دراسة عن المسألتين الديموقراطية والعلمانية الحلقة الثامنة: مفهوم الحرية والديموقراطية عند الأحزاب العقيدية (8/ 9)


حسن خليل غريب
2023 / 4 / 6 - 12:47     

: مفهوم الحرية والديموقراطية عند الأحزاب العقيدية

إذا كانت الأحزاب العقيدية نتاج سياسي حديث. ولأنها تأسست لتجميع جهود الأفراد من أجل التغيير بما يصب في مصلحة المجتمعات. ولأن من أهم مبادئها نشر مفاهيم الحرية والديموقراطية في المجتمع كأهم وسائل التغيير. ولأن الأحرى بها أن تطبق مبادئ الحرية والديموقراطية في حياتها الداخلية. ولأن التزام الفرد بالعمل مع مجموعة من الأفراد يعني تشاركهم باتخاذ القرار. ولأن اتخاذ القرار الجماعي يعني تنازل أفراد المجموعة عن جزء من حريتهم الفردية مما يقود إلى تقييد الحريات الشخصية لكل فرد من أفرادها، وبالتالي تكتسب الحرية داخل الجماعة مفهوماً جديداً وتجردها من الشخصنة وتنتقل بها من فرديتها (بتعريفها الفلسفي) إلى جماعيتها (بتعريفها السياسي)، وهذا ما جاءت به النظرية الديموقراطية لحل الإشكالية بين حرية الفرد وحرية الجماعة. ومن أجل كل ذلك، سنستكمل البحث عن الديموقراطية في الأحزاب العقيدية.

ا- الحزب مجتمع مصغر:
يتميز الإنسان بالمقدرة على التفكير، وله الحرية في اختيار النظريات الفكرية والسياسية. أما النظريات الفكرية والسياسية، فهي إسهامات من الأفراد في إغناء الفكر البشري، ولا تكتسب أهميتها إلا بمقدار استجابتها لحاجات الإنسان، ولا يمكن لها أن تؤمن هذه الحاجات سوى بالعمل على تطبيقها، والتطبيق لا يأخذ طريقه الجدي إلا إذا تضافرت جهود المؤمنين بهذه النظريات لترجمتها إلى أهداف واختيار الطريق المناسب لتنفيذها.
إذا خرجت الأفكار من دائرة الفرد إلى دائرة الجماعة تصبح ملكاً عاماً لها؛ وهنا يدخل العقل الفردي، باختياراته الفكرية الحرة دون خضوع أو إكراه، دائرة الجماعة، فيتفاعل معها، ويأخذ منها، ويرفد أهدافها الفكرية بطاقاته الفردية.

