فَنُّ النَقْد السِيَاسِي 3/3


عبد الرحمان النوضة
2023 / 3 / 31 - 18:35     

هذا المقال هو الجزء الثالث والْأَخِير (3/3)، من الدِرَاسَة المُعَنْوَنَة بِـ : «فَـنُّ النَّـقْـد السِيَّاسِي».

مُــحْــتَـــوَى الـــمَـــقَــــال
1- مَا هُوَ النَّـقْـد السِيَّاسِـي ؟.............................. 3
2- مِـثَـال لِلنَّـقْـد السِيَاسِي................................. 4
3- أَسَالِيب النَّـقْد المُسِيئَة................................. 12
4- كَيْـفَ كُنَّا نَتَـعَامَل مَع الخِلَافات، ومع النَّـقْد....... 19
5- حَرَكِيَة النَّـقْد، ثُمَّ نَـقْد النَّـقْـد.......................... 27
6- المَنْطِـق المَـفْـقُـود في النَّـقْد السياسي............... 34
7- الشُـرُوط المَطْلُوبَة في النَّـقْد السِّيَاسِي.............. 38
8- المَنْهَج المَرْجُوّ في النَّـقْد السياسي.................. 42
9- أَهْـدَاف النَّـقْـد السِياسِي............................... 47

6- المَنْطِـق المَـفْـقُـود في النَّـقْد السياسي
6.1- في مجالات النِـقَاش، أو النَّـقْد، أو الصِرَاع السياسي، بين عِدَّة فَاعِلِين، يَرَى بعض الأشخاص فَقَط نُـقَـطَ اِتِّـفَـاقٍ، أو يَرَوْن فَقَط وُجود خِلَافَات، أو يَرَوْن فَقَط وُجُود سُوء تَـفَاهُمَات. بينما في الواقع المَلْمُوس، تُوجَد في مُـعْظَم الحالات، وفي نَـفْس الوَقت، اِتِّـفَـاقَـات جُزْئِيَة، وَسُوء تَـفَاهُمَات، وكذلك خِلَافَات جُزْئِيَة، أو تَنَاقُضَات. وَإِذَا تَحَدَّثْنَا عن وُجُود اِتّـفَـاقَـات جُزْئِيَة بَيْم الفَاعِلِين المُتَصَارِعِين، فَهذا لَا يَـعْـنِـي أننا نَـنْـفِـي وُجُود خِلَافَات بينهما. وإذا تَـكَـلَّمْنَا عن وُجُود سُوء تَـفَاهُمَات بين الفاعلين المُتصارعين، فهذا لَا يَـعْـنِـي أن الخِلَافَات غير مَوجُودة بينهم. كما أنه إذا تَـكَـلَّمْنَا عن وُجود خِلَافَات، فهذا لَا يَـعْـنِـي أن سُوء التَـفَاهُمَات غير مَوْجُودة، أو أنه يَحِـقُّ تَجَاهُلُها. بَل تَتَوَاجَد، وَتَتَزَامَن، في نفس الآن، اِتِّـفَـاقَات جُزْئِيَة، وَسُوء تَـفَاهُمَات، وكذلك خِلافات. وكلّ نِـقَاش، أو نَـقْد، أو صِرَاع سيّاسي، يَتَطَلَّبُ مِنَّا مُـعَـالَجَة كُلّ سُوء التَـفَاهُمَات، وكذلك الخِلَافات، والتَنَاقُضَات، بِالمَنَاهِـج المُلَائِمَة لِكُلّ صِنْـف منها.
6.2- وبشكل أَعَم، يَرَى بعض الفاعلين إِمَّا وُجُودَ شيءٍ مُحَدَّدٍ، وَإِمَّا وُجُودَ نَـقِيضِهِ. وَيَصْـعُب على هؤلاء الفاعلين أن يَرَوْا، في نَـفس الوقت، وُجُود الشَّيء، وَوُجُود نَـقِـيضِه. حيث يَصْـعُب على عُـقُول هؤلاء الفَاعِلِين أن يَرَوْا التَنَـاقُضَات كما هي مَوْجُودة في الوَاقِع. وَمِن بَيْنِهَا التناقُض المُتَجَلِّـي في وُجُود الشيء، وفي وُجُود نَـقِـيضِه، وَلَوْ بِدَرَجَات مُتَـفَاوِتَة.
6.3- كلّ نِـقَـاش بين فَاعِلَيْن أو أكثر (سَوَاءً كان ذَا طَبِيـعَة ثَـقَافِـيّة، أم اِقْتِصَادِية، أم سِيَّاسِية)، يُؤَدِّي إلى اِكْتِشَاف، أو إلى الْاِصْطِدَام بِـ، آرَاء مُتَبَايِنَة، أو مُقَارَبَات مَنْهَجِيَة مُتَضَارِبَة، أو خِلَافات سِيَّاسية. وَكُلّ خِلَاف سيّاسي يَـدْفَـعُ إلى تَبَادُل النَّـقْد السيّاسِي. وَكُلّ تَبَادُل لِلنَّـقْد السِيّاسي يَحْمِلُ في دَاخِلِه صِرَاعًا سِيَّاسِيًّا. وكلّ صِراع سياسي يَخْـفِـي في أَحْشَائِـه صِرَاعًا طَبَـقِـيًّـا. وَقَدْ يَظْهَرُ الصِرَاعُ الطبقي، حَسَب الفَـتَـرَات التَاريخية، على شَـكْـل أَنْمَاط، أو مُسْتَوَيَات، يُمكن أن تَكُون مُتَـفَاوِتَة، أو مُخْتَلِـفَـة. وَكُلّ صِرَاع طَبَـقِـي يُـعَـبِّـر عن تَنَـافُـس، أو عِرَاك، أو تَنَـاقُـض، بَيْن مَصَالِح فِـئَـات مُتَمَيِّزَة، أو بين طَبَـقَـات مُجْتَمَـعِيَّة، تَتَصَارَعُ حول مَصَالِح مُتَنَاقِضَة. وكُلّ وَاحدة مِن بَيْن هذه الفِئَات، أو الطبقات المُجتمعية المُتَصَارِعَة، تكون إمّا مُحَافِظَة أو تَـقَـدُّمِيَة، وَإِمَّا سَائِدَة أو مَسُودَة، وَإمَّا مُسْتَـغِـلَّـة أو مُسْتَـغَـلَّـة، وَإِمَّا حُرَّة أو مُضْطَهَدَة، وَإِمَّا ذَات اِمْتِيَّازَات خَاصَّة أو مَحْرُومَة منها.
وَهَكَذَا، فإن كلّ خِلَاف فِكْرِي، أو نَظَرِي، أو سيّاسي، يَرْجِـعُ، في عُمْـقِـه، إلى صِرَاع مُجتمعي حول مَصَالِح طَبَـقِـيَـة مَادِّيَة لَا يُمكن التَوْفِـيـق بَيْنَهَا.
