محاولة تعميم المعرفة وتبسيط بعض مفاهيم الإقتصاد السياسي


الطاهر المعز
2023 / 4 / 11 - 13:28     

تتضمّن هذه المحاولة عدة فقرات، وفي مقدّمتها عرض لبعض المفاهيم الواردة في كتاب "رأس المال"، بعبارات بسيطة (قَدْرَ الإمكان) كمقدّمة لتعليقات على بعض الأحداث الجارية، ومن بينها:
أزمات يُطْلِقُها رأس المال ويتحمل الكادحون والفُقراء نتائجها
من مؤشرات الأزمة
انهيار النموذج السويسري
الإيقاع أمريكي والصّدى أوروبي
أزمة دَوْرِية هَيْكَلِيّة أم طارئة؟
رأس المال يتجاوز كل الحدود
الحل، لا أمريكي ولا صيني
تداعيات انهيار المصارف حتى يوم 30 آذار/مارس 2023
*****
عرض بعض المفاهيم الواردة في كتاب "رأس المال" – كارل ماركس
يرتبط اسم كارل ماركس بنضاله ضد الرأسمالية وبتحليل أُسُس النظام الرأسمالي وكذلك بنضاله الثّوري لتوحيد نضالات عُمّال العالم ضد المنظومة الرأسمالية التي تستغل جُهْدَهُم لتضخيم ثروات الأثرياء...
دَوّن كارل ماركس، مع فريدريك إنغلس مُخلّصًا لمختلف مراحل تطور علاقات الإنتاج في أوروبا والمناطق التي هيمنت عليها الرأسمالية خلال القرن التاسع عشر، في كتابهما الصّغير "البيان الشُّيوعي" (1848) الذي شكل مُقدمة لتأسيس الجمعية العالمية للعمّال (الأُمَمِيّة الأولى 28 أيلول/سبتمبر 1864)، وأصبح الكتاب من أشهر ما كتبه ماركس، إلى جانب كتاب "رأس المال" الضّخم (ثلاث مُجَلّدات، بداية من 1867)، ويتضمّن تحليلًا مُعَمّقًا للرّأسمالية، ونقدًا للإقتصاد السياسي التقليدي...
تَمَيَّز تحليل كارل ماركس باعتبار الرأسمالية شكلا من أشكال تنظيم الإنتاج الاجتماعي، في مجتمع منقسم (عمومًا) إلى طبقة رأسمالية تستثمر المال وطبقة عاملة لا تمتلك المال وتُنتِجُ السّلع، مُقابل أَجْرٍ يَعْكِسُ استغلال أرباب العمل لجهد العاملين وتكديس الثروات جراء هذا الإستغلال الذي يؤدّي إلى زيادة إنتاجية العُمّال وإلى احتكار الإنتاج من قِبَل الرأسماليين وبالتالي إلى عدم تلبية احتياجات غالبية السكان، ولا يمكن حل مسألة التوزيع العادل بهدف تلبية احتياجات جميع السّكّان سوى بالقضاء على النظام الرأسمالي برمته.
كانت دراسة أزمات الرأسمالية من ابتكارات كارل ماركس الذي أكد إن النظام الرأسمالي مُعَرّض بطبيعته للأزمات الحادّة، التي انفجرت كل ثلاثة عُقُود تقريبًا، خلال القَرْنَيْن الثامن عشر والتاسع عشر.
تُظْهِر مُسودات كارل ماركس، التي اعتمدها فريدريك إنغلس لإتمام كتابة الجزء الثالث من كتاب "رأس المال "، بعد وفاة ماركس سنة 1883، أنه بدأ تدوين ملاحظاته ونقده للإقتصاد السياسي الكلاسيكي (كتابات آدم سميث وديفيد ريكاردو )، منذ 1857، ودامت عملية تدوين الكتاب الأول حوالي سنتَيْن، من 1865 إلى 1867، بالتوازي مع العيش في المنفى والعمل السياسي ضمن الأممية الأولى، أن هذا الكتاب الضّخم تحليل مُعمّق لما أشار له كُتَيّب "البيان الشيوعي" عن الإستغلال، فهو يدرس بِدِقَّةٍ منطق ومفاهيم رأس المال، من ذلك عملية تحويل قُوّة عمل الإنسان (العامل) إلى سِلْعَة يتم بيعها وشراؤها بالمال، كما يدرس عملية جمع المزيد من المال (بواسطة الإستغلال وجَنْي الأرباح) كهدف بذاته، ما يخلق تناقضًا بين رأس المال والعمل، فحصة رأس المال أكبر بكثير من حصة العمل، وكلما احتدّت المنافسة بين الرأسماليين، ازدادت شراسة رأس المال، كشكل من أشكال المُقاومة لضمان الإستمرار...
يَعترف الإقتصاديون الرجعيون بفضل كارل ماركس في ابتكار نظرية "القيمة"، وإبراز أهمية "فائض القيمة" في عملية التّراكم الرّأسمالي، وتَنْتُجُ القيمة عن عملية تحويل المادة الخام إلى إنتاج نهائي قابل للإستهلاك أو الإستعمال، أو ما يُسمّى "قيمة مُضافة"، حيث ترتفع قيمة السلعة ( المُقَوَّمَة بالمال، بالنّقُود)، ليرتفع هامش رِبْح رأس المال، بينما يبقى أجْر العامل مُستقرا، وتختلف قيمة السّلع باختلاف "المنفعة"، أي حاجة النّاس لها، وليس فقط بمقدار العمل الذي تم بذله في إنتاج السلع، وعلى أي حال تبقى قيمة الإنتاج (السّلعة) مُرتبطة بالسياق الإجتماعي وبتطور تقنيات الإنتاج وكثافة العمل...
تُعمِّق الرأسمالية الإنقسام الطبقي للمجتمع، إذ يستولي رأس المال على ثمرة عمل (جُهْد) العُمّال، لكن هذه الهُوّة الطبقية ليست شفّافة كما في مجتمعات أو أنماط الإنتاج السابقة ( العبودية أو القَنانَة أو الإقطاع... )، لأن المجتمع الرأسمالي يدّعي تحرير الإنسان، ليُصبح "حُرًّا" بإمكانه (نَظَرِيًّا) رَفْض شُرُوط العمل التي يعمل الرأسمالي على فَرْضِها، وبإمكانه رفض عقد العمل، "فيختار" عَرْض قُوّة عمله في "سوق العمل"، لعلّه يجد أجْرًا أعلى أو ظروف عمل أقلَّ سُوءًا... لكن أرباب العمل لا يتصرفون كأفراد، بل كعناصر تنتمي إلى مجموعة إسمها الرأسمالية، وإلى منظومة تقوم على "التّراكُم"، أي الثراء من خلال جَنْيِ الأرباح بواسطة الإستحواذ على فائض القيمة الذي يخلقه العُمّال، ويعتبر كارل ماركس أن عملية التراكم من خلال الإستحواذ على القيمة التي يُضِيفُها جُهْد الطبقة العاملة، واحدة من أهم ركائز التطور الرأسمالي ونُمُوّ الثروات، وسبق أن أطْنَبَ ماركس في تحليل نُشُوء وتحقيق فائض القيمة واستثمار جزء منه في شراء سلع جديدة ضرورية لإنتاج ولتوليد المزيد من فائض القيمة، وتحقيق المزيد من الأرباح، وبما الرّبح هو هدف الرأسمالية، وليس تلبية احتياجات المُجتمع...
