فَنُّ النَقْد السِيَاسِي 2/3


عبد الرحمان النوضة
2023 / 3 / 29 - 18:14     

هذا المقال هو الجزء الثاني مِن بَيْن ثلاثة أَجْزَاء (2/3)، من الدِرَاسَة المُعَنْوَنَة بِـ : «فَـنُّ النَّـقْـد السِيَّاسِي».
مُــحْــتَـــوَى الـــمَـــقَــــال :
1- مَا هُوَ النَّـقْـد السِيَّاسِـي ؟........................ 3
2- مِـثَـال لِلنَّـقْـد السِيَاسِي........................... 4
3- أَسَالِيب النَّـقْد المُسِيئَة........................... 12
4- كَيْـفَ كُنَّا نَتَـعَامَل مَع الخِلَافات، ومع النَّـقْد... 19
5- حَرَكِيَة النَّـقْد، ثُمَّ نَـقْد النَّـقْـد..................... 27
6- المَنْطِـق المَـفْـقُـود في النَّـقْد السياسي.......... 34
7- الشُـرُوط المَطْلُوبَة في النَّـقْد السِّيَاسِي.......... 38
8- المَنْهَج المَرْجُوّ في النَّـقْد السياسي.............. 42
9- أَهْـدَاف النَّـقْـد السِاسِي.......................... 47


4- كَيْـفَ كُنَّا نَتَـعَامَل مَع الخِلَافات، ومع النَّـقْد
4.1- أَتَذَكَّر كَيْفَ كُنَّا نَتَـعَامَل مع «الخلافات السياسية» دَاخِل الحزب الشيوعي المغربي القديم، ثُمّ فيما بَعْد، دَاخِل مُنظّمَة «إلى الأمام» السِرِّيَة المُنْشَـقَّة عنه. وَتَرْجِعث هذه الأحداث إلى سنوات مَا بَيْن 1965 و 1976. وَأَتَذَكَّرُ أن المناضل ابْرَاهَام السَّرْفَاتِي كان آنذاك أَكْبَرَنَا سِنًّا. وكان يَتَـفَوَّقُ ابْرَاهَام السَّرْفَاتِي على مُجمل أعضاء تَنْظِيم «إلى الأمام» في مَجَالات الثَّـقَافَة، وَالتَـكْوِين، وَالخِبْرَةً، والْاِطِّلَاع على الأَدَب المَارْكْسِي. وَحِينَمَا كُنَّا نَحْن شُبَّانًا مُبْتَدِئِين في السياسة، كانت لِلسَّرْفَاتِي أَكْثَر عَشْرَة سَنَوَات من التَجْرِبَة في صُفُوف اليَسَار. وَكَان السَّرْفَاتِـي يَحْظَـى بِاحْتِرَام كبير. وَمُنْذُ اَلْاِنْشِـقَاق عن الحزب الشِيُوعي التَحْرِيفِـي القَديم، وَكذلك مُنْذ بِدَايَة تَشَـكُّل مُنَظَّمَة «إلى الأمام»، لَعِبَ ابْرَاهَام السَّرْفَاتِي دَوْرًا رَئِيسِيًّا في بَلْوَرَة خَطِّهَا السياسي. وَكان هذا الخَطّ السياسي لِتَنظيم «إلى الأمام» يَتَضَمَّنُ بعضَ القَضَايَا التي أَصْبَحَت فيما بعد تُثِير تَسَاؤُلَات، أو تَحَـفُّظَات، أو اِنْتِـقَادات. وَلَمْ يَكُن يُوجَد آنذاك مُناضلون في «إلى الأمام» (وَلَا في اليسار) في مُسْتَوَى التَحْلِيل الدَقِيق، وَالنَـقْدي، لِمُكَوِّنَات الخَطّ السياسي لمنظّمة «إلى الأمام». وَلَمْ يَـكُونُوا مُؤَهَّلِين لِتَوْضِيح أن بعض مُكَوِّنَات هذا الخط السياسي كانت غَيْر مُلَائِمَة، أو سَابِـقَة لِأَوَانِهَا، أو خَاطِئَة. وَسَاعَدَت آنَذَاك الأَوْضَاع الثورية القائمة على صَعِيد العَالَمِ ("الاشتراكية" في رُوسيا، والصِّين، والثورة الثَقَافِيَة في الصِّين، وَحُرُوب التَحْرِير الشَعْبِيَة في كُوبَا، وَفِتْنَام، وَكَامْبُودْيَا، وظُفَار، واليَمَن، وَأَنْغُولَا، وَحَرَكَة العُمَّال والطَلَبَة في سنة 1968 في فرنسا، الخ) سَاعَدَت على تَكَوُّن وَتَحَمُّس الحركات الماركسية اللِّينِينِيَة في كَثير مِن بُلدان العالم، بما فيها المغرب.