6.4- في غالبيّة الحالات، يَنْسَـى، أو لَا يُدْرِكُ، بعض الـفَـاعِلِين المُشَارِكِين في النِـقَـاش، أو في تَبَادُل النَّـقْد، أو في خَوْض الصِرَاع السياسي، المَنْطِـقَ النِسْبِـي الذي يَتَحَـكَّم في هذا الجِدَال. حيثُ أنه، في كلّ نِـقَـاش، أو خِلَاف، أو صِرَاع سيّاسي، يَـظُـنُّ كلّ فَاعِل أن رَأْيَـه الشَّخْصِي مَبْنِيٌّ على أُسُـس مَنْطِـقِـيَـة خَالِصَة، أو على أُسُـس عِلْمِيَة دَامِـغَـة. بَيْنَمَا العُـنْصُر الأَسَاسي الذي يُحَدِّد المَوْقِـف السياسي لِكُلّ فَاعِل، هو مَوْقِـعُـه الطَبَـقِـي في التَشْكِيلَة المُجتمعية المَـعْـنِيَة.
وَيَظُنُّ كلّ فَاعِل أن رَأْيَه الشَّخْصِي هو وَحْدَه الرَّأْي الصَّحِيح، أو الصَّائِـب، أو المُـحِـقّ. وَيَـنْـسَـى بَعض الأَطْرَاف، أو قَدْ لَا يُدْرِكُون، أن كلّ رَأْي مُحَدَّد، لَا يُمكن أن يَكُون صَحِيحًا إِلَّا في إِطَار مَنْظُومَة فِـكْـرِيَـة مَرْجِـعِـيَـة مُحَدَّدَة.
وَإِذا وَضَـعْـنَـا رَأْيًا مُحَدَّدًا (يَـفْـتَـرِضُ الشخص الذي يَحْمِلُهُ أنه صَحِيح)، في إِطَار مَنْظُومَة مَرْجِـعِـيَـة أُخْرَى (مُخَالِـفَـة لِلمَنْظُومَة الأُولَى المذكورة)، فإن هذا الرَّأْي سَيُصْبِحُ خَاطِئًا. وهكذا، فإن رَأْيَ مُـفَـكِّر مَلَكِي، سَيَكُون صَحِيحًا في إطار مَنْظُومَة فِكْرِيَة أو قِيمِيَة مَلَـكِيَة؛ لكنه سَيُصْبِحُ خاطئًا في إطار مَنْظُومَة فِـكْرِيَة أو قِيمِيَة جُمْهُورِيَة. وَرَأْي مُـفَـكِّـر مُحَافِظ، سَيَكُون صَحِيحًا في إِطَار مَنْظُومَة فِـكْـرِيَة مُحَافِظَة، لكنه سَيُصْبِحُ خَاطِئًا في إِطَار مَنْظُومَة فِـكْـرِيَة ثَـوْرِيَة. وَرَأْي مُـفَـكِّـر اِشْتِرَاكِي، سيكون صحيحا في إطار مَنظومة فِـكـرية اِشتراكية، لكنه سيصبح خاطئا في إطار مَنظومة فِـكرية رَأسمالية، أو إِمْبِرْيَالِيَة. وَمَا هُو مَشْرُوع، أو قَانُونِي، أو صَحِيح، طِبْـقًا لِمَصَالح الطَبَـقَـات المُسْتَـغِـلَّة، سَيَـكُون غير مَشْرُوع، أو غَيْر عَادِل، أو مَرْفُوض، مِن وُجْهَة نَظَر الطبـقات المُسْتَـغَـلَّـة.
وَهَكَذَا، فَإِنّ إِمْـكَـانِيَّات الْاِقْـنَـاع في الخِلَافَات السياسية (بِوَاسِطَة المَنْطِق الخَالِص وَحْدَهُ، أو بواسطة الحُجَج العِلْمِيَة) سَتَـكُون ضَئِيلَة، أو مُنْـعَـدِمَة. لأن الخِلَافَات السياسية تَـعُود في العُمْق إلى الصِرَاع حول مَصَالِح طَبَـقِيَة لَا يُمكن التَوْفِيق بَيْنَهَا. وَفي هذه الصِرَاعَات السِيَاسِيَة، غَالِبًا مَا تَكُون الْاِعْتِبَارَات الْأَيْدِيُّولُوجِيَة (الزَّائِـفَـة) مُسَيْطِرَة، وَمُـغَيِّبَة، لِلْاِعْتِبَارَات المَوْضُوعِيَة، أو العِلْمِـيَة.
وَفي واقع كُلّ مُجتمع طَبَـقِـي، لَا يُمكن مُـعَالَجَة هذه الخِلَافَات، أو الصِرَاعَات، سِوَى عَبْر تَـغَـلُّـب طَرَفٍ على الطَرَف النَـقِيض، وَفَـرْض مَصَالِحِه عَلَيْه. فَـلَا يُمكن التَوفيق بين مَصَالِح طَبَـقَة المُسْتَـغِـلِّين ومَصَالِح طَبَـقَة المُسْتَـغَـلِّين. فَإِمَّا أن تَـفْـرِض طَبَـقَة المُسْتَـغِلِّين دِكْتَاتُورِيَتَها على طبقة المُسْتَـغَـلِّين، وَإمَّا أن تَـفـرض طَبـقـة المُسْتَـغَـلِّين دِكْتَاتُورِيتَهَا على طَبَـقَة المُسْتَـغِـلِّين. وَإِذَا مَا وُجِدَ تَوَافُـق بين هَاتَيْن الطَبَـقَـتَيْن المُتَنَاقِضَتَيْن، في مُجتمع تَارِيخِي مُـعَـيَّـن، فإن هذا التَوَافُـق سَيَكُون مُجرّد مَظْهَر مُؤَقَّـت، أو غَيْر مُتَوَازِن، أو مُخَادِع، وَيُخْـفِـي (في تَـفَاصِيلِه المُسْتَـتِـرَة) دِكْتَاتُورِيَة طَبَـقِـيَـة فِـعْـلِيَة. وَهكذا، فإنّ «الدِّيمُوقْرَاطِيَة البُورْجْوَازِيَة» مثلًا، القَائِمَة في دُول أَوْرُوبَّا الغَرْبِيَة، وَأَمْرِيكَا الشَمَالِيَة، التي تَدَّعِـي خَلْق تَوَافُـق أَبَدِي بين طَبَـقَـات المُجتمع الرَأْسَمَالِي، والمَبْنِيَة على أساس الانتخابات العامّة (لانتخاب الرئيس، والبرلمان، والجماعات المحلية، الخ)، هي في العُمْق دِيكْتَاتُورِية مُمَوَّهَة لِطَبَـقَات المُسْتَـغِلِّين الكِبَار، السَّائِدَة على طَبَـقَات المُسْتَـغَلِّين، وعلى بَاقِي المُجتمع.
