متابعات - نشرة أسبوعية - العدد الرّابع عَشَر – الثامن من نيسان/ابريل 2023


الطاهر المعز
2023 / 4 / 8 - 12:25     

يتواصل رَصْد بعض الأحداث والمظاهر، ذات الصبغة الإقتصادية المُرتبطة بحياة المواطنين المسلمين والعرب، طيلة شهر رمضان، لتَهْتَمَّ الفقرةُ الأولى من هذا العدد بخدعة ما سُمِّيَ "الإقتصاد الإسلامي" أو بعض خلفيات "التّجارة الحلال"، وكأن للرأسمالية أخلاق أو دين، غير تعظيم الأرباح، وتُتابِعُ الفقرة الثانية بعض ما يحدث بفلسطين، بمناسبة يوم الأرض، تليها فقرة ثالثة تهتم بالوضع الإقتصادي بمصر، وبزيارة الرئيس المصري للسعودية، فيما تهتم الفقرة الرابعة بمكانة صناعة السّلاح (مُجَمّع الصناعات العسكرية) في الإقتصاد الأمريكي، رغم الإنحدار، البطيء والمُستمر، لمكانة الولايات المتحدة في العالم، وهو موضوع الفقرة الخامسة، فيما تهتم الفقرات الثلاث الموالية بموقع أوروبا (القوة الإستعمارية الأكبر، خلال القن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين) الإقتصادي والسياسي، بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، وإن لم يكن لنا صديق أو نَصِير ضمن جميع هذه القوى، لكن تناحرها قد يمنحنا بعض الأُكسيجين، إذا ما استطعنا بناء قُوّة قادرة على استغلال تلك الخلافات...

تجارة "حلال" – هل للرأسمالية دِينٌ؟
ما الذي يجعل شركة تسويق أمريكية تهتم بدراسة ما يُسمّى "اقتصاد المنتجات الحَلال"؟
نشرت شركة "فروست آند سوليفان" دراسة تشير إلى آفاق نمو التجارة العالمية "الحلال" التي قَدَّرَتْ حجمها بنحو 2,3 تريليون دولارا، سنة 2020، وتتوقع الشركة أن ارتفاع أسعار النفط وارتفاع دخل الأُسَر الخليجية، فضلاً عن نمو الجاليات المسلمة في الغرب، والأرباح التي قد تجنيها الشركات من ارتفاع الطلب على المنتجات المتوافقة مع الشريعة الإسلامية (رغم العراقيل في عدد من البلدان)، لتتسابق كبرى الشركات العالمية والعلامات التجارية لتلبية طلباتهم، خصوصًا بعد انطلاق الحرب في أوكرانيا، والإرتفاع المُشِط للأسعار، ومن شأن هذه العوامل مجتمعة تعزيز الإتجاه التّصاعُدِي لنمو تجارة المواد المُصنّفة "حلال"، فضلاً عن اتساع دائرة مُستهلِكِي هذه المنتجات إلى غير المسلمين، بما فيها السياحة التي أُلْصِقَتْ بها صفة "حلال"، رغم تخلّف البنية التحتية وغياب التنسيق والتّكامل بين مختلف البلدان وبين فُرُوع التجارة "الحلال"، وعدم توصُّل الشركات (والدّول) المتنافسة إلى توحيد معايير الحلال ومتطلبات إصدار الشهادات وتعزيز "التجارة الحلال".
تُشير التّقديرات إلى بلوغ إنفاق المستهلكين "للإنتاج الحلال" من الغذاء لوحدة سنة 2019 نحو 1,17 تريليون دولار، يتوقع أن يرتفع حجم الإنفاق بسرعة، بسبب اتجاه "الاقتصاد الحلال" ( الغذاء والسياحة والتمويل المُسَمَّى إسلامي...) إلى الإندماج في التجارة العالمية، رغم صعوبة إنجاز التّكامل بين الدّول التي تسكنها أغلبية مُسلمة ورغم غياب هياكل ومؤسسات مُوَحّدة لتلبية احتياجات حوالي مِلْيَارَيْ مُسلم في العالم، أو حوالي رُبُع سُكّان العالم، منها 57 دولة تنتمي إلى منظمة التعاون الإسلامي التي يُقدّر حجم تجارة المنتجات "الإسلامية" بها بنحو 1,26 مليار دولارا، سنة 2021، أو ما يُعادل 30% من تجارة الحلال العالمية، ولا يتجاوز حجم التجارة البينية (بين هذه الدّول) 20% من الحجم الإجمالي لتجارة هذه الدّول، وتتوقع هذه المنظمة ارتفاع قيمة ما سُمِّيَ "اقتصاد الحلال" في جميع أنحاء العالم إلى سبعة تريليونات دولارا سنة 2023، غير أن هذا الرقم خادع لأنه يتضمّن سعر مستلزمات منتجات الحلال التي يتم استيرادها من أوروبا أو أمريكا الجنوبية (البرازيل واللأرجنتين) أو من الصّين وغيرها، ويمكن أن يكون رقم أربعة تريلونات دولارا أقْرَبَ إلى الواقع، بما في ذلك السياحة والتمويل المَوْصُوف "بالإسلامي" البالغ حوالي تريليونَيْ دولارا، وهو استثمار في الإقتصاد الحقيقي,
يُشير مفهوم "الحلال" في الإسلام إلى ما هو مُباح أو مَسْمُوح باستخدامه واستهلاكه، وتوسّع المفهوم من المواد الغذائية إلى القطاع المالي، والأزياء ومستحضرات التجميل والسياحة ( التي تمثل 275 مليار دولارا سنويا) والأدوية وما إلى ذلك، واستغل العديد من المُحتالين رغبة ملايين المسلمين في احترام الشريعة الإسلامية (رغم صعوبة تحديد وتحقيق ذلك في البلدان الأوروبية وأمريكا الشمالية...) ليسلبوهم مُدّخراتهم وأموالهم، كما حصل في مصر وألبانيا، ويُقَدّر حجم "الاقتصاد الحلال" في بلدان الإتحاد الأوروبي وبريطانيا بنحو 75 مليار يورو، سنة 2021، ما دفع شبكات المتاجر وشركات الوجبات السريعة وشركات السياحة ومُستحضرات التّجميل والملابس تنجز دراسات وتدخل "سوق الحلال" بقوّة، وفي الدّول المُسلمة تحتل ماليزيا طليعة الدّول المُرَوِّجَة ل"الإقتصاد الإسلامي" ومنتجاته، قبل السعودية والإمارات وإندونيسيا والأردن، غير أن الدّول "غير المُسلمة" كالهند والبرازيل والأرجنتين والولايات المتحدة وألمانيا والنمسا وغيرها تسيطر على نحو 85% من سوق "المنتجات الحلال"، واجتذب هذا القطاع شركات رأسمالية عديدة، من ذلك أن استثمرت شركة "أنجينوموتو" اليابانية، سنة 2019، أكثر من 85 مليون دولارا لبناء خط إنتاج الغذاء "الحلال" في ماليزيا، واستثمرت شركة يابانية أخرى ( سانيشي تكنولوجي) نحو 300 مليون دولارا في ماليزيا أيضًا لإنشاء منطقة صناعية متخصصة في إنتاج المواد "الحلال"، ما يُعزّز مكانة ماليزيا ليس كدولة مسلمة وإنما كدولة مُتاجرة بالإسلام ومُستغِلّة لارتفاع الطلب على "الإنتاج الحلال" فيس زمن صعود الإخوان المسلمين وفروعهم...

