بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل


مالك ابوعليا
2023 / 4 / 6 - 14:08     

تأليف عالم النفس الماركسي السوفييتي دانييل بوريسوفيتش إلكونين*

ترجمة مالك أبوعليا

الملاحظات والتفسير بعد الحروف الأبجدية بين قوسين (أ)، (ب)... هي من عمل المُترجم

ان مسألة مراحل التطور الذهني للطفل هي المسألة الأساسية لعلم نفس الطفل. ان تفسير وتطوير هذه المسألة له أهمية نظرية كبيرة لأن علم النفس، من خلال تحديد مراحل التطور الذهني واكتشاف أنماط الانتقال من مرحلةٍ الى أُخرى، سيحل في النهاية، مسألة القُوى المُحركة للتطور العقلي
. نحن ندّعي أن كُل تصوّر لدوافع النمو الذهني يجب أولاً اختباره على أُسس وقائعية ودلائلية لنظرية مراحل النمو.
ان الحل الصحيح لمسألة مراحل النمو، سيُحد الى حدٍ كبير الاستراتيجية المُستخدمة في بناء نظامٍ تعليميٍّ شامل للجيل القادم في بلادنا. ستزداد الأهمية العملية لهذه المسألة مع اقترابنا من تلك النُقطة التي يجب أن نضع فيها مبادئ نظام تعليمٍ عام وموحّد يشمل فترة الطفولة بأكملها. يجب أن نؤكّد على حقيقة أن بناء مثل هذا النظام التعليمي وفقاً لقوانين مراحل نمو الطفولة لا يُمكن تحقيقه الا داخل مُجتمعٍ اشتراكي، لإن مثل هذا المُجتمع هو المُجتمع الوحيد الذي له أكبر مصلحة في التطوير الشامل والمُتناسق لقدرات كل فرد من أعضاءه، وبالتالي، مصلحة في استخدام أقصى امكانات مُمكنة لكل مرحلة (نمائية).
يسترشد علم نفس الطفل السوفييتي، في وقتنا الحاضر، بمفهوم مراحل النمو على أساس النظام القائم في تعليم الأطفال وتنشئتهم. ترتبط عمليات النمو الذهني، ارتباطاً وثيقاً بتعليم الطفل وتنشئته، في الوقت نفسه، يعتمد تنظيم نظامنا التعليمي وبُنيته نفسها على الخبرة العملية الواسعة. من الطبيعي أن تقسيم الطفولة الى مراحل لأهداف وغايات تربوية-تعليمية يقترب تقريباً من النمط الحقيقي. ومع ذلك، فهي غير مُتطابقة. الأهم من ذلك، أن هذا التقسيم، لا يُمكن بأي حالٍ أن يوفّر لنا حلاً لمسألة القُوى المُحركة لنمو الطفل، أو الأنماط الانتقالية من مرحلةٍ الى أُخرى. تكشف التغيرات التي تحدث في مسار التعليم والتربية أن "التقسيم التعليمي لمراحل" يفتقر الى أساس نظري راسخ بما فيه الكفاية وغير قادر على الاجابة على عددٍ من المسائل العملية الأساسية (على سبيل المثال، متى يجب أن يبدأ التعليم المدرسي حقاً، ما هي السمات الخاصة التي يجب على التعليم أن يحوزها في فترة الانتقال الى مرحلة نمائية جديدة، وما الى ذلك). وهكذا، فإن التصور القائم الحالي، حول المراحل النمائية يقترب من التأزّم.
حَظِيَت مسألة المراحل النمائية، خلال فترة الثلاثينيات، باهتمامٍ كبير من قِبَل بافِل بيتروفيتش بلونسكي Pavel Petrovich Blonsky وليف سيميونوفيتش فيغوتيسكي Lev Semyonovich Vygotsky، واللذَينِ وضعا الأُسس النظرية لسيكولوجيا تطور الطفل في الاتحاد السوفييتي. لسوء الحظ، لم نقم بأي عملٍ أساسي بشأن هذه المسألة منذ ذلك الوقت.
أشارَ بافِل بلونسكي الى حقيقة أن عمليات التطور العقلي تخضع للتغير التاريخي، وأشارَ الى كيفية ظهور مراحل جديدة من الطفولة على مدار التاريخ، على وجه التحديد. يكتب: "يتطور الانسان الحديث، في ظل ظروف اجتماعية مواتية لتطوره، بشكلٍ أسرع بكثير من الانسان في العصور التاريخية السابقة. من ثم، فإن الطفولة ليست ظاهرةً أزلية أبدية غير قابلة للتبدّل: فهي تختلف في كل مرحلة من مراحل التطور في العالم الحيواني، وتختلف في كل مرحلة مُختلفة من مراحل التطور التاريخي للبشرية. وكلما كانت الظروف الاقتصادية والثقافية مواتية للنمو، كانت وتيرته أسرع. في المُجتمع الشيوعي سيتطور الأطفال بشكلٍ أسرع، وسيكونون بالطبع أكثر تطوراً بكثير من أطفال اليوم من نفس العمر".
يُتابع بلونسكي: " في الوقت نفسه، نرى أنه حتى الشباب (وهم استمرارية النمو بعد البلوغ)، ليست خاصية انسانية عالمية: يتوقف النمو والتطور عند البلوغ، في حالة الأُمم أو المجموعات الاجتماعية التي تعيش في ظروفٍ غير مواتية. وهكذا، لم يكن الشباب ظاهرةً أزلية. انه، على العكس من ذلك، مكسب للانسانية-في الواقع، يظهر بشكلٍ حصري تقريباً في العصر التاريخي"(1).
كان بلونسكي مُعارضاً للمفاهيم التطورية Evolutionary الصرف، حول مسار نمو الطفل. واعتبر أن نمو الطفل هو في الأساس عملية تحولات نوعية مصحوبةً بانقطاعات وقفزات مُفاجئة. كَتَبَ أن هذه التحولات "قد تحدث في شكل أزمات حادة، أو قد تحدث تدريجياً، بشكلٍ غير محسوس تقريباً. دعونا نتفق على تسمية تلك الأوقات من حياة الطفل التي تتميز عن بعضها البعض بأزمات كبيرة أو صغيرة بأنها (فترات) و(مراحل) على التوالي. بالاضافة الى ذلك، دعونا نُطلق على تلك الأوقات في حياة الطفل التي تتداخل مع بعضها البعض على أنها (أطوار)"(2).
كان فيغوتيسكي، في السنوات الأخيرة من حياته، في طورِ كتابة عملٍ كبير في علم نفس الطفل. على الرغم من أن بعض فصوله قد أخذت شكلها النهائي، الا أن بعضها الآخر لم يكن سوى تخطيطات عامة ومُلاحظات على المواد المقروءة. أعدّ فيغوتيسكي الفصل المُعنون (مسألة العُمر) للنشر، والذي يطرح بعض التحليلات النظرية العامة حول المواد الموجودة بصدد هذا الموضوع، ومسألة مرحل التطور الذهني للطفل، سواءاً مواد سوفييتية أو أجنبية.
كَتَبَ فيغوتيسكي: "يُمكننا أن نُعرّف العمر-يحتاج الأمر الى مزيدٍ من الدراسة- على أنه فترة أو دورة أو مرحلة من التطور، بوصفها فترةً مُحددة من التطور مُستقرة نسبياً، والتي تتحدد أهميتها من خلال مكانها في الدورة النمائية العامة وفي إطار ما تُعبّر عنه القوانين العامة للتطور بطريقة مُتميزة نوعياً. وبهذا المعنى، يُمكننا مُقارنة مُستويات العمر في نمو الطفل مع العصور التاريخية وعصور تطور الانسانية، ومع عصور تطور الحياة العضوية، أو مع العصور الجيولوجية في تاريخ تشكّل الأرض. نحن نجد، في الانتقال من مرحلة عُمرية الى أُخرى، ظهور بُنىً جديدة كانت غائبةً في فتراتٍ سابقة. يُمكننا أن نرى اعادة تنظيم وتحوّل لمسار النمو ذاته. وبالتالي، فإن نمو الطفل، ليس سوى انتقال مُستمر من مستوى عمري الى آخر، يُصاحبه تغيراتٍ نمائية في شخصية الطفل. ان دراسة نمو الطفل، هي دراسة لانتقاله من مستوىً عُمريٍّ الى آخر، وهي دراسة للتغير في شخصيته في كل فترة عُمرية، حيث تحدث هذه التغيرات في ظل ظروف اجتماعية-تاريخية ملموسة"(3).