2- الحريـة لها بعد اجتماعي
هنا قد يطرح السؤال التالي: إذا دخل عقل الفرد داثرة العقل الجماعي، هل يحصل انتقاص في حريته الفردية؟
حاجة الإنسان الأساسية أن يعيش في داخل مجتمع، لكنه لو عاش منعزلاً عن هذا المجتمع لانتقصت إنسانيته، ولا معنى لأن نقول عنه إنه حر أو مقيد. لكن الإنسان حتى لو لم يخضع إلى عوامل الضغط والإكراه البشري، فإنه سوف يخضع لعوامل الضغط والإكراه من جانب الطبيعة سواء كانت مادية أو حيوانية، فهو في مثل هذه الحالة لن يستطيع أن يمارس الاختيار الحر في طرائق مأكله ومنامه لأنه لن يستطيع أن يجبر نظام الطبيعة لأن يسير كما يشتهي هو كفرد.
فالحرية المطلقة هي شأن من شؤون الخالق، وليست من شأن المخلوق، لأن امكانيات المخلوق قاصرة عن تنفيذ كل الأهداف الفكرية التي يؤمن بها. فالحرية الفردية، إذن، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً مع امتلاك وسائل القوة الكفيلة بتحقيق الأهداف المختارة إرادياً. وحيث إن وسائل القوة الفردية عاجزة عن ذلك، أصبح على الفرد أن يكون عضواً في داخل مجتمع، لأن المجتمع هو الذي يستطيع، بتضافر جهود أعضائه، امتلاك وسائل القوة النسبية التي تحقق الأهداف التي يختارها أعضاؤه مجتمعين أو الأكثرية منهم.
لا ينتقص من قيمة حرية الفرد انتماؤه المشروط إلى مجتمع ما، لأن الحرية الفردية ليست مطلقة، وإنما هي حرية اجتماعية لا فلسفية، فوجودها أو عدم وجودها خارج المجتمع لا قيمة له . فمن هنا كان الإنسان مخلوقاً اجتماعياً يكتسب قيمته من داخل مجتمعه. وتكتسب الحرية، إذن، معناها الاجتماعي المقيِّد وتبتعد بالمقدار ذاته عن معناها الفلسفي المطلق.
وحيث إن الحرية تكتسب مفهومها من خلال المجتمع، كانت الحرية الفردية وممارستها مفهوم نسبي، تحقق الغاية من وجودها بالقدر الذي يضيِّق هذا المفهوم شقة التناقض أو التعارض بين أفراد المجتمع في خياراتهم الفكرية أو السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية.
فالحرية لا تكتسب مفهومها من خارج المجتمع، والمجتمع لا يكتسب مفهومه الإنساني من خارج دائرة الحرية، فكيف نوفق بين المستوى الذي يرفض وجود الحرية بالمطلق، أي بمفهومها الماورائي النفسي، وبين تجسيدها في حقوق وواجبات محددة؟
إن بحثنا عن هذه المسألة لا يتناول جانبها المتعلق في خاصيات العلاقة بين الفرد والمجتمع الواسع، وإنما على الرغم من ارتباط المسألتين، تتناول العلاقه بين الفرد والحزب السياسي الذي ينتمي إليه.
فالحزب هو تجمع من الأفراد اختاروا أهدافاً فكرية ذات مضامين سياسية واقتصادية واجتماعية، ارتضوا فيما بينهم العمل معاً لتحقيق هذه الأهداف. فتجمُّعهم أصبح يشكِّل، ما اصطلح على تسميته، حزباً. فوظيفة الحزب هو ترجمة الأهداف الفكرية إلى واقع عملي. على الرغم من أن الحزب ليس مجتمعاً واسعاً وإنما هو تجمع لنخب من هذا المجتمع، فهو صورة مصغرة عن المجتمع الذي يطمح لبنائه. فتعريف الحزب، إذن، هو أنه يمثل أهدافاً فكرية في السياسة والاقتصاد والمجتمع، أولاً، وإنه يشكل قوة لتنفيذ هذه الأهداف ثانياً.
حيث إن الحزب قد تُفرض عليه وسائل السرية في العمل، خاصة عندما يطرح أهدافاً تتناقض مع أهداف السلطات السياسية القائمة، فيلجأ عندئذ إلى بناء نفسه من الداخل بشكل يؤمن له تفويت الفرص على أجهزة السلطات من اكتشاف هيكله التنظيمي البشري وخطط عمله وأساليب حركته.
يصبح، في داخل الحزب، لكل فرد وظيفة، فبانخراطه الحر في الحزب، وفي قيامه بوظيفته يكمل قيام الآخرين بوظائفهم، وأي اختلال في ممارسة وظيفة الفرد ينتج عنه اختلال في وظائف الآخرين. ومن هنا يصبح دور الفرد في داخل الحزب ذو قيمة معنوية وتكتسب وظيفته قيمة مادية، ويصبح التفاعل بين الوظائف كلها عنصراً أساسياً في المحافظة على هيكلية البناء الحزبي الداخلي من جهة، وفي تطوير وسائل العمل وارتقائها نحو الأفضل من جهة ثانية.