فلسطين
تُشكل استباحة الدّم الفلسطيني والإستيلاء على الأرض/الوطن، سواء في اللّد والرملة وعكا ويافا وحيفا، أو الخليل ونابلس والقدس، قاسمًا مُشتركًا بين كافة الإتجاهات والتيارات الصهيونية، ومنها التيارات المُشاركة في المسيرات التي انطلقت، منذ بداية سنة 2023، والتي تُعبِّرُ عن تناقُضات ثانوية بين فِئَتَيْن من المُستعمِرِين الصّهاينة، فهم يحملون آلاف الرايات الصهيونية، ويَدّعون النضال من أجل "احتلال ديمقراطي" (وهو مثل الغول والعنقاء، لا وجود له)، لذلك نَأى الفلسطينيون (من الأراضي المحتلة سنة 1948) بأنفسهم عنها، فهي مظاهرات مناهضة للحكومة ولمشروع "الإصلاح القضائي" لرئيس الوزراء الصّهيوني وحلفائه، وهي في جوهرها لا تمسّ جوهر المشروع الإستعماري الإستيطاني الصهيوني، بل احتجاجات صهيونية داعمة للإحتلال، حيث تم الإعتداء على عدد ضئيل جدّا من بعض "الإسرائيليين" الذين حملوا أعلامًا فلسطينية أو لافتات تدعم "وضع حدّ للإحتلال" ( والإحتلال في عُرْفِهِم يقتصر على الأراضي المحتلة سنة 1967) وليس تفكيك المشروع الاستيطاني برمته، وعمومًا تدعم يافطات المتظاهرين "الديمقراطية اليهودية" و"السيادة اليهودية" على الأرض و"الحفاظ على النظام الصهيوني الليبرالي"، وعلى "المنظومة القضائية" وهي جُزْءٌ من النظام والمؤسسات الصهيونية التي تُتيح الإستيلاء على أرض الفلسطينيين وممتلكاتهم وهدم بيوتهم...
تجاهل الفلسطينيون احتجاجات الصهاينة لأنها مُوجّهة ضدّهم، وأحيوا الذكرى السابعة والأربعين ليوم الأرض ( 30 آذار/مارس 1976 – 2023) وهو اليوم الذي احتج خلاله فلسطينيو الدّاخل ضد مُصادرة الأراضي في الجليل، وشملت المظاهرات معظم مناطق فلسطين وقتل القوات المُسلّحة الصهيونية سنة فلسطينيين من ذوي الجنسية "الإسرائيلية" (من فلسطينيي الأراضي المحتلة سنة 1948)، ويخلّد الفلسطينيون هذا الحدث كل سنة، رافعين الأعلام الفلسطينية، إشارةً إلى هويّتهم الفلسطينية وإلى مرْكزية الأرض والوطن في النضال الفلسطيني، حيث ما انفكّت سلطات الإحتلال تصادر الأراض وتهدم المنازل وتهجر أصحابها، في كافة مناطق فلسطين، بذريعة "التطوير" أو "المنفعة العامة" أو عدم ثبوت المِلْكِيّة أو البناء غير المرخص، فيما ترفض البلديات المصادقة على تراخيص البناء أو حتى صيانة المنازل، تطبيقًا للعقيدة الصهيونية التي تريد الإستيلاء على الأرض وتهجير أصحابها، سواء في الجليل أو النّقب أو الخليل أو القدس.
جرت مسيرة الأرض للعام 2023 في مدينة سخنين، وهي إحدى المُدُن الفلسطينية التي سقط منها شهيدان يوم 30 آذار/مارس 1976، وكان الشهداء الآخرون من عَرّابَة البَطُّوف ودير حَنّا وكفر كنّا والطّيبة، في ظل استمرار محاولات الإحتلال الإستيلاء على أراضي الفلسطينيين الذين بقوا في وطنهم خلال وبعد النّكبة، في الجليل والمثلث والنقب، في مرج بني عامر أو في سهل الحولة، فضلا عن الأراضي التي احتُلّتْ سنة 1967، وتسارعت عملية الإستيطان في المُدُن السّاحلية عكّا ويافا واللّد والرملة وغيرها...
