رُوزنامةُ الأسبوع دَبُّوسُ الأَمَانْ! SAFETIPIN


كمال الجزولي
2023 / 4 / 11 - 08:19     

الاثنين
ما زال يتمايح صدى رفض الجَّامعة العربيَّة، في مثل هذه الأيَّام من مارس 2018م، طلب دولة جنوب السُّودان الانضمام لعضويَّتها، دون إبداء أسباب! غير أن بعض التَّقارير كشفت عمَّا يمكن أن يشكِّل حُجج هذا الرَّفض. فالدَّولة الحديثة التي استقلت في 9 يوليو2011م، ليست مستوفية لشروط هذه العضويَّة، كون لغتها الرَّسميَّة ليست العربيَّة، ومن ثمَّ فهي ليست مشمولة بالإطار الثَّقافي العربي.
صدر هذا القرار، للأسف، بالمخالفة لتقديرات حكيمة، كالتي عبَّر عنها السَّفير رخا أحمد حسن، عضو المجلس المصري للشُّؤون الخارجيَّة، الذي تفاءل بقبول الطلب، استناداً إلى أن الإقليم كان، إلى ما قبل "انفصاله"، جزءاً من دولة عضو بالجَّامعة. كما اسـتند كلاً من علي عبد الصَّمد، المتخصِّص في العلاقات الدَّوليَّة، وعبد اللطيف المناوي، المتخصِّص في مناطق الحروب والنِّزاعات الدَّوليَّة، إلى ما كان أحمد أبو الغيط، الأمين العام للجَّامعة، قد أعلن بالخرطوم، في يوليو 2016م، مستبقاً طلب دولة الجَّنوب نفسه، وقتها، بقوله إنه، رغم عدم سماح الميثاق بمنحها العضويَّة الكاملة، كون لغتها الرَّسميَّة ليست العربيَّة، إلا أنه تعهَّد، مع ذلك، بالسَّعي لإقناع الأعضاء المؤثِّرين بالتَّعاطي مع الطلب، عند تقديمه، بحنكة تبيح منح هذه الدَّولة، على الأقلِّ، صفة "المراقب الخاص"، لسابق كونها جزءاً من السُّودان، ولكون العربيَّة سائدة فيها كلغة تخاطب lingua franca بين مجموعاتها الاثنيَّة المختلفة.
ومع اتِّفاقنا مع أسف المناوي على كون الجَّامعة أضاعت فرصة ضمِّ الجَّنوب إلى الصَّفِّ العربي، رغم أن ميزان المكسب والخسارة كان، لدى تقدير الموقف، أوضح من أن يحتاج لفانوس ديوجينس لإضاءته، لا بُدَّ لنا من لفت الأنظار معه، أيضاً، إلى أن قيمة مبادرة أبو الغيط كان ينبغي أخذها في الاعتبار، من زاوية جرأتها، وقيامها، نوعيَّاً، على سنخ تفكير خارج الصُّندوق من شأنه، لو قيِّض له أن يسود، تحقيق اختراق كبير فى العمل العربى المشترك الذى يعاني الجُّمود إزاء تحدِّيات الوجود الإسرائيلي، ومخاطره على العلاقات العربيَّة/الأفريقيَّة. وإلى ذلك تفاءل، من جهته، عبد الصَّمد، بأنْ تتراجع الدُّول المؤثِّرة عن تشدُّدها حيال شرط اللغة، فتتعامل مع الطلب الجَّنوبي على غرار سابق تعاملها مع طلبي الصُّومال وجيبوتي، حيث كان من الممكن أن يميل الموقف، في حالتيهما، إلى رفض عضويَّتيهما، لنفس حاجز اللغة، لولا تغليب مرونة قد تبرز، الآن أيضاً، فتُمَكِّن دولة الجَّنوب من أن تكون العضو الثَّالث والعشرين في الجَّامعة، فتضفي البُعد العربي على بعدها الأفريقي، في مستوى السِّياسة الخارجيَّة، خصوصاً وأنها تعتزم، حسب ما أعلنت، إدراج تدريس العربيَّة ضمن مناهج التَّعليم العام، تعزيزاً لـ "عربي جوبا" الذي يشيع كلغة تخاطب بين مختلف إثنيَّات الدَّولة، بل حتَّى في أجهزة إعلامها الرَّسميَّة، على غرار "عربي أم درمان"، في الشَّمال، ما يجعل لجوبا المزيَّة على الصُّومال وجيبوتي. أمَّا الإنجليزيَّة، فما تزال قاصرة على أقليَّات نخب الجَّنوب، بينما هي ليست لغة أفريقيَّة بأيِّ معنى، في الوقت الذي تواصل فيه العربيَّة الفصحى ازدهارها في حقل الثَّقافة، لدى الأجيال الجَّنوبيَّة الجَّديدة بالذَّات، حيث ما تنفكُّ تصدر، مؤخَّراً، مختلف الرِّوايات، والمجموعات القصصيَّة، والشِّعريَّة، والمقاربات النَّقديَّة، بأقلام كتَّاب جنوبيين شباب، فضلاً عن طلاقة العربيَّة في التَّعبير عن مختلف الآراء والأفكار العامَّة. لذا، إن كان ثمَّة مستقبل "دستوري" ينتظر هذه اللغة، فسيتحقَّق، يقيناً، بدفع من حركة المثاقفة الطبيعيَّة مع الوسط الفكري، والثقافي، والسِّياسي العربي، وخصوصاً الشَّمالسُّوداني.
