منظومة التفاهة أو تشكيل العام على صورة -مكدونالد-

محمود الصباغ
2023 / 3 / 30 - 20:48     

يقول هربرت ماركوز "يمثل انقسام المجتمع إلى طبقات تستغل إحداها الأخرى، أحد المظاهر الأساسية لـ "اللاعقلانية"، لكن المجتمع يقوم بتمويه ذلك ليبدو الاستغلال ملمحاً من التلاحم الطبقي، كأن يشاهد رب العمل والعامل برامج التلفزيون ذاتها، أو أن ترتدي السكرتيرة ذات الملابس التي ترتديها ابنة صاحب المعمل، وأن يركب "الزنجي" الذي لا حقوق له الكاديلاك الفارهة". ويمكن القول أن ليس بالضرورة -وإن كان حتمياً- توحد العامل والسكرتيرة و "الزنجي" لمواجهة واقعهم. ومثل هذا التأويل لا علاقة له بصرخة ماركس "يا عمال العالم اتحدوا"، التي تستحضر الطريقة التي توضع فيها هذه الأفكار في المجتمع، والفرد كجزء من جماعة / جماعات تتوضع تراتبياً وطبقياً ضمن القوى المنتجة في المجتمع. ولعل عدم الفصل بين الفرد والجماعة كان السبب في فشل ما تنبأ به -ماركس طبعاً- عن الانهيار الحتمي للرأسمالية لتحقيق الشيوعية التي ستغمر البشرية بالسعادة الخالدة، والتي ضخ فيها لينين -فيما بعد- شعاراته المعروفة باسم: "حيتان لينين الثلاث": بناء جمهورية ديمقراطية، مصادرة أراضي الملاكين العقاريين كافة، وأخيراً يوم عمل من ثماني ساعات.
وإذا كانت صرخة ماركس بمنزلة معادل موضوعي لاستحضار المزيف المتمثل بالتفاهة، فإن السلطة، بالنسبة، للبعض إغراء قوي للسيطرة والتلاعب بالقيم ومصادرها ومآلاتها، فمن الناحية الأخلاقية (على الأقل في تأويل صرخة ماركس السابقة كرد على استحضار المزيف)، تفترض منظومة التفاهة وجود إرادة تتبنى وتتحكم وتسيطر عليها، وهذا لا يستقيم أخلاقياً إلا في حالة واحدة هي اقتران المنظومة بوعي التفاهة الذي يستلزم لتشكيله مثقف "هلفوت" يسوغ تحوله إلى " خبير وممثل للسلطة" لإضفاء الشرعية على سلوكه وأفعاله في تواطئ مكشوف "لتسويق" نظام سياسي وثقافي يقيد الإرادة الحرة ويستلب الوعي، فيتحد هؤلاء التافهون عبر نداء أشبه بنداء ماركس يدعو لعولمة التفاهة.
نشر السوسيولوجي الأمريكي جورج ريتزر في العام 1993 كتابه المشهور (The McDonaldization of Society: An Investigation into the Changing Character of Contemporary Social Life) ["تشكيل العالم على صورة مكدونالدز: بحث في الخصائص المتغيرة للحياة الاجتماعية المعاصرة"]، يقدم فيه تحليلاً لعلاقة الفرد بالمجتمع ودور الثقافة السائدة في تشكيل هذه العلاقة، ويبين كيف يتم استغلالها ضمن منظومة تهيمن على الاقتصاد والثقافة، من خلال استعراض المشاكل الاجتماعية الناشئة من هيمنة الاقتصاد "الرأسمالي" على مظاهر الحياة الثقافية والاجتماعية، ويشير ريتزر إلى المصطلح المجازي "تشكيل العالم على صورة ماكدونالد (دون أن يغيب عن بالنا العنوان الفرعي التكميلي)" للدلالة على "تنميط العلاقات الاجتماعية" وحصرها في قوالب تركز على التسليع والثقافة الاستهلاكية وتذهب بعيداً نحو تحويل كل شيء إلى صورة المبدأ الاقتصادي الذي يرى بأن "كل شيء يصبح قابلاً للبيع عندما يعطى له ثمن".