للأسف يحتاج الفلسطينيون، حيثما وُجِدُوا، إلى مشروع تحرير وطني، لأن الصراع ليس مع حكومة "إسرائيلية" بل مع منظومة استعمارية استيطانية اقتلاعية يُمثّلها المشروع الصهيوني، منذ القرن التّاسع عشر، وتُشكّل الأرض أهم محاور هذا الصّراع، مع إنكار وجود الشعب الفلسطيني، ويُشكّل يوم الأرض ويوم النّكبة وغيرها مناسبات لإحياء الذّاكرة الجَمْعِية وتعزيز الهوية الفلسطينية الجامعة لكافة الفلسطينيين داخل فلسطين وخارجها، في مواجهة المنظومة الصهيونية التي تريد اجتثاثهم وتهجيرهم للإستلاء على المزيد من الأرض، بعد طرد سُكّانها أو محاصرتهم حتى يُغادروا وطنهم بحثًا عن القُوت...
تمكّنت الحركة الصهيونية من الإستيلاء على فلسطين، وأراضي عربية أخرى، وبناء أجهزة دولة، أهمها جيش قوي، واستقطبت استثمارات ضخمة في مجالات التكنولوجيا والصناعات الدّقيقة التي تُحقّق قيمة زائدة عالية، بفضل الدّعم الإمبريالي الأوروبي، ثم الأمريكي الذي يمنع أي إدانة لجرائم الكيان الصهيوني الذي يُعَدُّ، منذ تأسيسه، أكبر متلقٍّ للمساعدات العسكرية الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية، بقيمة تتراوح بين 150 و 270 مليار دولارا، ويتلقى الكيان الصهيوني منحة أمريكية بقية 3,8 مليار دولارا سنويا من الولايات المتحدة، ومثلها من ألمانيا، فضلاً عن أسلحة متطورة بنحو 65% من سعر بيعها، وتعتبر الولايات المتحدة أكبر شريك تجاري للكيان الصهيوني، وتصل قيمة المبادلات التجارية بينهما إلى خمسين مليار دولارا سنويا، بفضل المعاهدات والاتفاقيات التي تعززت بتوقيع باتفاقية التجارة الحرة بينهما، سنة 1985...

مصر
يواجه الشعب المصري النتائج الكارثية للتبعية في المجال الإقتصادي، وما أنتجته من ارتفاع الدّيون وانخفاض قيمة الجنيه وشُحّ العملات الأجنبية وارتفاع التضخم، والإرتفاع المستمر للعجز التجاري، جراء فشل سياسات التصدير (بدل سياسات التنمية)، ورغم الإغراءات، بقي الاستثمار الأجنبي ضعيفًا، خارج قطاع المحروقات، واقتصرت مصادر العملة الأجنبية على إيرادات قناة السويس والسياحة وتحويلات المُغتربين المصريين (حوالي 12 مليون ) وهي مبالغ لا تكفي لتسديد أقساط الدّيون وتوريد الحاجيات الأساسية، وفي مقدّمتها الحبوب، لأن مصر أكبر مُستورد عالمي للقمح، وبينما يشتكي المواطنون من التّدهور المُستمر للوضع المعيشي، تتنصّل السلطة السياسية من مسؤوليتها وتُلقي باللوم على "عوامل خارجية"، وهو اعتراف ضِمْنِي بتبعية اقتصاد مصر، واقتصار دور الدّولة المصرية على حماية أمن الكيان الصهيوني وعلى حرية الملاحة والتجارة بقناة السويس وباب المندب...
انخفضت قيمة الجنيه المصري بين آذار/مارس وكانون الأول/ديسمبر 2022 بنحو 50% مقابل الدولار الذي انخفضت مخزونات المصرف المركزي منه، فانخفض حجم الواردات، وتراكمت حاويات البضائع المُستورَدَة في الموانئ، وارتفعت أسعار السلع والخدمات الأساسية، وارتفعت معها نسبة التضخم إلى مستويات قياسية، وارتفعت نسبة الفقر إلى نحو 30% بحسب البيانات الرسمية، لكن تُشير التقديرات أن حوالي 60% من الشعب المصري يعيشون على حافة أو تحت مستوى الفقر، وهو وضع مشابه للعديد من البلدان الأخرى، منها سريلانكا وباكستان وغانا وتونس، لكن الحكومة المصرية تنفق أمولا طائلة على مشاريع غير منتجة مثل العاصمة الإدارية الجديدة التي تقدر تكلفتها بحوالي ستين مليار دولارا والبنية التحتية اللتي لا تخدم سوى الأثرياء والشركات الكبرى، مثل الطرقات السريعة ومشاريع المدن الجديدة، وتتسوّل لدى دُوَيْلات الخليج التي تضخ بعض الودائع والإستثمارات مقابل شروط سياسية، ومقابل دعم العدوان السعودي والإماراتي على اليمن وليبيا وغيرها، خصوصًا بعد فشل الحكومة المصرية في الحصول على قرض يفوق ثلاثة مليارات دولارا من صندوق النقد الدّولي، لتصل نسبة الدّين الحكومي إلى 93% من الناتج المحلي الإجمالي، في ظل ارتفاع أسعار الفائدة وخدمة الدَّيْن، مقابل ضعف الجنيه المصري، ويتوجب على الدّولة تسديد 11,4 مليار دولارا سنويا لصندوق النقد الدّولي، على مدى السنوات الثلاث القادمة، ومع ارتفاع تكلفة خدمة الدّين يتوقّع أن تفوق مدفوعات الدّيون 45% من إيرادات الدّولة التي ترفع الضرائب على الدّخل (دخل الأُجراء والكادحين) والضرائب غير المباشرة، وتنفق الدّولة إيرادات الغاز وإيرادات الضرائب في شراء أسلحة (ثالث أكبر مستورد عالمي للسلاح طيلة العقد الأخير) لا تُحارب العدو الصهيوني ولا تحرس سيناء أو البحر الأحمر
واجه شعب مصر ( والعديد من شعوب البلدان العربية وغير العربية) بنهاية سنة 2022، ارتفاع أسعار العديد من السّلع بفعل الأزمات المتتالية، فخسر المواطنون الفقراء ومتوسطو الدّخل نحو ثلث القيمة الحقيقية لدَخلهم، منذ كوفيد حتى الحرب في أوكرانيا، وارتفعت نسبة التضخم الرسمية إلى 31,2% في كانون الثاني/يناير 2023 وإلى 40,3% على أساس سنوي، بنهاية شهر شباط/فبراير 2023، كما يتحمل الشعب المصري تبعات ارتفاع الدّيون الخارجية من 140 مليار دولارا، سنة 2021 إلى 177 مليار دولارا، في بداية سنة 2023، وبلغت خدمة الدَّيْن نحو عشرين مليار دولارا سنويا (أكثر من نصفها – 11,4 مليار دولارا- لصندوق النقد الدّولي ) ، وتعمقت فجوة التمويل وارتفعت حاجة الدّولة إلى 14 مليار دولارا إضافية لتغطية النفقات الضرورية، فيما انخفض سعر الجنية من سبعة جنيهات مقابل الدّولار في بداية سنة 2011 إلى 25 جنيها مقابل الدولار في سوق الصّرف الرسمية، ووصل إلى 33 جنيها في السوق الموازية، في ظل عجز المصارف عن توفير العملات الأجنبية لتوريد الغذاء والدّواء والعديد من السّلع الأساسية...