6.5- كَثِيرُون مِن الأَشخاص يَدْخُلون عَـفْـوِيًّا في نِـقَاشَات صَاخِبَة، وَيَتَكَلَّمُون بِذَاتِيَة كَبِيرَة. وفي مُعْظَم الحَالَات، لَا يَـعرفون مَا هُو النِـقَاش الجِدِّي، وَلَا ما هي قَوَاعِدُه، أو شُرُوطه، أو أَهْدَافُه. وَبِدُون وَعْـي، يُمَارِسُون هذا النِـقَاش كَـمُبَارَزَة بين أشخاص ذَاتِيِّين، وَيَتَنَافَسُون على الـغَلَبَة، أو الرِيَادَة،

7- الشُـرُوط المَطْلُوبَة في النَّـقْد السِّيَاسِي
تَبَادُل النَّـقْد السِّيَاسي فيما بين المناضلين، وفيما بين القِوَى السياسية التَـقَدُّمية، والثورية، هو مِن ضِمْن أَهَمّ الوَسَائِل التي تُسَاعد هذه القِوَى على تَـقْـوِيم نَـفْـسِهَا، وَعلى تَلَافِ اِنْحِرَافِـهَا، وَرَفع مُسْتَوَى فَـعَالِيَّتِهَا. وَلِكَيْ يَـكون النَّـقْد مَـقْبُولًا، وَبَنَّاءً، يَجب على الشَّخْص النَّاقِد أن يُمارس هذا النَّـقْد السِيَاسِي، طِبْـقًا لِمَنْهَج ثوري دَقِيق. وَأَهَمُّ قَـوَاعِد هذا المَنهج هي التَّالِيَة :
7.1- يجب على كلّ شخص يُرِيد مُمارسة النَّـقد السِّيَاسِي، أن يَـعرف مُسْبَـقًا، أن كُلّ نَـقْد عَلَنِي، يُمكن أن يُصْبِحَ خَطِيرًا، أو قَاسِيًّا، أو مُؤْلِمًا، لَدَى الشَّخْص المُنْتَـقَد. لِذلك، تَـتَـطَلَّبُ مُمارسة النَـقْد كِيَّاسَةً كَبِيرةً في التَـعَابِير، وَلَبَاقَة عَمِيـقَة في اِخْتِيَّار الكَلِمَات، وَحِكْمَة شَاسِـعَة في التَـفْـكِير.
ولماذا لَا نَتَحَمَّلُ النَّـقْد ؟ لأن طَبِيعَتَنَا كَـبَشَر مُجتمعي، تَجْـعَلُنَا نَطْمَح إلى الزِيَادَة في التَـقْدِيرِ الذي يَمْنَحُه لَنَا مُوَاطِنُو مُجتمعنا. كما تَدْفَـعُـنَا طَبِيـعَتُنَا البَشَرِية إلى الرَّغْبَة في إِعْلَاء قِيمَتِنا المُجتمعية، أو تَحُثُّنَا على إِشْتِيَّاق تَحْسِين مَكَانَتِنَا داخل المُجتمع. بَيْنَمَا تَـعَرُّضُنَا لِلنَّـقْد يُؤَدِّي إلى نَتَائِجَ عَكْسِيَة. حيثُ أن النَّـقْد يُؤَدِّي، في غَالِبِيَة الحالات، إلى النَّـقْـص مِن قِيمَة الشَّخْص المُنْتَـقَد في المُجتمع، أو إلى تَخْـفِيض وَضْعِه في المُجتمع. ولأننا كَبَشَر مُجْتَمَـعِـي، وكـأشْخَاص مُنْـتَـقَدِِين، لَا نَتَحَمَّل النَّـقْد بِسُهُولة. بَلْ نُحِسُّ بِكُلّ نَـقْد فَظٍّ، أو جَارِح (مُوَجَّه لَنَا)، كَهُجُوم عُدْوَانِي، (أو كما يُـقال، نَشْـعُرُ به «كَـطَـعْـنَـة غَادِرَة بِخَنْجَر في الظََّهْر»، أو «كَـلَسْعَة أَفْـعَـى سَامَّة»). وَنَمِيلُ إلى الشُّـعُور بِالنَّـقْد كَتَخْرِيب لِذَاتِنَا الشَّخْصِيَة. وَيُمكن لِلنَّـقْد الجَارِح أن يُثِيرَ قَلَقَنَا، وأن يُهَيْمِنَ على ذِهْنِنَا، وأن يَشْـغَلَ بَالَنَا. وَقَدْ يُحْدِثُ هذا النَـقْدُ فِينَا جُرُوحًا عَمِيـقَة، وَمُؤْلِمَة. وَيُمكن أن تَبْـقَـى هذه الجُرُوح مُوجِـعَة خلال أَمَد طَويل. كما يُمْكِن أن يُحِسّ الشَّخص المُنْتَـقَد، أن مَنْ يَنْتَـقِدُه يُرِيد اِحْتِـقَارَه، أو الْاِسَاءَة لَه، أو التَـعَالِـيَ عَلَيْه، أو تَحْطِيم سُمْـعَتِه، أو يُريد الاِنْتِـقَاص مِن قِيمَتِه المُجتمعية (dévaloriser). وَقَد يَـكُون رَدُّ فِـعْـل الشخص المُنْتَـقَد هو كذلك ذَاتِيًّا، أو هُجوميًّا، أو عَدَائِيًّا. فَيَتَحَوَّل هذا النَّوْع مِن النَـقْد الجَارِح المُتَبَادَل إلى صِرَاعَات مُـعَـقَّـدَة، أو إلى رُدُود أَفْـعَال ذَاتِيَة، وَلَا مُنتهية. وَيَـفْـشِلُ هَـكَذَا النَّـقْد الـفَـظّ في تَحْـقِـيـق هَدَفِه الأصلي، والذي هو إِصْلَاح، أو تَـقْـوِيـم، الشَّخْص المُنْـتَـقَد.
لكن في نفس الوقت، يَتَـفَـهَّـمُ نِسْبِيًّا المُوَاطِنُون أن الحياة المُشتركة، في مُجتمع مُشترك، تُوجِبُ المُرَاقَبَة المُتَبَادَلَة، والنَّـقْد المُتَبَادَل، والمُحَاسَبَة المُتَبَادَلة، فيما بين مُجمل المُواطنين.