يُتابع فيغوتيسكي: "نحن نعلم، أين يجب البحث عن الأُسس المادية لنظرية الفترات العُمرية للطفولة. فقط الانقطاعات الحادة ونقاط التحوّل أثناء النمو، يُمكنها أن تُعطينا فكرةً موثوقةً لتحديد تلك المراحل الأساسية في تكوين شخصية الطفل، التي نُطلِقُ عليها (العُمر)"(4).
ويختتم فيغوتيسكي وصفه للسمات الأساسية للفترات الانتقالية للنمو، على النحو التالي: "وهكذا، نرى بأُم أعيننا نمطاً مُنتظماً ومُتميزاً تماماً، مليئاً بأعمق المعاني. تعترض أعمار الاستقرار أعمار الأزمات. وهذه الأخيرة، هي انقطاعات ونقاط تحوّل في النمو، مما يؤكّد مرةً أًخرى فرضية أن نمو الطفل هي عملية دياليكتيكية، وهي عملية لا يحدث فيها الانتقال من مرحلةٍ نمائية الى أُخرى من خلال التطور Evolution التدريجي، بل من خلال الثورة. حتى لو كانت أعمار الآزمات لم تُكتَشَف تجريبياً بعد، الا أنه يُمكن للتحليل النظري وحده أن يقتضي إدراج هذا المفهوم في أي مُخطط للنمو. يُترَك للنظرية هُنا، فقط مهمة تفسير ما تم الكشف عنه تجريبياً"(5).
من وجهة نظرنا، يجب الحفاظ على مُقاربتي بلونسكي وفيغوتيسكي حول مسألة مراحل النمو، ولكن يجب تطويرهما في ضوء المعارف المُعاصرة المُتعلقة بالنمو العقلي للطفل. وهذا يستلزم ما يلي:
أولاً، مُقاربة تاريخية لمُعدّل النمو ومسألة ظهور مراحل مُتميزة من الطفولة في السياق التطوري التاريخي للبشرية. ثانياً، مُقاربة لكل مرحلة عُمرية من وجهة نظرالموقع الذي تحتله في الدورة العامة لنمو الطفل العقلي. ثالثاً، مفهوم للتطور العقلي بوصفه عملية مُتناقضة دياليكتيكياً، وهي عملية لا تسير على طول الطريق التطوري Evolutionary، بل على طول مسار يتميز بالانقطاع في الاستمرارية وظهور بُنىً جديدة نوعياً في سياق التطور. رابعاً، التمييز بين النقاط الحَرِجة في النمو العقلي باعتبارها نقاط تحوّل ضرورية ومطلوبة، والاعتراف بهذه النقاط كمعايير موضوعية للانتقالات من فترةٍ الى أُخرى. خامساً، التمييز بين المراحل المُختلفة نوعياً، وفيما يتعلق بذلك، التمييز بين "الفترات" و"المراحل" و"الأطوار" في النمو العقلي.
لم يتمكن بلونسكي وفيغوتيسكي من وضع مبادئهما الخاصة بمراحل النمو قيد التطبيق، بسبب عدم توافر شروط حل مسألة القُوى المُحركة للنمو العقلي للطفل. دارت الاجابة على هذه المسألة في ثلاثينيات القرن الماضي، حول عوامل النمو، وحول مسألة الأدوار النسبية للبيئة والوراثة في النمو العقلي. على الرغم من أن كِلا الباحثين حاولا إيجاد طريقة للخروج من المأزق الذي أوجدته نظرية "عوامل النمو" ورأيا أوجه قصورها العلمية والمنهجية والعملية، وعلى الرغم من أن فيغوتيسكي قد وَضَعَ الأساس لتطوير مسألة التعلّم والنمو، الا أنه لم يؤدي أيٌّ من أبحاثهم الى حل المسألة، وهذا بدوره أعاق أي دراسة خاصة لقضية مراحل النمو.
كانت احدى أهم مُنجزات علم النفس السوفييتي في أواخر الثلاثينيات هو استدخال مفهوم "النشاط" في البحث حول نشأة وتطور العقل والوعي (من خلال أبحاث اليكسي ليونتيف وسيرجي روبنيشتاين). كانت النتيجة، تغيراً عميقاً، ليس فقط في الأفكار السائدة حول القُوى الدافعة للتطور العقلي وحسب، بل وفي مبادئ التمييز بين مراحلها الفردية أيضاً. ووُجِدَ لأول مرة أن حل مسألة القوى الدافعة للتمو العقلي للأطفال له صلة مُباشرة بمسألة مبادئ التمييز بين المراحل المُحددة في النمو العقلي.
تم تطوير هذه الفكرة الجديدة بشكلٍ واضحٍ في أعمال اليكسي ليونتيف، الذي كَتَب: "وهكذا، يجب، لدُنّ دراسة التطور العقلي للطفل، أن ننطلق من تطور نشاطه الذي ينشأ من ظروف حياة الطفل المعنية... الحياة أو النشاط بشكلٍ عام لا تنهض ميكانيكياً من أشكالٍ مُعينة من النشاط. تكون بعض أنواع النشاط، في مرحلةٍ مُعينة، أكثر بروزاً وأكثر أهميةً للتطور اللاحق للشخصية، بعض الأُنشطة الأُخرى تكون أقل أهميةً من ذلك. تلعب بعض الأنواع دوراً رائداً في النمو، ويلعب بعضها الآخر دوراً ثانوياً. هذا هو السبب في أننا يجب أن نتحدث حول اعتماد النمو العقلي ليس على النشاط بشكلٍ عام، بل على الشكل الرائد والمُهيمن للنشاط. وفقاً لهذا، يُمكننا القول، أن كُل مرحلة من مراحل النمو العقلي تتميز بعلاقة واحدة مُهيمنة للطفل مع بيئته، من خلال نشاط واحد مُهيمن في تلك المرحلة المُحددة. ان مؤشّر الانتقال من مرحلة الى أُخرى هو تحوّل في النشاط المُهيمن على وجه التحديد، أي تحوّل في علاقة الطفل المُهيمنة تجاه مُحيطه، الى علاقةٍ أُخرى"(6).
لقد أظهَرَت الأبحاث التجريبية التي أجراها اليكسي ليونتيف والكسندر فلاديميروفيتش زابوروجيتس Aleksandr Vladimirovich Zaporozhets وزوملاؤهما وأعمال أناتولي اليكساندروفيتش سميرنوف Anatoly Aleksandrovich Smirnov وبيوتر ايفانوفيتش زينتشينكو Petr Ivanovich Zinchenko وأتباع سيرجي روبنيشتاين، أظهَرَت اعتمادية المستوى الوظيفي للعمليات العقلية على طبيعة انخراطها في هذا النشاط أو ذاك. بمعنى آخر، تعتمد العمليات الذهنية (بدءاً من الحواس الأولية الى العمليات الفكرية العُليا) على دوافع ومهام النشاط الذي تُشارك فيه. انها تتحدد من خلال المكان الذي تشغَلهُ في بُنية النشاط (الفعل أو العملية). لَعِبَت هذه الحقائق دوراً مُهماً في حل عدد من المسائل المنهجية في علم النفس.
ومع ذلك، لسوء الحظ، لم تؤدِّ هذه المواقف الجديدة الى صياغة نظرية للتطور السيكولوجي ومراحل النمو. برأينا، يرجع الفشل في تطوير مثل هذه النظرية الى حقيقة أن الأبحاث في المُحتوى السيكولوجي للنشاط قد أهمَلَت الجانب الموضوعي السياقي للنشاط، مُعالجةً اياه على أنه جانب يقع خارج علم النفس. تم حصر الاهتمام على بُنية النشاط، وعلى الرابط بين الدوافع والمهام والاجراءات داخل النشاط. أُعيقَ حل مسألة مراحل النمو العقلي أيضاً من خلال حقيقة أننا درسنا نوعين فقط من النشاط المُرتبطين مُباشرةً بالنمو العقلي في مرحلة الطفولة، وهما اللعب والتعلّم. ومع ذلك، في الواقع، لا يُمكننا أبداً فهم عملية النمو العقلي دون اجراء بحث شامل للجانب الموضوعي السياقي للنشاط، أي دون توضيح سؤال: أيٌّ من جوانب الواقع تلك، التي يتفاعل الطفل معها، وبالتالي، الى أي جوانبٍ يتجه، أثناء تأديته هذا النشاط أو ذاك؟

***

عانَت مفاهيمنا، حول النمو العقلي للطفل، حتى وقتنا الحاضر، من الفصل الجذري لعمليات التطور الفكري عن عمليات تطور الشخصية. كان احدى نتاجات هذا الفصل هو اقتصار تطور الشخصية، المحرومة من الأُسس الراسخة، على تطور المجال العاطفي. أشارً فيغوتيسكي في بداية الثلاثينيات، الى ضرورة النظر الى تطور الفكر والعاطفة كوحدة دينامييكية. ولكن منذ ذلك الوقت، نُظِرَ الى تطور قوى الطفل المعرفية وتطور الحاجة العاطفية على أنهما عالمين مُنفصلين تماماً، وان كانا متوازيين. تنعكس هذه الفكرة، في النظرية التربوية والممارسة، في الانقسام بين التربية من جهة، والتعليم من جهةٍ أُخرى.