3- الدور الوظيفي للعضو الحزبي يزاوج بين المركزية والديمقراطية:
داخل هذه الدائرة المجتمعية/ النخبوية التي اصطلح على تسميتها حزباً، والتي حازت على شرط الثقافة والوعي بالأهداف الفكرية ووسائل تنفيذها، كيف يمكن التوليف بين الديمقراطية والمركزية؟
لتنظيم العلاقات بين الأعضاء المنتسبين إليها اتخذت الاحزاب العقائدية التي تتبع النظرية التنظيمية الهرمية التسلسلية، جملة من الاجراءات للتوليف بين الديمقراطية والمركزية. ولذلك كل حزب عقيدي يعتنق هذه النظرية، فقد اتخذ لنفسه إطاراً نظرياً ينظم العلاقات الداخلية على قاعدة المركزية الديمقراطية، فإلى ماذا تستند عوامل التوليف بين هذين الحدين في مفهوم الحزب؟
بالنظر إلى كل من هذين الحدين على انفراد، نرى أن التعارض بينهما هو القاعدة النظرية للعلاقة بينهما. فالديمقراطية إذا لم تستند إلى مفهوم العلاقة بين الأنا والآخر، تقترب إلى حدود المفهوم الفلسفي للحرية والذي لا يرتضى أن يكون خاضعاً لأي إكراه أو قيود أو أية معيقات تحول دون تحقيق الأهداف سواء كان مصدرها إنسانياً أو مادياً.
ولأن الديموقراطية جاءت ذات مضمون سياسي مجتمعي حملت داخل ذاتها قيوداً. كذلك، حملت إمكانية ذاتية لتخفيف هذه القيود إلى الحد الذي لا تنفلت فيه تجاه الفوضى، وأن لا تتكاثر إلى الحد الذي تنحرف فيه اتجاه العبودية.
أما المركزية، فهي نظام فكري قد يجنح باتجاه التنازل عن القرار الذاتي لمصلحة الغير وهو الرضى بالعبودية، أو استخدام القرار الفردي (سواء كان فرداً أو أقلية ضئيلة) الذي يجنح باتجاه تكبيل الغير بإرادة الفرد وقراره. وهو ممارسة الاستعباد على هذا الغير.
سواء استندت المركزية إلى مبدأ الرضا بالعبودية أو مبدأ ممارسة الاستعباد فهي ديكتاتورية بالشكل والمضمون، وهذا بحد ذاته يشكل النقيض للديمقراطية بمضمونها الفلسفي.
وفي محاولة من الحزب صهر هذين الضدين في أتون واحد على قاعدة أن يتنازل كل منهما عن أقصى مضامين التطرف: من فوضوية الديمقراطية ومن ديكتاتورية المركزية، وُضعت تشريعات منصوص عليها في عقد يتوافق عليه الاعضاء الملتزمون حزبياً، وهو ما يعرف بالنظام الداخلي. وسوف نناقش مضامين هذه التشريعات، وبالتالي نخلص من هذه المناقشة لنرى من خلال واقع وتجربة ذاتية كم تستطيع نظرية المركزية الديمقراطية أن توالف بين حدين متناقضين.