ولئن أثَّر "الانفصال" على قوَّة هذا الدَّفع، فالمأمول أن تعوِّض عن ذلك شبكة علاقات جنوبسودانيَّة/عربيَّة أوسع، من سنخ ما سعت جوبا، بنفسها، للبحث عنه، بطَرْقها باب الجَّامعة العربيَّة، لولا قرار الرَّفض غير الموفَّق الذي أصدرته الأخيرة، للأسف. ولم تراجعه، حتَّى الآن، رغم تصرُّم خمس سنوات حسوما!

الثُّلاثاء
رغم تفهُّمي التَّام، وتثميني العالي لدوافع ولاء البوشي، وزيرة الشَّباب والرِّياضة السَّابقة، مِن وراء إدانتها للألفاظ العنصريَّة، والعبارات النَّابية التي وجَّهها بعض جمهور النَّادي الأهلي المصري بالقاهرة للاعبي فريق الهلال السُّوداني، وللسُّودانيِّين، عموماً، خلال مباراة الفريقين في دوري أبطال أفريقيا، ومطالبتها الدَّولة السُّودانيَّة باتِّخاذ إجراءات رسميَّة إزاءها، إلا أنَّني أهمس في أذنها بأن الأوقع، كان، أن تغضب، ابتداءً، وتشجب، وهي، بعدُ، في كرسي الوزارة، وتطالب باتِّخاذ إجراءات أكثر صرامة إزاء من ادَّعى أنه رأس الدَّولة السُّودانيَّة، ثمَّ ذهب، بهذه الصِّفة المنتحلة، إلى مصر، فلم يتوان في أداء التَّحيَّة العسكريَّة لرئيس جمهوريَّتها، في فضيحة بجلاجل، وسط سخريَّة كلِّ مَن يحبُّ ويحترم السُّودان والسُّودانيِّين مِن الأشقَّاء المصريِّين، حقيقة لا نفاقاً!

الأربعاء
لو صحَّت المعلومات التي تداولتها الصَّحافة وأجهزة الاعلام، خلال الأسبوع الماضي، فإنَّنا، إذن، شعباً ووطناً، نواجه، بلا شك، خطراً غير مسبوق!
لقد ورد، ضمن تلك المعلومات، أن الخلافات تضرب علاقات الجَّيش والدَّعم السَّريع، في ما يتَّصل بملفِّ الدَّمج والاصلاح الأمني والعسكري. وقد كنَّا اعتقدنا، للوهلة الأولى، من باب "تكذيب الشِّينة"، أن انسحاب مندوبي الجَّيش من الجَّلسة الختاميَّة للورشة التي خصِّصت لهذا الملف، نهاية مارس المنصرم، محض واقعة طارئة سيتمُّ تجاوزها بسلاسة، خاصَّة مع التَّفاسير القائمة على "الطَّمأنة" و"التَّقليل" من الآثار، والتي خفَّ بها متحدِّثو الحرِّيَّة والتَّغيير، قائلين إن كلَّ ما كان الجَّيش يرغب فيه هو "أن تكتمل التَّوصيات في جميع الأوراق"!
