موقف الإسلام من العبودية


سامح عسكر
2023 / 4 / 11 - 22:49     

إن من أبرز الأسئلة التي تتصدر ساحة المناقشات الآن بين المسلمين واللادينيين، أو بين المسلمين وغيرهم بالمطلق هو موقف الدين الإسلام من الرق والاستعباد، ويثور السؤال المشهور (لماذا لم يُحرّم محمد العبودية)؟

في الحقيقة أن السؤال طُرح بصيغة خاطئة لأن الآخر لا يفكر وفق منظومة هذا السؤال التي خرجت من حُكم مسبق على الإسلام وانحياز تأكيدي أن الإسلام والعبودية واحد، والصيغة الصحيحة من وجهة نظري هي (هل الإسلام أمر باستعباد واسترقاق الناس)؟..فوفقا لهذا السؤال يجري تحرير موقف الإسلام من العبودية بشكل علمي ، لأنه يعترف بمقدمة محذوفة من السياق وهي أن العبودية كانت حالة عامة في القرن 7 م وقت نزول القرآن، وكان النموذج الفكري أو ما اصطلح عليه (بالبارادايم) لم يكن يستقبح هذا الفعل، شأنه كشأن عدم استقباح العرب بعض الأنكحة الغريبة في زماننا هذا كزواج الاستبضاع والرهط والمبادلة وغيره..

إن النظر لموقف القرآن من الاستعباد نراه يعمل في ذلك على ثلاثة مسارات:

الأول: منع الاعتداء والبغي قال تعالى "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" [البقرة : 190] وقال أيضا "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" [المائدة : 87] وقال أيضا "قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون" [الأعراف : 33] وقال أيضا "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون" [النحل : 90]

من هذا المنطق عمل الإسلام على منع الاعتداء وكراهية ومعاقبة أصحابه، فإذا علمنا أن الاسترقاق والاستعباد فعل يتطلب الاعتداء كأصل نفهم (بالقياس) أن الإسلام يمنع العبودية أو استرقاق الناس منذ نزول القرآن، فما الذي يحمل المسلم على استرقاق الناس وقد كان مأمورا بعدم العدوان مطلقا، وأن قتاله دفعا لا طلبا هو ثابت من ثوابت الدين

حتى في بعض آيات الحرب الأخرى كقوله تعالى "واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين" [البقرة : 191] نجد أن الله يُسمّي الطرد من المسكن (بالفتنة) أخرجوهم من حيث أخرجوكم، أي أن الطرف الآخر المعتدي هو الأظلم بُصنع الفتنة التي تمثلت بطرد المسلمين من ديارهم، وعلى هذا المبدأ نفهم (بالقياس) أن طرد الناس من ديارهم أيا كان دينهم وعرقهم ورأيهم هو (فتنة) ولو علمنا أن الاسترقاق فعل يتطلب طرد الناس من ديارهم وإسكانهم مساكن أخرى نفهم أن القرآن يُجرم العبودية وفقا لهذا السياق..

المسار الثاني: العفو عن الأسرى مجانا أو بالفدية، وفي ذلك نزل قوله تعالى "فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها "[محمد : 4] والمتعارف عليه ذلك الزمان أن الاسترقاق لم يكن يحدث فقط بخطف الأطفال والنساء والاعتداء على الضعفاء، بل كانت له صورا أخرى في الحروب وهي استرقاق الأسرى وتحويلهم لعبيد، فعندما يقول الله أن السياسة المتبعة مع الأسرى هي (الفدية أو العفو) فلا مجال هنا للاسترقاق مطلقا، ولا طريقا أمام المسلم ليستعبد به الأسير إلا لو وضع نصوصا دينية موازية تقفز أو تتخطى أو تنسخ هذا النص القرآني، وقد حدث بالفعل أن نشط الوضّاعون في هذا المضمار ووضعوا نصوصا روائية منسوبة للنبي زوا تأمر باسترقاق الناس ومعاقبة العبيد الذين يهربون من أسيادهم فما اصطلح عليه (بالعبد الآبق)..

