مرايا الأسر (- من أدب السجون في فلسطين1من2)


سعيد مضيه
2023 / 4 / 13 - 10:17     

انعكاس للمجتمع بالسجن الكبير
صدر للأسير السابق، حسام كناعنة، مؤلف "مرايا الأسر"؛ يختزل خبرة حجزه في الأسر، بلسان سامح ، الذي ينتظر لإفراج خلال عام ، بعد أن أمضى ثلاثة عشر عاما؛ " برشه عالباب" حسب المثل الدارج بين المساجين. قدم عرضا لواقع حياة الأسر في سجون العنصرية ، سجون الأبارتهايد. الأسرى قدموا من المجتمع الفلسطيني المحتل، وفيه نلحظ المواقف الإيجابية والسلبية ، عناصر الصمود بوجه عنصرية المحتل ومظاهر التداعي والضعف. بأسلوب ساخر يجلد الكاتب عوامل متأصلة في المجتمع تعمل بتلقائية على تعميق الانقسامات وشرذمة القوى. ينتقد ولا يوفر ذاته من النقد ، ويستحضر قرينه يكشف له مظاهر القصور والعبث في تصرفات سابقة كادت "تجعل السجن اثنين" . يضيف الراوي بتواضع في حوار آخر"أ لست بطلا...لم أقاتل أصلا... اعترفت ووجدت نفسي اتخبط في زنازين التحقيق، ولم أفهم كيف وصلوا إلي او ماذا يعرفون عني وممن عرفوه! وفي النهاية اعترفت!...هم لايعرفون إلا ما نقوله لهم...قوتهم نابعة من ضعفنا ، ومعرفتهم من ثرثرتنا وذكاؤهم من أخطائنا وسذاجتنا"(61). تلك الحقيقة يجب ان يدركها كل من يعمل حاليا في الشأن العام؛ حبذا لو يتم الامتثال لنصيحة الرسول الكريم، إذ قال : "استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان".
لست ناقدا محترفا ولكني احكم على العمل الأدبي بمدى تأثيره في جمهور القراء محدودي التجربة؛ استطيع القول ان الكاتب من خلال السرد والحوارات نجح في تقديم صورة بانورامية – حسب تعبير الروائي محمود شقير- لأوضاع الأسرى.
لعل أبرز ظاهرة في العرض هي الوحدة الصلدة التي تحققت أثناء الإضراب الجماعي، وهي تصلح ان تكون معْلما ومعلّما للجمهور وللقوى السياسية خارج السجن وداخله، تؤكد فعلا ان الأسرى يمكن ان يكونوا قدوة للمجتمع، إذ يعيشون بمنأى عن عوامل الاغتراب والإفساد.
في فصل خاص يسرد حكاية " معركة الأمعاء الخاوية- ’ما النصر إلا صبر ساعة‘". يتسامح السجانون مع إعلان الإضراب، ويضطهدون الأسرى المضربين. والإضراب، وكل نشاط اجتماعي لا بد له من قيادة واعية ومجربة وحريصة تقوده بتنظيم متقن الى تحقيق الهدف أو الأهداف. في محاولة سابقة انتهت بالفشل حيث خدع المضربون بأكاذيب الإدارة وانسحبوا من الإضراب فريقا بعد آخر،"محاولة للخروج بأقل الخسائر ؛ خسر الجميع ! بقينا ندفع ثمن ذلك الفشل وتلك الهزيمة لسنوات"(138) .مطالب المضربين :"سياسة العزل الانفرادي وقضية اسرى غزة والممنوعين أمنيا ، الذين حرموا منها منذ سنوات..."(137) . تم إطلاع الجميع على هدف الإضراب وشروطه! "قرئت وثيقة الإضراب التي أعدتها قيادة تمثل الفصائل كافة، وأقسم الموقعون على الوثيقة من مندوبي وممثلي الفصائل على ان لا ينهي إضرابه دون الآخرين ، ودون تحقيق أهداف الإضراب"(138)؛ "قرار دخول الإضراب فردي .أما إنهاؤه فهو ليس كذلك ؛ عليه الاستمرار حتى النهاية"(139)... اليوم يحاولون ان يضيقوا علينا وإزعاجنا ، ولكنهم لا ينكلون ولا يضربون أحدا،على عكس ما حدث أنذاك. في السجون الأخرى كان الوضع مختلفا ، خاصة في بئر السبع ، كما سمعنا ، نكلوا وضربوا وقمعوا!"(142). والحملات النضالية لا تخلو من محاولات تخريب. "خرجت بعض الأصوات النشاز ، ارادت ان تتجاوز ’لجنة قيادة الإضراب‘، وتتحدث باسم الأسرى ، فأخرست في الحال"(147). " فعاليات تضامن مع إضرابنا تتصاعد وتنتقل الى مخيمات اللجوء والجاليات في الشتات ؛ فعاليات تضامن عربية وعالمية ، وقضية الأسرى بالسجون الاحتلالية تصبح قضية الساعة"(150).