ربما يكون أوضح مفهوم للتطور الفكري المُنفصل عن الحاجة العاطفية هو ذلك المفهوم الموجود في نظريات السيكولوجي الفرنسي جان بياجيه. قد يكون بياجيه هو أفضل من طَرَحَ التصور الأكثر اكتمالاً لكيفية ظهور كُل مرحلة فردية في التطور الادراكي الذي ينشأ مُباشرةً من المرحلة السابقة (هذه النظرة للتطور الفكري للطفل، هي سمة لجميع النظريات الادراكية الى هذا الحد أو ذاك). يكمن وجه قصور وجهة النظر هذه في عدم قُدرتها على تفسير الانتقالات من مرحلة تطور فكرية الى المرحلة التي تليها. لماذا ينتقل الطفل من المرحلة ما قبل العملياتية الى المرحلة العملياتية الملموسة من ثُم الى المرحلة العملياتية الشكلية (حسب مُصطلحان بياجيه)؟ لماذا ينتقل الطفل من التفكير ذو النمط المُعقّد الى التفكير ما قبل المفاهيمي، وأخيراً الى التفكير المفاهيمي (حسب مُصطلخات فيغوتيسكي)؟ لماذا يحدث انتقال من مرحلة النشاط العملي الى مرحلة الصور ومن ثم الى المرحلة الخطابية اللفظية (حسب المُصطلحات الحالية)؟ لا توجد اجابات واضحة على هذه الأسئلة. ولدن غياب مثل هذه الاجابات، فإن أسهل مخرج هي الاشارة الى "النُضج" الطبيعي، أو الى بعض القُوى خارج عملية التطور العقلي الفعلية.
يُنظَر الى تطور مجال الحاجة العاطفية، وهو تطور يُطابَق أحياناً، كما أشرنا مُسبقاً، مع تطور الشخصية، بطريقةٍ مُشابهة: مراحله مُرتّبة خطياً، بشكل مُستقل عن التطور الادراكي. هنا، أيضاً، لا يوجد أي تفسير للانتقال من مجموعة من الحاجات والدوافع للنشاط، الى مجموعةٍ أُخرى.
وهكذا، يظهر نوع من الثنائية في التطور العقلي، والذي يُنظَر اليه على أنه يتبع خطين أساسيين ومتوازيين: خط تطور مجال الحاجة الدافعي، وخط تطور العمليات الادراكية، أي التفكير. هذه الثَنَوية والموازاتية هي التي يجب أن يتم تغلّب عليها من أجل فهم التطور العقلي للطفل كعملية وِحدَوية Unitary.
يكمن وراء هذين الثنوية والموازاتية مُقاربةً طبيعانيةً لنمو الطفل العقلي، وهي المُقاربة التي تُميّز النظريات الغربية، والتي لم يتم القضاء عليها تماماً بعد في علم النفس السوفييتي لسوء الحظ. أولاً وقبل كل شيء، تنظر هذه المُقاربة الى الطفل على أنه فرد مُنعزل يكون المُجتمع بالنسبة له "بيئةً مُحيطة". ثانياً، يُنظَر الى التطور العقلي على أنه مُجرّد عملية تكيّف مع ظروف الحياة في المُجتمع. ثالثاً، يُنظَر على المُجتمع على أنه اتحاد بين عُنصرين مُنفصلين: "عالم الأشياء" و"عالم الناس"، وكلاهما عُنصرين أساسيين في "البيئة المُحيطة". رابعاً، يتكون التطور العقلي بالضبط من مجموعتين من آليات التكيف: التكيّف مع "عالم الأشياء" والتكيف مع "عالم الناس".
انه آليات تكيفية داخل نظامين مُنفصلين: منظومة "الطفل-الأشياء"، ومنظومة "الطفل-الآخرين". ان هذه النظرة بالتحديد هي التي أدت الى وجود خطين مُنفصلين للتطور العقلي. هذه بدورها مصدر لنظريتين: نظرية بياجيه عن الفكر والتطور الادراكي، ونظرية مجال الحاجة العاطفية وتطورها كما طَرَحها سيغموند فرويد والفرويديون الجُدد. على الرغم من الفروقات في محتويهما السيكولوجي الملموس، الا أن هذين التصورين يرتبطان ارتباطاً وثيقاً في تفسيراتهما الأساسية للنمو العقلي كتطور لآليات تكيّف السلوك. بالنسبة لبياجيه، يُعتَبر العقل آلية تكيفية، ويتطور من خلال تطوير أشكال تكيّف الطفل مع "عالم الأشياء". بالنسبة لفرويد والفرويديين الجُدد، فإن آليات الاستبدال والرقابة والازاحة، الخ، هي آليات لتكيّف الطفل مع "عالم الناس".
يجب أن نؤكّد حقيقة أنه عند النظر الى تكيّف الطفل ضمن نظام (الطفل-الأشياء)، تظهر الأخيرة، كمواضيع مادية لها خصائص مكانية وفيزيائية بشكلٍ أساسي. عند النظر الى نظام (الطفل-الآخرين)، تظهر الأخيرة كأفراد عشوائيين بسماتهم الشخصية الفردية، وأمزجتهم الخاصة، وما الى ذلك. إن تم النظر الى الأشياء كأنها مواضيع فيزيقية، والناس كأنهم أفراد عشوائيين، فإن تكيّف الطفل مع هذين "العالمين" يبدو أنه في الواقع يسير على خطين مُتوازيين ومُستقلين(7).
ليس من السهل التغلّب على هذه المُقاربة، لأن الواقع، بالنسبة للطفل، يظهر في شكلين اثنين. لقد واجهتنا حالة انقسام واقع الطفل الى "عالم الأشياء" و"عالم الناس" في دراساتنا التجريبية حول طبيعة لَعِب الأدوار (التمثيل) عند أطفال ما قبل المدرسة. في مُحاولة لتوضيح حساسية لَعِب الأدوار لهذين المجالين من الواقع، قُمنا في بعض الحالات بتعريف الأطفال بالأشياء وخصائصها ووظائفها. على سبيل المثال، نقوم بإطلاع الأطفال على الحيوانات وبيئتها ومظهرها الخارجي وما الى ذلك، خلال لعبةٍ يُمثّلون فيها بأنهم ذاهبون الى رحلةٍ الى حديقة الحيوان. على الرغم من أن حيوانات بلاستيكية وُضِعَت في حضانة الاطفال بعد لعبة الرحلة، الا أن لَعِب الأدوار لم يتطور. استخدمنا، في حالةٍ أُخرى، اطلاعاً للأطفال على وظائف الأشخاص الذين يخدمون كطاقم لحديقة الحيوان وعلاقاتهم المُتبادلة: أمين الصندوق، جامع التذاكر، المُرشدين، الزوار الذين يُطعمون الحيوانات، طبيب الحيوانات البرية، وما الى ذلك. بعد هذه الرحلة، أَخّذَ الأطفال، كقاعدةٍ عامة يلعبون هذه الأدوار، ومثّلوا أو نمذجوا مهام نشاط البالغين والعلاقات بينهم. بالاضافة الى ذلك، اتخذت المعارف التي حصّلها الأطفال سابقاً عن الحيوانات البرية سياقاً ومعنى في هذه الألعاب. وأشارت نتائج هذه الدراسة الى حقيقة أن لعب الأدوار حساس بشكلٍ أساسي بالنسبة لـ"عالم الناس"، وأنه في هذا اللعب، يقوم الأطفال بنمذجة أهداف ودوافع النشاط البشري وقواعد العلاقات الانسانية. بالاضافة الى ذلك، أظهَرَت الدراسة أن العالم يبدو بالنسبة للطفل مُنقسماً الى عالمين، مجالين، وأن هناك ارتباطاً وثيقاً بين نشاط الطفل في كليهما (على الرغم من أننا في هذه الدراسة لم نتمكن من القاء الضوء على الخصائص التي تُميّز ذلك الارتباط).

