عَنْ -قرآن المؤرخين-


محمد الهلالي
2023 / 4 / 9 - 08:59     

ما معنى أن يتحدث ثمانية وعشرون باحثا وباحثة في 3408 صفحة عن "قرآن المؤرخين"؟ ما الذي يميز هذا القرآن عن قرآن المسلمين؟ ما الذي يبرر اهتمام الغربيين، باحثين وسياسيين، منذ القرن التاسع عشر بالقرآن وبشخصية النبي محمد بن عبد الله وبالأصل اليهودي والمسيحي للقرآن؟ هل يمكن للبحث العلمي المسلح بالمنهج التاريخي والفيلولوجي المعتمد على دراسة النصوص والمخطوطات والبرديات والنقائِش أن يخفيَ أنَّ القرآن هو أساس هوية المسلم وحضارته؟
هل يمكن الحديث عن القرآن ضمن تاريخ محدد وإخضاعه لزمن معين دون جعله نتاجا وتركيبا أنجز في ذلك الزمن التاريخي بالتحديد؟ هل هناك حاجة لقرآن المؤرخين لينضاف إلى قرآن المفسرين والمؤولين واللسانيين والمتخصصين المحدثين في دراسة الإسلام وقرآن القرآنيين الذين ينطلقون من القرآن وحده ويكتفون به لفهمه بناء على أنه كتاب مُبين؟
إن أبحاث المؤرخين حول القرآن هي بكل تأكيد أكثر أهمية ونفعا من مجموع ما يقدمه المنتسبون للإلحاد الساذج الهاوي، وللإلحاد السياسي الموجه عن بعد. وقد تكون أكثر غنى مما قدمه المنتسبون للفلسفة المادية في بلاد المسلمين التي توجز القضايا الميتافيزيقية في مجرد أوهام إيديولوجية.
لاحظ "فرانسيس بيترس" أن القرآن نص بدون "سياق"، أي أنه ليس مؤَلَّفا مغلقا وإنما هو "متن قرآني". لذلك فقراءته شاقة وصعبة. فهو لا يتضمن أي تحديد تاريخي، ولا يحتوي إلا عدد قليل من المعلومات التي تساعد على وضعه في سياق محدد سواء تعلق الأمر بالأماكن أو بالأحداث التاريخية.
انطلق الكتاب من ضرورة اعتماد المنهج التاريخي النقدي، ودراسة القرآن باعتباره نصا ينتمي للمرحلة "التاريخية القديمة المتأخرة".
وحسب هذا المنهج سيتم البحث عن كل المؤشرات في السور القرآنية وفي الدراسات التي أنجزت حول القرآن لتحديد سياق تاريخي ممكن للمتن القرآني. وعلى سبيل المثال أوضح "كريستيان جوليان روبان"، في مساهمته ضمن هذا الكتاب، تواجد عدة لغات في الجزيرة العربية مثل اللغة السبئية والقتبانية والحضرمية والحميرية... كما لاحظ التفاعل والتداخل والتأثير والتأثر بين هذه اللغات واللغة العربية. ويقدم أمثلة توضح انتقال دوال من تلك اللغات إلى اللغة العربية منذ القرن الثالث بعد الميلاد. ويضيف ان ما حدث في عملية النقل هذه هو تحيين مجموعة من الكلمات الواردة إلى اللغة العربية في إطار سياق جديد: فنفس الدال يتخذ مدلولا جديدا في اللغة العربية، وهذه الملاحظة تضيء إشكالا قديما هو "عربية القرآن". فالدال حسب هذا الباحث لا يتطور في شكله المكتوب خطيا وإنما يتغير مدلوله. لذلك لا معنى لمن يجهد نفسه لإثبات معاني سريانية أو غيرها لكلمات صارت "عربية" وقد انتقلت إلى اللغة العربية قبل ظهور الإسلام بقرون.
كما اعتمد "فردريك أمبرت" على كتابات جدارية قديمة لاستخلاص أن عمر بن الخطاب توفي سنة 24 هجرية (644 م)، وأن اللغة العربية صارت لغة الدولة منذ سنة 72 هجرية (692 م). وأشار إلى أن أقدم إشارة مكتوبة تحيل على الرسول محمد بن عبد الله تعود لسنة 66 هجرية (685 م) تمثلت في نقش اسمه على عُملة نقدية عربية ساسانية.