7.2- النَـقْد المَـقْـبُول، أو المُـفِيد، هو الذي يُرَكِّزُ على تَـفْـكِـيـك الأفكار المُخْتَلَف حَولها، أو يُحَلِّـلُ السُلُوكِيَّات التي يُـعِيبُهَا، وَيُوَضِّح البَدَائِل التي يَـفْـتَـرِضُ فيها أنها سَلِيمَة أكثر، أو مُـفِـيدَة أكثر مِن غيرها. وذلك دُون الهُجُوم على الشَّخْص المُنْتَـقَد، أو شَتْمِه، أو إِهَانَتِه، أو اِحْتِـقَاره. حيث أن النَّـقْد البَنَّاء، هو الذي يَنْحَصِرُ في حُدُود نَـقْد الأفكار أو السُّلُوكِيَّات، دُون جَرْحِ، أو خَدْشِ، الشَّخْص المُنْتَـقَد.
7.3- الهَدف الأَسَاسِي لِلنَّـقْد هو إِفَادَة الشَّخص المُنْتَـقَد، وَتَصْحِيح أَفْكَارِه، أو تَحْسِينُ سُلُوكيّاتِه، بِهَدَف تَحويله إلى شخص أَحْسَن، أو أَقْوَى، أو ذُو فَـعَالِيَة أكبر في نَشَاطِه. وليس بَتَاتًا هَدف النَّـقْد البَنَّاء هو تَحْطِيمُ الشخص المُنْتَـقَد، أو الْاِسَاءَة إِلَيْه، أو الْاِنْتِـقَام مِنْه، أو إِهَانَتُه، أو اِحْتِـقَارُه، أو هَـزْمُـه، أو الـقَضَاء عليه.
7.4- لَا يَـجُوزُ لِلشَّخْص المُنْتَـقَـد أن يُجِيبَ (عَلى النَّـقْد المُوَجَّه إليه) عَبْرَ إِثَارَة قَضَايَا غَرِيبة، أو مُدْهِشَة، أو خَارجة عن مَوْضُوع النَّـقْد السياسي المَطْرُوح، وذلك بِهَدَف إِبْـعَـاد اِنْـتِـبَـاه القَارِئ (أو المُستمع) عن الموضوع الأَساسي في النَّـقْد، أو بِهَدَف إِخْـفَـاء الحَـقَائِـق الثورية المُحْرِجَة الواردة في هذا النَّـقْد.
7.5- على كلّ مَن يُريد كِتَابَة مَـقَال سِيَّاسِي نَـقْدِي أن يُدْرِك، أنه يَسْتَحِيل كِتَابَة نَـقْد جَيِّد، أو مُـقْـنِـع، أو مُـفِـيد، في وَقْتٍ وَجِيز (قد يَدُومُ مثلًا نِصْف سَاعَة، أو نِصف يَوْم). وَمِن المُسْتَبْـعَد أن يَكُون مَقَال نَـقْدِي جَيِّدًا، إِذَا لَمْ يُـعِـدْ كَاتِبُهُ قِرَاءَة هذا المَـقَال، أو مُرَاجَـعَتَه، أو تَصْحِيحَه، أو تَحْسِينَه، خلال عَشَرَات المَرَّات. بَلْ كُلّ نَـقْد جِدِّي يَتَطَلَّبُ أَيَّامًا، أو أَسَابِيعَ، أو شُهُورًا، أو حتّى سَنَوَات، مِن الاِجْتِهَادَات الكَثِيرة، وَالأَبْحَاث المُتَـعَدِّدة، وَالدِرَاسَات المُتَنَوِّعَة. وَلِكَيْ يَنْضُج الفِـكْـر في الذِّهْن، يَحْتَاج الدِّمَاغ إلى حَدٍّ أَدْنَـى مِن الوَقت، يَـقُوم خِلَاله بِجَمْع المُـعْـطَيَات الضَرُورِيَة، وَبِالتَأَمُّل فيها، والتَسَاؤُل حَوْلَها، وَبِرَبْط مُخْتَلَـف المُعْطَيَات بِبَـعْضِهَا، وَبِـاسْتِخْـلَاص الْاِسْتِنْتَاجَات المُمكنة. فَمِن الأحسن لِمَن يَـعْجِزُ على القِيَّام بِهذا التَأَنِّـي، أو الْاِجْتِهَاد، أن يَتَلَافَـى دُخُول مَجال النَّـقْد السِيَّاسِي العَلَنِـي.
7.6- لِكَيْ يَكُون النَّـقْد مُـفِـيـدًا، أو بَنَّاءً، أو مَـقْـبُولًا، يجب أن تـَـكون كل جُملة أو عِبَارة وَارِدَة فيه، وَاضِحَة، وَمَدْرُوسَة، وَدَقِـيـقَـة، وَمَضْبُوطَة، وَمُسْتَـعْمَلَة بِمَنْطِـق سَلِيم، وَمُـعَـلَّـلَة بِحُجَج كَافِيَة، وَمُـقْـنِـعَـة. (أُنْظُر مقال رحمان النوضة، تحت عُنوان "فَنُّ الكِتَابَة"، وَرَابِطُه هو: https://nokkade.wordpress.com/2021/01/12/نقاد-متنوعون/).
7.7- لَا يَـحِـقُّ لَنَا أن نَذْكُرَ، أو أن نَكْتُبَ، في النَّـقْـد، أَيَّةَ مَـعْـلُـومَـة، أو مُـعْطَـى، أو اِسْتِشْهَاد، أو اِقْتِبَاس، إذا لم نَذْكُر بِدِقَّة المَصَادِرَ المُسْتَـعْمَلَة، أو الوَثَائِـق المُـعْتَـمَدَة. والأشخاص الذين يُـعِـيدُون كِتَابَة الأَفْكَار، أو المَـعْـلُومَات، التي سَبَـقَ لهم أن قَرَأُوها لَدَى كُتَّاب آخرين، دُون ذِكْر المَرَاجِع التي قَرَأُوا فيها هذه الأفكار أو المَـعلومات، يُصْبِحُون مُتَّهَمِين بِسَرِقَة أَفْكَار غيرهم.
في كلّ مَـعْـلُـومَـة، أو تَصْرِيح، أو حُـكْم، أو اِتِّـهَـام، ذَكَرَه الشَّخْص النَّاقِد دَاخل نَـقْده، يجب عليه أن يَذْكُر المَصَادِر التي اِعْتَمَدَ عليها، أو المَرَاجِـع التي اِسْتَـعْـمَـلَها. كَمَا يَجِبُ عليه أن يُحِيلَ القَارِئَ (أو المُسْتَمِع) إلى النُصُوص، أو الوَثَائِـق، التي اِسْتَـنَـدَ عَـلَيْهَا. وَإِلَّا أصبح كَلَام هذا النَّاقِـد مُخَالِـفًا لِـقَـوَاعِد الكِتَابَة والنَّشْر. وَسَيَتَحَوَّلُ كَلَام هذا النَّاقِدِ إلى مُجَرَّد ثَرْثَرَة، بِـلَا قِيمَة، وَلَا فَائِـدَة.