ذهب الجنرال عبد الفتاح السيسي إلى الخليج، يوم 02 نيسان/ابريل 2023، أملا في الحصول على عشرة مليارات دولارا، بشروط قد تكون أكثر قساوة (من الناحية السياسية والإقتصادية) من شروط صندوق النقد الدّولي.
سافر الرئيس المصري إلى السعودية، طلبًا للمساعدة على حل الأزمة الإقتصادية، رغم العلاقات الفاترة التي أشَّرَت لها مماطلة النظام المصري بخصوص موعد تسليم جزيرتَيْ "تيران" و"صنافير" اللّتَيْن تحتلاّن موقعًا استراتيجيا على البحر الأحمر، قريبًا من خليج "العَقَبة" ومن مضيق "باب المندب"، وهما جزيرتان صغيرتان لا يتجاوز عدد سكانهما 15 ألف نسمة، من بينهم 1700 من "قوات حفظ السلام" (450 جندي وضابط أمريكي والبقية من جنسيات أخرى) وتنازلت عنهما مصر لصالح السّعودية، بإشراف أمريكي، وموافقة صهيونية ( طِبْقًا لاتفاقيات "كامب ديفيد" )، في الثامن من نيسان/ابريل 2016، رغم احتجاجات الشعب المصري الرافضة لهذا التنازل، ورغم معارضة بعض السلطات القضائية لهذا التنازل...
لم يحصل النّظام المصري على الدّعم الموعود من السعودية والولايات المتحدة فَعَرْقَل تنفيذ القرار، كشكل من أشكال المُساوَمة، لكنه اضطر لمقابلة محمد بن سلمان في زيارة خاطفة مساء الأحد 02 نيسان/ابريل 2023، ولم يحصل الرئيس المصري سوى على وُعُود فضفاضة، رغم موافقته على الشروط السعودية، كالإستحواذ على حصص في المشاريع الحكوميّة الناجحة، وتطمح السعودية والإمارات، وبقية دُوَيْلات الخليج، السّيْطَرَة على ثلث الدّيُون السيادية المصرية...
ارتفعت ديون مصر الخارجية بنسبة 12% على أساس سنوي من 145,5 مليار دولارا، بنهاية سنة 2021 إلى 162,9 مليار دولارا، بنهاية سنة 2022، وتمتلك مَشْيَخات الخليج نحو 25% من قيمتها، وبالإضافة إلى هذه الدّيون، سبق للحكومة المصرية طَرْحَ سندات دولية قصيرة الأجل (عام واحد)، ذات عائد مرتفع بفائدة تتجاوز 10%، وعوائد تتراوح بين 19% و 22% لأَجَل ثلاث سنوات، وتُعتبر هذه السندات مُكلفة للحكومة، لأن قيمة الجنيه في انحدار مُستمر، وعجز الميزانية في ارتفاع مستمر، ما جعل الحكومة المصرية تبحث عن الدّولارات في واشنطن (صندوق النقد والبنك العالمي) وفي الخليج لمواجهة شح العملات الأجنبية الضرورية لتوريد الغذاء والدّواء والحاجيات الأساسية، ولمعالجة العجز. أما المصريون الذين يمتلكون بعض المال فيُقبلون على شراء الذهب بهدف الحفاظ على قيمة المدّخرات من فقدان قيمتها، بدل الإقبال على سندات الحكومة التي تدّعي أن الرّخاء سيَغْمُرُ مصر والمصريين بداية من سنة 2027، وكانت الحكومة قد أطلقت وُعُودًا مماثلة، أثْمَرت مزيدًا من التدهور وانخفاض قيمة الجنَيْه وارتفاع نسبة التضخم، وانخفاض أو استقرار معدّلات النّمو الهابطة...
أطلق الرئيس المصري وُعُودًا في مصر ولما ذهب إلى السعودية بحثًا عن الدّولارات، عاد منها بمزيد من الوُعُود...