يخلق النظام الرّأسمالي جيشًا من العاطلين عن العمل (جيش العمل الإحتياطي )، بهدف استخدامهم لزيادة السّلع المعروضة في الأسواق، في حالة ارتفاع الطّلب، ولِلَجْمِ أي مُحاولة للعمال لاستغلال هذا الإرتفاع للمطالبة بالزيادة في الرواتب، فيستخدم رأس المال فائض قوة العمل (العاطلين الباحثين عن وظيفة) لخلق وظائف جديدة، وتجنّب ارتفاع الأجر الحقيقي للطبقة العاملة، ومن هنا كانت فكرة الإضراب عن العمل، والضّغط على أرباب العمل الذين يَهَابُونَ انخفاض حصة الأرباح...
عند الحديث عن جيش العمل الإحتياطي، يذكر كارل ماركس النساء العاملات بالمنزل، لرعاية الأُسَر، بدون أَجْر، ويمكن استخدامهن عند الحاجة، كما حصل خلال فترات الحُرُوب، حيث يُرْسِلُ رأس المال الرجال في سن العمل إلى جبهات القتال، وتبقى النساء في الخطوط الخلفية، في المزارع والمصانع، لكي لا تتوقف عملية الإنتاج، ولكي لا ترتفع القيمة الحقيقية للرواتب، ويستنتج ماركس أن البطالة جُزْءٌ من النظام الرأسمالي للمحافظة على مُستوى الأجور، وبالتالي على مستوى الربح أو زيادته، ولذلك فإن التّراكم الرأسمالي (تراكم الأرباح) والبطالة ظاهرتان متلازمتان ومُستمرتان في النظام الرأسمالي، وما يُسمى "العمالة الكاملة" (أو الحدّ الأقصى للتوظيف ) لا يعدو أن يكون خفض نسبة البطالة وليس توظيف كل القادرين والقادرات على العمل، مثلما حصل في المجتمع السوفييتي ومجتمعات أوروبا الشرقية، خلال فترة تطبيق الإشتراكية، رغم النواقص...
لم يكن كارل ماركس مُنَظِّرًا يعيش في بُرْجِهِ العاجي، بل كان (وكذاك فريدريك إنغلس) مناضلاً ثوريا، ساهم في بناء تيار عالمي، أفْضَى إلى تأسيس الأممية البروليتارية، تحت شعار ياعُمّال العالم اتّحدوا، بهدف "تجاوز" العمل النقابي والمطالبة بزيادة الرواتب وتحسين ظروف العمل، إلى العمل السياسي الثوري، الهادف إلى تغيير المنظومة الإقتصادية والسياسية التي تُبرِّرُ وتُقَوْنِنُ ( تضع قوانين وتشريعات) الإستغلال وسرقة جُهْد العاملين والعاملات، عبر عملية فائض القيمة والتّراكم...
يتطرق المجلد الثالث من كتاب "رأس المال" إلى موضوع هام يتمثل في وعي الرأسماليين بأنهم يُشكّلون طبقة تتكون من رأس المال "الصناعي" ورأس المال "التجاري"، أو ما يُسمّى اليوم "قطاع الخَدَمات"، بما في ذلك الخدمات المالية أو المَصْرفِيّة التي يُسمّيها ماركس رأس المال المالي أو النّقْدِي، ولذلك يتشاورون مَعًا ويتفاوضون من أجل توزيع حِصَص الفائض للمحافظة على مستوى مُعدّل الرّبح، رغم المنافسة الشديدة أحيانًا فيما بينهم، كما يتطرق نفس هذا المجلّد الثالث إلى مالكي بعض الموارد الضرورية للإنتاج كالأرض والمناجم والموارد الطبيعية، وهم يُفاوضون كذلك من أجل زيادة حصتهم من فائض القيمة، أو ما يُسمّى "الرّيع"، أي المال المُتأتِّي من إيجار الأرض والعقارات وغيرها، لذا فإن الرأسماليين يتشاورون فيما بينهم، رغم المنافسة، ولا يمكن للطبقة العاملة مقارعة طبقة الرأسماليين سوى بالتضامن بين العاملين واتحادهم على مستوى وطني وإقليمي وعالمي، وهذا يتطلب تكثيف التشاور، ويتطلب التخطيط والنضال المُشترك، الجماعي والمُنَظّم، وهو ما أكّده لينين فيما بعد...

أزمات يُطْلِقُها رأس المال ويتحمل الكادحون والفُقراء نتائجها
في الأول من كانون الثاني/ يناير 2023، أعلنت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي على قناة سي بي إس الأمريكية أنه من المتوقع حدوث ركود لثلث الاقتصاد العالمي، بسبب الحرب في أوكرانيا وأزمة الطاقة والتضخم وعودة ظهور وباء كوفيد-19 في الصين إلخ، وأشارت إلى تباطؤ اقتصادَيْ الولايات المتحدة والصين، وهما المحركان الرئيسيان لنمو الإقتصاد الرأسمالي العالمي، ما دفع صندوق النقد الدولي إلى خفض توقعات النمو العالمي.
يُعرّفُ صندوق النقد الدولي الركود بانخفاض كبير في النشاط الاقتصادي لبلد ما، ويتم تقييمه على أساس ثلاثة معايير: المدة (عدة أشهر) والحَجْم وانتشار الركود في جميع قطاعات الاقتصاد، ويُعتبر الإقتصاد في حالة رُكُود عندما ينخفض الناتج المحلي الإجمالي (أو إجمالي إنتاج الثروة) لرُبُعَيْنِ أو فَصْلَيْن ( 6 أشهر) متتَالِيَيْنِ، ومنذ حوالي سنتَيْن، انخفضت قيمة الدّخل الحقيقي للمواطنين في مجمل بلدان العالم، بسبب ارتفاع تكاليف الطاقة وتأثيرها على النشاط الاقتصادي والتوظيف. أما الشركات فتستفيد من فرصة زيادة أسعار بيع منتجاتها وخدماتها دون زيادة الأجور، بل على العكس فهي تتذرّع ب"الأزمة" لتسريح الموظفين، وتضغط على العاملين لزيادة الإنتاجية بعدد أقل من العاملين، فتزيد أرباح أرباب العمل وأصحاب الأسْهُم.
دخلت أوروبا بالفعل مرحلة الركود في الربع الأخير من سنة 2022، أما الاقتصاد الأمريكي فهو مهدد بالركود سنة 2023، وقد تم تعديل توقعات نمو الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي نزولاً عدة مرات، وسوف يؤدي الركود في أوروبا والولايات المتحدة إلى انهيار الاقتصاد العالمي، وفق رئيس البنك العالمي الذي يتوقع نمو الناتج المحلي الإجمالي للكوكب بنسبة 1,9% فقط، وهو مستوى "قريب جدًّا من الركود العالمي".