7.8- لَا يَحِـقُّ لَنَا أن نَتَّهِـمَ الشَّخْص الذي نَنْتَـقِـدُه بِأَيَّة تُهْمَة (كَيْفَ مَا كَان نَوْعُهَا) إذا لَم نُـقَـدِّم حُجَجًا وَاضِحَة، وَدَقِيقَة، وَمَضْبُوطَة، وَمُـعَـلَّـلَـة، وَمُوَثَّـقَـة، وَقَابِلَة لِلْمُرَاقَبَة.
7.9- رَغْمَ أنّ النَّـقْد السِيَّاسِـي، أو الاِعْتِرَاض، أو التَـعْـبِير عَن الخِلَاف في الـآرَاء، هو حَـقٌّ مِن بين الحُـقُوق الدِّيمُوقراطية، وَمِن ضِمْن حُـقُـوق الإِنْسَان، فَإِن مُمَارَسَة حَـقّ النَّـقْد سَتُرْفَضُ كُلَّمَا مُورِسَتْ بِأُسْلُوب فَظٍّ، أو اِحْتِـقَـارِي، أو عَدَائِـي. وَسَيَتِمُّ الرَدُّ عليها بِأُسْلُوب أَكْثَرَ عُنْـفًـا، وَتَهَوُّرًا، وَخِـفَّـةً، وَعَدَاءً. وفي هذه الحالة، سَيَـفْـشِلُ هذا النَّـقْد في بُلُوغ مُبْتَـغَاه (والذي هُو تَحْسِين الشَّخْص المُنْتَـقَـد). وَفي هذه الحالة، قَد تُصْبِح العادة الشَّائِـعَة، هي أن المُواطنين المَـعْـنِـيِّـيـن، سَيَمْتَنِـعُـون حَتَّى عن التَـعْـبِـيـر عن مَشَاعِرِهِم، وعن اِعْتِرَاضَاتهم، أو اِحْتِجَاجَاتهم، وَذلك بُـغْـيَـةَ تَلَافِي مَشَاكِل غير مَرْغُوب فيها. وَقَد يَمْتَنِـعُـون حتّى عن طَرْح اِقْتِرَاحَاتِهِم. أمَّا إذا مُورِسَ النَّـقْد السِيَاسِي بِمَنْهَجٍ يحتوي على قَدْر كَافٍ مِن الاحترام، وَالكِيَاسَة، وَالْلَّـبَـاقَـة، والجِدِّيَة، والدِقَّـة، فَإن هذا النَّـقْد سَيُصْبِح مُتَحَـمَّـلًا، أو مَـفْـهُومًا، أو مَـقْـبُـولًا، أو نَاجِحًا في مَجَال مُسَاعَدَة الشَّـخْـص المُنْتَـقَد على إِصْلًاح نَـفْـسِه.
7.10- بِمَا أن مَوْضُوعَنَا هو خُصُوصًا تَبادُل النَّـقْد السِيَّاسِي فيما بَيْن المُناضلين المُتَنَوِّعِين، وَفيما بَين قِوَى اليسار المُخْتَلِفَة، يجب على كلّ نَاقِد يَوَدُّ نَشْرَ نَـقْدِه، أن يَتَذَكَّر أنّه يَتَكَلَّم في سَاحَة عُمُومِيَة، مَـفْتُوحَة، تَحْتَ أَنْظَار، أو عُيُون، أو رَدَارَات، الأَجْهِزَة القَمْـعِيَة، وَشَبَـكَات المُخَابَرَاتِ، الدَّاخِلِيَة والأَجْنَبِيَة (بما فيها الإسرائيلية، في إِطَار «التَطْبِيع» المَـفْرُوض مع إسرائيل). فَلَا يُـقْبَل في النَّـقْد أن تُؤَدِّيَ الرَّغْبَة في تَصْفِيَة الحِسَابَات (بَين النَّاقِد والمُنْتَـقَـد) إلى إِفْـشَاء الأَسْرَار السياسية لِأَيِِّ طَرَف كان. وَالنَّـقْد هو تَحْلِيل لِأَفْكَار، وَتَـقْدِيم أُطْرُوحَات فِكْرِيَّة بَدِيلَة، يُـفْـتَـرَضُ فيها أنها أكثرُ إِفَادَةً. وَلَا يَجُوز في النَّـقْد أن يُـعَرِّضَ الشَّخْصَ المُنْتَـقَدَ إلى أَخْطَار القَمع السياسي الاستبدادي.
وَلَا يُسْمَحُ بِأَنْ يَتَحَوَّلَ النَّـقْدُ إلى وِشَايَة، أو إلى فَضْح، يُرِيد سِرًّا تَـعْرِيض الشَّخْص المُنْتَـقَد إلى اِنْتِبَاه الأجهزة القَمـعية، أو إلى بَطْشِهَا. فَيَجِبُ على كلّ نَـقْد مَنْشُور، أن لَا يَتَضَمَّن أَيَّةَ مَـعْـلُومَات، أو أَسْرَار، سَوَاءً كانت فَرْدِيَّة أم جَماعيّة، مُبَاشِرَة أم غير مُباشرة، يُمكن أن تُـفِـيـد العَدُوَّ الطبقي، أو الأجهزة القَمْـعِـيَـة، أو المُخَابَرَاتِيَة.
تِلْكَ هِي الشُّرُوط المَطْلُوبة في كلّ نَـقْد يُريد أن يَكُون بَنَّاءً. وَمِن البَدِيهِي أنه يَتَوَجَّبُ في كلّ رَدٍّ على أيّ نَـقْـد سِيَّاسِي، أن يَحْتَرِمَ، هُو أَيْضًا، هذه الشُّرُوط، لِكَيْ يَـكُون هذا الرَدُّ مَـقْـبُـولًا، وَمُـفِـيـدًا.

8- المَنْهَج المَرْجُوّ في النَّـقْد السياسي
8.1- المُرْتَجَى، من كِـلَا الطّرفين، النَّاقِد وَالمُنْتَـقَد، هو أن يَحْرُصُوا على خَوْض النِـقَاش، أو النَّـقْد، أو الصِرَاع السياسي، بِأَكْبَر قَدْر مُمْـكِـن مِن المَوْضُوعِيَة، دون إِهْمَال شَكْلِ هذا النَّـقْد، ودون التهجّم، لَا على شخص النَّاقِد، ولاَ على شخص المُنْتَـقَد. وَلَوْ أَنَّنَا نُدْرِكُ أن هذا «النِـقَاش بِمَوْضُوعِيَة»، هُو صَـعْبٌ علينا جَمِيـعًا. وَكُلّ واحد مِنَّا له ذَاتِيَّاتُه الخَاصَّة به. وكان يَنْبَـغِي على هؤلاء المناضلين أن يُثْـبِـتُوا كُلّهم، وَبِالحُجج المَوْضُوعية، خطأ انتـقادات الطَّرف الآخر، إِنْ كَانت خاطئة.