وتوصل "مانفريد كروب" إلى أن اللغة الإثيوبية استعملت كوسيط بين العبرية واليونانية والآرامية من جهة واللغة العربية من جهة أخرى، ويذكر عدة كلمات تدل على هذا التفاعل مثل: شيطان، إنجيل، جهنم، منافق، وفطرة.
تضمن الكتاب نقدا صريحا لأعمال "تيودور نولدكه" حول القرآن وأعمال "أنجليكا نوفرت" التي سارت على دربه. وفكك غيوم داي ما أسماه "براديغم نولدكه". واعتمادا على منهج متعدد التخصصات يستمد مقوماته من التاريخ والفيلولوجيا، اقترح غيوم داي تصنيفا لآيات القرآن إلى عدة أجناس: جنس الدعاء (مثل الفاتحة)، جنس القصص، جنس اللعن (ويل لكم...)، وجنس رابع تتمحور آياته حول العديد من المواضيع مثل وحدانية الله، الآخرة والقيامة، النبوة...).
يُعتبر القرآن، حسب "محمد علي أمير مويزي"، أساسَ فكر المسلمين وفنهم وعلومهم وحضارتهم، ويظل كمتنٍ، مستقل عما كتب عنه، وثيقة مُلْغَزَة. يعود تاريخ الدراسات النقدية للقرآن إلى القرن التاسع عشر. وقد تمت دراسة القرآن في هذا الكتاب "كوثيقة تاريخية أدبية لسانية ودينية" تنتمي للقرن السابع الميلادي دون الاعتماد بالأساس على المصادر الإسلامية والاعتماد بالأخص على أبحاث تاريخية وفيلولوجية غير إسلامية لا تنتمي لمجال العقيدة الدينية.
تم في السابق تبني موقفين منهجيين من دراسة القرآن: يرى الموقف الأول أن الوصول لحقيقة التاريخية في هذا المجال يقتضي رفض كل ما لا يوجد سبب معقول لقبوله في المصادر الإسلامية (موقف نقدي متطرف). أما الموقف الثاني فيرى أنه يجب اعتبار المراجع الإسلامية صحيحة ما لم تتوفر أسباب وجيهة لرفضها (موقف نقدي).
انكب العديد من الباحثين منذ القرن التاسع عشر (أبراهام جيجير، غوستاف فايل...) على إبراز صلة القرآن والحديث بالنصوص الدينية اليهودية والمسيحية، وهو أمر لم ينكره القرآن وإنما أكده مرارا وتكرارا.
ولقد عزّز باحثون آخرون في بداية القرن العشرين هذا الموقف (وليم سان كلير تسدال، هارتويغ هيرشفيلد)، كما شكك "إنياس غولدزيهر" في مصداقية المصادر الإسلامية المتعلقة بالحديث النبوي وبدايات الإسلام، وهو الموقف الذي سيدافع عنه "هنري لمونس" في النصف الأول من القرن العشرين، و"جوزيف شاشت" الذي سيركز على تدخل الفقهاء المسلمين في بناء ذاكرة جماعية عن زمن ظهور الإسلام.
ولكن بالرغم من البرهنة على صلة القرآن بالتراث الديني اليهودي والمسيحي، وانتمائه للحقبة القديمة المتأخرة، وبالرغم من النظرة النقدية العميقة للمصادر الإسلامية، فإن هؤلاء الباحثين الذين تم ذكرهم لم يشككوا أبدا في أن القرآن عكسَ بإخلاص دعوة النبي محمد بن عبد الله.
لكن الباحث الأبرز في هذا التيار هو "تيودور نولدكه" الذي دشن مشروعه الضخم منذ نهاية سنة 1850 واستمر حتى بداية القرن العشرين من خلال أتباعه. وأثار "تيودور نولدكه" إشكالات حول طبيعة فهم النصوص الدينية السابقة، وتأثير الصراعات السياسية بين المسلمين الأوائل على القرآن، والترتيب الكرونولوجي لنزول الآيات القرآنية، وطبيعة اللغة القرشية. وسوف يهتم بهذه الإشكالات باحثون آخرون مع اختلافات في الفهم والمعالجة (وليم موير، جون بورتون، أنجليكا نوفرت، هارالد موتزكي).
وسوف يتم التطرق لأشكال آخر هو تاريخية شخصية النبي محمد بن عبد الله. وكانت أهم دراسة في الموضوع هي التي أنجزها "لويس سبرنجر" والذي خلص في دراسته إلى تدخل السياسيين والفقهاء المسلمين في صياغة شخصية النبي محمد بن عبد الله. وسوف يتابع البحث في الموضوع باحثون آخرون (ليون كايتاني، دافيد صامويل مارغوليوث، ريشار بيل).