من مؤشِرات الأزمة
في غضون اثني عشر يومًا فقط من شهر آذار/مارس 2023، انهارت أربع مصارف وتعثر اثنان آخران، فسارعت المصارف المركزية لمساعدة النظام المالي ولِتَضُخَّ مليارات الدولارات من الأموال العمومية التي سمحت الحكومات والمصارف المركزية لنفسها باستخدامها لإنقاذ المصارف، رمز الرأسمالية المالية.
يعد الانهيار المذهل لمصرف وادي السيليكون في العشر من آذار/مارس 2023، وهو أكبر فشل مصرفي في الولايات المتحدة منذ أزمة سنة 2008 التي انطلقت بأزمة الرهن العقاري عالية المخاطر حتى أصبحت أزمة اقتصادية عالمية، وأدى انهيار مصرف وادي السيليكون إلى اضطراب المراكز المالية العالمية الكبرى، وبعد أقل من 72 ساعة من إعلان انهياره، تدهور وضع مصرف كريدي سويس عانى نشاطه من انخفاض غير مسبوق.
تأسس بنك وادي السيليكون سنة 1983 في كاليفورنيا، وترتيبه السادس عشر في الولايات المتحدة وهو مُتخصّص في تمويل ( إقراض) أكثر من نصف الشركات الأمريكية الناشئة وشركات التكنولوجيا، وحقق المصرف وشركات التكنولوجيا ازدهارًا ونجاحًا كبيرَيْن طيلة هذه الفترة التي استغلها المصرف للإستثمار في سندات الخزانة خصوصًا في السنوات الأخيرة عندما كانت أسعار الفائدة منخفضة للغاية، ومن المعروف أن هذه الاستثمارات آمنة لأنها مضمونة من الدولة، ولكن مع ارتفاع أسعار الفائدة، فقدت هذه السندات قيمتها وأدّى بيع المصرف لها لتوفير السيولة إلى خسارة 1,8 مليار دولارا، وعندما شاع الخبر سحب بعض الزبائن الهامِّين الكثير من المال، وزادت عمليات السّحْب بعد أن أعلن المصرف يوم الخميس 9 آذار/مارس 2023 عن سعيه لزيادة رأس المال بشكل سريع للتعامل مع السحوبات الضخمة للودائع، والتي جاء معظمها من الشركات الناشئة، وهذا ما تسبب في موجة من الذعر أعقبها (يوم الجمعة 10 آذار/مارس 2023) وضع مصرف سيليكون فاللّي ( SVB ) تحت سيطرة الهيئة التنظيمية الأمريكية ( FDIC ) وفي اليوم السابق لإغلاقه قدّم الزبائن أوامر سحب بقيمة 42 مليار دولار، فأصيب جميع الزبائن بالذعر وأرادوا سحب أموالهم في نفس الوقت...
استثمر مصرف وادي السيليكون (SVB) بشكل أساسي في السندات، مما يجعل المصرف عرضة للخطر إذا ارتفعت أسعار الفائدة، وهو ما حَصَلَ بالفِعْل، وهناك أدوات ومنتجات مالية تسمى "التَّحَوُّطَات" للحماية من هذه المخاطر، لكن مصرف وادي السيليكون ( SVB ) لم يَحْمِ نفسه بشكل كافٍ، وفقًا لصحيفة ( Financial Times ) فتدخلت الحكومة الفيدرالية الأمريكية بشكل استثنائي وأعلن رئيس الولايات المتحدة أن جميع الودائع مضمونة من قبل الدولة، لتجنب عدم استقرار النظام المصرفي، والتزم الاحتياطي الفيدرالي (المصرف المركزي الأمريكي) بإقراض الأموال اللازمة للمصارف الأخرى التي قد تحتاجها لتلبية أي طلبات سحب من عملائها ... كان رد الحكومة الأمريكية بهذه السرعة مُبَرّرًا فاتخذت العديد من الإجراءات الصارمة، لأن العديد من المصارف الإقليمية تعثرت بعد هذا الإفلاس، ومنها على وجه الخصوص تلك المصاريف التي لها نفس خصائص مشابهة ل SVB ، مثل First Republic وهو المصرف الأمريكي الرابع عشر أو حتى أصغر مصرف Pacwest أو Western Alliance Bancorp التي سقطت جميعها في سوق الأسهم، وأقرض الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي 12 مليار دولار للقطاع المصرفي الأمريكي، لمحاولة تجنب الذعر والسماح لهم بتلبية طلبات السحب لزبائنه كما التزم بإقراض 142,8 مليار دولار إلى الكيانين اللذين أنشأهما المنظمون الأمريكيون لوقف أزمة مصرف وادي السيليكون ومصرف سيغنتشر، ولتجنب العواقب الوخيمة، ووجب التّذكير إن هذه الأموال هي ملك لساكني الولايات المتحدة الذين يحتاجونها للتعليم أو الصحة أو الاحتياجات الجماعية الأخرى.
انهيار النموذج السويسري
من ناحية أخرى ، أثرت الأزمة بالفعل على المؤسسات المصرفية الكبيرة في أوروبا، منها مصرف كريدي سويس (ثاني أكبر مصرف سويسري )، والذي كان في حالة اضطراب منذ عامين، ولكن بعد إفلاس SVB ، باع المستثمرون أوراقهم المالية، وكان ذلك مُنَبِّهًا للعديد من الحكومات، لأن كريدي سويس هو واحد من أكبر 30 مصرفا في العالم، وقد يُخَلّف انهياره عواقب وخيمة على المنظومة المصرفية والمالية العالمية، لذلك بذلت الدولة السويسرية كل ما في وسعها لمنع سقوط هذا المصرف الذي أقرضه المركزي السويسري ما يقرب من 58 مليار دولار، لم تكن كافية لتهدئة المخاوف، وفي يوم الأحد 19 آذار/،مارس 2023 ، وافق اتحاد المصارف السويسرية (UBS)، أكبر مصرف بالبلاد، على شراء منافسه كريدي سويس، مقابل 0,75 دولار للسهم الواحد، بدلاً من أكثر من 2,3 دولار، وضخت الدولة أكثر من 13,5 مليار دولار والمركزي السويسري أكثر من 100 مليار دولار من الأموال العامة في خزائن اتحاد المصارف السويسرية، وتم التوصل إلى الاتفاق مساء الأحد، لأنه كان من الضروري الإعلان عن معلومات مطمئنة لإعادة فتح الأسواق صباح الاثنين.