وَلَا يَسَـعُنَا هُنَا سِوَى أن نَـتَـمَنَّـى زَوَال مُخلّفات تِلك الحَزازات التاريخية القديمة، المَوْجُودَة (في المغرب) فِيما بَين المُناضلين المُنْحَدِرِين مِن المدرسة الاِتِّحَادِيَّة [نِسْبَةً إلى "حزب الاتحاد الوطني لِلقُوَّات الشَّـعْبِيَة"]، والمناضلين المَحْسُوبِين على المدرسة الشِيُوعِيَة [نِسْبَةً إلى "الحَرَكَات الماركسية اللّينينية ].
8.2- تَـقْـتَـضِـي النَزَاهَة أن أَعْـتَرِف أن تَـقاليد النَّـقْد التي تَرَبَّـى عليها جِيلُ المناضلين الذين هُم مِن سِنِّــي في المغرب، أي الذين عَاشُوا تجارب الحركات الماركسية اللينينية، أو في مَا شَابَهَهَا مِن الأحزاب الشيوعية، أو اليسارية، أو السْطَالِينِيَة (stalinien)، بَيْنَ سنوات 1965 و 1980، كانت في جزء هَامٍّ منها، تتّسم بالمُبالغة في الحَمَاس، أو بِالعَصَبِيَة الحِزْبية، أو بالانـفعالات الذّاتية، أو بالاستـخفاف بإصدار الأحكام الجاهزة، أو بِشَيْء مِن القَساوة في المُعَامَلَات السياسية، أو بالاتّهامات السَّرِيعَة وَالسّاحقة، أو بالتَصْنِيـفَات المُطلقة، وأحيانا بِالتَحْـقِير، أو التَخْوِين. وَكُنَّا (أو قَدْ نَكُونُ مَا زِلنا) لا نعرف جَيِّدًا كيف نَتَـعَامَل مع التَنَاقُضَات الثَانَوِيَة المَوْجُودَة في صُفوف الشعب. وَكُنَّا أحيانًا نُـغَلِّبُ التناقضات الثانوية على التناقض الأساسي، أو على التناقض الرئيسي. وكنّا نُوَزِّع بسهولة كبيرة اتهامات «اليَمِينِيَة»، أو «الْاِنْحِرَاف»، أو «التَراجع»، أو «الرِّجعية»، ضدّ رفاقنا في النضال الجماهيري المُشترك، الذين كَانُوا يُخالفوننا في بعض القَضَايَا الجُزئية.
8.3- في سنوات 1970، و 1980 م، ساهمتُ أنا أيضًا بِحَمَاس شَبَابيّ في مثل هذه الأساليب. لكنني تعلّمتُ، فيما بَعد، مِن تجاربي الشّخْصِيَة، أن هذه الأساليب القاسية في النّـقد السياسي، فيما بين المناضلين الثوريّين، تُسِـئُ أكثر مِمَّا تَـنْـفَـع. فَأْقْـلَـعْتُ عنها.
8.4- يُمكن للقارئ أن يجد مُحَاوَلَة أَوَّلِيَة لِتَطْبِيق نَوعية النَّـقْد المَرْجُو، في كِتَابِي (المَنْشُور على الإِنْتِرْنِيت، منذ سنة 2012 م) تحت عنوان «نَـقْد أحزاب اليسار بالمغرب». ورغم طول هذا الكتاب في صِيـغَتِـه رقم 60 المُحَيَّنَة (قرابة 300 صفحة مِن الحَجْم المُتَوَسِّط، وَرَابِطُهُ هُو : https://livreschauds.wordpress.com/2012/06/15/نقد-أحزاب-اليسار-بالمغرب/)، ورغم ثِـقَل وَزْن الانتـقادات السياسية الموجودة في هذا الكتاب، والمُوَجَّهَة إلى مختلف قِوَى اليسار بالمغرب، فَـقَـد حَاوَلْتُ قَدْرَ المُسْتَطَاع (في هذا الكتاب) تَلَافِـيَ اِستـعمال عبارات مُسْتَخِـفَّة، أو جَارحة، أو مُهينة، أو عَدَائِـيَّـة. وَرَغْمَ ذلك، مِن المُمكن أن تَكُون بعض التَـعَابِير غَيْر الْلَّـبِـقَـة قَد فَـلَـتَـتْ مٍن مُرَاقَبَـتِـي. وَإِنْ وُجِدَت في كتابي مثل هذه العِبَارات غَيْر المَاهِرَة، أَعْتَذِرُ مُسْبَـقًا عليها. لأن نِيَتِي الأَصْلِيَة هي فقط النَّـقْد والإِفَادَة، وليست هي التَـعَالِي، أو التَكَبُّر، أو الْاِهَانَة، أو التَجْرِيح. ورغم أن هذا الكتاب يُجَسِّدُ مَجْهُودًا في مَجَال النَّـقْد السياسي، فإن بعض قِوَى اليسار بالمغرب، تَجَاهَلَتْه، أو لَمْ تَهْتَم به بما فيه الكِفَايَة.
8.5- سبق لِي أن كَتَبْتُ ونشرتُ، أنني غير راض عن أوضاع قِوَى اليسار بالمغرب. وَلِتَلَافِي أَيّ سُوء تَـفَاهُم، أُكَرِّرُ في كلّ مُناسبة، أنه رَغْمَ الْاِنْتِـقَادَات التي أُوَجِّهُهَا إلى قِوَى اليَسَار بالمغرب، فَإِنَّـنِـي أُقَدِّرُ كلّ هذه القِوَى، وأحترمها، وأعتبر أنها كُلّها مُتَكَامِلَة، وَضَرورية، لِخَوْضِ النِضَالَات الجماهيرية المُشْتَرَكَة. وفي نفس الوقت، يجب أن نَتَذَكَّر أنّ الاحترام المُتبادل، لَا يُلْـغِـي النَّـقْد المُتبادل. وأن هَدَف النَّـقْد هو إِصْلَاح، أو تَـقْوِيم، الشَّخْص المُنْتَـقَد، الذي هُوَ مُـقَـصِّر، أو مُخْطِـئ. وأطمحُ إلى المُساهمة في تَـقْرِيب قِوَى اليسار من بعضها البعض. وَأَعْمَل مِن أجل تَـعاونها، وَتَـكَامُلِها، وَإِسْهَامِهَا في مُجمل النضالات الجماهيرية المُشتركة. ورغم أنني مُـقْـتَـنِـع بضرورة، وَإِلْحَاحِيَة، تَبادل النَّـقد المَـكْتُوب، والرَّزِين، فيما بين مُجمل قِوَى اليسار، فإننـي أَحُثُّ كلّ هذه القوى على الحِرص الشّديد، على أن يَظَلَّ هذا النَّـقد المُتبادل، مُلتزمًا بالجِدِّية، وبالمَوْضُوعية، والحِيّاد، والدّقة، والنزاهة، والاحترام المُتبادل. لأن هدف النَّـقْد الثوري، هو مُساعدة الشَّخص المُنْتَـقَد على تَحْسِين أداءه. وليست غاية النّـقد هي هَزْم المُنْتَـقَد، أو القضاء عليه! وأتمنى أن تُنَظِّم قوى اليسار، في المستـقبل، لِقَاءَات، وَحِوَارَات، فيما بين مَسؤولين، وَأُطُر، ومناضلين، من مختلف قِوَى اليَسَار، لِخَوْض جِدَالَات صَريحة، وَرَزِينَة، حول مُجمل إشكالات النضال الثوري بالمغرب.