ونفهم من ذلك المسار الثاني أن الإسلام كان يتعامل مع العبودية كواقع مفروض يجب معالجته بقطع مصادر التمويل، ولا شك أن الحروب كانت تمثل نسبة كبيرة من مصادر تمويل العبيد وأسواق النخاسة ، لذا فكانت الشعوب آنذاك تلجأ للحروب والاسترقاق كلما شعرت بالتهديد أو انخفاض عدد السكان وأفراد القبيلة أو قلة نشاط وعدد الشباب..ويمكن القول أن المسارين الأول والثاني يعملان بمنظومة واحدة قوامها عدم الاعتداء والتقدم بأولوية فعل التسامح على الكراهية مصداقا لقوله تعالى "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" [فصلت : 34] فلو بادر المسلم غيره أو عدوّه بالمعاملة الحسنة والكف عن صور الأذى والاعتداء المختلفة لصارت حسناته أكبر ولتحول عدوّه إلى صديق، وفي ميزان السياسة منذ الأزل أنه لا صداقة دائمة ولا عداوة دائمة، بل تحدث صور الصداقات والعداوات وفقا لظروف خاصة يجري فهمها وحلها بالحوار والاتفاقات..

المسار الثالث والأخير: تحرير العبيد الموجودين وفق نظام الكفارات، وفي ذلك نزل قوله تعالى "وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما" [النساء : 92] وقال أيضا "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون" [المائدة : 89] وقال أيضا "والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير" [المجادلة : 3]

والمقصود بتحرير الرقبة في الآيات هو تحرير العبيد، فجعل نظام الكفارات أفضل نموذج عملي لتحويل ذنوب الناس إلى فضائل بالتوبة، ومن أعظم تلك الفضائل تحرير العبيد، فلم يتوقف الإسلام على منع صور العدوان فقط ولا منع الاسترقاق في الحروب بل أمر المسلم بتحرير ما عنده من عبيد كلما أذنب ذنبا، ليصل المجتمع بعد جيل أو جيلين لحالة خالية تماما من العبيد..

لكن الذي حدث على الأرض شئ مختلف، والتاريخ الإسلامي ملئ بالمآسي والتجاوزات والأوجاع، فعندما نفهم النص القرآني ومغزى العمل به وفق هذه التراتبية سيكون من السهل تحرير موقف الإسلام من العبودية بشكل علمي، فدورات الحرب لا تتوقف والصراعات البشرية دائمة أزلية، فكان ولابد من النص أن يراعي تلك الحالة وفقا لثقافة ومنتوج هذا الزمان فكريا والذي لم يكن يستقبح حالة العبودية، فجاء الأمر بقطع مصادر تمويلها والنهي عن أسبابها المختلفة وعللها الباطنة في جوهر الصراعات، بل جعل تحرير العبيد أولوية في تكفير الذنوب ، فالرقيق بدلا من بيعهم والتكسّب منهم بما يضمن استمرارية وبقاء العبودية جاء الأمر بإخضاعهم لنظام الكفّارات كوسيلة عملية تربوية للتخلص من هذه الآفة وهذا الظلم المتفشي الذي لم يدركه البشر ويتحررون منه سوى مؤخرا في القرن 19 م

ويبقى السؤال الأخير: لماذا لم يمنع الإسلام العبودية مباشرة وبدون هذه اللفة أو تلك التراتبية أو هذه المسارات؟..لماذا لم يأمر فورا بتحرير العبيد دفعة واحدة وتركهم وشأنهم؟

والجواب على ذلك وفق منظور علم الاجتماع والنفس، فالقبائل العربية لم تكن تملك نسبة قليلة من العبيد بل كثيرة جدا، إن كل بيت كان فيه عبدا أو مولى وربما أكثر، هذا يجعل من فكرة إطلاق هذا العدد الكبير دون نظام كافيا لخلق حالة من الفوضى التي تؤذي العبيد نفسهم قبل أسيادهم، فنسبة كبيرة من عبيد ذلك الزمان لم تكن تملك حرفا أو مهنا أو مهارات أو قدرات لسوق العمل، وكانوا يعتاشون كليا على ثروة أسيادهم ولا يتصورون أنهم سوف يحصلون على الثروة والقدرة على العيش الكريم بمجرد إطلاقهم بهذه السهولة، ناهيك عن عقبات المنافسة والتربص الذي سيجعل أسياد العرب يتربصون بعبيدهم بعد التحرير فيحاصروهم في مصادر رزقهم نظرا لتعاليهم ونظرتهم الدونية، فيكون علاج هذا الأمر بإخضاع التحرير لنظام الكفارات هو إشعار المسلم بالذنب أولا ثم تحرير العبد وفقا لسياق هذا الذنب