وَخلال سنوات 1970، لَمْ يَكُن أَحَدٌ مِن بَيْن أعضاء منظمّة «إلى الأمام» (بِمَا فِيهِم أنا) يَجْرُؤُ على مُخَالَفَـة ابْرَاهَام السَّرْفَاتِي، أو نَـقْدِه. [وَلَمْ أَنْشُر مقالًا عَلَنِيًّا يَنْتَـقِد ابْرَاهَام السَّرْفَاتِي إِلَّا في سنة 1982. وكان يَحْمِل عُنْوان «مَشْرُوع فَاس 1982، أو اسْتْرَاتِيجِيَّة تَحْرِير فَلَسْطِين». وصَدَر في جَرِيدة "المَسَار"، في خمسة حَلَقَات مُتَتَابِـعَة]. وَأَتَذَكَّر أن مُجْمَل أَعْضَاء الهَيْئَات القِيَادِيَّة في منظّمة «إلى الأمام»، (بِمَا فيهم المناضلون الذين كانوا آنذاك بَارِزِين، مثل عبد الفَتَّاح الفَاكِهَانِي، وعبد الْلَّطِيف زَرْوَال، والمُشْتَرِي بَلْعَبَّاس، وعبد الله المَنْصُورِي، وعبد اللّطيف الْلَّـعْـبِـي، وعبد الله زَعْزَع، وعبد الحَمِيد أَمِين، وعَلِي أَفْـقِـير، الخ)، كَانُوا عُمُومًا يَتَلَافَوْن التَـعْـبِير (داخل المُنَظَّمَة) عن «خِلَافَاتِهِم» الفِكْرِيَة، أو عَن «اِنْتِـقَادَاتِهِم» السياسية. وَحَتَّى لَوْ أَحَسَّ أَيٌّ مِنْهُم بِوُجُود «خِلَافات» جُزْئِـية، أو فِكْرِية، أو سِيَّاسِية، مع ابْرَاهَام السَّرْفَاتِي، أو مع أيّ مَسْؤُول آخر في المنظّمة، كانوا يَحْرُصُون على تَـقْدِيمِهَا على شَكْل «تَسَاؤُلَات». وَكَانُوا يَتَــفَادَوْن تَـقْـدِيمَهَا على شكل «خِلَافَات»، أو «إِنْتِـقَـادَات»، إلى مُخَاطَبِيهِم. وَمِن المُمْكِن أن يَكُون هذا التَحَفُّظ (في مُمَارَسَة النَّـقْد داخل المُنَظَّمَة) يَأْتِي مِن خَوِفِنَا مِن تِكْرَار تَجْرِبَتَنَا المَرِيرَة، المُتَـعَلِّـقَة بِصِرَاعَاتِنَا الفِكْرِيَة والسياسية مع الحزب الشيوعي التَحْرِيفِي القديم، أو بِـاِنْشِـقَاقِنَا المُدْهِش عنه. وَيُمْـكِن أيضًا أن يَكُون هذا التَحَـفُّظ نَاتِـجًا عَن خَشْيَتِنَا مِن الْاِصْطِدَام بِـ «خِلَافَات» و«انْتِـقَـادَات» جَدِيدَة، قَدْ تَكُون تَمْهِيدًا لِحُدُوث اِنْشِـقَـاقَـات أُخْرَى جَديدة وَمَرِيرَة، داخل مُنظّمة «إلى الأمام» هي نَـفسها.
وَأَتَذَكَّر مثلًا، أن مُجَرَّد تَسَاؤُلِـي، أو تَـعْـبِيرِي عن نَـقْد بُطْء، أو قِلَّة فَـعَالِيَة، مُحَاوَلَات تَجَذُّر مناضلي «إلى الأمام» في صُفُوف الطبقة العاملة، جَلَبَ عَلَيَّ سُوء تَـفَاهُم مع قِيَّادة التنظيم، وَتَسَبَّب في إِشْـعَال شُـكُوك لَدَى هذه القِيَادَة حَول نَـوَايَاي العَمِيقَة، أو المَخْـفِـيَّة.