لكن سرعان ما تكشَّفت الحقيقة المفزعة، على الضِّدِّ من "الشَّفافيَّة" التي تزعم قيادة "العمليَّة السِّياسيَّة" تحلِّيها بها، عن أن اللجنة الفنِّيَّة المشتركة بين الطَّرفين كانت اقترحت هيئة قبادة من 4 من الجَّيش، و2 من الدَّعم السَّريع، على حين تمحورت نقطة الخلاف الجَّوهريَّة حول تمسُّك الجَّيش برئاسة الهيئة لدى قائده العام، رئيس مجلس الأمن والدِّفاع، الفريق ركن عبد الفتَّاح البرهان، بينما استعصم الدَّعم السَّريع بمطالبته بأيلولة هذه الرِّئاسة إلى عنصر سابع من رأس الدَّولة المدني القادم! أمَّا الأكثر إفزاعاً فهو أن الدَّعم السَّريع، بقيادة حميدتي، نائب البرهان، ما لبث أن أعاد تموضعه، ناشراً 60 ألف فرد، على الأقل، في الخرطوم! وكشفت المصادر عن أن الخلاف تفجَّر، أصلاً، منذ التَّوقيع على ما يُعرف بـ "دستور تسييريَّة المحامين" الذي لم تسمع به هذه التَّسييريَّة حتَّى نُشر خبره في الصًّحف، حين رأى الجَّيش أن يتمَّ الدَّمج والاصلاح خلال ستَّة أشهر، بينما رأى الدَّعم السَّريع أن يتمَّ خلال 22 سنة (!) ورأت بعض القوى المدنيّّة أن يتمَّ خلال10 سنوات! أمَّا المجتمع الدَّولي فرأى أن يتمَّ خلال 54 شهراً!

الخميس
في تقرير لـ "بي بي سي" من الهند أن معظم النِّساء، هناك، لديهنَّ قصصاً مع ظاهرة التَّحرش الجِّنسي، حتى في الأماكن العامَّة المزدحمة، سواءً باللمس الجَّسدي أو بالألفاظ! على أن هاتيك النساء لا يقفن مكتوفات الأيدي، بل يستخدمن كلَّ وسيلة متاحة للدِّفاع عن أنفسهنَّ. فطالبات الجَّامعات، على سبيل المثال، يستخدمن المظلات لمقاومة الظَّاهرة، أثناء تنقلهنَّ بالمواصلات العامَّة المزدحمة، وتحتفظ الكثيرات بأظافر طويلة حادة لخدش أيدي المتحرشين، كما تستخدم بعضهنَّ كعوب الأحذية المدبَّبة للتَّعامل مع مَن يضغطون أعضائهم الخاصَّة بهنَّ وسط الزِّحام!غير أن البعض الآخر يستخدم أداة مبتكرة، وأكثر فاعلية في هذه الأماكن .. دبُّوس الأمان!
فمنذ اختراعه عام 1849م، استخدمت النِّساء هذا الدُّبوس، إمَّا لتثبيت أجزاء من الملابس معاًً، أو للتَّعامل، أحياناً، مع خلل مفاجئ في خزانات ملابسهنَّ، مثلما أصبحن يستخدمنه أداة لسحب دماء المتحرِّشين! وقبل بضعة أشهر، كشفت كثير من الهنديَّات، على منصَّة تويتر، أن وجود الدَّبوس الصغير هذا في حقائبهنَّ يمثِّل سلاحاً مفضَّلاً لمحاربة المتحرّشين في الأماكن المزدحمة.
كتبت ديبيكا شيرجيل، مثلاً، عن حادثة تحرُّش اضطرَّت فيها لاستخدام الدَّبُّوس! قالت: "حدث ذلك في حافلة اعتدت أن أستقلُّها بانتظام إلى عملي. كنت في العشرين، وكان المتحرّش في أواسط الأربعينات، وكان يرتدي دائماً بدلة سفاري رماديَّة، وصندل مفتوح الأصابع، ويحمل حقيبة جلديَّة مستطيلة. كان يتعمَّد الوقوف بجواري، ولمس جسدي بأيِّ عضو من جسده، والميل علىَّ في كل مرَّة يضغط فيها السَّائق على المكابح! كنت خجولة للغاية، ولذا لم أرغب في لفت الانتباه، فلزمت الصَّمت على المعاناة لشهور. ولكن، ذات أمسية، عندما بدأ يستمني وينزل على كتفي، شعرت بأشدِّ حالات القرف. وعند وصولي إلى المنزل استحممت لفترة طويلة جداًً. وقررت أن ذلك ينبغي أن ينتهي، لكنني لم أخبر حتَّى والدتي. في تلك الليلة لم أستطع النوم، وفكرت حتَّى في ترك وظيفتي، لكن بعد ذلك بدأت أفكر في الانتقام، بأن ألحق به أذى جسديَّاً يردعه نهائيَّاً. في اليوم التالي، استبدلت حذائي المسطَّح بحذاء ذي كعب عالي، وركبت الحافلة وأنا مسلَّحة بدبوس أمان. وبمجرد أن جاء ووقف بجواري، نهضت، وسحقت أصابع قدميه بكعبي. سمعته يتأوَّه، فشعرت بفرحة كبيرة. ثم خدشت يده بالدَّبوس، وخرجت مسرعة من الحافلة"!