8.6- ماذا نَـفعل في حالة حُدُوث خِلافات سِيَّاسية فيما بين قِوَى اليسار؟ هل نَتَجَاهَل هذه الخلافات النَظَرِيَة، أو السِيَاسِيَة، أو الخُلُـقِـيَـة ؟ هل نَنْـكُرُ وُجُودَهَا ؟ هَل نُحَوِّل هذه الخِلَافات إلى "طَابُوهَات" تُحَرِّمُ الكَلام حَولها ؟ هل نَتجاهل حتى مُختلف مُـكَوِّنَات اليسار التي تُخالفنا في بعض القَنَاعَات السياسية ؟ هَل نَسْـتَـعـمل هذه الخلافات السياسية كَمُبَرِّرَات لِمُـعَـادَاةِ كُلّ مَن يَحمل قَنَاعَات مُخالفة لِـقَـنَـاعَاتِنَا ؟ هَل نَمْتَـنِــعُ عَن مُمارسة النَّـقْد ضِدَّ الآرَاء المُخالفة لِآرائنا، وذلك بِحُجَّة تَلَافِـي إِثَارَة حَزَازَات ذَاتِيَة لَدَى الأشْخَاص المُنْتَـقَدِين ؟ هَلْ نَمْتَنِـعُ عن نَـقْد الطَرَف الذي يُخَالِـفُنَا، وذلك بِدَعْوَى أنّ «هذا النَّـقْد سَيُـعْطِي إلى ذلك الطَرَف الآخر (المُخَالِف لَنَا) أَهَمِّيَة لَا يَسْتَـحِـقُّـهَـا» ؟ هَلْ نَنْضَبِطُ لِكُلِّ فَاعِل سيّاسي يَمْنَعُ عَنَّا نَـقْـدَهُ ؟ أَلَيْسَ كُلّ مُواطن، وَكُلّ فَاعِل سِيَّاسِي، مُجْبَرًا على الخُضُوع لِلْمُرَاقَبَة، وَلِلْمُحَاسَبَة، وَلِلنَّـقْد، بِسَبَب عَيْشِه دَاخِل مُجْتَمَع مُشْتَرَك ؟ وَفِي رُدُودِنَا النَّـقْدِيَة، هل نَرُدُّ على تَـعَنُّتِ بعض المُخالفين لَنَا بِتَـعَـنُّـت أكبر؟ هَل نَطْلِقُ العِنَانَ لِلتَحَدِّي، وَلِلشَّتْم، أو لِلْـقَـدْح، لِتَـفْـرِيـغِ مَشَاعِر كُرْهِنَا لِلْمُخَالِـفِـيـن، أو لِلْخُصُوم، أو لِلْمُنَافِسِين ؟ هل الخَوف من تَـعقيدات النضال المُشترك يُبرّر التركيز على ذَاتِـنَا ؟ هَل الاِحْتِيَّاط المُفْرِط يُـبَـرِّرُ تَجاهل كلّ مَن اِخْتَـلَـفَ مَـعنا ؟
8.7- ألاَ تَسْتَـوْجِبُ الحِـكمة التَخلُّص من نَرْجِسِيَـتِـنَـا، ومن العَصَبِيَة الحِزْبِيَة الضَيِّـقَة، والقَـبُول المُتَوَاضِع بِالْحِوَار، وبالاختلاف، وَبِالتَـعَدُّد، وَبِالتَـكَامُل، والاحتكام إلى جُمهور المُناضلين الثَوْرِيِّين النَزِيهِين ؟ هل يُعْقَل أن نَسْتَـغْنِـيَ عن النَّـقْد السياسي المُتبادل ؟ وهل تُوجد وَسيلة أخرى، غير تَبادل النَّـقْد الرَّزِين، لِتَحقيق التَـفاهم، والتَـقارب، والتَأْثِـير، وَالتَأَثُّـر، والتَـكَامُل، والتَـعَاوُن، فيما بين مُخْتَلَف قِوَى اليسار ؟
8.8- رَغْمَ أن النَّـقْد يَـفْـضَحُ نَـقَـائِصَنَا (عندما نَكون مُنْتَـقَـدِين)، أو يُبْرِزُ أَخْطَائَنَا، أو يُـعَـرِّي عُيُوبَنَا، يَتَوَجَّبُ علينا أن نَبْذُلَ كلّ المَجْهُودَات الْـلَّازِمَة لِتَحَمُّلِه، أو لِـتَـقَـبُّـلِـه، أو لِلتَّـفَـاعُـلِ معه بِأَكْبَر إِيجَابِيًّة مُمْكِنَة. لأن تَـعَرُّضَنَا لِلنَّـقْد، لَا يَنْـقُصُ مِن قِيمَتِنَا المُجتمعية، بَلْ سَيُوَفِّـرُ لَنَا إِمْكَانِيَّة تَـكْمِيل نَـقَائِصِنَا، أو إمكانية تَصْحِيح أَخْطَائِنَا، أو تَـحْسِين فَـعَـالِـيَّـتِـنَـا.
فَلَا يَجوز لأي نَـقد مُتبادل بين قِوَى اليسار، أن يَنْسَاق نَحو التَسَـرُّع، أو الاِسْتِـخْـفَـاف، أو العَصَبِيَة الحِزبية الضَيِّـقَـة، أو الاِحْتِـقَـار، أو الكَـرَاهِيَة، أو الرَّغْبَة في تَـصْـفِـيَة الحِسَابات الشَّخْصِيَة الذَّاتِيَة. فإما أن يَـكون النَّـقْد السياسي مُعَمَّقًا، وَمَنْطِـقِـيًّا، ومُعَلّـلاً، وَمُـقْـنِـعًا، وإما أنه سَيَـبْـقَـى مُجرّد تَصْنِـيـفَات اِعْتِبَاطِيَة، تُسِيءُ أكثر مِمّا تُـفِـيـد.

