من دهاليز ابن رشد (موريزكو).. بّا محمد


حسن أحراث
2023 / 4 / 2 - 17:41     

كثيراً ما نتحدث عن الصمود، وأحيانا بمبالغة؛ لكن هذا الأخير لا "يصمد" بدون مقومات مادية، أي ملموسة. لأن عمر الصمود المُجرّد أو الحماسي يكون قصيراً..
ولا أخفي أني أُغذّي (شحن) صمودي ليحيا ويكبُر من خلال تقاسمي معكم لحظات وصور قوية من الماضي الصعب (سنوات الرصاص)، لأن تفاعلكم جدارٌ خلفيٌّ داعمٌ ومرآة عاكسة للطاقة الإيجابية. وهي لحظات أيضا للانفلات ولو جزئيا ومؤقتا من قبضة ومخالب البؤس الراهن..
فيما يلي لقطة ظريفة (ليست كذبة، إنها المعناة المُرّة أو السوداء) من دهاليز "موريزكو" بالدار البيضاء في يوم من أيام شهر ابريل سنة 1986 بعنوان "من دهاليز ابن رشد (موريزكو).. بّا محمد":
"في أحد الصباحات الربيعية الجميلة من شهر أبريل سنة 1986، وأنا كالعادة، مُقيّد الى سريرٍ مُتهالكٍ يكاد يُلامس الأرض، أرض الزنزانة/الغرفة بدهاليز ابن رشد (موريزكو)، ومُقتنع بمصير مجهول كان من المحتمل أن يطول حتى سنة 1999 (تاريخ انتهاء المدة التي حُكم عليّ بها، و"إذا خرجت العاقبة بخير")، حدث ما يصعب تصديقه. طارئ جميل حمل كل معاني المفاجأة السارة. عناق حار ودموع وفرح ودفء...
عانقت أمي وأختي أمينة، دون أن أُصدّق عيني. أخذت أمي تتلمّس جسدي النحيف لكي تتأكد بعاطفة الأم وحدسها أني أنا فعلا ولست أحداً آخراً. إنه عناق بعد حوالي سنة من العزلة القسرية، بعد انقطاع الأخبار كليا عن العائلة.
كانت أمي تردد: "واش نتا حسن؟ ولدي؟"
"حرام عليهم"..
ماذا حصل بالضبط؟
رغم وجودنا بجناحٍ فوق مقاطعة المستشفى الجامعي ابن رشد (CHU)، حيث لا يمكن أن تصعد اليه دون أن تلتقطك أعين المخازنية والأعين الجاحظة المبثوثة باستمرار بكل أرجاء المستشفى، وخاصة حول الجناح، ورغم طاقم التمريض "غير المنسجم" والذي قد تخونه شجاعته أو أنانيته، نجح بّا محمد "البركادي" المسؤول عن طاقم الحراسة، ودون معرفة مُسْبقة بيننا، أن يُرتّب تسلّل عائلتي لتحظى ببعض دقائق الى جانبي وأنا في وضعية إضراب عن الطعام قارب السنة.
بعد ذلك اليوم، أو بعد ذلك الصباح الجميل، غاب بّا محمد عن جناحنا، وكأنه أتى من "السماء" لينفّذ تلك العملية البطولية فقط. سألت عنه بعض عناصر الحراسة، فتأكد لي أن الرجل الطيب والشهم "بخير وعلى خير".
مرّت حوالي ثلاث سنوات على المفاجأة السارة، وفي أحد صباحات سنة 1989، مرة أخرى، رأيت بّا محمد "بقدّه وقديده" يقطع الممرّ الفاصل بين الغرف/الزنازين "طالع نازل". وفي لحظة خاطفة، وكأنه قطع الشك باليقين، اقتحم غرفتي/زنزانتي، وهي نفس غرفة/زنزانة 1986، وسألني باندفاع "هل تذكُرني؟".
"بالتأكيد بّا محمد"..
ابتسم، وسأني عن أحوالي وغادر الغرفة.
استمر هذه المرة تردُّده على جناحنا لمدة حوالي شهر.
تصوروا، كان بّا محمد يمُدّني بجريدة كل فترات حراسته!!
كان يحرص على أن أقرأها في سرية تامة، وأحيانا تحت مراقبة بعض عناصر الحراسة التي كان يُشْرف عليها ويثق فيها بدون شك..
لماذا أنا؟
لم تُتح لي الفرصة لأسأل بّا محمد..
إنه حقا أب..."

نقلاً وبتصرُّف عن كتاب حسن أحراث "مجموعة مراكش، تجربة اعتقال قاسية"