التطبيع باسم البحث العلمي


الطاهر المعز
2023 / 4 / 14 - 02:49     

تصهْيُن باسم البحث العلمي
تأسّست جمعية تاريخ اليهود بتونس سنة 1997 بعد اتفاقيات أوسلو والتطبيع واسع النطاق لعلاقات أنظمة الدول العربية مع الكيان الصهيوني، سنة 1996، لأما أقام النظام التونسي (مثل العديد من الأنظمة العربية الأخرى) علاقات دبلوماسية تحت غطاء "مكتب اتصال" مع العدو الصهيوني الذي قصف "حمام الشط" ( ضاحية ساحلية جنوب عاصمة تونس) يوم الأول من تشرين الأول/أكتوبر 1985، مما أسفر عن مقتل وإصابة العشرات من التونسيين والفلسطينيين الذين لم يتم الكشف عن عددهم رسميًا، وفي أعقاب أوسلو وعمليات التطبيع الرسمي، تم تأسيس جمعية التاريخ اليهودي في تونس (بما أن السياق يسمح بالتطبيع المتخفي، كموضوعات البحث الأكاديمي!) كجزء من "تمحيص ومراجعة وتحقيق تاريخ يهود المغرب العربي في التاريخ العام لليهود، من خلال البحث الأكاديمي"، وفق موقع هذه الجمعية التي عقدت ندوتها الأكاديمية الدّولية الأولى سنة 1999( لا توجد معلومات عن تمويل مثل هذه الندوات التي تتطلب تذاكر سفر وإقامة لعشرات المدعوين)، و "جمعت مؤرخين إسرائيليين ومؤرخين تونسيين لأول مرة"، بحسب الموقع الرسمي لهذه "الجمعية" ، تحت ذريعة "حوار الثقافات ... ( و) احترام جميع المعتقدات. »
لم يكن مُتاحا الإطلاع على أي شيء يخص هذه الجمعية ونشاطها وطاقم تسييرها، قبل تموز/يوليو 2022، لما تم فتح الموقع الإلكتروني للعموم، وهو موقع لا يحتوي سوى على معلومات ضئيلة جدًّا، ولا ينشر معلومات سوى بشأن بعض الأنشطة القليلة، رغم الوسائل الهامة المتاحة للجمعية التي تعمل على "تعزيز المعرفة وتدوين تاريخ يهود تونس" عبر التقارب بين الباحثين والطلاب، وعلى سبيل المثال فقد نظّمت حفل استقبال بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين (1997 - 2022) ونظّمتْ مؤتمَرَيْنِ لم تتوفر أخبار موثوقة عنهما
نسجت هذه المؤسسة/الجمعية شبكة علاقات واسعة تتجاوز نطاق اليهود ونطاق تونس والمغرب العربي، من ضمنها علاقات وطيدة مع الشركات والمشاهير والمثقفين ومراكز البحوث الجامعية، وأعلنت إصدار كتاب عن وضع يهود المغرب العربي في ظل الإستعمار الفرنسي، لدى دار النشر الشهيرة "غارنييه"، كما ورد بموقع الجمعية إنها تعقد ندوات يوم الأربعاء الأخير من كل شهر في الجامعات أو في محلات بلدية باريس.
في تونس، يتعاون العديد من الأكاديميين من أنصار أو كوادر أو حتى قيادات الحزب "الشيوعي" التونسي (الذي تم تغيير إسمه عدة مرات منذ انهيار الإتحاد السوفييتي) وبعض المحسوبين على التيارات التقدمية، بانتظام وفاعلية مع هذه المؤسسة، بحجة البحث العلمي والتاريخي، ومنهم عبد الحميد الأرقش وفاتن بوشرارة وعاطف مبارك وعبد الكريم العلاقي ومحمد الهوش وطارق المهداوي ومريم بن منصور وخصوصًا حبيب القزدغلي عضو اللجنة التوجيهية لهذه الجمعية التي يُعرّفه موقعها وكذلك موقع "أكاديم - الحرم الجامعي الرقمي اليهودي" ( باللغة الفرنسية والعبرية) كرائد في البحث والانفتاح الثقافي والتسامح في تونس! وهو مدرس التاريخ المعاصر والعميد السابق لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتونس (منوبة) من 2011 إلى 2017...