أطلق الكاتب المسرحي فريدريش دورنمات على وطنه "الشركة المسماة سويسرا" التي تحولت من بلد ذي اقتصاد فلاحي متواضع في القرن التاسع عشر إلى مركز مالي عالمي قوي، ويُمثّل مصرف "كريدي سويس" نموذجًا لتغير وظيفة المركز المالي السويسري الذي اتّسم بالسر المصرفي، حتى أزمة 2008/2009، واستفاد من غسيل أموال اللصوص ومن تهريب رؤوس الأموال من البلدان الفقيرة، وبعد الضغط الأمريكي وتحويل العديد من الولايات الأمريكية إلى ملاذات ضريبية وإلى مراكز غسيل "الأموال القَذِرَة"، اضطرت المصارف السويسرية إلى المُخاطرة التي لم تكن دائمًا سليمة العواقب.
تم إيداع رؤوس الأموال التي تم تهريبها بعد الحرب العالمية الأولى في القطاع المصرفي السويسري الذي عقد كذلك صفقات مع أركان النظام النّازي في ألمانيا لإيداع الذهب المسروق، ومع الأثرياء اليهود لإيداع أموالهم خوفًا من مصادرتها من قِبَل حكومة ألمانيا النازية، وتمكنت سويسرا من استقبال أموال الجميع (أعداء ومتحاربين ودكتاتوريين ومعارضيهم ولصوص ومجرمين...) وغسيل الجزء القذر من هذه الأموال بفضل "السر المصرفي" الذي تم اعتماده سنة 1934، مباشرة بعد وصول النازيين إلى السُّلْطة سنة 1933 في ألمانيا، وبداية من نهاية الحرب العالمية الثانية، أصبحت سويسرا مركزًا للتجارة بالعُملات الأجنبية ومعقلا لتصنيع سبائك الذهب...
بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، حصلت تغييرات جيوستراتيجية على المستوى العالمي، فانطلقت عمليات اندماج في القطاع المصرفي السويسري، وانخفض عدد المصارف من 495 سنة 1990 إلى 243 سنة 2000، وأصبح "كريدي سويس" يُشَغِّلُ حوالي 80 ألف موظفًا على مستوى العالم، من بينهم 28 ألف موظف في سويسرا، وبلغت أرباحه حوالي عشرة مليارات دولارا، غير أنه بدأ بالإنحدار سنة 2006، قبل الأزمة المالية، وفقد 20 ألف موظف عملهم، وتراجع سعر سهم المصرف من 100 فرنك إلى أقل من عشرين فرنكاً سويسريا، وأنقذته دولارات الغاز القَطَرِي ثم دولارات النّفط السعودي من الانهيار الذي ضرب القطاع المصرفي سنة 2008...
الإيقاع أمريكي والصّدى أوروبي
أدّى انهيار المصارف الأمريكية الأربعة ومصرف كريدي سويس إلى انخفاض أسهم العديد من المصارف الأوروبية بأكثر من 10% (Societe Generale و BNP Paribas و Deutsche Bank و Commerzbank و Banco Sabadell و Banca Monte dei Paschi ، إلخ) ، خلال الأسبوع الثاني من آذار/مارس 2023، ونجح إعلان الحكومات والمصارف المركزية ضخ المال العام في خزائن المصارف الخاصة، في استقرار الأسواق، وتعهد أحد عشر مصرفًا أمريكيًا رئيسيًا بدفع 30 مليار دولار من الودائع في خزائن "فيرست ريبابليك" لإنقاذه من الإنهيار...
إن رفع أسعار الفائدة (للسيطرة على التضخم) هو قرار اتخذته المصارف المركزية منذ أن فرضت النيوليبرالية (ممثلة في صندوق النقد الدولي والبنك العالمي) "استقلال" المصارف المركزية، وهو قرار قد يُضْعِفُ النظام المصرفي ويُبْطِئُ النمو ويزيد من معدل البطالة، وأدى القرار في غضون اثني عشر يومًا فقط، إلى انهيار عدة مصارف، وإلى فقدان الثقة النظام المصرفي، وهذا ما لا يتحمّلُهُ النظام الرّأسمالي، فتهاطلت مليارات الدّولارات من المال العام على المصارف، وفي أقل من عشرة أيام أصدر الاحتياطي الفيدرالي ( المركزي الأمريكي ) أكثر من 300 مليار دولار لضمان سيولة النظام المصرفي، ومَنَحَ المصرف المركزي السويسري 115 مليار دولار لإنقاذ كريدي سويس من قبل يو بي إس، وقعت البنوك المركزية الغربية الرئيسية (الإتحاد الأوروبي وسويسرا وكندا واليابان) اتفاقية مقايضة مع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لضمان السيولة بالدولار للنظام المالي الدولي، وهو ما حصل خلال أزمة 2008، وبذلك تُواصِلُ الحكومات تبذير الأموال العامة لتهديها إلى مالكي الأسْهم، كما حدث خلال أزمة عام 2008.
لم ترغب المصارف المركزية، لفترة فاقت عقدًا من الزمن، تلافي عواقب السياسات النقدية السّخِيّة مع المصارف والشركات الكبرى والأثرياء، من خلال الإقراض مجانًا أو بمعدلات قريبة من الصّفر، في حين رفضت ضخ هذه الأموال في سبيل القضاء على البطالة والفقر والمرض، وكان (ولا يزال) مُنَظِّرُو الإقتصاد الرأسمالي الليبرالي يَدّعُون أن "اليد الخفية" للرأسمالية تنظم السوق دون تدخل الحكومة، لكن هذه اليد لا تزال غير مرئية ولكنها تنظم السوق باتجاه واحد، فَتُوجّه المال نحو جيوب وحسابات الأثرياء، أما الحكومات والمصارف المركزية فقد أدركنا أنها تتدخّل لتبديد الأموال العامة ولحماية الثروات - غير المشروعة - للمساهمين والمضاربين، فقد حرمت المواطنين الأُجراء والكادحين والفُقراء من الأموال المُحَصّلَة من الضرائب، ووزعتها مجانًا على المصارف والشركات الكبرى، خاصة منذ سنة 2008، بدل إنفاقها من أجل تلبية حاجيات العمال والفقراء المحرومين من السكن والعمل ومن خدمات التعليم والنقل العام وخدمات الصحة العامة، واليوم يدفع الاقتصاد بأكمله العواقب الكارثية لمثل هذه القرارات السياسية غير الديمقراطية المتمثلة في توزيع الثروات الجماعية على القطاع المالي، فتشكلت فقاعات في مجالات عديدة في الأصول وأسواق الأسهم وأسواق الديون وأسواق العقارات وكانت النتيجة الأكثر وضوحا هي اتساع نطاق عدم المساواة بشكل غير مسبوق منذ بداية القرن الواحد العشرين، وهو ما تجاهلته ونَفَتْهُ المصارف المركزية باستمرار.
أزمة دَوْرِية هَيْكَلِيّة أم طارئة؟
يكمن أصل التوترات الحالية في الاختلالات التي أوجدتها المصارف المركزية نفسها، من خلال سياساتها النقدية التي شجعت على مضاعفة الائتمانات والديون.