وتشكلَ تيار آخر بالاعتماد على المصادر غير الإسلامية وغير العربية وعلى مكان نشأة النبي محمد بن عبد الله. ومن أبرز الباحثين المنتمين لهذا التيار "ألفونس مانغانا" (الذي يعتبر مطورا ومكملا لأطروحات غولدزيهر وشاشت وبول كازانوفا). ولقد برهن هذا الباحث على تأثير اللغة السريانية/الآرامية على القرآن. كما أن المؤَلَّف الأساسي لـ"أرثور جيفيري" حول المعجم الغريب في القرآن تضمن تركيبا لنصف قرن من الأبحاث الفيلولوجية المتعلقة بالقرآن. وينتمي لهذا التيار أيضا "غانتر لولينغ" و"كريستوف لوكسونبرغ" اللذان جعلا من القرآن مجرد نصوص مسيحية سريانية معربة ومؤسلمة. ولقد اعتبر العديد من الفيلولوجيين المختصين في دراسة القرآن افتراضاتهما متطرفة.
ومن الباحثين المنتمين لهذا التيار أيضا "جون ونسبروغ" و"ميكائيل كوك" و"باترسيا كرون" والذين شاعت أعمالهم وأثارت نقاشات عدة وجدلا كبيرا بالرغم من اضطرارهم لتعديل أطروحاتهم والتخلي عن بعضها (مثل أطروحة الهاجريين) بفضل اكتشافات لنصوص ومخطوطات وبرديات ونقائش، كما توضح ذلك أعمال "هندس" و"ساكوت" و"بوان" وديروش".
ويمكن القول أن هذه الأبحاث ساهمت في وضع معالم منهجية وابستيمولوجية وتاريخية في مجال الدراسات القرآنية ودراسات شخصية وحياة النبي محمد بن عبد الله. وأثبتت عدم مصداقية المصادر التاريخية الإسلامية، وضرورة استعمال مصادر غير إسلامية، وضرورة المعرفة الفيلولوجية باللغات السامية ذات الصلة بالموضوع (العبرية والآرامية/السريانية) ولغات أخرى مثل اليونانية واللاتينية والإثيوبية، إضافة إلى لغات سادت في مرحلة ما قبل الإسلام في الجزيرة العربية، وضرورة معرفة النصوص الدينية التي انتشرت في المرحلة القديمة المتأخرة في المنطقة الشاسعة المعروفة حاليا بالشرق الأدنى والأوسط، وضرورة التمييز بين حركة النبي محمد بن عبد الله الدينية وبين بناء الإسلام كدين مؤسساتي، والاهتمام بالدور الأساسي الذي قام به عبد الملك بن مروان الذي عاش بين 56 هجرية و86 هجرية (685م – 705م)، هذا الخليفة الذي يقول عنه "كازانوفا" و"منغانا" أنه هو الذي أعد نسخة القرآن الحالية للتداول.
لقد تلقى مسار الأبحاث هذا دفعة قوية ابتداء من تسعينيات القرن العشرين وهو ما يظهر في أعمال هذا الكتاب: "قرآن المؤرخين".
تطرق المجلد الأول للعالم الذي ظهر فيه القرآن، وتم تقديم كل المعطيات المتعلقة بالجزيرة العربية آنذاك (السياق التاريخي والجغرافي للقرآن وبدايات الإسلام). وتمت دراسة القرآن كملتقى ديانات المرحلة القديمة المتأخرة، كما تمت دراسة المتن القرآني من خلال دراسة مخطوطات القرآن المتوفرة باستعمال المقاربات العلمية المرتكزة على المخطوطات والبرديات والنقائش.
أما المجلد الثاني فهو تعليق على مجموع آيات القرآن باستعمال المنهج التاريخي النقدي الفيلولوجي.
أما المجلد الثالث فهو عبارة عن جرد شامل للدراسات العلمية (مقالات، كتب، مؤلفات جماعية) التي أنجزت حول القرآن منذ بداية البحث النقدي في القرن التاسع عشر حتى اليوم.
لا يُخفي مؤلفو هذا الكتاب أنه بالإضافة لكونه مبادرة علمية فهو أيضا مبادرة مدنية وسياسية بالمعنى النبيل لكلمة سياسة. ويعتقدون أنه يشكل وسيلة، من بين وسائل أخرى، لتخفيف التوترات وإبطال مفعول التعصب.