وَكُنَّا نَخْشَى أن يُؤَدِّيَ نَـقْدُ أَيِّ شَخْص، أو أَيّة جَمَاعَة، سَوَاءً داخل المنظّمة، أم في صُفُوف اليسار، إلى القَطِيعَة النِهَائِيَة مع الجِهَة المُنْتَـقَدَة. وَكُنَّا عُمُومًا نُدْرِكُ أنّ كُلّ شَخْص يَتَـعَرَّضَ لِلنَّـقْد، مِن المُحْتَمَل أن يَمِيل إلى رَفْض خَوْض النضال المُشْتَرَك مع الشّخص الذي سَبَـقَ أن إِنْتَـقَـدَهُ.
وَلَوْ كُنَّا حَقِيقَةً، دَاخِل منظّمة «إلى الأمام»، مُـعْـتَـادِين على تَبَادُل النَّـقْد السياسي الرَّزِين، والمُـعَـمَّـق، بطريقة عَفْوِيَة، وَسَلِيمَة، وَمُسْتَرْخِيَة، وَمُرِيحَة، لَكُنَّا قَدْ اِكْتَشَـفْـنَـا النَـقَـائِص الموجُودة في أَفْكَار أو مُمَارَسة منظّمة «إلى الأمام». وَلَوْ كُنَّا نُطَـبِّـقُ النَّـقْد بِطريقة مُسْتَرْخِيَة، لَـكَان بِـإِمْـكَانِنَا أن نَتَلَافَـى الكَثِير مِن بَيْن الأَخْطَاء السياسية التي اِرْتَـكَـبْـنَاهَا خِلَال تَجَارِبِنَا. وَبِدُون التَـعَوُّد على تَبَادُل النَّـقْد الدَقِيق والبَنَّاء، سَيَكُون مِن شبه المُستحيل اِكْتِشَاف النَـقَائِص والأَخْطاء، وَتَصْحِيحِهَا.
وَمِثْلَ عُمُوم أعضاء تنظيم «إلى الأمام»، كُنْتُ في البِدَايَة مُبْهَرًا بِـ «المُسْتَوَى العَالِي» لِلْأَرْضِيَّات السِيَّاسِيَة (التَوجِيهِيَة في مَجَالَات الْاِسْتْرَاتِيجِيَة والتَكْتِيك) التي كانت تَطْرَحُهَا قِيَّادة تنظيم «إلى الأمام». وَكُنْتُ أُدْرِكُ أنّ هذه الأرضيّات كانت أَسَاسًا مِن إِنْتَاج ابْرَاهَام السَّرْفَاتِي. وَقَبْلَ تَعْمِيمِ هذه الأرضيّات التَوجِيهِيَة على بَاقِي التَنْظِيم، كانت تَخَضَعُ لِـنِـقَاش فِيمَا بَيْن أعضاء «الكِتَابَة الوَطَنِيَة» لِلمُنظّمة. وَمِن بَين أعضاء قِيَّادَة المُنظّمة الذين سَاهَمُوا في نِـقَاش وَاحدة أو أكثر مِن بَيْن هذه الأَرْضِيَّات السِيَاسِيَة التَوْجِيهِيَة (المُنْتُوجَة مِن طَرف السَّرْفَاتِي)، نَذْكُر مثلًا عبد اللطيف زَرْوَال، وعبد الفَتَّاح الفَاكِهَانِي، وَبَالْعَبَّاس المُشْتَرِي. وَكانوا كلّهم ذَوِي تَكْوِين أَدَبِي، وَلَيْسَ عِلْمِي). وَلَمْ يَـكُن (هذا النِقَاش) يَـقْدِر على تَحْلِيل، وَفَحْص، وَنَـقْد، أُسُـسِ هذه الأَرْضِيَّات. وَإِنَّمَا كَان (هذا النِـقَاش) يَـكْـتَـفِـي بِتَحْسِين بعض تَـفَاصِيلهَا الشَّكْلِيَة، أو الثانويّة. وَمُنْذُ سنة 1973، حِينَمَا كُنْتُ أعمل في الْلَّجْنَة التِـقْتِيَة لِلْمُنَظَّمَة، بَدَأُتُ أَشْعُر أن هذه الأرضيّات السياسية التَوْجِيهِية، المطروحة من طَرَف السَّرْفَاتِي (خاصّة فيما يَتَـعَلَّقُ بِقَضَايَا مثل حَرْب التَحْرِير الشَعْبِيَة، والقَوَاعِد الحَمْرَاء المُتَحَرِّكَة، وَمَا شَابَهَهَا)، كان فيها ضُعْف مِن زَاوِيَة الدِقَّـة العِلْمِيَة. وَكَانَ طَرْحُ قَضَايَا العُنْـف الثَّوْرِي سَابِـقًا