انهارت المصارف للسبب نفسه: أزمة سيولة ناجمة عن ما يُسمّى "الذعر مصرفي" ( bank run ) المُتمثل في قيام الزبائن بتنفيذ عمليات سحب ضخمة ومفاجئة، عبر الشبكة الإلكترونية، بلغت قيمتها 13,5 مليار دولار في يوم واحد لكريدي سويس و7 مليارات دولار لمصرف سيلكون فالي و 5 مليارات دولار لمصرف فيرست ريبابليك، مما وضع هذه المصارف في مأزق، لأن حجم المبالغ المسحوبة يُؤَشِّرُ إلى فقدان الثقة في النظام المصرفي برمّته.
أدت خمسة عشر عامًا من التيسير الكمي إلى إعادة تضخيم أسعار الرُّهُون العقارية المجمعة للبنوك، وارتفعت معها أسعار المنازل وأسعار الأسهم والسندات، بين نهاية 2020 و 2021، بسبب برامج المساعدات الحكومية والبنك المركزي التي وزّعت الكثير من السيولة، مما أدى إلى تضخم أسعار الأصول، وعلى سبيل المثال فقد أودَعَ زبائن مصرف (Silicon Valley Bank )، وهم من الشركات الناشئة في وادي السيليكون، مَهْد الشركات التكنولوجية بولاية كاليفورنيا، سيولة هائلة حصلوا عليها بفائدة تعادل الصفر، استثمرها المصرف في السندات الحكومية الأمريكية، وهي واحدة من أكثر الاستثمارات أمانًا في العالم، وكان المصرف يأمل الحصول على عائد يزيد عن 1%.
أين تكمن المشكلة إذن؟ ابتداءً من 2022، بدأ الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي (Fed) تنفيذ إحدى أسرع عمليات رفع أسعار الفائدة وأكثرها حدة في التاريخ، من 0,25% إلى 4,75% في ظرف عام ونَيِّف، وذلك "لمحاربة التضخم" كما تقول الدّعاية الرّسمية، ما أدّى إلى انخفاض الطّلب (وهو تستهدفه السلطات النقدية)، ثم بدأ انكماش الفقاعات، وفي الوقت نفسه، تفاقَمَ الركود وانخفاض النشاط الإقتصادي الذي دفع العمالُ ثمنَه، فارتفع حجم ونسبة البطالة، لأن الأموال العامة التي تم توزيعها مجانًا على الأثرياء لم تُستخدم للاستثمار في الاقتصاد الحقيقي، كما لم يتم إقراضها بمعدل منخفض للشركات الصغيرة أو الفئات منخفضة الدخل، بل مُنِحت للمصارف والشركات الكبيرة العابرة للقارات وللأثرياء الذين استخدموها في المضاربة، وكانت هذه الأموال في خدمة المصارف والنظام المالي حَصْرًا، مما يعزز حماية الرأسمالية المالية المدعومة بالكامل من المصارف المركزية والحكومات، لكنها ليست مُوَجّهة أبدًا لحماية أو لدعم السكان، دافعي الضرائب، ولدعم احتياجاتهم الاجتماعية، ما يُحَتِّمُ طرْحَ السؤال: أي معنى لاستقلالية المصارف المركزية وفي خدمة من تكون المصارف المركزية "المستقلة" عن السلطة السياسية؟
تُلْزِمُ القوانين الأمريكية المصارف بالإحتفاظ بنسبة مائوية صغيرة من الودائع واستثمار الجزء الأكبر، ولذا فإن مجمل قيمة الودائع تُعادل 17600 مليار دولارا (17,6 تريليون دولارا) ولا تحتفظ المصارف سوى بنحو 3000 مليار دولار نقدًا (أو ثلاثة تريليونات دولارا)، ومعظم معظم هذه الأموال هي مجرد بضعة سُطُور وأرقام كُتِبَتْ على صفحة ويب، ولا توجد لدى المصارف سوى حوالي 100 مليار دولار فقط من الأوراق النقدية المادية في الخزائن وأجهزة الصراف الآلي، وبالتالي ، فإن الودائع البالغة قيمتها 17600 مليار دولار مدعومة بأوراق مالية وقروض أقل سيولة، لذلك عندما يندفع عدد كبير من الزبائن لسحب أموالهم من المصارف، بسبب إشاعة أو تسريبات عن خَلَلٍ أو عن خسارة، يتعين على المصرف بيع استثماراته لتجميع المبالغ المطلوبة، كما فعل مصرف "سيليكون فالي" الذي باع الكثير من سنداته الحكومية، بخسارة قدرها 1,8 مليار دولارا، لأنه لم يكن لديه الكثير من السيولة المتبقية، ولما حاول المصرف جمع المزيد من الأموالارتفع الطلب على النقد من قِبَل الزبائن الذي أصابهم الذُّعْر، وكان ذلك بداية انهيار المصرف والنظام المصرفي بِرُمَّتِهِ.
لم تنته أزمة النظام المصرفي رغم ما تُعْلِنُهُ الحكومات ووسائل الإعلام، لأن أَمْوَلَةِ ( financiarization ) الاقتصاد، تجعل أي أزمة صغيرة قادرة على تهديد النظام الاقتصادي بأكمله، وعلى إطْلاق أزمة سياسية واجتماعية في سياق ارتفاع التضخم وإفلاس الشركات، ولذا فإن أزمات 2008 و 2023 لم تكن نتاجًا للصدفة بل نتيجة منطقية للسياسة النقدية الأمريكية والأوروبية على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية.
كانت أزمة سنة 2008 ناجمة عن المديونية المفرطة للمقترضين من الفئات الوسطى والفقيرة في الولايات المتحدة ( قروض شراء المساكن والسيارات وقروض الإستهلاك...) ومبالغة المصارف في المُخاطرة، خلافًا لأزمة سنة 2023 التي تم إطلاقها من قِبَلِ مستثمري التكنولوجيا الأثرياء في كاليفورنيا، وأصحاب أسهم الشركات الناشئة وأصحاب رؤوس الأموال، بدعم من حكومة الولايات المتحدة، ولمواجهة "شبح الذُّعْر" ( bank run )، استفادت المصارف مرة أخرى من المال العام، فَمَعَ كل أزمة تزيد الحكومات والمصارف المركزية من جرعة الدعم والمَبَالِغ الموزعة على الأغنياء على حساب الفقراء، فهذا القطاع التكنولوجي هو قطاع مشبع بإيديولوجية تحررية، ليبيرالية، معادية بشكل أساسي للتدخل الحكومي، لكن أزمة سَنَتَيْ 2008 و 2023 أظهرت أن "اليد الخفية" أو "التنظيم الذّاتي للأسواق المالية" هو أسطورة.