تجارة القَتْل
صرّح الرئيس التنفيذي لشركة "رايثيون" الأمريكية لصناعة الأسلحة، في بداية سنة 2022، خلال لقاء مجلس الإدارة وممثِّلِي مالكي أسهم الشركة: " تُشكّل الإضطرابات وعدم الإسقرار العالمي فرصة لزيادة أرباح قطاع صناعة الأسلحة... إذْ تُشَكِّلُ الأحداث العالمية والتوترات عامل ضَغْطٍ على الحكومات التي تضطر لزيادة حجم الإنفاق العسكري، ونحن نأمل أن نستفيد من ذلك..."، وأكّدت أحداث سنة 2022 صِحّة هذه التّوقُّعات حيث حقّقت الشركات الخمس الكُبْرى لصناعة الأسلحة (لوكهيد مارتن ورايثيون وبوينغ ونورثروب غرومان وجنرال دايناميكس ) أرباحًا ضخمة، وارتفعت قيمة أسهمها بمعدّل 13% منذ انطلاق الحرب في أوكرانيا إلى نهاية سنة 2022، وتفَوّقت بذلك على مؤشرات ناسداك ودو جونز و إس & بي 500، مما يجتذب استثمارات جديدة لشركات مُجَمّع الصّناعات العسكرية الذي وَقّع عُقُودًا ضخمة مع وزارة الحرب والحكومة الأمريكية، وعلى سبيل المثال فقد حققت شركة "لوكهيد مارتن"، أكبر شركة لتصنيع الأسلحة في العالم، 71% من صافي مبيعاتنا البالغة 67 مليار دولارا، سنة 2021، من عقود حكومة الولايات المتحدة، أي من المال العام الذي يتحول إلى جيوب الأثرياء، أصحاب أسهم هذه الشركة الخاصة الذي يتمتعون بإعفاءات وحوافز ضريبية، رغم حصولهم على 11 مليار دولارا من أرباح شركة "لوكهيد مارتن"، سنة 2021، بحسب تصريحات جيمس تايكليت"، رئيس الشركة لوكهيد جيمس تايكليت بأن الشركة دفعت 11 مليار دولار للمساهمين العام الماضي من خلال عمليات إعادة شراء الأسهم وتوزيعات... من جهة أخرى تُسهام شركات صناعة الأسلحة في شركات الإنشاء، بهدف الإنتفاع من إعادة بناء البنية التحتية لأوكرانيا - بعد الحرب - والمُقدّرة بأكثر من تريليون دولار...
أظْهَرت الحرب في أوكرانيا أن مجمع الصناعات العسكرية الأمريكية وشركات أوروبا للأسلحة كانت مُهيّأة لخوض حُرُوب ضد بلدان فقيرة، مثل الصّومال وأفغانستان، ولم تكن مُهيّأة لحروب ضد دول صناعية مثل روسيا، تصنع سلاحها ولها أسلحة متطورة، ولذلك لم تتمكّن أوكرانيا (التي ترتهن إلى الإمدادات القادمة من دول حلف شمال الأطلسي) من مُجارة الاستهلاك الهائل للمعدات والأنظمة والمركبات والذخيرة التي تتطلّب بنية تحتية صناعية ضخمة ومنظومة لوجِسْتية لصناعة ونقل العتاد، وتعويض أو إصلاح وصيانة المقاتلات والدبابات والمدفعية والطائرات الآلية التي يتم تدميرها، وقُدِّرت قيمة الأسلحة التي أرسلتها الولايات المتحدة، سنة 2022، إلى أوكرانيا بنحو 32 مليار دولارا، من بينها أنظمة صواريخ متطورة جدًّا، مثل "جافلين" و "هيمارس" وستينغر"، صنعتها الشركات الأمريكية وِفْقَ عُقُود مُسبقة، تمتد على عدّة سنوات، مع الحكومة الأمريكية، وطلبت وزارة الحرب الأمريكية رَفْعَ وتيرة التّصنيع الحربي لكن ذلك يتطلب توريد بعض المعادن النادرة التي تحتكر الصين تصديرها، فضلا عن البطاريات المتطورة، والإلكترونيات والمُسْبُوكات والمعادن المُكَرَّرَة، مثل الكوبالت والنحاس والليثيوم والنيكل، وغيرها من المعادن التي تحتاجها الطائرات والسفن الحربية والصّواريخ، وأنظمة الدّفاع والآليات، والتي يفوق إنتاج الصين منها خمسة أضعاف إنتاج الولايات المتحدة...

الإنحدار الأمريكي البطيء
عبرت بعض الدّول ( الجزائر والسعودية وإيران ومصر والمكسيك والأرجنتين ونيجيريا...) عن اهتمامها بالإنضمام لمجموعة بريكس التي تضُمّ حاليا البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، وتَضُمُّ حوالي 40% من سُكّان العالم، وبعد اتفاق بعض الأعضاء على التعامل التجاري بالعملات المحلية، يُتَوَقّع أن تطرح المجموعة، خلال مؤتمر "دوربان" بجنوب إفريقيا، مسألة تصميم وإصدار عملة مُشتركة للتعامل فيما بينها، ما من شأنه خفض هيمنة الدّولار ، خصوصًا بعد دراسة دول مجموعة "آسيان" (باستثناء سنغافورة) مسألة استبعاد الدّولار واليورو والين والجنيه الإسترليني، وكذلك بطاقات الإئتمان الأمريكية، من مبادلاتها الثنائية...
تعمد الولايات المتحدة لرفع أسعار الفائدة، بهدف وضع حدّ لارتفاع الأسعار، وللسيطرة على التضخم، ما يجعل الدولار أكثر قوةً مقابل تراجع للعملات الأجنبية الأخرى، أي تصدير التّضخّم إلى الدّول الأخرى التي تضطر مصارفها المركزية إلى رفع أسعار الفائدة بشكل أسرع وأعلى، في محاولة لإلغاء تأثيرات ارتفاع الدّولار على قيمة عملاتها التي تنخفض، بفعل تأثيرات هذه السياسات العدوانية التي ينتهجها الإحتياطي الفيدرالي الأمريكي، منذ أكثر من أربعة عقود، بعد "اتفاق بلازا"، وهو بمثابة اتفاق بين الولايات المتحدة واليابان وألمانيا وفرنسا وبريطانيا لتنسيق التدخل في أسواق العملات...