ومحاولات من جانب الإدارة لإفشال الإضراب، لكن الجميع حافظوا على الانضباط: "صبيحة الخامس والعشرين للإضراب، استدعت إدارة السجن مندوبي الفصائل لتحاورهم، محاولة بذلك تجاوز لجنة قيادة الإضراب. في المساء علمنا انهم فشلوا في مخططهم. إدارة السجن وإدارة مصلحة السجون أصبحوا على قناعة أنه لا مفر لهم إلا الجلوس على طاولة المفاوضات مع لجنة قيادة الإضراب، والاستجابة للمطالب الإنسانية للأسرى. في اليوم التالي، أو الذي بعده سمعنا ان هذه الإدارة بدأت بتجميع مندوبي الفصائل، أعضاء قيادة الإضراب...وُقِّع الاتفاق الثامنة مساءًا،وقد أبلغتتنا إدارة نفحة بذلك، وسمعنا تأكيدا للخبر على الإذاعات المختلفة. كنا عشية ذكرى النكبة ، فتحولت مسيرات إحياء الذكرى ، بعد الإعلان عن نهاية الإضراب الى أعراس وطنية ، في الوطن والشتات.... إدارة سجن نفحة ارادت توزيع الشوربات علينا ! رفضنا . كنا ننتظر عودة مندوبنا وممثلنا في لجنة الإضراب حتى يخبرنا بنفسه ماذا جرى"(152-53).
بطاقة نجاح جوهرها الالتزام الجماعي الواعي، تصلح ان تبقى في أذهان الجميع مرشدا.
في المقابل، وكالطبيب يحرك مبضعه بالدمل المتقيح، حتى ينزل الدم القاني، بداية للشفاء، يعمل الكاتب مبضع النقد في مسلكيات سلبية ، اخطرها ما يصرف من أوصاف البطولة "ألسجين البطل" يقول "الصديق": "أقول لك ان الأبطال من شعبنا هم ،أولا،الشهداء، والذين صمدوا ولم يعترفوا في اقبية التحقيق. هؤلاء، باعتقادي، هم الأبطال"(59)
" المشكلة ان ثمة أغلبية من بيننا قامت بأعمال استعراضية....أعمال أضرت بنضالنا وبالمناضلين الحقيقيين الأوفياء، وأخرت شعبنا سنوات ضوئية عن تحقيق أحلامه وطموحاته بالحرية والعودة... هؤلاء استعراضيون، هم مراهقون فكريا وسياسيا ونضاليا وبرامجيا... هؤلاء يعملون ويقاتلون كأنهم في طوشة حارة أو فزعةعرب"(60). حقا كم هي خطيرة هذه الشريحة على النضال الوطني!
إحدى صولات السجانين اوردها الراوي، واسماها ’القمعة‘:" دخلت الينا قوة القمع الخاصة بمصلحة إدارة السجون. فتحوا علينا نار جهنم وأمطرونا بالغاز داخل الغرف المغلقة ... ارتمينا ثمانية أسرى على نافذة الغرفة متر مربع لا أكثر ، لالتقاط الهواء، وقليلا من أنفاسنا. لم نعد نرى شيئا في الغرفة . تشهدنا ! فتحوا الغرف واقتحموها ، بكماماتهم وهراواتهم ، بعد أن تأكدوا ان قوانا قد خارت، ونفسنا قد انقطع! كانواينتشلون الواحد منا عن الأرض ويكبلون يديه خلف ظهره بقيد بلاستيكي، ينغرس في اللحم، ويشبعونه ضربا وهم يقتادونه الى الفورة ليركعوه على مصطبتها الحارقة تحت شمس تموز...حراسنا من خلفنا يتناولون بالهراوات كل من يحاول النهوض او تغيير جلسته ليريج جسمه المنهك!"(128).