***

يتطلب التغلّب على الفهم الطبيعاني للتطور العقلي مُقاربةً جديدةً جذرياً للعلاقة المُتبادلة بين الطفل والمُجتمع. لقد قادنا الى هذا الاستنتاج بحث خاص حول النشوء التاريخي للعب الأدوار. على عكس الرأي القائل بأن لعب الأدوار ظاهرة أزلية تقع خارج نطاق التاريخ، افترضنا أن لعب الأدوار ظهَرَ في مرحلةٍ مُعينةً من التطور الاجتماعي، حين تغيّر موقع الطفل في المُجتمع على مدار التاريخ. لعب الأدوار هو في بالأصل، نشاط اجتماعي، وهو بالتالي، اجتماعي في مُحتواه.
هذه الفرضية المُتعلقة بالأصل التاريخي للعب، مدعومةً بالمواد الأنثروبولوجية والاثنولوجية. هذه المادة، توضّح أن لَعِب الأدوار ظَهَرَ مع تغير وضع الطفل في المُجتمع.
لقد تغيّر وضع الطفل في المُجتمع على مدار التاريخ، ولكن كان الطفل، في جميع الأزمنة والأماكن جُزءاً من المُجتمع بالطبع. كان الارتباط بين الطفل والمُجتمع، في المراحل الأولى من تطور البشرية، مُباشراً، حيث عاشوا، منذ سنواتهم الأولى، حياةً مُشتركةً مع الكبار، وكان نمو الطفل في هذه الحياة المُشتركة عمليةً مُوحّدةً ومُندمجة. كان الطفل يُشكّل جُزءاً عُضويً من قُوى المُجتمع الانتاجية، وكانت مشاركته فيه محدودةً بُقدراته الجسدية فقط.
مع تزايد تعقيد وسائل الانتاج والعلاقات الاجتماعية، تغيّرت الصلة بين الطفل والمُجتمع: هذه الصلة، التي كانت في السابق مُباشرة، أصبح يتوسطها الآن معايير التعليم والتنشئة. ومع ذلك، لم يتغيّر نظام (الطفل-المُجتمع)، ولم يُصبح نظاماً لـ (الطفل والمُجتمع) (حرف الواو في النظام الأخير، يعني التباين بالاضافة الى الارتباط). سيكون من الأصح، الحديث عن نظام (الطفل في المُجتمع). صارت العائلة، بشكلٍ مُتزايد، تتولى وظائف التعليم والتنشئة، في عملية التطور الاجتماعي، والتي صارت (أي العائلة) وحدةً اقتصاديةً مُستقلة. في الوقت نفسه، صارت الروابط بين الأسرة والمُجتمع تبتعد أكثر فأكثر عن الطابع المُباشر. وهكذا، أصبحت مجموعة العلاقات التي تُميّز (الطفل في المُجتمع) محجوبةً ومخفيةً من قَبَل نظام علاقات (الأُسرة-الطفل) وكذلك نظام علاقات (الطفل-الفرد الراشد).
اذا نظرنا الى تشكيلة شخصية الطفل في نظام (الطفل في المُجتمع)، يُمكننا أن نرى كيف أن الروابط في النظامين (الطفل-الأشياء) و(الطفل والفرد الراشد) تتخذ طابعاً مُختلفاً بشكلٍ جذري. انهما يتحولان من نظامين مُستقلين الى نظامٍ واحدٍ موحّد. ونتيجةً لذلك،، يتغير مُحتوى كل نظام بشكلٍ أساسي. عندما نفحص نظام (الطفل-الشيء) نرى الآن أن الأشياء التي تحوز خصائص مادية ومكانية مُحددة، تظهر للطفل كأشياء اجتماعية: أنها أنماط للفعل على الشيء، مُطوّرة اجتماعياً.
ان نظام (الطفل-الشيء) هو في الواقع نظام (الطفل-الشيء الاجتماعي). ان أنماط الفعل على الشيء المُطوّرة بطريقٍ اجتماعي-تاريخي، غير مُعطاة لنا بشكلٍ مُباشر كخصائص فيزيائية للأشياء. لا نجد على الشيء نقشاً مكتوباً عليه أين وكيف نشأ، وكيف يُمكننا التعامل معه، وكيف يُمكننا اعادة انتاجه. لذلك، لا يُمكن استيعاب، وتملّك ذلك الشيء من خلال التكيّف، من خلال مجرد استيعاب خصائصه الفيزيائية. يجب أن يحدث هذا داخلياً، يجب أن يمر الطفل بعملية خاصة لتعلّم أنماط الفعل الاجتماعية-التاريخية مع الأشياء. تخدم الخصائص الفيزيائية للشيء، في هذه العملية، كمرجعٍ فقط لتوجه الطفل في أفعاله وتعامله مع هذا الشيء(8).
عندما يتعلم الطفل أنماط الفعل على الأشياء المُطوّرة اجتماعياً، فإنه يتحول الى عضو في المُجتمع، من خلال عملية تتضمن قواه الفكرية والمعرفية والبدنية. بالنسبة للطفل نفسه (وكذلك للبالغين غير المُنخرطين في عملية التربية والتعليم المُنظمة)، يظهر هذا التطور في المقام الأول على أنه توسّع مجال استيعابه للنشاط المُتضمن الأشياء-التوسع خارجاً ليتضمن المزيد من الأفعال، والى الأعلى نحو مستوى كفاءة أفضل. انه من حيث هذه المعايير، يُقارن الطفل مُستواه بمستوى البالغين وغيره من الأطفال. يظهر الشخص البالغ، في مثل هذه المُقارنة، ليس فقط كحاملٍ لأنماط الفعل الاجتماعية مع الأشياء، ولكن أيضاً كشخصٍ يؤدي مهام اجتماعية مُحددة.
لقد تم عرض السمات التي تُميّز اكتشاف الطفل المعنى الانساني لأفعال الأشياء (على سبيل المثال، الأفعال الموجهة نحو امساك الأشياء واللعب بها الأشياء) في عددٍ من الدراسات. على سبيل المثال، وَصَفَت ف. فرادكينا، كيف يبدأ الطفل الصغير، في مرحلةٍ مُعينة من استيعاب الأفعال على الأشياء، بمُقارنة ومُشابهة أفعاله بأفعال الكبار. يظهر هذا من خلال ان الطفل يُسمّي نفسه أحياناً بإسمين، اسمه واسم شخص بالغ. على سبيل المثال، قد يقول طفل يُقلّد شخص بالغ يقرأ جريدة أو يكتب: "ميشا-بابا"، أو طفلة صغيرة تُقلّد عمل امها فتقول: "فيرا-ماما". أشارت ليا سولومونوفنا سلافينا Leah Solomonovna Slavina (10) في بحثها، كيف أن الطفل، فور أن يكتشف المعنى البشري للأفعال مع الأشياء، يتمسك بها باصرار، ساحباً هذا المعنى حتى على أبسط الأشياء حوله.
أُجرِيَت هذه الأبحاث على مواد محدودة تتعلق بتطوير الأفعال على الأشياء عند الأطفال الصغار جداً، لكنها تُشير الى ان اكتساب الطفل لأنماط العمل على الأشياء، يقوده بشكلٍ طبيعي نحو الشخص البالغ باعتباره حاملاً لأهداف النشاط الاجتماعية. بالنسبة للآلية النفسية للانتقال في كل حالةٍ ملموسة وفي كل مرحلةٍ ملموسةٍ من التطور، فإن ذلك يتطلب المزيد من البحث اللاحق.
ان نظام (الطفل-الراشد) بدوره، يتخذ أيضاً مُحتوىً مُختلفاً الى حدٍ كبير. لم يعد البالغ يظهر في المقام الأول كمجموعةٍ من السمات العشوائية والفردية، ولكن كحاملٍ لأنماطٍ مُعينةٍ من النشاط الاجتماعي، ومؤدٍّ لمهامٍ مُعينة، بإعتباره شخصاً موجوداً مع أشخاصٍ آخرين، وموجود ضمن إطار علاقاتٍ إجتماعيةٍ ضمن معايير مُعينة. لكن لا يُمكن لأهداف ودوافع نشاط البالغ أن تكون ظاهرةٍ بشكلٍ مرئي من خلال النشاط نفسه. ظاهرياً، يرى الطفل ذلك النشاط كتحويلٍ وإنتاجٍ للأشياء. تنكشف أهداف ودوافع النشاط فقط حينما يُنفّذ في اطار العلاقات الاجتماعية الحقيقية. ولكن الطفل غير قادر على رؤية النشاط في هذا السياق. ومن هنا، تنشأ الحاجة الى عملية خاصة من تعليم أهداف ودوافع النشاط الانساني وقواعد العلاقات الانسانية التي يتوافق الناس معها خلال ممارستهم النشاط.