بعد سنوات من خفض سعر الفائدة وضخ المال العام لصالح المصارف والشركات الكبرى بفائدة تُقارب الصّفر، أَقَرَّ مجلس الاحتياطي الفيدرالي (منتصف سنة 2022) ارتفاعات قياسية في سعر الفائدة، ما أدّى إلى سحب المُودِعين (المُستثمرين المُضارِبِين) أموالهم من مصر والبرازيل وإندونيسيا وغيرها من البلدان متوسطة الدّخل، وإيداعها في الولايات المتحدة بفائدة أعلى، مما يتسبب في اضطرابات كبيرة، ويعتبر هذا الإجراء مُفيدًا لبعض الأمريكيين من المُوَرِّدين والسائحين، في ظل مناخ من الركود العالمي، وتراجُعِ احتياطيات العملة الأجنبية (من الدّولارات بشكل خاص) في بعض الدّول الفقيرة المُكبّلة بالدّيون المُقَوَّمَة بالدّولار بسبب ارتفاع قيمتها بارتفاع أسعار الفائدة، والضّغط على العملات المحلية...
لا يزال الدّولار الأمريكي يُهيمن على احتياطيات النّقد الأجنبي لجميع الدّول، لكن حصّتَهُ تتناقص، فيما كانت العُملة الصينية شبه غائبة، حتى سنة 2018، من مخزونات احتياطي العملة الأجنبية بالمصارف المركزية، ثم ارتفع حجم مخزونات "اليوان" الصيني بسرعة، إذْ وقّعت الصين العديد من اتفاقيات التبادل التجاري بغير الدّولار، وغالبًا بالعملات المحلية، وعلى سبيل المثال، أعلن المصرف المركزي البرازيلي، يوم الجمعة 31 آذار/مارس 2023، إن الصين هي أكبر شريك تجاري للبرازيل وتمثل 28% من حجم التجارة الخارجية للبرازيل، أو أكثر من ضعف حجم التجارة مع الولايات المتحدة، ثاني أكثر شريك تجاري للبرازيل، وإن اليوان الصيني قد تجاوز اليورو، بنهاية سنة 2022، ليصبح ثاني عملة احتياطية دولية للبلاد، بعد الدولار الذي لا يزال يُمثل أكثر من 80% من احتياطي البرازيل، وفق ما ورد في الموقع الإلكتروني للمصرف الذي أفاد أن اليوان الصيني أصبح أحد العملات الاحتياطية في البرازيل منذ سنة 2019، بسبب الإغراء والحوافز، إذ تتمتع الشركات البرازيلية التي تتعامل باليوان بمزايا مثل انخفاض بعض الرسوم وتكاليف المعاملات...
في آسيا، تخطط بعض الدول الآسيوية للتخلي عن الدولار والعملات الغربية الأخرى (اليورو الأوروبي والين الياباني والجنيه الإسترليني...) وإقرار التّعامل بالعملات المحلية، وفق الأخبار التي وردت يوم 28 آذار/مارس 2023 من اجتماع وزراء مالية ومصارف دول "رابطة دول جنوب شرق آسيا" (آسيان التي تضم بروناي وكمبوديا وإندونيسيا ولاوس وماليزيا وميانمار والفلبين وسنغافورة وتايلاند وفيتنام)، فيما دعت حكومة إندونيسيا، التي تستضيف المكتب الرئيسي لمجموعة آسيان، إلى التخلي التدريجي عن التعامل ببطاقات الإئتمان "فيزا" أو "ماستركارد"، وسبق أن توصّلت إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة والفلبين وتايلاند ( تشرين الثاني/نوفمبر 2022) إلى اتفاق لإطلاق نظام الدفع الرقمي عبر الحدود يسمح لدول الآسيان باستخدام العملات المحلية في التجارة بين البلدان الأعضاء التي لم تُطبّق القرارات الأمريكية بشأن المُقاطعة التّجارية لروسيا، باستثناء سنغافورة، وهي جزيرة اقتطعتها بريطانيا من ماليزيا، واستورَدْت سُكّانها من الصين والهند، وأعلنتها دَوْلَةً مُستقلة، وهي في الواقع قاعدة عسكرية ومالية بريطانية وأمريكية...
أطلقت الصين سنة 2020 بالمركز المالي بشنغهاي (بورصة شنغهاي) منصّة خاصّة لتوريد وإعادة تصدير المحروقات باليوان، العملة المحلية الصينية، وكثّفت سُلطات الصّين الزيارات وتوقيع الإتفاقيات التجارية بالعملات المحلية، أو بعملات غير الدّولار، خصوصًا بعد الزيارة الإستفزازية التي أدّتها "نانسي بيلوسي"، رئيسة مجلس النواب الأمريكي، إلى تايوان يوم الثاني من أغسطس 2022، وأنجزت الصين اتفاقيات وصفقات استيراد المحروقات باليوان الصيني وبالعملات المحلية للبلدان الأخرى، مع بلدان مثل روسيا والأرجنتين (ثاني أكبر اقتصاد بجنوب القارة الأمريكية) والسعودية، وآخرها البرازيل، أكبر اقتصاد بأمريكا الجنوبية، يوم الإربعاء 29 آذار/مارس 2023، بعد يوم واحد من إبرام صفقة باليوان الصيني لشراء الغاز المُسال من الإمارات، بعد إبرام صفقة مماثلة مع السعودية، بالتوازي مع تكثيف النشاط الدبلوماسي الصيني في العديد من مناطق العالم...

الإتحاد الأوروبي والصّين:
طرحت الصين، أواخر شهر شباط/فبراير 2023، خطّةً لوقف الحرب في أوكرانيا، وأعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إنه حضَر إلى الصين – تحت رقابة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين – من الإربعاء 05 إلى الجمعة 07 نيسان/ابريل 2023، لمناقشة ذلك مع قادة الصّين، فضلا عن "إعادة إطلاق شراكة استراتيجية وعالمية مع الصين، ثاني أكبر اقتصاد عالمي..."، وهي محاولة أوروبية (الإتحاد الأوروبي) لإحداث شرخ في العلاقات بين روسيا والصّين، بتكليف أمريكي، حيث أعلن ماكرون أنه تحادث مع الرئيس الأمريكي جو بايدن قبل سفره إلى الصين، وناقشا "كيفية إشراك الصين في المساعدة في بناء سلام دائم في أوروبا" وإنهاء الحرب في أوكرانيا، كما تأتي هذه الزيارة بعدَ لقاء موسكو بين الرئيسيْن الصيني والرّوسي، اللَّذَيْن أعلنا عَزْمَهُما على "تغيير نظام القُطْب الواحد الذي تقودُهُ الولايات المتحدة"، ويبدو أن الولايات المتحدة كلّفت رَمْزَيْن من رُموز اليمين الأوروبي، اللّذَيْن يدعمان السياسة الأمريكية بدون تحفُّظ، فقد اشتهرت رئيسة المُفَوّضية الأوروبية (أورسولا فون دير لاين ) بتطرفها في معاداة أي نفس تقدّمي أو مناهض للهيمنة الأمريكية، وتعمل على تشديد الحصار ضد الصين وروسيا وإيران وكوبا وفنزويلا وسوريا وغيرها...