اما إهمال صحة الأسرى وترك الأمراض تستفحل فأمر بات من بدهيات الاحتلال العنصري، إحدى فضائحه او جرائمه. " العيادة في السجن هدفها المحافظة على حياة الأسير لتنفيذ عقوبته وإنهاء محكوميته، وليس علاجه"(132).
يكرس الفصل الثاني مفارقات وطرائف، يسخر الكاتب من مدعي المعرفة ومن المتعصب الزميت ، وكذلك من ظاهرة الانقسامات، كلها امور تحدث في المجتمع وقد تتوالى بحدة بسبب التوترات المصاحبة للأسرى. في مجتمع التخلف لا يحترمون الاختصاص والمعرفة ، ترى الكل يناقش في قضايا معقدة تتطلب المعارف العميقة والشاملة ؛ وبالنتيجة تجد الكل يعارض الكل. تجد أفرادا لا يطالعون ولا يدركون أن التجربة نوعان ، ذاتية مباشرة ، وأخرى غير مباشرة نحصل بالمطالعة ومثابعة حضور المناسبات الثقافية والفنية .
" عمر له فلسفته الخاصة بالحياة في الأسر، تعتمد على مبدأين: التأقلم مع المكان والتعايش مع السكان"(39)؛ "ما يقتل روحنا حين ننسى المبادئ والقيم التي من أجلها ناضلنا ، وفي سبيلها قدمنا أعمارنا وضحينا ...تصبح صغائر الأمور كبائر ونحن بالفعل نصبح سجناء... تفادى القيل والقيل واترك ما لا يعنيك ، واقرا واقرأ واقرأ، ثم اكتب ما استطعت الى ذلك سبيلا"!(40)
"ابو العُريف" ظاهرة تشغل القوم ؛ هي ليست خاصية أفراد لايجدون ما يزجون به الأوقات ، بل ظاهرة اجتماعية تستفحل في مجتمعاتنا ، ظاهر الادعاء والفهلوة .هنا يدخل في سخرية كاريكاتيرية يشتط احيانا: "هل ’أبو العريف‘ هي مشتقة من الجذرعَرفَ اوهي من عرافة بمعنى التنجيم او العريف العالم بالشيء، وذهب آخرون انها من ألعُرف للديك او الحصان. وأبو العريف ، لمعلوماتكم ، من عادته ، حين ينبري ليدافع عن موقفه ان يقف وسط الغرفة كالديك ، فينفش رأيه ويصيح: ’يوريكا ، يوريكا‘ - وجدتها وجدتها "(70،71).
أسير ، ما ان تطرح سؤالا أو تساؤلا لتستفسر عن امر حتى ينبري بالإجابة ، ضاغطا ، دون لأي، على زر البحث فيعطيك حلالا، زلالا !! تقول له يا ابن الناس قول وغيرً، انت متاكد؟ فيقول - طبعا... انا لا القي الكلام على عواهنه"(73). يبهر الكاتب سرديته بمفردات عامية هي ادق تعبيرا .
هل من خلاص من صفة العُريف ؟ والسؤال الأحق ان يوجه : هل هي محصورة بين جدارن السجن فقط؟! هي إحدى العلل الاجتماعية؛ وحيث تجهل خبرتنا الاجتماعية قاعدة إدراك واقع التنوع، وخبرتنا شحيحة بالحوار وتبادل الآراء، وأن التنازلات ضرورة لالتقاء الأراء، يتعمق ضيق الصدر بالرأي المخالف.
"التأم أعضاء الملأ، ولكن ما ان بدأوا مداولاتهم حتى علت أصواتهم، واشتد تجاذبهم ، بين مؤيد للتحديث ومعارض له. كانت الغلبة تميل لكفة الحداثيين والى اعتماد اللقب الجديد "غوغل" وتعريبه الى ابن غوغل. غلاة الحداثة اصروا على إبقاء اللقب النقي، كما هو، أبو او ابن تحيل الى "ابن لادن" و"أبوقتادة " و أبو مصعب الزرقاوي". أما تيار الأصالة فقد انسحب من المداولات وأعلن انشقاقه، وتشكيل مجمع الأسير اللغوي الجديد واختصاره م.ل.ج.أ ، أو ملجأ. حجتهم ان لغتنا غنية ولا حاجة لها ان تستعير لقبا هو من إفرازات عصر العولمة(77).