لسوء الحظ، لم يتم البحث في السمات السيكولوجية المعنية لعملية التعليم والتعلّم تلك بشكلٍ كافٍ. ولكن، يُمكننا، أن نطرح الفرضية التالية على أساس المعارف التي نمتلكها: يتعلم الطفل أهداف ودوافع ومعايير علاقات البالغين من خلال إعادة انتاج أو تقليد هذه العلاقات في نشاطه الخاص، ضمن مجموعات واطارات اجتماعية ينتمي اليها. تجدُر الاشارة الى أن الطفل، في عملية التعلّم، يجد أنه من الضروري تعلّم أفعال جديدة موجهة للأشياء ضرورية لأداء نشاط البالغين. وهكذا، ينظر الطفل الى البالغ على أنه حامل أنماط فعل جديدة وأكثر تعقيداً مع الأشياء، وحامل لمعايير مُطوّرة اجتماعياً ضرورية للتوجه في العالم المُحيط.
ومن هُنا، يُمثّل نشاط الطفل داخل نظامي (الطفل-الشيء الاجتماعي) و(الطفل-البالغ الاجتماعي) عمليةً موحّدةً تتشكل شخصيته فيه.
ومع ذلك، تنقسم هذه العملية الموحّدة لعملية حياة الطفل، في سياق التطور التاريخي، وتُطوّرُ جانبين اثنين. يخلق هذا الانقسام الشروط المُسبقة لتضخّم أحدهما. تستغل المدرسة في المُجتمع الطبقي هذه الاحتمالية من خلال تعليم بعض الأطفال على الجوانب العملياتية-الفنية للعمل في المقام الأول، وتعليم الآخرين بشكل رئيسي بوصفهم كحاملين لأهداف ودوافع هذا النشاط. فقط المُجتمع الطبقي هو الذي يتميز بمثل هذا الاستغلال للانقسام الحاصل تاريخياً في وحدة عملية حياة الطفل ونموه في المُجتمع.

***

ترتبط الأفكار النظرية التي طورناها أعلاه بمسألة مراحل التطور العقلي للطفل. دعونا ننتقل الى المواد الوقائعية المُتراكمة في علم نفس الطفل. سنختار، من بين العديد من الأبحاث التجريبية التي أُجرِيَت في السنوات العشرين الى الثلاثين عاماً الأخيرة، تلك التي أثرَت معارفنا بأنماط نشاط الطفل الأساسية. دعونا ننظر الى أهمها، بإيجاز.
1- حتى وقتٍ قريب، كان هناك قدر كبير من الشك فيما يتعلق بالخصائص السياقية الموضوعية لنشاط الأطفال الرُضّع (مرحلة البداءة). لم نكن مُتأكدين أي نشاط ذلك الذي كان مُهيمناً خلال هذا العُمر. اعتبَرَ بعض الباحثين، (مثل ليديا ايلينيتشنا بوجوفيتش Lydia Ilyinichna Bozhovich وآخرين) أن ما هو أولي، هو حاجة الرضيع للتحفيز الخارجي. وبالتالي، كان الجانب الأكثر أهميةً في نشاط الطفل هو تطوير الأفعال التوجيهية. أعارَ آخرون (جان بياجيه وآخرين) المزيد من الاهتمام لتطوير النشاط الحسي. أكّدَت مجموعة ثالثة من الباحثين (غيتا لفوفنا روزينغارد-بابكو Gita Lvovna Rosengart-Pupko، وآخرين) أكّدوا على أهمية اتصال وتماس الرضيع مع البالغين.
أظهَرَت الأبحاث التي أجرتها مايا ايفانوفنا ليسينا Maya Ivanovna Lisina وزملائها في السنوات الأخيرة(11) بشكلٍ مُقنع أن الأطفال الرُضّع لديهم شكل خاص من نشاط التواصل الشخصي، وهو نشاط عاطفي بطبيعته. ان التقليد الذي يظهر خلال الشهر الثالث من حياة الرضيع، والتي كانت تُعتَبَر سابقاً رد فعل بسيط على الشخص البالغ (المُحفّز الأقوى والأكثر تعقيداً) هو في الواقع نشاط مُعقّد يعمل على انتاج تواصل مع البالغ ويوظّف وسائله الخاصة. من المُهم مُلاحظة أن هذا الفعل يظهر قبل وقتٍ طويل من بدء الطفل اللعب بالأشياء بيده أو قبل أن يُصبح فعل الامساك بالاشياء كاملاً. عندما يتحقق نشاط الامساك واللعب بالأشياء مع البالغين، لا تندمج أفعال التواصل في اطار النشاط المُشترَك الأوسع. انها لا تندمج في سياق التفاعلات العملية مع البالغين، لكنها تحتفظ بمحتواها ووسائلها الخاصة بها. أظهَرَت هذه الأبحاث وغيرها، أن تأثيرالافتقار للتواصل العاطفي (وكذلك التواصل العاطفي الفائض) حاسم على النمو العقلي لهذه الفترة. وهكذا، يُمكننا أن نفترض أن التواصل العاطفي المُباشر مع الكبار يُمثّل النشاط المُهيمن للرضيع، وتتشكل على خلفية هذا النشاط وضمنه، الأفعال التوجيهية والحسية وامكانات الامساك والعبث بالأشياء (استكشافها).
2- أثبتت هذه الأبحاث نفسها انتقال الطفل-في نهاية سن البداءة- الى النشاط الموجه نحو الأشياء، أي الى استيعاب أنماط الفعل على الأشياء، المُطوّرة اجتماعياً. ان تعلّم هذه الأفعال مُستحيل بالطبع بدون مُشاركة الكبار الذين يُظهرونها للأطفال ويؤدونها معهم. البالغ ليس سوى عُنصر واحد-وان كان العُنصر الرئيسي- في سياق وضع النشاط الموجه الى الأشياء. يتراجع التواصل العاطفي المُباشر مع الشخص البالغ الى دورٍ ثانوي. الدور المُهيمن الآن هو دور التعاون العملي الصارم في النشاط قيد العمل. يندمج الطفل مع الشيء واستكشافه له بيديه. لَفَتَ عددٌ من الباحثين الانتباه مراراً الى كيفية ارتباط الطفل بمجال أفعاله المُباشرة. نُلاحظ في هذه المرحلة بالذات ظهور "فيتيشية الشيء": يبدو أن الطفل لا يُلاحظ الشخص البالغ، الذي يبدو "مُختفياً" خلف الشيء وخصائصه.
أظهَرَ العديد من الباحثين، السوفييت والأجانب، أنه تحدث خلال هذه الفترة عملية مُكثّفة لتعلّم الأشياء والعمليات الأدواتية، وهكذا يتشكّل ما يُسمّى "الذكاء العَمَلي". بالاضافة الى ذلك، أظهَرَت الأبحاث المُفصّلة التي أجراها جان بياجيه وزملائه، حول نشأة الذكاء عند الطفل، ان التطور الحسي يحدث على وجه التحديد خلال هذه الفترة، وهو تطوّر يُهيئ لظهور الوظائف الرمزية Symblic --function--s(أ). لقد أشرنا مُسبقاً الى دراسات فرادكينا، والتي أظهرت، أن الأفعال تبدو، خلال عملية التعلّم عن طريقها (عن طريق الأفعال)، مفصولةً عن الأشياء التي تم تعلّمها في الأصل: نفس الأفعال التي تعلمها في التعامل مع شيء مُعيّن، تُنقل للتعامل مع أشياء أُخرى، والتي على الرغم من تشابهها، الا أنها ليست مُتطابقة مع الشيء الأصلي. هكذا، تتعمم الأفعال. أظهَرَت فرادكينا أنه يُصبح من المُمكن للطفل، بالضبط من خلال انفصال الأفعال عن الأشياء وتعميمها، مُقارنة ومُشابهة أفعاله بأفعال الكبار. بهذه الطريقة، يبدأ الطفل في استيعاب معنى وأهداف النشاط الانساني.
تُشير هذه النتائج الى أن النشاط المُهيمن في مرحلة الطفولة المُبكرة هو نشاط شيء-أدواتي، حيث يتعلم الطفل في سياقه أنماط عمل على الأشياء، مُطوّرة اجتماعياً.