9- أَهْـدَاف النَّـقْـد السِيّاسِي
في مَعْرِض هذا المقال، سَبَـقَ أن أَشَرْنَ، بِشَكْل عَابِر، إلى بَعْض أهداف النَّـقْد السِيَاسِي. لكن ما هي أهداف النَّـقد، بِشَكْل دَقِيق، وَشُمُولِي ؟
أهداف الحِوار، والنِّـقَاش، والنَّـقْد، والصِراع السياسي، هي تَدْبِير الخِلافات، وَتَصْحِيح الأَخْطَاء، وَتَـقْـوِيمِ الْاِنْحِرَافَات، وَبِنَاء أُسُـس النِضال الجَمَاهِيرِي المُشترك، وَتَـلَافِـي الاستبداد، وَتَـفَادِي الانفراد بالقرار، وفرز الآراء الأكثر عَقْـلَانِيًّا، وَمُنَاصَرَة البَرَامِج التي هي أكثر عَدْلًا، أو تَـقَدُّمًا، أو صَوَابًا، أو إِنْتَاجِيَةً، أو ثَوْرِيَّةً. ونوع النَّـقْد المطلوب فيما بين قوى اليسار، هو أن يكون جِدِّيًا، وَدَقِيقًا، وَمُـعَـمَّـقًـا، وَمُـعَـلَّـلاً، وَمَوضوعيا، وَمُحايِدًا، وَمُـقْـنِـعًـا، وَمُلْتَـزِمًا بالاحترام المُتبادل، وَمُرَاعِيًّا لِلْحَسَاسِيَّات، وَمُـعْـتَبِرًا لِلذَّاتِـيَّـات، وَحَرِيصًا على صِيَانَـة حُظُوظ خَوْض نِضالات جماهيرية مُشتركة في الحَاضر، وفي المُستـقـبل.
وَمَـعْنَى ذلك هو أن الشخص الذي يَنْتَـقِـدُك، لَا يُريد لك سِوَى الخَيْر. لأنه يُريد مِنْك أن تُرَاجِعَ بعض أفكارك، وأن تُحَسِّنَ بعض سُلُوكِيَّاتِك. وَيَحُثُّـكَ النَّاقِدُ على أن تُصْبِح أَكْثَر فَـعَـالِيَّة مِمَّا كُنْتَ عليه في السَّابِـق. وَيَرْجُو ضِمْنِيًّا مِنْك النَّاقِد أن تَتَـقَـرَّبَ منه، وأن تَتَـعَاوَن مَعَه، وَأن تَتَـكَـامَلَ مَعَه، بِهَدَف خَوْض وَإِنْجَاح أَكْثَر مَا يُمـكن مِن النِضَالَات الجَمَاهِيرِيَة المُشْتَـرَكَـة.
وَلَوْ كان حَـقِيقَةً الشَّخص الذي يَنْتَـقِـدُك يُرِيد لك الشَـرَّ، لَـفَـضَّـلَ السُّكُوتَ عن نَـقَـائِصِك وَأَخْطَائِـك، التي سَتُؤَدِّي بِك حَتْمًا إلى التَـعَـثُّـر، ثُمَّ الفَشَل. وَإذَا أَقْدَمَ نَاقِدٌ على نَـقْـدِكَ، فَهَذا النَّـقْـد يَـعْـنِـي أنّ الشَّخْص النَّاقِد فَضَّلَ أن يُضَيِّعَ جُزْءًا مِن وَقْتِـه أو طَاقَـتِه، في مُحَاوَلَة الكَشْفِ عن نَـقَـائِصِك، أو أَخًطَائِـك، وَأَنَّهُ أَرَادَ أن يَـقْـتَـرِحَ عليك البَدَائِـل التي هي أَكْثَرُ سَدَادًا، والتي سَتُؤَدِّي بك، في حالة الاستـفادة منها، إلى تَحْسِين إِنْجَازَاتِـك وَإِنْجَاحِهَا.
وَحِينَمَا نَنْتَـقِـدُ شَخصًا مُـعَـيَّـنًـا، أو حِزْبًا مُحَدَّدًا، فَـإِنَنا نُـرِيـدُ مِنْه أن يُشَارِكَ مَـعَـنَـا في خَوْض النِضَالَات الجَماهيرية المُشتركة، مِن أجل إِنْجَاز الطُمُوحَات المُجتمعية المُشْتَـرَكَـة.
وَالنَّـقْد الجَيِّد، أو المُـفِـيد، يَسْتَمِدُّ جَوْدَتَه مِن كَوْنِه ثَوْرِيًّا، وَيَهْدِف إلى تَـثْـوِيـر العَلَاقات السِيَّاسِيَة المُجتمعية، وَعَلَاقَات الْاِنْتَاج، القَائِمَة فيما بَين المُواطنين.
وَسَوَاءً كان النَّـقْد مُوَجَّهًا إلى شخص، أم إلى جَمَاعَة، يَنْبَـغِـي أن يَكون هَدَف النَّـقْد، ليس هو عَزْلُ الشّخص المُنْـتَـقَـد، أو هَزْمُهُ، أو تَحْطِيمُ سُمْـعَـتِـه، بَلْ يجب أن يَكون هدف النَّـقْد هو إحداث التَّـفَاهُم مع الشَّخص المُنْتَـقَد، وُمُساعدته على إِدْرَاكِ نَـقَـائِصِه، وَحَثُّهُ على تَـقْـوِيـم نَـفْـسِـه.
وَيُشْبِهُ النَّـقْد السياسي الدَّوَاء المُـرّ. وَرَغْمَ مَرَارَة النَّـقْد (الدَوَاء)، فإن هَدَفه هو مُعَالَجَة المَرِيض، وليس هَدَفُه هو القَضَاء على المَرِيض، رَغْبَةً في التَخَلُّص مِن المَرَض.
وَهَدف النَّـقْد هو أيضًا التَـقَـرُّب من الشَّخْص المُنْتَـقَـد، والتَـكَامُل معه، والتَـعَاوُن معه، وَدَفْـعُـهُ إلى تَحْسِين كَـفَـاءَاتِـه، وَتَجْوِيد فَـعَـالِـيَّـاتِـه، وَخَوْض النضال الجماهيري المُشترك معه، بِهَدَف إِنْجَاز الْاِنْتِصَار المُشترك، لِلثَّوْرَة المُجتمعية المُتَوَاصِلَة.

رحمان النوضة (الأربعاء 8 يونيو 2016، الصيغة 5).