مع محاور جدي وعميق التـفلسف فإنه يهرول وراء الكليشيهات وسب كل التاريخ وكل الهوية الثـقافية التي نعيشها، أما عن المواقف السياسية لهؤلاء المتكاثرون فهي سلبية غير نشيطة وسطحية، وبعضهم من ينـشط سياسيا فإنك تجده يستمتع غاية الاستمتاع بمصارعة طواحين الهواء لأنه فاقد للصلة الفعلية بالواقع...
يقول الفيلسوف الألماني "هيغل": " النور المحض إنما ينشر بساطته كًلاً متـناه من الصور، ويهب نفسه ضحية للكون ـ لذاته لكي يتخذ الفردي عند الجوهر الذي له قواما ودواما". وبالتالي فمثـقف التـنوير ليس هو بالنرجسي المتعالق بذاته المتعالية وهميا عن الواقع والكون، بل العكس تماما من ذلك، فهو مثلما قال "هيغل":" إنه الأنا المحض من يكون له في تخارجه، أي ينطوي في حد ذاته بما هو موضوع كلي، على الإيقان من ذاته، أو هذا الموضوع إنما يكون بالنسبة إليه التنافذ بين كل تفكير و كل حقيق".
فمثـقـف التنوير هو مثـقـف التغيير والتـثوير والذي لا يمكن أن يكون كذلك إلا بالإيقان من ذاته فعليا ما بينه وما بين نفسه بما تتملكه جميع أحاسيسه ومشاعره من مفهوم وفكرة كلية في ذاتها ولكنها تكون له هي هو. حين يكون المثـقـف فكرته الفردية الموضوعية بالفعل، فحينها فقط يكون قبسا من نور...