للوهلة الأولى، يبدو أن هذا يتناقض مع حقيقة أن الطفل، يُطوّر خلال هذه الفترة، أشكالاً لفظيةً للتواصل مع البالغين. من كائنٍ بلا كلام والذي يكون تواصله مع البالغين من خلال العواظف والتقليد، يتحول الطفل الى كائنٍ مُتحدثٍ يستخدم قواعد ومُفرداتٍ واسعةٍ نسبياً. ومع ذلك، يكشف تحليل التواصل اللفظي للطفل، أنه يستخدم الكلام كوسيلةٍ لتعزيز التعاون مع البالغين في سياق نشاطهم المشترك في المقام الأول. بمعنى آخر، انه يخدم بمثابة وسيلة اتصالٍ عمليٍ صرف بين الطفل والبالغ. والأكثر من ذلك، لدينا سبب وجيه، للاعتقاد بأن الأفعال نفسها على الأشياء، والمهارة التي نؤديها بها، هي بالنسبة للطفل وسيلةً لتعزيز التعاون مع الكبار. هذه العلاقات يتوسطها أفعال الطفل على الأشياء. لذا، فإن التطوّر المُكثّف للكلام-ان نُظِرَ الى الكلام على أنه وسيلة لاسناد التعاون مع الكبار-لا يتعارض مع زعمنا بأن النشاط المُهيمن خلال هذه الفترة هو نشاط (الشيء)، الذي يتعلم الطفل من خلاله أنماطاً مُطوّرة اجتماعياً، للعمل على الأشياء.
3-أقامت أعمال ليف فيغوتيسكي واليكسي ليونتيف وغيرهما على أُسس راسخة لعلم النفس السوفييتي حقيقة أن نشاط ما قبل المدرسة المُهيمن هو اللعب، في أكثر أشكاله اتساعاً (لعب الأدوار). ان لدى اللعب بالنسبة للنمو العقلي للطفل في هذا العمر جوانب عديدة. تكمن أهميته الأساسية في واقع أن الطفل يُقلّد، عندما يلعب، العلاقات الانسانية بطُرُقٍ عديدة. انه، يتولّى، على سبيل المثال، دور الكبار ووظائفهم وأعمالهم في المُجتمع. انه يُعيد إنتاج الأفعال على الأشياء من خلال تعميمها في الفكر التمثيلي، وهو ينقل المعنى من شيء الى شيءٍ آخر، الخ. لا يحتوي الفعل على الشيء، إن أُخِذَ بشكلٍ مُنعزل، على اجاباتٍ "مكتوبةٍ عليه-على الشيء- لأسئلةٍ من مثل، لماذا نفذنا الأفعال على هذا الشيء؟ ما هي معناها الاجتماعي؟ ما هي دوافعها الاجتماعية الحقيقية؟ يُمكننا اكتشاف معناها الاجتماعي الحقيقي وغايته فيما يتعلق بالناس الآخرين، فقط عندما تندمج الأفعال على الشيء، في منظومة العلاقات الانسانية. يحدث هذا النوع من "الاندماج" في اللعب أيضاً. لعب الأدوار هو نشاط يُصبح الطفل فيه موجهاً نحو أكثر المعاني أساسيةً وشموليةً للنشاط الانساني. يبدأ الطفل، على هذا الأساس، في السعي لتحقيق نشاط مفيد ذو مغزىً اجتماعي، وهو يُظهِر بذلك العامل الرئيسي في الاستعداد للمدرسة. هذه هي الأهمية الرئيسية للعب في النمو العقلي. انه، أي النمو، وظيفته المُهيمنة.
4- افترَضَ فيغوتيسكي، في أوائل الثلاثينيات أن التعليم المدرسي هو العُنصر المُهيمن في النمو العقلي للأطفال في سن المدرسة. بالطبع، ليس أي تعليم هو الذي يُمارس مثل هذا التأثير على النمو: انه فقط ذلك التعليم "الجيد" الذي يحوز على مثل هذا التأثير. لا يجب الحُكم على جودة التعليم سوى من خلال كيفية تأثيره بالضبط على التطور والنمو الفكري للطفل. أجرى عُلماء النفس عدداً كبيراً من التجارب المُصممة لتحديد كيفية تأثير التعليم المدرسي على النمو العقلي. لا تسمح لنا حدود هذه المقال باستعراض جميع وجهات النظر المُختلفة. سنلفت الانتباه فقط الى حقيقة أن غالبية الباحثين-بغض النظر عن الكيفية التي قد ينظرون بها الى ذلك التأثير وأياً كانت الأهمية التي قد يعزونها الى جوانب التعليم المُختلفة (محتواه، منهجيته، تنظيمه)-يوافقون على أن التعليم هو العامل المُهيمن في التطور الفكري للطفل في سن المدرسة المُبكر.
ان نشاط التعلّم الرسمي، أي ذلك النشاط الذي يكتسب الطفل من خلاله معرفةً جديدةً والذي يجب أن يوفر نظام التعليم التوجيه المُناسب لأجله، هو النشاط المُهيمن في هذه الفترة. تتشكل القُوى الفكرية والادراكية للطفل بنشاط في سياق هذه العملية. تنعكس أولوية التعليم الرسمي أيضاً في حقيقة أن هذا النشاط هو الذي يتوسط منظومة علاقات الطفل الكاملة مع البالغين المُحيطين (وصولاً الى التواصل الشخصي داخل العائلة).
5- يطرح تمييز النشاط السائد خلال فترة المُراهقة صعوباتٍ أكبر. ترتبط هذه الصعوبات بحقيقة أن نشاط المُراهق الأساسي لا يزال هو التعلّم المدرسي. بالنسبة للبالغين، لا يزال الفشل أو النجاح في المدرسة هو المعيار الرئيسي لتقييم المراهقين. بالاضافة الى ذلك، لا يقترن الانتقال الى مرحلة المُراهقة، في ظل الظروف التعليمية الراهنة، بأي تغيرات خارجية جوهرية. ولكن، الانتقال الى فترة المُراهقة بالتحديد هو الذي حدده علم النفس على أنه الأكثر أهميةً.
من الطبيعي أن يبحث علماء النفس، في ظل غياب أي تغيرات في ظروف حياة الشخص المعني، عن سبب الانتقال الى فترة المُراهقة في التغيرات العضوية نفسها، وفي عملية نضجه الجنسي التي تحدث في هذه الفترة. لا شك أن التطور الجنسي يؤثر على تطور الشخصية خلال هذه الفترة، لكنه ليس التغير الأساسي. يُمارس البلوغ، مثله مثل التغيرات الأُخرى المُرتبطة بالنمو الفكري والجسدي، تأثيره بشكلٍ غير مُباشر، من خلال علاقات الطفل مع العالم المُحيط، ومن خلال مُقارنته لنفسه مع أقرانه والبالغين الآخرين، أي فقط ضمن مجموعة من التغيرات التي تحدث في هذه الفترة.
أظهَرَت عدد من الدراسات، كيف يظهر مجال جديد من الحياة في بداية هذه الفترة. عبّرَ عالم النفس الماركسي الفرنسي هنري فالون Henri Paul Hyacinthe Wallonبوضوح عن هذه الفكرة قائلاً: "عندما لا تعود الصداقة والمُنافسات مبنيةً على اتفاق أو اختلاف أو اهتمام بالمهام القائمة، وعندما تصير تلك الصداقات قائمةً على التقارب الأخلاقي أو النفور الأخلاقي، وعندما يبدو الطفل مُهتماً أكثر بالعلاقة الحميمة أكثر من التعاون الفعّال أو النزاع، حينها يكون البلوغ الجنسي قد حلّ محل الطفولة"(12).
أظهَرَت الأبحاث التي أُجرِيَت تحت اشراف دانييل إلكونين وت. دراغونوفا في السنوات الأخيرة(13) أن نشاطاً خاصاً ينمو ويتطور في مرحلة المُراهقة، وهو نشاط يتمثل في اقامة علاقات شخصية حميمة بين المُراهقين. وقد أُطلِقَ على هذا النشاط اسم نشاط الاتصال الاجتماعي. انه يختلف عن تلك العلاقات المُتبادلة الأُخرى التي تظهر أثناء التعاون العملي بين الأقران من حيث أن مُحتواها الرئيسي يتعلق بمُراهقٍ آخر كإنسان له صفات شخصية مُحددة. يُمكننا أن نُلاحظ، عند جميع أشكال النشاط الجماعي بين المُراهقين كيف تخضع العلاقات لـ"ناموس الصداقة". يُمكن أن تكون العلاقات الشخصية مبنيةً، وهي مبنية، ليس فقط على أساس الاحترام المُتبادل وحسب، ولكن أيضاً على أساس الثقة الكاملة وعالم داخلي خاص ومُشترك بشكلٍ مُتبادل. هذا المجال من الحياة المُشتركة بين الأصدقاء له أهمية خاصة في مرحلة المُراهقة. يتأثر تكوّن شخصية المُراهق بشكلٍ كبير بتشكّل العلاقات داخل مجموعة الأقران، على أساس "ناموس الصداقة"، ويُعيد هذا الناموس، في مُحتواه الموضوعي، انتاج أكثر المعايير العالمية الشاملة للعلاقات الشخصية المُتبادلة القائمة بين البالغين في المُجتمع.