سبق لحبيب قزدغلي، بصفته رئيسًا لإحدى النّدوات، دعوةَ باحثين من الجامعات ومراكز البحوث الصهيونية للحضور إلى مكان الندوة بتونس، وأثارت هذه الدّعوة احتجاجات من أوْساط مختلفة، ما أجبر السلطات على إلغائها، لكن واصل حبيب القزدغلي التقَرّب من المؤسسات الصهيونية بحجة إنجاز بحث أكاديمي حول "مكانة اليهود في الوعي التونسي"، ومكّنه هذا التقارب مع الصهاينة من المشاركة باستمرار في الندوات المشبوهة المُتخفّية بغطاء البحث العلمي، وقررت جمعية تاريخ اليهود في تونس (ومقرها بباريس وليس بتونس) تنظيم مؤتمر دولي أيام 16 و 17 و 18 نيسان/أبريل 2023، دعوته ليترأسَ ندوة دولية حول موضوع "اليهود والقانون في تونس من عهد الحماية (الإستعمار) إلى تاريخ الاستقلال"، بمشاركة باحثين صهاينة من جامعات حيفا وتل أبيب والقُدْس، فضلا عن الصهاينة المقيمين بالولايات المتحدة أو أوروبا، وتقام هذه الندوة في مبنى تابع لبلدية مدينة باريس، معقل الصهيونية، خاصة منذ بداية القرن الحادي والعشرين (عندما أصبح الحزب "الإشتراكي" يرأس بلدية العاصمة الفرنسية)، وتنعقد هذه الندوة الدّولية بدعم مالي وسياسي ومعنوي من بلدية مدينة باريس ووزارة الشؤون الخارجية ووزارة التعليم العالي والبحث الفرنسية، والسفارة الفرنسية بتونس و"التحالف الإسرائيلي العالمي" ومؤسسة ذاكرة المحرقة ومعهد آلان دي روتشيلد ومؤسسات إدموند دي روتشيلد ومؤسسة شالوم فلاك ، وشركة الطاقة ( GTA ENERGIES )، إلخ.
يفخر الموقع الرسمي للمنظمين بالإعلان عن "مشاركة باحثين إسرائيليين وتونسيين وأمريكيين شماليين وفرنسيين (لمساعدتنا) في تجديد نهجنا الثقافي بشأن دراسة خصوصيات اليهود التونسيين (...) وتعزيز المعرفة ونشر تاريخ اليهود تونس ... "
أثارت مشاركة عدد كبير من الباحثين من جامعة العلوم الإنسانية بتونس منوبة سخطًا واستنكارًا، ولكن عبّر العديد من المُدافعين عن التطبيع عن "التعاون" (العمالة) مع الإمبريالية (الأمريكية أو الأوروبية) ومع مؤسسات الدولة الصهيونية أو مع أي عدو، بحجة الانفتاح أو العمل البحثي أو غيرها من الذرائع الزائفة لتبرير العمالة وخدمة الأعداء، وهذه ليست المرة الأولى التي ينبرى فيها بعض الفنانين كالموسيقيين والسينمائيين لتبرير اللتطبيع والمشاركة في مهرجانات في تل أبيب أو القدس أو حيفا بحجة "صناعة الفن وليس السياسة" أي "الفن من أجل الفن"، ومنهم مناضل وسجين سياسي سابق (النوري بوزيد) وابنة زعيم بالحزب الشيوعي (نادية الفاني) وموسيقيين من درجة ثالثة وغيرهم، لكن ارتفع عدد المُثقفين المدافعين جهرًا عن التطبيع، خلال سنوات حكم الإخوان المسلمين، ولا يزال التيار مستمرّا في الإعلان عن نفسه، وكشف هذا الجدل عن اتساع رقعة انتشار الأفكار الانهزامية والمؤيدة للاستعمار والصهيونية في تونس، وينتهز العديد من الناس الفرصة (عن قصد) للخلط بين الصهيونية واليهودية، بين المقاومة المشروعة للاحتلال والإرهاب في أماكن أخرى، ولا يندّد هذا الرّهط من المُجادلين أبدًا بالإرهاب الإمبريالي أو الصهيوني وما شابهَهُما، كما يكشف هذا الجدل انحطاط مستوى النقاش المصبوغ بسوء النية، مع إهمال مناقشة الأفكار والحجج والمنطق والتاريخ، ويعمد إلى إضفاء الطابع الشخصي (معرفة المُطبّع أو علاقات القرابة أو العلاقات العامودية بين الأستاذ وتلميذه...) وعدم وضع الحدث في سياق التاريخي، في إطار "المكان / الزمان" الخ
ينظم هذه الندوة مواطنون فرنسيون، يحمل العديد منهم جوازات "إسرائيلية"، ومعظمهم من أحفاد المواطنين التونسيين الذين غادروا تونس طوعًا بتحريض من الوكالة اليهودية ومن المخابرات الصهيونية، وحصل معظمهم على جنسية المحتل الصهيوني الذي قصف وطن أجدادهم، واختار معظم أسلافهم جنسية الاحتلال الفرنسي، خلال فترة الإستعمار الذي قَسّم مواطني نفس البلد، فأصبح اليهود فرنسيين وبقي المسلمون تونسيين محرومين من أي حقوق، ما أثار حزازات بين "مكونات المجتمع"، وينظم هذه النّدوة أحفاد من تفرنسوا وتصهينوا (باستثناء البعض) بمشاركة أساتذة جامعيين وباحثين مستوطنين ساهموا ( من خلال الجيش ومؤسسات الكيان الصهيوني) في الاحتلال والقمع وإجْلاء الشعب الفلسطيني عن وطنه، واحتلوا مزارع ومنازل ومحلات الفلسطينيين...