لم تنته التصدعات فعواملها لم تزل تفعل فعلها."في اوساط فئة ’الأصاليين‘ ظهرتيار ذكوري تحفّظ بشدة... لن يرضوا بديلا عن (جهينة) ب’حذام‘ لأنوثتها أيضا، لم ينفع بإقناعهم أصالة الكلمة ولا عراقتها وعروبتها، ولامعناها ’ إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام!‘ بقيت حائرا في أمري، متخبطا بين الأسماء والكنى والألقاب المختلفة حتى قال ’صديقي‘ : تعددت الأسماء و’ابو العريف ‘ واحد."(80)
"أبو ’العريف‘ خبير أيضا في طرح الأسئلة... سألنا مرة، وكان ذلك في فصل الربيع’يوم 14 /7 هو بالضبط وينتا بكون؟‘ أجابه أحد الشباب ’ والله إن شد حيله يمكن ييجي في 12/5 وعلى أقصى حد في17/5، وإلا ستجده في شهر تسعة:‘"(84،85)
والتشظي يمضي قدما... هذه المرة ببروز ظاهرة التوفيقيين ."لم يكن موقف التوفيقيين متوافقا! فمنهم من رفع هذا اللواء لإيمانه المبدئي به، ومنهم من رفعه تقية وخوفا ، او تملقا، ومنهم من ذهب الى ان خير الأمور الوسط. وثمة من رفعه خوفا على الساحة الاعتقالية من الانزلاق الى مهاو لا قرار لها! انزلاق سيضيع ما تبقى على الساحة الاعتقالية الضائعة أصلا...وحين يأتي السجان ليقمعنا ويمطرنا بالغاز المسيل للدموع، فإنه لا يفرق بين حداثي ولا أصولي، وهراوته لا تفرق بيننا".(92)
معاناة الأسرى وتطلعاتهم ضمن الحيز الضيق المتاح، مع معاناة العزل عن الأهل والأصدقاء ، وعن الحياة الطبيعية، حيث المجتمع يبدع وينشئ ويتفاعل مع أقارب وجيران/ يمضي ناسه الى النزهة او السوق ويحتفلون بالأعياد.. يدرك السجين كم هي أليفة وممتعة تلك الممارسات الروتينية ، كما يعتبرونها خارج السجن، لكنها حيوية في الحياة ، كما يراها المحجوز بين جدران سجن يشرف عليه أفراد يحملون الضغائن والكراهية.الم يقل المثل "الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه سوى المرضى"؟
أنا لا أتعجل شيئا، لكني أحسب الوقت ، ليس بالسنين ولا بالأشهر والأيام او السويعات ، بل بالرسائل والزيارات والأحلام!(200)
صديقي‘ تبسم وقال : اتعتقد نفسك ما زلت شابا؟! أنت لم تعد طالبا جامعيا ! لأجيالك وأصدقائك اليوم ابناء ولبعضهم أحفاد(206).
تتكرر حوارات الكاتب مع "صديقه" داخل السجن، وهي حوارات ممتعة وذات دلالة ؛ تجده يقرن كل لقاء بطرفة او مشاحنة؛ قد يتمرد على الصديق " اللدود" واحيانا يخضع لتوجيهاته. وجميع تدخلاته توجيهات." انا لا أجول إلا في رأسك"(20)... قلت متحديا : هذا أنت وليس أنا ! قال وما الفرق بيننا؟!(134). "جاءني فجأة وقال : انا لست جديدا ! فأنا صديقك منذ عشر سنوات على الأقل، لكنك لم تنتبه لوجودي"(ص15)- "أنا لآ أظهر ولا أختفي إلآ وفق رغبتك"(27). في السنوات الأربع الأولى "مطب وقعت انت به مرارا... يسجن المرء نفسه ، فيصبح سجنه اثنين"(55).
إنه الصراع النفسي بين الانفعالية والنزق وجميع إفرازات التوتر من جهة وبين العقلانية من جهة مقابلة واحيانا مضادة. هو صراع يدور داخل البعض ممن لم تهدر عقولهم وإراداتهم بفعل القهر ونظم الهدر المتتالية على مدى قرون! يسري داخل السجن وفي المجتمع خارجه ، حيث تحصل توترات تحفز الى تصرفات مؤذية ؛ وتدخّل العقل اليقظ والمجرب يكبح جماح الانفعالات، وينجح، من ثم ، في احتواء الصعوبات والمشاكل . تلك هي حقيقة المواجهات بين الأسير وعقله اليقظ.
يتبع لطفا