ولكن ما الذي يميز سلسلة مطاعم مكدونالدز حتى يتم طرحها كمثال عن صورة العالم المعاصر؟
اعتاد الناس (سكان المدن تحديداً) على ارتياد المطاعم كجزء من العلاقات الاجتماعية البينية وكفرصة أو مناسبة للقاء، سيما وأن روتين الحياة يمتص معظم الوقت المتاح. والصورة "النمطية" عن المطعم في كونه ليس فقط مكان تناول الطعام، بل حيز يتبادل فيه الناس أخبارهم وقصصهم ويفرغون شحنات التوتر اليومي ويعبرون عن مشاعر الحب والحميمية.. ما شابه ذلك. غير أن هذه الممارسة غير متوفرة في مطعم ماكدونالد، فنحن أمام شكل ومحتوى مختلف. تتشابه مطاعم ماكدونالد في جميع فروعها بكل شيء، ابتداء من الشعار والألوان الداخلية وصولاً إلى الوجبة ذاتها.. شكلها ولونها وحجمها ووزنها نكهتها وطعمها وطريقة إعدادها، وأنت هنا لا تملك أي خيار فهي تأتي هكذا كما في الصورة التي أمامك.. يعني take it´-or-leave it فضلاً عن أن جو المطعم من الداخل لا يقدم تلك الأريحية الموجودة في المطاعم العادية، فالكراسي غير مريحة على الإطلاق بحيث لا تحتمل الجلوس وتبادل الأحاديث لفترة طويلة، بل ستكون مضطراُ لالتهام وجبتك بسرعة داخل المطعم أو الخروج بها. اللافت في الأمر أنك كزبون تتحول إلى جزء من خط إنتاج الوجبة، فمنذ البداية تقوم بإحضار الصينية الخاصة بك مع ملحقاتها وعليك بعد ذلك أن تنظف المكان قبل خروجك وتضع الفضلات في أماكنها المخصصة.
استند ريتزر في صياغة مقولات كتابه إلى معنى العقلانية و"التصرف العقلاني" عند ماكس ويبر كأحد الوسائل الممكنة لتحسين الإنتاجية في المصانع والمؤسسات، مثل القدرة على الحساب والكفاءة والتخصص والتنبؤ، وتطبيقها في حقل صناعة الوجبات السريعة وتحويلها إلى نظام قابل للتحكم بالكامل وهذا بالضبط ما نراه واقعاً ماثلاً في مطاعم ماكدونالدز وما يشبهها، فلاشك أن كفاءة ماكدونالد لا تحتاج إلى برهان من وجهة النظر الاقتصادية كما أن قابلية الحساب لخطوات العمل حتى الوصول للمستهلك تبدو واضحة للعيان من خلال حجم الوجبة المعلن وأبعادها وكمية المواد فيها والمشروبات المرافقة.. كل شيء محسوب بدقة دون نقصان مثلما هو دون زيادة أيضاً. والنقطة الأكثر أهمية في أفكار ويبر هي القدرة على التنبؤ، بمعنى، أنك كزبون داخل المطعم تعلم تماماً ما سوف يحدث بالضبط وبصورة متكررة، وهذا ما يجعلنا ننتقل إلى المستوى التالي، أي التحكم والسيطرة، فإذا كانت شركة ماكدونالد تملك السيطرة على موظفيها وتسييرهم وفقاً لخطة أو نظام داخلي متفق عليه بين الإدارة والعمال، فهي تسيطر أيضاً على المستهلكين عبر سلسلة من الإجراءات الناظمة غير قابلة للنقاش، فلا يمكن للزبون على سبيل المثال الدخول في نقاش مع الموظف عن طبيعة الوجبة أو نكهتها أو طعمها أو حجمها أو تغيير أو زيادة بعض مكوناتها.. هذه مسائل لا تخص الزبون، بل تخص الإدارة والشركة.
ويطور ريتزر مفهوم التحكم والسيطرة إلى إطار أوسع من ماكدونالدز مثل المشافي والجامعات وخدمات الهواتف ومحطات القطارات والمواصلات ومحلات بيع التجزئة الكبرى.. في جميع هذه الحالات يكون المستهلك تحت وطأة منظومة القرارات المركزية للجهات المعنية ويرتبط مفهوم التحكم والسيطرة مباشرة بمفهوم الكفاءة والفعالية والسرعة في الأداء، وبالتالي القدرة على إجراء الحسابات المناسبة، وهكذا سوف يتشكل واقع موازي للواقع الحقيقي.. واقع خفي (نوع من robotic reality) يقلص من الحجم الحقيقي/ الواقعي للإنسان العادي ويحوله إلى مجرد زيون أو رقم على قائمة الانتظار، وهي ما يطلق عليها جلال أمين* " نزع الجانب الشخصي للإنسانimpersonalization " كنتاج موضوعي لتحويل العالم إلى صورة مكدونالد McDonaldization فعندما تزداد الكفاءة وتصبح القدرة على الحساب والتنبؤ على درجة عالية فسوف ننتقل، كما يقول ريتزر، إلى درجة عالية من العقلانية يمكن أن نصفها بـ "اللاعقلانية أو لا عقلانية العقلانية" وأحد أسباب ذلك يعود إلى تضاؤل أو محو العنصر الشخصي من العلاقة التبادلية بين الشركة -أي شركة- والزبون.