إن مشاركة بعض المنشطين السابقين لتيار الحزب الشيوعي التونسي (أحد أكثر الأحزاب يمينية ضمن الأحزاب المُسمّاة "شيوعية" في العالم) يسيء إلى الشيوعيين ( كان بعض المُشاركين يصدرون منشوراتهم السياسية الحزبية باللغة الفرنسية حتى نهاية عقد السبعينيات من القرن العشرين)، بل ويسيء أيضًا إلى التقدميين العرب والأجانب الذين قاوموا كل أشكال الإستعمار (بما في ذلك الصهيونية) والقمع والاستغلال والإضطهاد، بكل الوسائل المتاحة لهم، وهناك فنانون ومناضلون ونقابيون لا يدعون الإنتماء إلى اليسار، ولكنهم يُقومون الظّلم الذي يُعاني منه الشعب الفلسطيني، ويناضلون من أجل المقاطعة الاقتصادية والأكاديمية والسياسية للمؤسسات الصهيونية، بما في ذلك جامعات حيفا أو تل أبيب أو القدس، التي يُشارك باحثوها في هذه النّدوة إلى جانب باحثين تونسيين، يدّعي بعضهم (أو كان يدّعي) إنهم "شيوعيون"، لكنهم لا يرون غضاضة في الدّعوة إلى التعاون مع الصهاينة ، باسم "حياد" العلم والبحث! أما الهدف فهو غير مُعْلَن. إن أي باحث أو فنان أو مناضل سياسي (من أي تيار) بلا مبادئ وبلا أخلاق ( بمفهوم التعامل اليومي في الحياة وفي النضال وليس بمفهومها اللاهوتي) لا يستحق صفة المُثقف أو الفنان، ولا يمكن احترامه وتقديره...
إن القادة والمسؤولين الرئيسيين ل "جمعية تاريخ يهود تونس" (الرئيس كلود ناتاف ونائب الرئيس جيريمي قيدج ورئيسة المجلس العلمي ميراي هاداس ليبل إلخ) هم صهاينة سيئي الصّيت، من وجهة نظر التقدميين في كل مكان، يدعمون الاحتلال الصهيوني ويتعاونون، بدون أي تردد مع الدولة الصهيونية، فماذا تبَقّى لهم من تونس؟ ماذا حققوا لتونس؟ كم عدد الجنسيات لديهم؟ هل استنكروا الجرائم الصهيونية بحق الشعوب العربية بما في ذلك الشعب التونسي؟ إن الإنتماء إلى أي وطن يستوجب الدّفاع عنه والتنديد بأي عدوان عليه والكفاح من أجل رفاهة مواطنيه، وهذا لا يخص ديانة أو أثنية مُعينة، إذْ لا يقل أتباعهم التونسيون من "غير اليهود" عمالة، وليسوا أقل صهيونية ولذا فلا يستحقون أي احترام!
لا يجب اقتصار اللّوْم على الأشخاص المشاركين في هذه الندوة، فهم ليسوا وحدهم من يقع اللوم عليهم، لأن علماء ومفكرين وفنانين تونسيين وعرب وحتى فلسطينيين يتعاونون مع الصهاينة، بوعي أو بغير وعي، خلال الأنشطة أو المؤتمرات أو الندوات أو المنتديات الدولية. إنها مسألة وعي وضمير سياسي وأخلاقي.
يعتبر جَدُّنا عبد الرحمن بن خلدون (ثم فرانتس فانون بعد حوالي خمسة قرون ونصف) أن هذا النوع من الناس يحاول تقليد المُنتصر في اللحظة التي يعيشونها، معتقدًن أنه ما تمكّن من هزيمتنا سوى لأنه متفوق علينا حضاريا وأخلاقيا، فلنتشبه به ونخدمه بذُلّ لأنه أفضل منا ويستحق أن نسجد أمامه!
لا ينبغي أن يكون الخلاف بين العميد السابق لكلية منوبة (حبيب القزدغلي) والأصوليين الإسلاميين منذ عشر سنوات درعا يحميه من أي نقد، فقد دعمه جميع التقدّميين آنذاك، لكنهم لا يغفرون له لهاثه وراء الصهاينة، فهو من المؤسسين لجمعية مشبوهة النشاط والتمويل والأهداف، ومن ينقد دعوته (وليس تواجده معهم صدفةً أو خدعةً ) لباحثين صهاينة ليس بالضرورة رجعيًّا أو سلفيًّا كما يدّعي هو وأصدقاؤه، ودليلنا صدور بيان باسم كلية الآداب التي ينتسب لها حبيب قزدغلي، وكان عميدًا لها (من 2011 إلى 2017)، ضَمَّنَهُ زُملاؤه من المُدرّسين والباحثين بنفس المؤسسة الجامعية استنكارهم لإقحام إسم الكلية في هذه الندوة التي يُشارك بها باحثون أكاديميون صهاينة من جامعات مدن فلسطينية مُحتلة من قِبل الصهاينة: تل أبيب وحيفا والقدس...
إن لمْ تَسْتَحِ ( ولو ادّعَيْتَ التّقدّمية) فافعل ما شئْت !