تقع مسؤولية النمو الاقتصادي وتحفيز الاستثمار وخلق فرص العمل على عاتق الحكومة، من خلال سياساتها المالية والاقتصادية والصناعية والزراعية وما إلى ذلك، إذْ تؤثر السياسة النقدية فقط على النشاط الاقتصادي والتوظيف على المدى القصير، لكن القوانين (في جميع دول العالم تقريبًا) تترك هامشًا كبيرًا من الحرية للمصارف وللمؤسسات المالية الأخرى، وتضغط على العُمّال والكادحين والفُقراء، وعندما يخترع القطاع المصرفي منتجات مالية جديدة محفوفة بالمخاطر، لا تفرض السلطات السياسية اختبارًا للتحقق من موثوقيتها وقابليتها للتطبيق قبل بيعها للجمهور، كما لا توجد أجهزة رقابة مُستقلة أو لوائح تحدد استخدام ودائع الجمهور أو تفرض على المصارف تعويض الزبائن في حالة فشل هذه المنتجات المالية الجديدة، وعندما تظهر نقاط الضعف أو فشل النظام النظام المالي، يكون الزبائن آخر من يعلم، وتقوم الدولة والمصارف المركزية "بإصلاح" أو معالجة نتائج القرارات السيئة للمصارف الخاصة بواسطة ضخ المال العام بفائدة ضعيفة أو بدون فائدة أصْلاً.
لقد نجحت الرأسمالية في تسميم أذهاننا عبر ترديد: إن المال يجب أن يجني الفائدة، تمامًا كما هو الحال في طبيعة شجرة التفاح التي لا بد أن تثمر تُفّاحًا! وفق كارل ماركس
معظم البيانات من برقيات وتحاليل وكالة بلومبرغ ووكالة رويترز، من 9 إلى 25 آذار/مارس 2023

رأس المال يتجاوز كل الحدود
طلبت وزارة الحرب الأمريكية من أعضاء الكونغرس، يوم 13 آذار/مارس 2023، الموافقة على ميزانية التّسلُّح لسنة 2024 بقيمة 842 مليار دولارا ( لا تتضمن السلاح النووي ولا معاشات التقاعد والرعاية الصحية والعمليات الخاصة والإستخبارات العسكرية...)، إضافة إلى 44 مليار دولارا إضافية لبعض الوكالات ويتوقّع أن يُضاف لها مبلغ حوالي 60 مليار دولارا أخرى بعنوان ميزانية تكميلية ( بلغت قيمتها 45 مليار دولارا سنة 2022 )، وحوالي مائة مليار دولارا أخرى للطوارئ، ليفوق إجمالي الإنفاق العسكري تريليون دولارا، من ميزانية الدّولة الإتحادية المُقَدَّرَة بسبعة تريليونات دولارا سنة 2024...
تُشَكِّل القوّة العسكرية واحدة من أهم مقومات الهيمنة الأمريكية ( بفضل الدّولار والهيمنة على المبادلات التجارية والتحويلات المالية عبر سويفت ) حيث تنتشر هذه القواعد في أكثر من 800 قاعدة عسكرية بها حوالي 200 ألف جندي، بالإضافة إلى ما لا يقل عن 300 قاعدة غير مُعْلَنَة، مثل قواعد العراق وسوريا والنيجر وليبيريا والمغرب، وقواعد حلف شمال الأطلسي التي تهيمن عليها الولايات المتحدة، وتتجه الحكومات المتتالية إلى إزاحة الحوار الدّبلوماسي بين الدّوَل واستبداله بعَسْكَرَة العلاقات الخارجية، وزيادة ميزانية وزارة الحرب بمعدّل 4% سنويًّا، لكن انخفض التّأييد المُطلق لِمُجَمّع الصّناعات الحربية لدى نُوّاب الكونغرس ولدى المواطنين، إثر انخفاض عدد العاملين بمصانع السّلاح (بفعل التّطوّر التكنولوجي) من 3,2 ملايين سنة 1980 إلى مليون عامل سنة 2022، أو ما يعادل 0,6% من إجمالي قوة عمل قوامها 160 مليون شخصا بالولايات المتحدة، وفق تحالف "الناس فوق البنتاغون" ( People Over Pentagon ) ومنظمة " حَمْلَة الفُقراء" ( Poor People’s Campain ) والمجموعات التي تطالب بخفض الإنفاق العسكري والإهتمام بحاجات المواطنين من تعليم ورعاية صحية وعمل وسَكن لائقَيْن، والحَدّ من الهُوّة الطّبقية...
الحل، لا أمريكي ولا صيني
قدم الرئيس جوزيف بايدن، الخميس 9 آذار/مارس 2023، ميزانية سنوية قدرها 6,8 تريليون دولار لعام 2024 (سنة الانتخابات) بينما يصل الدين إلى 34 تريليون دولار في عام 2023 ، مع عجز في الميزانية قدره 8,2 تريليون دولار ومن المرجح أن يكون الدين. يرتفع إلى 36,8 تريليون دولار، في عام 2024. وتواصل الحكومة الأمريكية تحويل الأموال العامة إلى البنوك والشركات الكبرى حيث انخفضت الضرائب التي يدفعها الأثرياء بشكل مطرد منذ إدارة كلينتون ، وفقًا لوثائق صادرة عن دائرة الإيرادات الداخلية تشير إلى أن أغنى أغنياء البلاد (جيف بيزوس من أمازون وإيلون موسك من تسلا والممولان مايكل آر من بلومبرغ ووارن بافيت) لم يدفعوا أي ضرائب فيدرالية تقريبًا وفي بعض السنوات لم يدفعوا أي ضرائب على الإطلاق.
يمكن للكونغرس الأمريكي أن يرفع سقف الديون ويمكن للحكومة أن تطبع دولارات أو تصدر سندات أو وسائل مالية أخرى لدفع فواتيرها ، لأن أغنى دولة في العالم ليس عليها أن تعلن إفلاسها.
وزعت جميع الحكومات الأمريكية مبالغ كبيرة لإنقاذ البنوك الأمريكية الفاشلة والأنظمة المالية ذات الصلة والشركات الكبرى ، بما في ذلك شركة جنرال موتورز المفلسة آنذاك. في 2008-2009 ، بلغ الدين الأمريكي 10 تريليون دولار. واليوم ، يزيد هذا المبلغ عن ثلاثة أضعاف ، حيث يبلغ 34,1 تريليون دولار ، أي أكثر من الناتج المحلي الإجمالي السنوي للولايات المتحدة ، والذي يبلغ 25,4 تريليون دولار.
استمرت عمليات إنقاذ البنوك منذ أزمة 2008-2009. يتم امتصاص البنوك الأضعف من قبل البنوك الأقوى. تسعى الحكومات للحد من الضرر ، على حساب العمال والخدمات العامة.
كان معدل التضخم في الولايات المتحدة، في شباط/فبراير 2023، أعلى "رسميًا" من 7%، بسبب تركيز القوة الاقتصادية داخل عدد قليل من الشركات التي تحتكر السوق الداخلية والخارجية. على مدى العقد الماضي ، تم الاستيلاء على حوالي نصف البورصات والبنوك المدرجة من قبل الشركات الكبرى أو تم حلها. الاحتكارات الرأسمالية الإمبريالية تحكم كما لم يحدث من قبل. إنهم يحكمون الحكومات والقارات. إنهم يتحكمون بشكل أساسي في كل من الأجور والأسعار، والتي يزدادون الآن مع التخلي عنها والتسبب في التضخم.