وختمت ديبيكا قصَّتها قائلة: "على الرُّغم من أنني واصلت ركوب تلك الحافلة لعام كامل بعد ذلك، إلا أن تلك كانت آخر مرة أرأه فيها"!
قصة صادمة، ولكنها ليست نادرة. فقد روت سيِّدة أخرى، في الثَّلاثينات، أنَّها، عندما ثابر رجل على محاولة لمسها في حافلة ليليَّة بين مدينتي كوشين وبنغالور الجنوبيَّة، لم تبد اهتماماً في البداية، حيث ظنَّت الأمر عرضيَّاًً. لكنها استدركت قائلة: "عندما واصل محاولاته، أدركتُ أن ذلك كان تحرُّشاً متعمَّداً، فلجأت لدبوس الأمان الذي أستخدمه لتثبيت وشاحي، فأنقذ الموقف! وخزته فانسحب. ثمَّ عاد يثابر، فظللت أكرِّر وخزه مراراً بالدبّوس، فتراجع، أخيراً، وانسحب نهائيَّاً. شعرت بسعادة لأنني كنت أمتلك دبوس الأمان، لكنني ندمت لأنني لم أستدر وأصفعه"! وتضيف: "لكن عندما كنت أصغر سنَّاً، كنت قلقة من أن النَّاس لن يدعموني إذا لفتُّ انتباههم"!
يقول النشطاء إن خوف العار هذا الذي تشعر به معظم النِّساء هو الذي يشجّع المتحرشين! ووفقاً لمسح أجري عبر الإنترنت، في 140 مدينة هنديَّة، عام 2021م، قالت 56٪ من النساء إنهن تعرَّضن للتَّحرش الجِّنسي في المواصلات العامَّة، لكن 2٪ فقط أبلغن عن الأمر. أمَّا الغالبيَّة فقلن إنهنَّ اتخذنً إجراءات بأنفسهنَّ، أو تجاهلن الأمر، وابتعدن تفادياً للفضيحة!
وبحسب المسح، فإن أكثر من 52٪ قلن إنهنَّ رفضن التعلُّم والعمل بسبب "الشُّعور بعدم الأمان"!
تقول كالبانا فيسواناث التي شاركت في تأسيس منظَّمة اجتماعيَّة باسم "دبوّس الأمان ــ Safetipin"، تهدف لجعل الأماكن العامَّة آمنة للنِّساء: "الخوف من العنف الجِّنسي يؤثِّر على نفسيَّة المرأة، أكثر من العنف الفعلي"! وتضيف: "تبدأ النِّساء بفرض قيود على أنفسهنَّ، وهذا يحرمهنَّ من المواطنة المتساوية مع الرِّجال"! وتنبِّه إلى أن هذه المشكلة عالمية، حيث أظهر استطلاع أجرته مؤسَّسة تومسون رويترز على 1000 امرأة، بين لندن ونيويورك ومكسيكو سيتي وطوكيو والقاهرة، أن "شبكات النقل، ساعة الذَّروة في المواصلات والأماكن العامَّة، تمثِّل مغناطيساً للمتحرِّشين الجِّنسيِّين، يستغلونها لإخفاء تحرّشهم، ولاستخدامها ذريعةً إذا تمَّ القبض عليهم"! وأضافت أن النِّساء في أمريكا اللاتينيَّة وأفريقيا أخبرنها بأنهنَّ يحملن دبابيس الأمان أيضاً. وذكرت مجلة سميثسونيان أن النِّساء في الولايات المتَّحدة استخدمن حتَّى دبابيس القبُّعة، في القرن العشرين، لإبعاد الرِّجال المتحرِّشين!
لكن ، برغم تصدُّرها العديد من الاستطلاعات العالميَّة حول حجم المضايقات العامَّة، لا يبدو أن الهند تعترف بها كمشكلة كبيرة! وتُرجع فيسواناث هذا جزئيَّاًً إلى أن التَّقارير السَّيِّئة لا تعكسه في إحصاءات الجَّريمة، كما أن السِّينما الشعبوية تعلمنا أن التَّحرُّش محض وسيلة لجذب النِّساء!