4- التشريعات التنظيمية تخفف من الطغيان المتبادل بين المركزية والديمقراطية:
نرى بداية أنه لا بد من إعادة التذكير بمسلمتين اثنتين، لا يمكن بدون التقائهما وتفاعلهما أن يستقيم العمل الحزبي، وهما:
-الأولى: وجود أهداف فكرية- إيديولوجية يعتنقها كل فرد من أعضاء الحزب، بوعي وحرية، دون ضغط أو إكراه، وهذا يمثل جانب الحرية الفردية بمفهومها الفلسفي.
-الثانية: وجود قناعة بوجوب تحقيق هذه الأهداف. بهذه المسلمة يتحول الفكر من الدائرة النظرية إلى الدائرة العملية/ الاجتماعية، وبها يتحول الفكر من أجل الفكر، إلى الفكر لأجل مصلحة المجتمع. هنا، يتحول مفهوم الحرية، من الفردية إلى الجماعية.
إن تحويل الأهداف الفكرية/ الإيديولوجية، من أهداف نظرية إلى مصالح اجتماعية، يفترض جهوداً تتجاوز إمكانيات الفرد، وهذه الجهود تتوفر في تشكيل الحزب السياسي. ولذلك، يمكن لكل عضو فيه أن يعتنق أهدافه الفكرية/ الإيديولوجية، بحرية ووعي ودون ضغط أو إكراه. لكن عند البدء بالترجمة العملية لهذه الأهداف قد تتعدد الآراء حول أفضل الوسائل لإنجاح العمل؛ هنا، تتولد الإشكالية الأولى: أي رأيٍ يمكن اختياره الذي على أساسه يمكن التنفيذ العملي؟ هل هذا الاختيار يلزم المعارضين له؟
تتولد الإشكالية من الإلزام الذي هو معنى من معاني الضغط والإكراه، وبمجرد ارتباطه مع قضية الحرية، فإنه يشكل انتقاصاً من مفهومها الفلسفي.
من هذه الإشكالية، ومن نتائجها في إحداث الانتقاص من الحرية الفردية، هل يولد سبب يبرر للمعترض على الرأي المأخوذ به بالانفصال عن الجماعة التي انخرط معها على أساس قناعة مشتركة بالأهداف الفكرية/ الإيديولوجية؟
من الواقع التعددي في وسائل التطبيق، لن تعرف التعارضات بالآراء نهاية معروفة لها. وبحجة المحافظة على قدسية الحرية الفردية، تتوالى عملية الانفصال لأصحاب الرأي الآخر في عملية التطبيق، وهذه دائرة مفتوحة لن تعرف نهاية لها، واستنزافاً دائماً لا يسمح للحزب بأن يضع خطة تنفيذية لأهدافه ويكون متأكداً من إمكانية تطبيقها.
لكي يتم التوفيق بين الاعتناق الحر للأهداف الفكرية، وبين الضرورة الملحة في تطبيقها حتى تحقق الحاجة الإنسانية الكامنة فيها. بمعنى آخر، لكي يتم التوفيق بين الحرية الفردية في اختيار الأهداف، وبين الالزام في ترجمتها كحاجة اجتماعية، جاءت النظرية التنظيمية في المركزية الديمقراطية، بعدد من التشريعات للتوفيق بين الحرية الفردية والالتزام الجماعي، أي بين الحرية بمفهومها الفلسفي المطلق وبين الإلزام بمفهومه الاجتماعي المقيَّد. وهذه المسألة تدور حول نظرية المركزية الديمقراطية.
القاعدة الأساسية في التقريب بين المركزية، كمفهوم ديكتاتوري، وبين الديمقراطية، كمفهوم للحرية الفردية، تستند إلى عملية التنازل المتبادل للحدود المتباعدة بين دائرتيهما للاحتفاظ بالعناصر المشتركة المتقاربة، بحيث يشمل التنازل من جانب المركزية عن حالة الطغيان والتفرد، ومن جانب الديمقراطية عن حالة الفوضوية، والتخلي عن جزء من حريتها المطلقة لصالح حرية الآخرين.
إن التنازل المتبادل هي عملية إلزام ذاتي لكل من حدَّيْ العملية التنظيمية، وهو التزام مقيَّد، برضى الطرفين، بالضوابط التنظيمية المنصوص عليها في اللوائح والأنظمة الداخلية. ويأتي الالزام الذاتي والالتزام المقيَّد مستنداً، ليس إلى عملية آلية، وإنما إلى حصانة أخلاقية لها علاقة بالطبيعة البشرية للإنسان بما تحتويه هذه الطبيعة من تعقيدات اجتماعية ونفسية، قد تؤثر سلباً أو إيجاباً على حسن تنفيذ العقد الرضائي بين المركزية والديمقراطية.
في إطار العقد الرضائي، تأتي التشريعات/ النظام الداخلي لكي تمنع طغيان المركزية من أن تتحول إلى ديكتاتورية، لتقر للديمقراطية بحق الاختيار الحر للقيادة المركزية في عملية الانتخابات الحزبية، وفي ممارسة نقد القيادة ومحاسبتها في المؤتمرات الحزبية. وفي الجانب الآخر جاءت التشريعات/ النظام الداخلي، ولسبب تسهيل اتخاذ القرارات وتنفيذها، لتنص على حق الأكثرية في إلزام الأقلية بالتقيد بالقرارات المتخذة والاشتراك في التنفيذ.
ولأن الطبيعة البشرية معقدة لأسباب اجتماعية ونفسية، ولأن الحرية، لاسباب ذاتية ونفسية، تجنح باستمرار نحو الفردية، ولأن العقود التشريعية قد لا تُلِمُّ، وهي لن تلم، بكل هذه التعقيدات الاجتماعية والذاتية، سوف تبقى الإشكاليات مستمرة في التوفيق بين الذات والمجموع. لكن، إذا تميزت النظرية التنظيمية بسمة الحركة وتحررت من الجمود فإنها وإن لم تستطع الخلاص من الإشكاليات بشكل كامل، وهي لن تستطيع، فعلى الأقل هي قادرة على مواجهتها بالمعالجة المستمرة للتخفيف من آثارها السلبية.