الاتصال الاجتماعي، اذاً، هو الشكل الذي يتم فيه اعادة انتاج علاقات الراشدين بين المُراهقين، وهو الوسيلة التي يُصبح المُراهقون من خلالها أكثر درايةً بالمعايير التي توجه مُجتمع الراشدين.
وبالتالي، من الصحيح الافتراض بأن النشاط المُهيمن خلال تلك الفترة هو الاتصال الاجتماعي، وهو نشاط بناء العلاقات مع الأصدقاء على أساس معايير أخلاقية مُحددة تتوسط أفعال وتصرفات المُراهقين.
ومع ذلك، يُمكننا أن نأخذ الأمور الى أبعد من ذلك. الاتصال الاجتماعي، المبني على الثقة الكاملة وعالم خاص مُشترك، هو النشاط الذي الذي تتشكل من خلاله نظرات الطفل الأكثر عالميةً حول الحياة وحول العلاقات الانسانية ومُستقبله. انه باختصار، المعنى الشخصي لحياته. وهكذا، يبدأ تشكّل وعي الانعكاس الذاتي من جانب الطفل، أي وعيه الذاتي بوصفه "وعياً اجتماعياً مُستدخلاً"(فيغوتيسكي). وهذا بدوره، يسمح بظهور دوافع وأهداف جديد توجّه نشاط الطفل نحو المُستقبل وعلى طول قنوات التعليم والمهنة.
لقد تمكنا من القاء نظرة موجزة على أهم الحقائق المُتعلقة بالخصائص السياقية الموضوعية لأنماط النشاط المُهيمنة التي تم تحديدها حتى الآن، والتي يُمكننا على أساسها أن نقسم جميع الأنماط الى مجموعتين أساسيتين.
تتضمن المجموعة الأولى الأنشطة المصحوبة بتوجّه كثيف لمعاني النشاط الانسانية الأساسية وتعلّم أهداف ودوافع ومعايير العلاقات الانسانية، أي الأنشطة داخل نظام (الطفل-الراشد الاجتماعي). هناك بالطبع، اختلافاتٍ جوهرية بين اتصال الرضيع العاطفي المُباشر، ولَعِب الأدوار عند الأطفال الصغار، والاتصال الشخصي الحميم عند المُراهقين، وهي اختلافات تقع على أساس مُحتواها الملموس وعُمق تغلغل الطفل في مجال دوافع وأهداف نشاط البالغين. في الواقع، هذه الاختلافات، هي التي تسمح لنا بتصوّر انبثاق المراحل المُختلفة بوصفها نوع خاص من السلالم الذي يُمكّن الطفل من استيعاب مجال دوافع وأهداف النشاط، تدريجياً. ومع ذلك، تحوز هذه الأنشطة على مُحتوى أساسي مُشترك فيما بينها: يحدث التطوّر الأولي لمجال الدوافع والحاجات بالضبط ضمن هذه المجموعة من الأنشطة.
تتكون المجموعة الثانية من الأنشطة التي يكتسب الطفل بواسطتها كل أنماط الفعل على الأشياء المُطوّرة اجتماعياً والمعايير التي تُميّز الجوانب المُختلفة لتلك الأشياء. انها أنشطة (الطفل-الشيء الاجتماعي). هناك بالطبع، اختلافاتٍ جوهرية بين عناصر هذه المجموعة. ان امكانية الطفل الصغير في مسك الأشياء واللعب بها يحمل تشابهاً سطحياً مع نشاط تعلّم أطفال المدارس الصغار، وتشابه أقل مع النشاط المهني للمراهق الأكبر سناً المُوجّه نحو العمل. وفعلاً ، ما هو المُشتَرَك بين استيعاب العمليات الموضوعية التي تتضمن استخدام ملعقة أو كأس، مع استيعاب قواعد الرياضيات واللغة؟ ولكن، كل هذه لديها سمة مُشتركة واحدة: ان جميعها هي عناصر من الثقافة الانسانية التي تطورت تاريخياً. ان لديها أًلٌ مُشترك ومكان مُشترك في حياة المُجتمع، وكُلها تمثل نتاجاً تاريخياً. يُصبح الطفل، من خلال تعلّمه لأنماط الفعل على الأشياء المُطوّرة اجتماعياً، أكثر توجهاً نحو العالم الموضوعي، وتتشكل قواه الفكرية، ويُصبح جُزءاً من قُوى المُجتمع المُنتجة.
يجب هُنا، أن نؤكد على نُقطةٍ واحدة: عندما نتحدث عن النشاط المُهيمن وأهميته لنمو الطفل في هذه الفترة أو تلك، فإن هذا لا يعني بأي حالٍ من الأحوال أن الطفل قد لا ينمو ويتطور في اتجاهاتٍ أُخرى أيضاً. تكون حياة الطفل، في كُل فترة، مُتعددة الجوانب، وتتنوع الأنشطة التي تتشكل حياته منها. تظهر أنواع جديدة من النشاط، ويُقيم الطفل علاقاتٍ جديدةٍ مع مُحيطه. عندما يُصبح نشاط جديد ما، مُهيمانً، فإنه لا يُلغي جميع الأنشطة الموجودة سابقاً: انه فقط يُغيّر وضعها (الأنشطة السابقة) داخل منظومة العلاقات بين الطفل ومُحيطه، وبالتالي، تغتني (المنظومة) بشكلٍ مُتزايد.
ان أخذنا أنماط نشاط الطفل التي ميّزناها حتى اللحظة ورتبناها في مجموعاتٍ تبعاً للترتيب الذي تُصبح به نشاطاً مُهيمناً، سنحصل على التسلسل التالي:
الاتصال العاطفي المُباشر- المجموعة الأُولى
امساك الأشياء واللعب بها- المجموعة الثانية
لَعِب الأدوار- المجموعة الأُولى
التعلّم الرسمي- المجموعة الثانية
العلاقات الشخصية الحميمة- المجموعة الأُولى
النشاط المُوجّه مهنياً- المجموعة الثانية
وهكذا، يتألف تطور الطفل ونموه، من ناحية، من فتراتٍ تتميّز بشكلٍ رئيسي باستيعاب أهداف ودوافع ومعايير العلاقات البشرية، وعلى هذا الأساس، تتميز بتطوّر مجال الحاجة الدافعي، ومن جهة أُخرى، من فترات تتميز أساساً باستيعاب أنماط فعل على الأشياء مُطوّر اجتماعياً، وتتميز على هذا الأساس بتشكّل القُوى الفكرية والمعرفية للطفل، وقدراته العملياتية الفنية.
من خلال ما لاحظناه أعلاه، يُمكننا صياغة فرضية حول تناوب فترات النمو: ان الفترات التي نرى فيها تطوراً مُهيمناً لمجال الحاجات والحوافز عند الطفل، تتناوب بانتظام مع فتراتٍ نُلاحظ فيها هيمنة تطور ونمو القدرات العملياتية الفنية.
تُتيح لنا مجموعة كبيرة من مواد علم النفس السوفييتي بالتمييز بين انتقالين حادّين في نمو الطفل العقلي: أولاً، الانتقال من مرحلة الطفولة المُبكرة الى سن ما قبل المدرسة، وعادةً ما يُطلَق عليه أزمة عمر الثلاث سنوات. ثانياً، الانتقال من سن المدرسة المُبكرة الى سن المُراهقة، والتي يُشار اليها عادةً باسم أزمة البلوغ. تكشف مُقارنة أعراض هذين الانتقالين عن تشابهٍ كبيرٍ بينهما. يُظهِر الطفل، في كلتا الفترتين، ميلاً نحو الاستقلالية بالاضافة الى سلسلة من الظواهر السلبية المُرتبطة بعلاقته مع الكبار. عندما نُدخل هذه الانتقالات الحرجة في مُخطط فترات نمو الطفولة، نصل الى النمط العام لـ"الفترات" و"المراحل" و"الأطوار".
تتكون كل فترة من مرحلتين مُتصلتين بانتظام. أول هاتين المرحلتين يُهيمن عليها تعلّم أهداف ودوافع ومعايير النشاط الانساني وتطور مجال الحاجة الدافعي. في هذه المرحلة، يتم التحضير للانتقال الى المرحلة الثانية، التي يُهيمن عليها استيعاب أنماط العمل على الأشياء، وتطور القُدرات العملياتية الفنية.