يرافق ماكرون في رحلته وفد كبير من الوزراء ومن رؤساء ومديري الشركات الكبرى في مجالات عديدة (الطاقة والطيران والفضاء...) أملاً في الحصول على عقود ضخمة مع شركات صينية، وفي عودة السائحين الصينيين إلى فرنسا، لكن فرنسا عضو في حلف شمال الأطلسي وتُساهم في تنفيذ السياسات العدوانيّة الأمريكيّة، في كافة المجالات، رغم الطعنة التي وجّهتها الولايات المتحدة، عبر إلغاء عقد أسترالي لشراء غواصات فرنسية واستبداله بعقد مع الولايات المتحدة، ومع ذلك تدعم حكومة فرنسا والمُفوضية الأوروبية – التي تمثلها رئيستها "أورسولا فون دير لاين" "العقوبات" والإستفزازات الأمريكية ضد الصين في المحيطين الهندي والهادىء، وفي بحر الصّين الخ...
تُعَدُّ زيارة الرئيس الفرنسي ورئيسة المُفَوِّضِيّة الأوروبية (أرسولا فون دير لاين) إلى الصين محاولة لخلق شرخ بين الحليفيْن روسيا والصين، لكن من المستبعد أن ينجح مسعاهُما، حيث أرست الصين وروسيا علاقات "شراكة استراتيجية" منذ سنة 2001، تم تأكيدها وتدعيمها خلال زيارة الرئيس الصيني إلى موسكو ( 21 و 22 آذار/مارس 2023)، وارتفعت قيمة المبادلات التجارية بينهما بنسبة الثلث خلال عام واحد، لتبلغ 190 مليار دولارا بنهاية سنة 2022، ولتصبح الصين ثاني أكبر شريك تجاري لروسيا، وراء الإتحاد الأوروبي، خصوصًا منذ تدشين خط أنابيب نقل الغاز الروسي من سيبيريا إلى شمال شرق الصين (بداية من سنة 2019)، واتفقت الحكومتان على التعامل بالعملات المحلية، وتَسْعَيان لتنشيط مصرف التنمية الذي أنشأته مجموعة "بريكس"، بهدف خفض حصة الدّولار والعملات الأجنبية في التّجارة البَيْنِيّة لأعضاء المجموعة، وتستغل الصين (وكذلك الهند وتركيا) الوضع لشراء النفط والغاز الرّوسِيّيْن بسعر تفضيلي رخيص، وإعادة بيعهما إلى أوروبا ودول أخرى بسعر مُرْتفع...
تحارب أوروبا والولايات المتحدة، منذ سنوات، محاولات روسيا بناء منطقة "أُوراسيا" ( الرابطة بين أوروبا وآسيا)، باعتباره "مُناهضَا للغرب"، وتُشكّل "مجموعة شنغهاي" (منذ سنة 1996) ثم توسّعها، بداية من 2001، جزءًا من هذه الخطّة الهادفة وضع حدّ لهيمنة "القُطب الواحد"، ويدّعي الإعلام (الدّعاية) الأوروبي والأمريكي أن مجموعة شنغهاي تمثل تحالف الأنظمة الدّكتاتورية، كالصين وروسيا وأنظمة آسيا الوُسْطى وكوريا الشمالية وإيران وسوريا، وغيرها، ويعتبر إيمانويل ماكرون (ومجمل الأحزاب والقوى السياسية الفرنسية) أن روسيا والصين مُنافسان كبيران في المستعمرات الفرنسية السابقة بإفريقيا وآسيا، فضلا عن معارضتهما النظام الإقثتصادي والتجاري الدّولي...
رافقت هذه العقلية العدوانية الرئيس الفرنسي ورئيسة المفوضية الأوروبية إلى بكين، ولذلك لم يتمكّنا من الحصول على أي تنازل من الصّين، ولم يتمكّنا من إحداث شرْخ بين الصين وروسيا، لحدّ الآن، رغم التناقضات والخلافات العديدة بينهما...

يدّعي الرئيس الفرنسي الإنفتاح على الصّين، وينتقد "غياب الحُرّيات" في عدد من البُلْدان، في حين يصمّ آذانه عن صدى الاحتجاجات الشعبية المُتواصِلَة منذ أَشْهُرٍ في عشرات المدن الفرنسية ضد قانون تأجيل سن التقاعد إلى 64 سنة، ولم تتمكّن حكومته من فَرْضِهِ بالتصويت في مجلس النواب، فَفَرَضَتْهُ بمراسيم رئاسيّة، دون تصويت...

فرنسا
نشرت صحيفة نيويورك تايمز، يوم 22 آذار/مارس 2023، مقالا عن الإحتجاجات العارمة التي تتواصل بفرنسا للشهر الثالث على التّوالي، ضد هجوم السلطة على ما تَبَقّى من مكتسبات الطبقة العاملة ( الحماية الإجتماعية والتقاعد...)، وشبّهت الرئيس "إيمانويل ماكرون" بمُلُوك فرنسا الذين وضعت الثورة الفرنسية ( 14 تموز/يوليو 1789) حدًّا لحكمهم، بإعدام لويس السادس عشر...