مع ذلك تحسَّنت الأمور، حسب فيسواناث، في العديد من المدن خلال السَّنوات القليلة الماضية. ففي دلهي انتشرت أزرار الذُّعر، وكاميرات الدَّوائر التِّلفزيونيَّة المغلقة في المواصلات العامَّة، ونظِّمت الدَّورات التَّدريبيَّة لتوعية السَّائقين، كما تمَّ نُشر الحرَّاس في الحافلات. وأطلقت الشُّرطة تطبيقات وأرقام خطوط لمساعدة النِّساء في طلب المساعدة. غير أن فيسواناث تستدرك بأن المشكلة ليست دائماً في ضبط الأمن: "أعتقد أن الحل الأكثر أهمِّيَّة هو أن نتحدَّث أكثر، يجب أن تكون هناك حملة إعلاميَّة منسَّقة للتَّعمُّق في معرفة السُّلوكيَّات المقبولة وغير المقبولة".
ولكن يبدو أنه، إلى ذلك الحين، سيتعيَّن على ملايين النِّساء الاحتفاظ بدبابيس الأمان في متناول أيديهنَّ!

الجُّمعة
في14 و15 أغسطس 1947م احتفلت دولتا باكستان والهند، المنبثقتان من انقسام شبه القارة الهنديَّة، باستقلالهما عن بريطانيا، ثمَّ سرعان ما انسحبت الأخيرة من الأراضي الهنديَّة التي لطالما كانت تعتبرها درَّة تاجها الإمبراطوري، مخلِّفة وراءها، فضلاً عن الهند العلمانيَّة بأغلبيَّتها الهندوسيَّة، وباكستان الإسلاميَّة، واقعاً جيوبوليتيكيَّاً شديد التَّعقيد، يشمل مقاطعتي البنغال والبنجاب، على أساس أغلبيَّتيهما الحاكمتين، المسلمة وغير المسلمة. بينما انشقت بنغلاديش الشَّعبيَّة، لاحقًا، عن باكستان، وبقيت بعض الأراضي تابعة للإدارة الصِّينيَّة.
توالت، بعد ذلك، شتَّى الهجرات من تلك الجُّغرافيات الواسعة الشَّاسعة إلى مهاجر عديدة، على رأسها، بطبيعة الحال، دولة المتروبول السَّابقة، بريطانيا، حيث امتلك المهاجرون، إضافة لالتحاقهم بالوظائف الرَّسميَّة، العقارات، والمطاعم، ومراكز الخدمات، وعربات الأجرة، ومتاجر الملبوسات، وجزارات الذَّبح الحلال، والكثير غيرها من أعمال البزنس. أمر واحد لم يكن ليخطر ببال أحد، في ذلك التَّاريخ البعيد، وهو ألا يكتفون، فقط، بالاندغام في دولة المتروبول السَّابقة، حدَّ التَّأثير على سياساتها، وإنَّما يتجاوزون ذلك إلى حدِّ قيادة حكومتها نفسها!
مهما يكن من شئ، فإن ما لم يكن من الممكن لأحد أن يتوقَّعه، قد وقع بالفعل، فإذا بسليلي أسرتين كانتا مشمولتين بتلك الهجرات، يتسنَّم أحدهما، وهو الهندي ريتشي سوناك، رئاسة الوزارة في وستمنستر، بينما يتسنَّم الآخر، وهو الباكستاني حمزة يوسـف، رئاسـة الحكومة الاسكتلنديَّة! ولكي تكتمل شطحة الخيال الجِّيوبوليتيكيَّ اللامعقولة، يقفز، من فوق أكثر من سبعين سنة، صراع "غاندي ـــ جناح" القديم بين "وحدة" و"انقسام" شبه القارَّة، ليتمثَّل، الآن، في استفتاء ثانٍ تطالب به أدنبرا، خلف قيادة الباكستاني حمزة، على الاستقلال عن بريطانيا التي ترفضه خلف قيادة الهندي سوناك!