تنتظم جميع الفترات الثلاث (الطفولة الأولى، الطفولة، المُراهقة) على نفس المنوال وتتألف كُلٌّ منها من مرحلتين مُتصلتين بانتظام: تتكون فترة الطفولة الأولى من مرحلتي البداءة Infancy والطفولة المُبكرة. وتتكون فترة الطفولة من مرحلتي ما قبل المدرسة، والمدرسة المُبكرة، أما فترة المُراهقة، فتتكون من مرحلتي المُراهقة المُبكرة، والمُراهقة المُتأخرة. وتتكون كل مرحلة من تلك المراحل، من طورين: الأول والثاني. يتميز الانتقال من فترةٍ الى أُخرى بتمايز قُدرات الطفل العملياتية الفنية من جهة، عن المهام الدوافع التي تُشكّل النسيج الذي تُنسَج منه تلك القُدرات من جهةٍ أًخرى. لا نعرف سوى القليل جداً عن الانتقال من مرحلةٍ الى أُخرى، أو من طورٍ الى آخر.
ما هي بالضبط، الأهمية النظرية والعملية لفرضيتنا هذه فيما يتعلق بمراحل النمو؟
بادئ ذي بدئ، تكمن الأهمية النظرية الرئيسية لفرضيتنا، في حقيقة أنها تُتيح لنا التغلّب على الفصل الحاصل في علم النفس بين تطور جانب الحاجة الدافعي من جهة، والجانب الفكري والمعرفي للشخصية من جهةٍ أُخرى. ويسمح لنا بإظهار وحدتهما وصراعهما الدياليكتيكي. ثانياً، تُمكننا فرضيتنا من النظر الى عملية التطور العقلي بشكل حلزوني تصاعدي، وليس بشكل خطي. ثالثاً، تفتح الطريق لدراسة الروابط بين المراحل الفردية، من أجل تفسير كيف تضع كل مرحلة الأساس للعبور وظيفياً الى المرحلة التالية. رابعاً، تقوم فرضيتنا بتقسيم التطور الى فترات ومراحل بطريقة تتوافق مع القوانين الداخلية لذلك التطور، وليس توافقاً مع عوامل خارجية فقط.
تتمثل الأهمية العملية لفرضيتنا، في أنها تُساعد على حل مسألة كيفية تعريض الطفل لتأثيرات مُعينة في كل مرحلة من مراحل التطور، وتطرح مُقاربةً جديدة لمسألة الروابط بين مُختلف مؤسسات نظامنا التعليمي الحالي. وفقاً لمُتطلبات هذه الفرضية، يجب أن يكون لدينا رابط عضوي قوي ومُحكم في تلك المناطق التي تقع بين كُل مؤسسة تعليمية (مؤسسات ما قبل المدرسة، المدرسة، الجامعة). ويجب، في الأماكن التي تحوز اتصالية (الصفوف الابتدائية، الصفوف الأساسية) أن يكون هناك، انقلاب وتحويل الى نظام تعليمي جديد.
بالطبع، سيُظهر المزيد من البحث مدى دقة فرضيتنا في عكسها التطور العقلي للطفل. ومع ذلك، فإننا نعتبر أن نشر فرضيتنا، على الرغم من نُدرة المواد الوقائعية فيها، مُبرر تماماً. يجب أن نتذكر كلمات فريدريك انجلز: "ان انتظرنا الى ذلك الوقت الذي تتجمع فيها المواد حول قانونٍ ما، فسيتعين علينا أن نوقِفَ بحثنا النظري حتى هذه النُقطة، وهذا وحده من شأنه أن يمنعنا من التوصّل الى القانون".

* دانييل بوريسوفيتش إلكونين 1904-1984، عالم نفس ومُعلّم ماركسي سوفييتي. التحَقَ الكونين بكُليّة علم النفس والانعكاس في معهد لينينغراد للتربية الاجتماعية عام 1924، وتخرّجَ عام 1927. عَمِلَ كمُدرّس في طب الأطفال، وفي معهد لينينغراد التربوي الحكومي منذ عام 1929، حيث كان موضوع عمله هو (مسألة اللعب عند الأطفال) بالاشتراك مع ليف فيغوتيسكي. عَمِلَ منذ عام 1937 كمُدرّس طلاب الابتدائية في احدى مدارس لينينغراد، وقام بالتدريس في المعهد التربوي، وقام بتأليف كُتُب مدرسية باللغة الروسية لشعوب أقصى الشمال. دافَعَ عام 1940 عن اطروحته لنيل درجة الدكتوراة بعنوان (نمو الكلام عن أطفال المدارس). بعد انتهاء الحرب، وقضاءه اياها على الجبهة الحربية، عُيِّنَ مُدرساً في المعهد التربوي التابع للجيش الأحمر، حيث درّسَ علم النفس وطوّرَ مبادئ علم النفس العسكري السوفييتي هناك.
عَمِلَ إلكونين منذ عام 1953 في معهد السيكولوجيا السوفييتي للتعليم، حيث ظل يعمل هناك طيلة حياته. دافَعَ عام 1962 عن رسالته للدكتوراة، وانتُخِبَ عام 1968 عضو مراسل في أكاديمية العلوم السوفييتية. ودرّسَ لسنواتٍ طويلة في كُلية السيكولوجيا في جامعة موسكو الحكومية. كان مجال أبحاثه يتركز حول مسألة النشاط الانساني، ومسألة تاريخ ومنهجية نظرية دراسة التطور الذهني للطفل وتحقيبها. وكَتَبَ أيضاً مجموعة من الأبحاث حول فكر ليف فيغوتيسكي.
من المنشورات الأساسية: (مذهب الانعكاسات المشروطة) 1930، (القضايا السيكولوجية للعب أطفال ما قبل المدرسة) 1948، (حول أطفال المدارس الصغار) 1951، (النمو الذهني للطفل من الولادة وحتى دخول المدرسة) 1956، (ألعاب الدور الخلّاق لأطفال ما قبل المدرسة) 1957، (سيكولوجيا الطفل) 1960، (مسائل سيكولوجيا النشاط التعليكي لأطفال المدارس الأصغر سناً) بالاشتراك مع فاسيلي دافيدوف 1962، ((سيكولوجيا الشخصية ونشاط طفل ما قبل المدرسة) 1965، (سيكولوجيا تعليم الأطفال الصغار) 1974، (كيف نُعلّم الطفل أن يقرأ) 1976، (سيكولوجيا اللعب) 1978-30 ألف نُسخة، وغيرها.

1- Blonskiy, P. P. Pedologiya. Moscow: Uchpedgiz, 1934, P326
2- Blonskiy, P. P. Vozrastnaya pedologiya. Moscow- Leningrad: Rabotnik Pr osves hcheniya, 193 0, P7
3- Vygotskiy, L. S. Problema vozrasta. Unpublished manu-script-, P6
4- Ibid, P5
5- Ibid, P34
6- Leont ev, A. N. Problemy razvitiya psikhi. (2nd ed.), Moscow: Mysl , 1965, P501-502
7- لقد تم إظهار عملية تحصيل أنماط الفعل المُتطور اجتماعياً بأكبر قدر من التفصيل في أعمال بيوتر غالبيرن وزملائه.
8- ان تحليل الظروف التاريخية التي تُحيط بأصول هذه الثنوية والموازاتية، يقع خارج نظاق الدراسة الحالية. سنُلاحظ فقط، ان تلك الثنوية والموازتية، هي نتاج لاغتراب الانسان وانفصاله عن نتاج نشاطه، لأن هذا الاغتراب موجود مُسبقاً في المُجتمع الطبقي.
9- Fradkina, F. I. Psikhologiya igry v rannen detstve. Candidate s dissertation. Moscow, 1946
10- Slavina, L. S.Tazvitie motivov igrovoy deyatel nosti. Izvestiya APN RSFSR, 1948, No. 14
11- Zaporozhets, A. V., & Lisina, M. I. (Eds.) Razvitiya obshcheniya so vzrsoslymi i sversthikami u detey rannego i doshkol nogo vozrasta, in press
أ- تحدث مرحلة الوظائف الرمزية في الأطفال في السنوات ما بين سنتين الى 4 سنوات، حيث يكون الطفل قادراً على استعراض وتخيّل وتصور الأشياء ذهنياً في نفس الوقت التي لا تكون حاضرةً فيه، والاعتماد على الادراك الحسي والتصور الذهني في حل المشكلات.
12- Wallon, H. the Psychological Development of the Child
https://www.marxists.org/archive/wallon/works/1965/ch10.htm
13- El konin, D. B., & Dragunova, T. V. (Eds.) Vozrastnye i individual nye osobennosti mladshikh podrostkov. Moscow: Pr osveshchenie, 196 7

ترجمة لمقالة:
D. B. El konin (1972) Toward the Problem of Stages in the Mental Development of the Child, Soviet Psychology, 10:3, 225-251