بوصلة الشهيد!


عزالدين بوغانمي
2023 / 4 / 12 - 17:43     

أسهل الأمور وأرتحها وأنفعها هو أن تقف نصيرا لأصدقائك حتى وهم يُمسكون البوصلة بالمقلوب. وتربح ودّهم وحبّهم المُعتاد. الصّعب هو الانتصار للحق. لمن رحل ولن يعود أبدا ولن يهتمّ بشأنِنا. لأولائك الذين أكل التراب أجسادهم، وما عاد بوسعهم الكلام ليقولوا لنا "شُكرًا". علينا أن نظلّ آدميين ولو كرِه الكارهون.

حدّقوا في صور الشهداء القديمة المُثبّتة في كلّ جدران البيوت، حتى وهم يضحكون، يبدون حزانى. يقال أنّ الشهيد يموت قبل حادثة موته. لذلك يظهر الحزن في عيونهم وهم أحياء.

الشهداء حزانى لأنّهم كانوا يفكرون بأطفالهم الذين تركوهم نائمين والتحقوا بالفصيل الذي سيُرابط على سواتر مدينة القصرين.
يفكرون بأولادهم يبكون وهم يتعلّقون بستراتهم العسكرية ليمنعوهم من الخروج.
يُفكّرون بضمّة القلب لحظة وداع الزّوجات.
بعودة الطفولة في قبلة الامهات.
بإطراقة أخواتهم الصّبايا الصغيرات اللواتي يحبسن الدموع لحظة الفراق لكي لا تجري دمعة واحدة فيتأذّى قلب أخيها..
يفكرون ماذا سيحدث بعد استشهادهم. بالحبيبة التي ستتسمّر بمقعد السيارة الخلفي وهي تبكي بغصّة. ترفض النزول الى قبر حبيبها. لأنها لا تتحمّل اللقاء به وهو تحت اللحود مُغطّى بالأزهار.

الشهداء حزانى لأنهم يفكّرون باحتمال البرود تُجاه دمهم. فبعضنا قد يتساهل مع القاتل. وقد يحاول حمايته فيبحث له عن مخرجٍ خلفيِّ آمِنٍ.

الشهيد لا يثق بمن بقي بعده كامل الثّقة. ليس واثقًا إذا كان الله حين خلق الواحد من هؤلاء قد زرع الغَيْرة في جوارح قلبه كبقيّة البشر. أم أن صندوق صدره لا يحتوي ذلك الإحساس الذي يجعل الدم يتدفق في الأوردة كصعقة تَهزّ الكيان، وتحوّل أجسادنا إلى أسلحة ثقيلة تَرُدُّ الظالم عن ظُلمه.
ولربما كان الشهيد على يقين بأنّ بعضنا سيقف مخصيًّا منزوع السّلاح أمام القاتِل. وأن بعضنا الآخر، سيبذلون جهودا جبارة لتحطيم أولياء الدم لأنهم يحسدون الشهداء بسبب موتتهم العالية. يحسدونهم على قبورهم المبنية بعناية. وعليها زهور لا تذبل.

كما تُمسَك المذارِ أو الفؤوس على الأكتاف تحت وهج الشمس، وفي الطريق إلى الحقول، كان الشهداء يمسكون الرشّاشات وقاذفات القنابل من أجلنا. لم يكونوا هواة حرب. ولا القتال لعبتهم المفضلة. ولكنهم كانوا يعرفون أن ليس لتراب تونس سواهم إذا ما دقّت ساعة الحقيقة ووقف الغُزاة على أعتابها. ورُبّما حدّثتهم أرواحهم، قبل موتهم، بحكمة الفداء والتّبجيل في المقامات العُليا كما ورد في التّنزيل "واشرقت الأرض بنور ربّها وجيء بالنّبيين والشّهداء..."

اليوم عندما تذهب الى المقبرة. وترى بعينيك شهداء كبار. بعض أبناء المؤسسة الامنية استشهد ولَم يتسلّم راتبا واحدا في حياته. عمره إثنان وعشرون ربيعا، ترك أمّه تطوي له الفراش وتشتمّ رائحة ثيابه بقلبها، وخرج ليسقط تحت وابل من الرّصاص من أجل الوصيّة والرّسالة.
وبعضهم لم يكن عسكريا. ولم تجبره الحكومة على مواجهة الغزاة. لكنه تطوّع للذّود عن تاج البلاد، فدفع حياته وسكن التّراب.
وأنت تقف على قبر الشهيد، تكاد تسمعه يتكلّم. إنه يتعدّى الجسد والقبر ليصبح قصّة لا تنته وموقفًا مُسجّلا في دفاتر التاريخ.

لذلك لا قسوة في القلب على أحد. ولكن قتَلَة الشّهداء يجبُ أن يدفعوا الثّمن أمام العدالة. وممنوع على من تبقّى منّا على قيد الحياة أن يترك لهم منفذًا للهروب.
ممنوع منعًا باتٍّا محسومًا إلى يوم القيامة.