لم تتمكّن السلطة التنفيذية، التي يُهيمن نوابها على السلطة التشريعية، من جمع العدد الكافي من الأصوات ليحظى قانون تأخير سن التقاعد بالشرعية القانونية، فلجأت الحكومة إلى تفعيل بَنْدٍ دُسْتُوري يُعرف ب"49 – 3"، يسمح للحكومة بتمرير ما شاء لها من مشاريع القوانين، بدون أي حدود، بدون تصويت (يالها من ديمقراطية !!! )، رغم ارتفاع عدد المُشاركين في الاحتجاجات، والإضرابات والمسيرات...
رَدّت سلطة فرنسا، التي تدّعي تلقين دروس في الدّيمقراطية للأنظمة العربية والإفريقية ولسلطات روسيا والصين وكوبا وفنزويلا وغيرها، بحَظْر الإحتجاجات ( بنعدّل 1200 موقع احتجاج في كل مرة )، ما سمح لشرطة باريس باعتقال حوالي 180 متظاهر، خلال كل مظاهرة، وبلغ عدد المُعْتَقَلين في مختلف أنحاء البلاد، معدّل 425 معتقل خلال أي مظاهرة جرت في الأيام العشرة الأخيرة لشهر آذار، ووجهت بعض وسائل الإعلام أصابع الإتهام إلى قوات الشرطة التي تستخدم الإستفزاز والعنف الذي أدى إلى إصابة العشرات (في الأعين والأطراف والرأس) والإعتقال الوقائي (أي قبل وقوع أي حادث) والعشوائي لشُبان، من خارج صفوف المتظاهرين...
رغم فرض الحكومة لقانون التقاعد الجديد، بواسطة مراسيم "49 – 3" تتواصل المظاهرات وتكدّست القمامة في الأحياء الراقية لباريس بفعل إضراب العمال، جامعي القمامة، الذي حرصوا على تنظيف الأحياء الشعبية (شمال وشمال غبري باريس) وترك القمامة تتراكم بأحياء الأثرياء...
يُمثّل الرئيس الفرنسي مصالح رأس المال المالي، فهو مدير سابق بالمؤسسات المالية لعائلة روتشيلد وكلاهما ( روتشيلد وماكرون ) من الدّاعمين للمشروع الصهيوني بدون أي تحفّظ، وهو أكثر يمينِيّة وصهيونية من ساركوزي، رمز انحطاط نظام فرنسا.

أوروبا، أي استقلالية؟
استفادت الولايات المتحدة من تخريب أوروبا (ساهمت الطائرات والقنابل الأمريكية في التخريب والتدمير) لتُهيْمن عليها عسكريا، عبر القواعد المنتشرة في بريطانيا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها، وعبر حلف شمال الأطلسي، وعبر الدّيون الضخمة، من خلال مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا، ولا تزال الهيمنة مستمرة (داخل الصف الإمبريالي) منذ قرابة ثمانية عقود، رغم ارتفاع عدد سكان الإتحاد الأوروبي إلى حوالي 450 مليون مواطن، أو بزيادة نحو 100 مليون مواطن عن الولايات المتحدة التي يفوق حجم ديونها 32 تريليون دولارا، حجم ناتجها الإجمالي 23,3 تريليون دولارا بينما يبلغ حجم الناتج المحلي الأوروبي 18 تريليون دولارا...
تمكّنت الولايات المتحدة من فَرْضِ أجنْدتها الجيوسياسية على أوروبا، وفرضت على الإتحاد الأوروبي انضباطا حديديًّا لدعم سياساتها ضد إيران والأنظمة التّقدّمية بأمريكا الجنوبية، وسوريا وليبيا، وخصوصًا خلال الحرب الدّائرة في أوكرانيا بين حلف شمال الأطلسي وروسيا، وهي مواقف مناقضة لمصالح ألمانيا التي أقرّت مخطّطًا طويل المدى يعتمد على الغاز الرّوسي الرخيص، بدلاً من الطاقة النّوَوِيّة، أو مصالح الدّول الأوروبية الأخرى التي تعتمد صناعاتها ومحولات الطاقة بها على الغاز الروسي الرخيص وعالي الجودة، ولكن الولايات المتحدة قرّرت إقصاء روسيا وتفجير خط أنابيب نقل الغاز "نورد ستريم 2" وفرض غازها الصخري الرديء على أوروبا، بأسعار تُعادل خمسة أضعاف الأسعار التي تُسدّدها الشركات الأمريكية، كما فرضت الولايات المتحدة تمويل أوروبا للصناعات العسكرية الأمريكية، وزيادة دول حلف شمال الأطلسي ميزانياتها العسكرية.
عززت الحرب في أوكرانيا الهيمنة الأمريكية في أوروبا من خلال زيادة المساهمات المالية والعسكرية المُتّجهة لدعم أوكرانيا، فيما لم يستنكر أي زعيم أوروبي العمل الإرهابي الأمريكي بتدمير خط الغاز نورد ستريم 2 الناقل للغاز الروسي، بل أثبت حزب الخُضْر المُشارك في الحكومة الإتحادية بألمانيا، أنه وكيل مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية، وأَبْدَعَ في التّأكيد إنه أطلسي أكثر من اليمين.
على المدى الطويل، من المرجح أن تجبر مصالح ألمانيا الاقتصادية والطاقة والأمن القومي على رفض مطالب الولايات المتحدة بالاشتراك في المواجهة بين الولايات المتحدة وأوروبا مع الصين وروسيا، حيث بلغ حجم التجارة بين ألمانيا والصين 320 مليار دولار عام 2021 ...
أثبتت سُلُطات أوروبا في باريس وروما ولندن و وارسو أو براغ أو مدريد، مهما كان لونها السياسي، إنها مطيعة وتقف في حالة تأهب أمام جنرالات الحرب الأمريكيين، وفق ما وَرَدَ في مَصْدَرَيْن أمريكيَّيْن مُختلفَيْن، هما موقع "غلوب تروتر" + نيويورك تايمز 28 و 30 آذار/مارس 2023