وسيكولوجيا هذا يعد حلا عبقريا إذا اقترن إطلاق العبيد بالذنب، حيث يمنع المسلم أن يعتدي أو يحاصر ذلك العبد المتحرر لاحقا أو ينظر له نظرة دونية، فعلى الفور يستدعي في ذاكرته كيف كان مذنبا مقصرا

إن إطلاق هذا العدد الكبير جدا من العبيد دفعة واحدة يعني إحداث مشاكل اجتماعية لا حصر لها، سوف تدفع هؤلاء العبيد لامتهان السرقة أو البغاء أو تشكيل عصابات مسلحة كوسيلة سهلة للحصول على المال في ظل افتقارهم لأدوات الحصول على المال بطريقة مشروعة، ولعل ما يحدث الآن في الولايات المتحدة لدليل على صدق هذه الرؤية، فبعد 150 عام من تحرير العبيد لا زالت النسبة الأكبر التي تمتهن الجريمة من أحفاد الأفارقة الذين جرى تحريرهم دفعة واحدة دون نظام، وبأحدث إحصائيات السجون نرى أن غالبية مسجوني الولايات المتحدة من ذوي الأًصول الأفريقية الذين عمل أجدادهم كعبيد في الماضي

فلو كانت هناك خطة عملية للاندماج ما حدث هذا الخلل الاجتماعي الذي أدى لأن تكون مشكلة العنصرية ضد السود في أمريكا لا زالت قائمة حتى بعد تحرير العبيد ب 150 عام، فالصورة المتخيلة في ذهن المسئولين والأغلبية البيضاء عن السود ليست لطيفة لهذا السبب، عوضا عن أدران ومآسي التاريخ التي حفرت بأظافرها في وجدان الأمريكيين والمستعمِرين بتصوير صراعاتهم في الماضي ضد السود والسكان الأصليين على أنها كانت مشروعة هادفة، وتتناسى الأغلبية البيضاء أن خطأ لينكولن في تحرير العبيد بهذا الشكل دون خطة اندماج وتعويض العبيد كان قاسيا في نتائجه، لأن اهتمام أمريكا انصب وقتها فقط في تعويض مالكي العبيد وليس العبيد أنفسهم، فكانت النتيجة توحش النظام الرأسمالي أكثر في تضخم ثروات النخاسين وتجار العبيد ، واستئجار هؤلاء العبيد لاحقا برواتب زهيدة ونظام عمل قاسي لم يختلف كثيرا عن الذي كان يحدث معهم في الماضي..

ولولا كارثة 1929 الاقتصادية في العالم ما تبنى الإنسان خطة لعلاج هذا الظلم المتفشي والذي كان فيه العمال (أشباه عبيد) في مصانع وشركات الرأسماليين، ومنعا للاستطراد لأن ما حدث في أعقاب تلك الكارثة لهو أمر هام كثير التفاصيل وله علاقة مباشرة بموضوعنا اليوم، لكنه ومنعا للإطالة أكتفي بالقول أن موقف الإسلام من العبودية تلخص في هذه المسارات الثلاثة التي كانت تهتم بالجانب العملي في (تفكيك منظومة العبودية) ولم يهتم بالجانب النظري الأخلاقي الذي يطرح هذا السؤال في المقدمة وهو : لماذا لم يحرر الإسلام العبيد دفعة واحدة وبنص واضح مباشرة؟ فبرغم إثارة السؤال ومنطقيته لكنه ينطلق من مقدمة تفترض أن العبيد كانوا أِشخاصا عاديين كأسيادهم، وأن فرصهم في البقاء والعدالة الاجتماعية مضمونة، فلو كان هذا يحدث في القرن 7 قبل 1300 عام من تحرير العبيد وميثاق حقوق الإنسان، فما بالنا اليوم ولا زالت العنصرية شبحا يخيم على البشرية بوصفها أحدث منتجات هذا الاستعباد في الماضي؟