الاستفتاء الأوَّل كان قد تمخَّض، عام 2014م، عن تصويت 55% لصالح عدم الاستقلال، مقابل 45%. أمَّا الاستفتاء الثَّاني فقد قرَّرته، ابتداءً، نيكـولا سـتيرجـن، سـلف حمــزة، أواخــر العــام الماضــي (2022م)، على أن يجري في 19 أكتوبر القادم، لولا أن المحكمة العليا في بريطانيا قضت، في 23 نوفمبر الماضي، بأن ليس ثمَّة حق للحكومة الاسكتلنديَّة في إجراء هذا الاستفتاء دون موافقة مسبقة من الحكومة البريطانيَّة! لكن حجَّة ستيرجن التي يتَّبعها، حاليَّاً، خلفها حمزة، تتركَّز في أن ثمَّة متغيِّر سياسي لا يمكن إغفاله، وهو "البريكست" الذي أخرج بريطانيا من الاتِّحاد الأوربِّي، رغم تصويت اسكتلندا ضدَّه!فالمعركة، إذن، ما تزال مستمرَّة وإن خرجت منها ستيرجن، باستقالتها المفاجئة، ليحلَّ حمزة محلها!
عموماً يبدو أن مستقبل بريطانيا "العظمى" أضحى، الآن، بين أيدي مهاجرين من بلدان استعمرتها، هي نفسها، في السَّابق، يوم كانت "إمبراطوريَّة لا تغرب عنها الشَّمس"!

السَّبت
الواثق البرير، متحدِّث "الحرِّيَّة والتَّغيير"، مطاَلب، هو الآخر، من باب اللياقة السِّياسيَّة، بتقديم اعتذار مستحَقِّ للشَّعب، عن "إعطائه الدلُّوكة عصا"، بإصراره على التَّصريح الجَّازم، حتَّى اللحظة الأخيرة في 31 مارس 2023م، قبل ساعات قلائل من صباح السَّبت 1 أبريل، الموعد المعلن للتَّوقيع على الاتِّفاق النِّهائي، قائلاً بملء فمه "لا شئ سيعوق إتمام التَّوقيع في ميقاته المحدَّد"!
لكن خلافات الجنرالات، في كلٍّ من الجَّيش والدَّعم السَّريع، كذَّبت البرير، وأعاقت، عمليَّاً، إتمام التَّوقيع في ميقاته. فلم يكن ثمَّة مناص من تأجيله إلى السَّادس من أبريل، بل وربَّما إلى ما بعد ذلك، لقول خالد عمر، متحدِّث "العمليَّة السِّياسيَّة" الرَّسمي، إن توقيع الاتِّفاق النِّهائي مرهون بالانتهاء من القضايا الخلافيَّة "سواء في السَّادس من أبريل أو بعده" (وكالات).
رأيُنا، كان، منذ الوهلة الأولى، ألا معنى لتقديس المواقيت، فوقوع المستجدَّات المفاجئة متوقَّعٌ، تماماً، في العمل العام، لولا أن قادة "العمليَّة السِّياسيَّة"، في ما يبدو، تورَّطوا في الانبهار برموزيَّة الأوَّل، والسَّادس، والحادي عشر من أبريل، فيبَّسوا خيارهم السِّياسي، ووقعوا، من ثمَّ، في محظور مطل الوعود!
ولأن ثمَّة، في الغالب، جانب كوميدي، ضمن كلِّ واقعة من وقائع حياتنا السِّياسيَّة، فإن اعتذار البرير مستحقٌّ، ليس فقط للشَّعب، وإنَّما، كذلك، لمحمَّد الأمين ترك، رئيس مجلس نظارات البجا والعموديَّات المستقلَّة؛ فقد صدَّق الرَّجل إشاعة التَّوقيع في موعده المعلن، فتعجَّل الاعلان، بدوره، كزعيم فريق من الفلول، عن إغلاق "الشَّرق"، إغلاقاً كاملاً، بالسَّبت 1 أبريل، لمدَّة يوم واحد، احتجاجاً على .. توقيع الاتِّفاق النِّهائي!

الأحد
للعرب حكايات ليست، بالضَّرورة، حقيقيَّة، لكن المُراد منها، في النِّهاية، الإيعاز بحكمة ما. فقد قيل، مثلاً، إن عنترة بن شدَّادٍ هرب أمام ثور هائج، فواجهه القوم بالسؤال المحرج:
ــــ "أين شجاعتك؟! أتخاف من ثور وأنت عنترة"؟!
فأجابهم قائلاً:
ــــ "وما أدرى الثَّور أنِّي عنترة"؟!
الدَّرس المراد تعلُّمه هنا: لا تبرز عضلاتك الفكريَّة أمام جاهل فيهزمك بجهله!

***