أصبحت أمولة رأس المال ( financialization )، أو الاستثمار المضارب في سوق الأوراق المالية وليس في الاقتصاد الحقيقي، المعيار الأساسي للنظام الرأسمالي المعولم.
إن استغلال قوة العمل البشرية في مسار الإنتاج هو مصدر رِبْح الرأسماليين، فالإنسان وحده يخلق القيمة الزّائدة، وليست الآلة أو الإبتكار التكنولوجي الذي يُقْصِي العمال الأقل قدرة على التّكَيُّف وعلى المنافسة، بهدف الحفاظ على مُستوى الرّبح أو زيادته، ويبقى العُمّال الأقل كفاءة في أسفل درجات سُلّم الوظيفة، في نفس القطاع أو في قطاعات أخرى. أما النظام الرأسمالي العالمي برمّته فَيَسْعى إلى حل مشاكله وتناقضاته المتأصلة على حساب العمال في كل مكان، فقد أدَّت المنافسة الشرسة على نحو متزايد وأدّى إدخال تقنيات مُتجحدّدة ومتطورة إلى خفض متوسط معدلات أرباح الشركات، كما تحاول الرأسمالية الأَقْوَى (الولايات المتحدة، منذ الحرب العالمية الثانية) حل مشاكلها وتناقضاتها على الصعيد الدولي، من خلال الحروب، وفرض الحظر، والعقوبات الاقتصادية على المنافسين، إلخ - بالإضافة إلى الاستغلال في الدّاخل، والعنصرية والتمييز والتمييز بمختلف مستوياته، وخصخصة التعليم العام والخدمات الصحية والاجتماعية وما إلى ذلك، وتلجأ الرأسمالية الأمريكية إلى تكثيف حملات القمع والإعتقال ضد الفُقراء (خصوصًا من المواطنين السود) لإجبارهم على العمل شبه المجاني داخل السُّجون، بدون أي حقوق، لإنتاج التجهيزات المنزلية والملابس المدنية والعسكرية الخ. لا تعترف الرأسمالية بأي أخلاق أو مبدأ أو جنسية غير الحفاظ على معدل الربح، بغض النظر عن التكلفة في الأرواح البشرية والدمار البيئي.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كان للرأسمالية الأمريكية الامتياز والقدرة على دفع فواتير الدائنين الأجانب بالسندات الأمريكية المربوطة بأسعار فائدة مرتفعة بما يكفي لتثبيط التخلي الفوري عن التمويل الأمريكي، لكن الدول "الناشئة" تهدد بتغيير قواعد النظام الرأسمالي العالمي، وخصوصًا الصين التي أضْحت منافسًا رئيسيًّا في السوق العالمية، مما يُبَرِّرُ ويُحَفِّزُ العداء الأمريكي لها، ومن المتوقع أن يتجاوز الاقتصاد الصيني اقتصاد الولايات المتحدة سنة 2028.
لم يعد الاقتصاد الصيني، منذ عدّة سنوات، يعتمد على الاستثمارات الأمريكية الضخمة، بل باتت البنية التحتية الصناعية والتكنولوجية للصين تنافس أو تتفوق على الولايات المتحدة، وعلى سبيل المثال، يضم مشروع البنية التحتية للحزام والطريق في الصين الآن ثلث التجارة العالمية والناتج المحلي الإجمالي وأكثر من 60% من سكان العالم، ولم تتقبّل الرأسمالية الأمريكية المنافسة، فتدخّل الرُّؤَساء الأمريكيون ( ممثلو الرأسمالية)، من ترامب إلى بايدن ، ليَفْرِضُوا تعريفات عقابية على الواردات الصينية الأكثر قدرة على المنافسة، خصوصًا ضدّ التقنيات الصينية المتقدمة، كشركة الإتصالات "هواوي" والألواح الشّمسية الصينية، وغيرها من السلع التي تعكس الاختراقات العلمية الصينية...
ليست الصين معزولة، رغم العقوبات، فهي جزء من كتلة "بريكس" (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا) التي تريد حصة أكبر من الأسواق العالمية، وتحاول خفض حجم استخدام الدّولار، ما قد يُؤَدِّي، ولو بِبُطْءٍ، إلى إضعاف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان وحلفاء آخرين للولايات المتحدة.
من المحتمل أن يقدم هذا البديل هُدْنَة قصيرة يتم خلالها تخفيف الضّغط على الشعوب المضطَهَدَة، لفترة قصيرة، لكنه بديل لا يبتعد عن المنطق الرأسمالي القائم، بطبيعته، على استغلال الطبقة العاملة واضطهاد الشعوب. إن طموحات سُلُطات الصين وروسيا لا تتجاوز شعار "عالم متعدد الأقطاب"، كبديل لعالم "أحادي القطب" تهيمن عليه الولايات المتحدة، وهذا الطّموح متواضع جدًّا، ولا يتجاوز قوانين الرّأسمالية، وهو شعار بعيد جدا عن تطلعات العمال والشُّعُوب الواقعة تحت الإحتلال والإضطهاد (مثل الشعب الفلسطيني) والشعوب المظلومة، والفُقراء في مختلف البلدان، ولا يُمكن لهذه القوى ( بريكس ) تقديم بديل تقدّمي أو ثَوْرِي، بل وجبَ على العطبقة العاملة والشعوب المُضْطَهَدَة الاعتماد على قواها الذاتية لتحرير نفسها من الاستغلال الرأسمالي والسيطرة الإمبريالية.
لا يكمن الحل في الخيار بين نظام أحادي القطب أو نظام متعدد الأقطاب، بل في القطيعة مع النظام الرأسمالي،ويتَطلَّبُ ذلك بناء حركات اجتماعية وسياسية قوية ومستقلة، للدفاع عن مصالح المستغَلِّين والمضطَهَدِين الذين يشكلون الغالبية العظمى من السكان داخل كل بلد وعلى الصعيد العالمي.
بالنسبة لنا كشعوب عربية، تعدّدت المهام، من تحرير الأراضي المُحتلة، من فلسطين والمشرق إلى المغرب العربي، والتّخَلُّص من الحُكّام العُملاء، مُمثِّلِي البرجوازية الكُمْبْرادُورِية (وكيلة الإستعمار القديم والجديد) وتأميم الثروات التي تنهبها الشركات العابرة للقارات، وإقامة نظام عربي واحد يتسم بالعدالة في توزيع الثروات وبإطلاق الحريات الفردية والجَمْعِيّة، ويفترض إنجاز هذه المهام وغيرها، تحويل الغضب والإنتفاضات "العفوية" ( التِّلْقائِيّة) إلى ثورات مُنَظّمة لها أهداف مُحَدّدة وبرامج وخطط الخ.