لعل هذه الحالة يمكن مقاربتها مع "منظومة التفاهة" التي تعبر عن الجانب السلبي للاستهلاك المفرط والمحدودية الثقافية التي يفرضها النظام الاقتصادي الحالي، فضلاً عن سطوة الشركات الكبرى على السوق وتأثيرها على المجتمعات والثقافات المحلية والتحول إلى مجتمع يتميز بالروتينية والانفصالية والأنانية المفرطة.
ولكن ما هو مشجع في ظل هذه القتامة، صعوبة، بالأحرى استحالة، تشكيل العالم على صورة مجاز ماكدونالد أو أي شركة أخرى تشبهها بصورة مطلقة**، كما يعتقد ريتزر. فالعالم يتكون من مجموعة متنوعة من الأفراد والمؤسسات والثقافات والقيم، وهم يمتلكون أفكار مختلفة وكذلك أحلام وطموحات و"شركات" ليست بالضرورة على شاكلة ماكدونالد.
طيب.. السؤال الآن إذا كان نظام التفاهة على تلك الدرجة العالية من "التفاهة"، وإذا كانت فكرة الشيوعية على هذه الدرجة من العمق والتفاؤل، فكيف، إذن، لم تستطع هذه الأخيرة تقديم إجابات شافية لبعض الأسئلة.. لعل أسهلها: "هل نحن، حقاً، نرغب بما نملك أم بما ينقصنا؟ وهذا -على كل حال- سؤال أخلاقي في المقام الأول، و إن بدى في ظاهره اقتصادياً.
سؤال أعيا ماركس ومن أتى بعده.
....
*للمزيد انظر، https://www.aljazeera.net/programs/a-book-i-wrote-read/2009/4/22/%D8%AA%D8%B4%D9%83%D9%8A%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%B5%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D9%85%D9%83%D8%AF%D9%88%D9%86%D8%A7%D9%84%D8%AF-%D9%84%D8%AC%D9%88%D8%B1%D8%AC
** ثمة رأي مشابه في ذات السياق للكاتب البريطاني جورج مانيبو نشره في صحيفة الغارديان (6 كانون الأول 2016) يناقش ما كتبه توماس فريدمان في نهاية التسعينيات عن نظريته المعروفة باسم "نظرية الأقواس الذهبية لمنع النزاعات" والتي تنص على أنه "لم تقم دولتان يوجد بهما فروع لمطعم مكدونالد بخوض حرب فيما بينهما". ويرى مانبيو أن طروحات فريدمان أتت في سياق انتهاء الحرب الباردة وامتداد لمقولة "نهاية التاريخ" والتي ترى بإمكانية إحلال سلام عالمي بقيادة الرأسمالية عبر خلق توازن للدول بهدف اندماجها في الاقتصاد العالمي... إلخ. وتناسب نظرية فريدمان فعلاً تلك الفترة حين ظهرت بعض الأفكار التي تقول بأن المجتمع الإنساني سوف يتحول "في ظل النظام العالمي الجديد الذي روج له الرئيس جورج بوش الأب" إلى أهداف تنأى بنفسها عن الإيديولوجيا. واستبدال الحرب بوجبة "بيغ ماك" شهية. ونظر فريدمان إلى ماكدونالدز كمجاز ورمز لهذا الإحلال. لا يرى مانيبو في كلام فريدمان سوى نوع من "الهراء" الذي ما انفك يردده بل يعتبر أن نموذج مكدونالد "المتحرر من القيود الديمقراطية: يدمّر، في الحقيقة، مغزى وهدف الديمقراطية" فضلاً عن مسؤوليتها عن كوارث حقيقية في الصحة العامة والضرر المناخي والاغتراب والتفسخ الاجتماعي والتدخل السياسي في الدول الضعيفة وتغول العولمة للمزيد انظر، https://www.theguardian.com/commentisfree/2016/dec/06/mcdonalds-democracy-corporate-globalisation-trump-le-pen-farage