وردت معظم الأرقام والبيانات التي تخص الولايات المتحدة والرأسمالية العالمية في تحليل نشرته وكالة بلومبرغ يوم 28 آذار/مارس 2023 + وثيقة بعنوان "مشروع تكاليف الحرب" – جامعة براون ( Brown University’s Costs of War Project )

تداعيات انهيار المصارف حتى يوم 30 آذار/مارس 2023
كانت أعراض الأزمة المصرفية ظاهرة قَبْلَ ما لا يقل عن ستة أشهر من عجز مصرف وادي السيليكون عن مجابهة أزمة السّيُولة التي أطاحت به إثر عمليات السّحب الضخمة، ثم تبعه مصرف كريدي سويس وهو ثاني أكبر مصرف بسويسرا التي تُعتبر مركزًا ماليا موثوقًا وآمنًا، وللمصرف فروع في مناطق عديدة من العالم، ولذلك أحدث اندثاره واستحواذ "اتحاد المصارف السويسرية" (يو بي إس - أكبر مصرف سويسري) عليه بدعم من الحكومة الفيدرالية والمصرف المركزي السويسرييْن اضطرابات في البورصات العالمية حيث انهارت أسعار أسهم المصارف، فضلا عن تبعات أخرى في العديد من مناطق العالم، وعلى سبيل المثال يمتلك المصرف الأهلي السعودي وصندوق قَطَر للإستثمار ومجموعة العليان القابضة 20% من أسْهُم مصرف كريدي سويس، وأدّت عملية استحواذ يو بي إس على كريدي سويس إلى خسارة المصرف السعودي 1,2 مليار دولارا، ولم تستشر الحكومة السويسرية الشُّرَكاء العرب الذي يمتلكون خُمُسَ أسهم المصرف، قبل تنفيذ صفقة الاندماج، بل اكتفت بحماية مصالح منظومتها المَصْرِفية، عبر استخدام 7% من إجمالي الناتج المحلي لسويسرا لإنقاذ مصرف كريدي سويس، وفق الرئيس البرازيلي...
كان للمصرف السويسري فروع في الولايات المتحدة وأدّت الأزمة إلى ارتفاع خسائره هناك إلى أكثر من خمسة مليارات دولارا، وإلى احتمال تسريح خمسة آلاف موظف بالولايات المتحدة وبريطانيا. أما في المراكز المالية بمنطقة آسيا والمحيط الهادي، وأهمها سنغافورة وهونغ كونغ فإن مصرف "يو بي إس" – المالك الجديد لمصرف كريدي سويس – يحرص على طمأنة المصارف المتعاملة معه، باعتبار المنطقة حيوية، حيث يُوظّف مصرف كريدي سويس 3500 موظف في سنغافورة، التي يتواجد بها مصرف يو بي إس منذ ما لا يقل عن خمسة عقود، تمكّن خلالها من إنشاء مركز لإدارة الثروات المتنامية بمنطقة آسيا...
في أوروبا، يعتبر مركز فرانكفورت المالي ( حي المصارف) منافسا قويا لمراكز لندن أو نيويورك، ولذلك يعتزم مصرف "يو بي إس" استغلال عملية الإستحواذ لتعزيز مركزه بألمانيا واستغلال مشاكل مصارف "دويتشه بنك" و مصرف كوميرتز لزيادة حصته من إدارة الأُصُول والثروات الأوروبية، رغم بعض التّأثيرات السّلبية للأزمة السويسرية على بعض مصارف فرنسا وإيطاليا والبرتغال، ورغم اتهام بعض الحكومات الأوروبية لمصارف سويسرا بمساعدة الأثرياء على التهرب الضريبي وتهريب الأموال إلى سويسرا التي أجبرتها الولايات المتحدة وأوروبا على إلغاء السرية المصرفية، منذ سنة 2009، لكن النظام المصرفي السويسري تمكّن من الإلتفاف على هذه القرارات بتغيير طُرُق عمله...
في عصر الرأسمالية النيوليبرالية المُعَوْلَمَة، امتدّت تداعيات انهيار مصرف كريدي سويس إلى روسيا، رغم الحظر المالي و"العقوبات"، وإلى الصين (حيث يوظف فرع المصر أَلْفَيْ موظف) واليابان، وكذلك في أمريكا الجنوبية: المكسيك وبيرو وتشيلي وكولومبيا وفنزويلا والبرازيل، حيث يمتلك مصرفا يو بي إس و كريدي سويس حوالي عشرة مليارات دولارا من الأصول في البرازيل لوحدها، وحيث يتم تقديم خدمات الاستثمارات المصرفية وإدارة الثروات لنخبة من الزبائن، ومنها مساعدة هؤلاء الأثرياء على تهريب أموالهم إلى الملاذات الضريبية.
عمدت الهيئة السويسرية للرقابة المالية إلى شطب قرابة عشرين مليار دولارا من سندات الديون المستدامة الإضافية لمصرف كريدي سويس، ما يُبيّن الأهمية التي توليها السلطات السويسرية لحل هذه القضية بسرعة، ولو على حساب أُجَراء سويسرا (دافعي الضرائب) والأثرياء الأجانب من أصحاب الأسهم، الأمر الذي أثار غضب المستثمرين ( منهم السعوديون) الذين قد يلجؤون إلى تقديم شكاوى قانونية...
أظهرت السلطات السياسية في معظم بلدان العالم إنها في خدمة الأثرياء الذين استفادوا (لوحدهم) من المال العام خلال أزمات 2008/2009 وأزمة كوفيد والأزمة المالية الحالية، وعلى سبيل المثال، ضخت الحكومة الأمريكية المال العام لإنقاذ مصرف سيلكون فاللي، بينما حصل المدير التنفيذي خلال سنة 2021 ( لم أعثر على بيانات سنة 2022) على أجر يقارب عشرة ملايين دولارا، فضلا عن الحوافز والمِنَح غير المُعْلَنَة، أو ما يُعادل 684 ضعف الأجر السنوي لعامل بالأجر الأدنى...
ترفض الحكومات ونواب برلمانات معظم بلدان العالم ضخ المال العام لتنفيذ برامج رعاية صحية لصالح الجميع أو تعليم مجاني أو مساكن لائقة بإيجارات منخفضة أو نقل عمومي، وغير ذلك، ولكن هذه السلطات السياسية تُوزّع المال العام، دون استشارة أحد لزيادة ثروات الأثرياء الذين يدّعون رفْضَ تدخّل الدّولة في آلِيّات عمل الأسواق !!!
أظهرت هذه الأزمة المصرفية أن الدّولة في خدمة الأثرياء الذي يطالبون بإلغاء الضوابط والضرائب والرسوم الجمركية، وإقرار الليبرالية المُفْرِطَة، لكنهم أول المُستفيدين من المال العام الذي يجمعه جهاز الدّولة من الأُجَراء والكادحين، حيث تُشكل الضرائب المباشرة وغير المباشرة نسبة لا تقل عن 80% من إيرادات الدّولة في معظم الدّول الرأسمالية المتقدّمة، ولا تصل مساهمة الأثرياء إلى 20% من إيرادات الضرائب، رغم استحواذ نسبة 10% من الأثرياء على أكثر من نصف ثروات العالم...