لِأَوَانِه. وَبَدَاْتُ أُحِسُّ أَنّ السَّرْفَاتِي، بِالرَّغْم مِنْ تَـكْوِينِه العِلْمِي كَمُهَنْدِس في شُعْبَة المَعَادِن، كان أَقْرَبَ إلى شَاعِر مُتَحَمِّس، وَأَقَلّ قَلِيلًا مِِن عَالِم دَقِيق. وَلَاحَظْتُ أنه، مِن فترة لأخرى، كانت تَـغْلُب على بعض الأطروحات السياسية لِلسَّرْفَاتِـي عواطف جَيَّاشَة. وَبَدَأْتُ أَشُـكُّ أَنَّ هذه الأَرْضِيَّات السياسية التَوْجِيهِيَة غَيْرَ مَبْنِيَة بِمَا فيه الكِـفَايَة، في أُسُـسِـهَا، على مَنْهَج عِلْمِي دَقِيق. وَلَوْ أَنَّنِـي أَشْهَدُ أنها كَانت تَتَلَائَمُ مَعَ، وَتَسْتَجِيب لِـ، الحَمَاسَة الثَّوْرِية التي كانت آنَذَاك سَائِدَة داخل شَبَاب الجَامِعَات والمَدَارس. وَلَمْ تُسَاعِدْنِي في ذلك الوقت كثرة المَهَام اليومية في «الْلَّجْنَة التِـقْنِيَة»، وكذلك التطوّرات الهَامّة المُتَلَاحِقَة في البلاد، على تَعْمِيق تَسَاؤُلَاتِـي، أو أَبْحَاثِـي، حول دِقَّـةِ مَضْمُون هذه الأَرْضِيَّات السِيَّاسِيَة التَوْجِيهِيَة. وَلَمْ أَتَجَرَّأْ على نَـقْد أيّة واحدة من هذه الأرضيّات. وَلَمْ يَـكُن عندي وَضُوح كَافٍ حول كَيْـفِيَة نَـقْد هذه الأرضيّات. وَأَتَذَكَّر أن مُجَرَّد تَسَاؤُلِـي، أو تَـعْـبِيرِي عن نَـقْد بُطْء، أو قِلَّة فَـعَالِيَة، مُحَاوَلَات تَجَذُّر مناضلي «إلى الأمام» في صُفُوف الطبقة العاملة، جَلَبَ عَلَيَّ سُوء تَـفَاهُم مع قِيَّادة التنظيم، وَتَسَبَّب في إِشْـعَال شُـكُوك لَدَى هذه القِيَادَة حَول نَـوَايَاي العَمِيقَة أو الخَفِيَّة.
وَفي آخر حياته، اِنْخَدَعَ نِسْبِيًّا ابْرَاهَام السَّرْفَاتِي بِالدِعَايَة المنشورة حول «مَلِك الفُـقَـرَاء»، الملك الشَّاب الجَديد محمّد السَّادِس. وَآَمَنَ السَّرْفَاتِي جُزْئِيًّا بِإِمكَانِيَة إِصْلَاح النظام السياسي القائم في المَغْرب مِن دَاخِل مُؤَسَّـسَاتِه. كَـأَنّ السَّرْفَاتِي نَسِـيَ، أو كَأَنّه لَمْ يُدْرِك بِمَا فيه الكِفَايَة، أنه، في إِطَار العَلَاقَة بين شَخْص رَئِيس الدَّوْلَة أو المَلِك، وَنَوْعِيَة النظام السياسي القائم في المُجتمع، فَإِن نَوْعِيَّة النِظَام السياسي القَائِم هي التي سَتُحَدِّدُ أَفْكَار وَسُلُوكِيَّات شَخْص المَلِك؛ وَلَيْسَ شَخْص المَلِك، أَوْ نَوَايَاه، هي التي سَتَـقْدِرُ على تَحْدِيد نَوْعِيَّة النِظَام السِيَّاسِي القَائِم. وَلَمْ يَتْبَـع أيّ مُنَاضِل مِن بين قُدَمَاء أَعْضَاء مُنَظَّمَة «إلى الأمام» ابْرَاهَامَ السَّرْفَاتِيَّ في ذلك المَنْحَى الإصلاحي المُتَأَخِّر.
4.2- أَثْنَاء نِضَالِنَا في إِطَار السِرِّيَة (بين سنوات 1969 و 1974، بِمَا فيها فَتْرَة تَسَلْسُل الاِعْتِـقَـالَات في سنة 1974، ثُمّ في سنة 1975، وكذلك بَعْد دُخولنا إلى السِجْن المركزي بِمَدِينَة القُنَيْطِرَة)، كان طَبْـعِـي الشَّخْصِي التِلًـقَائِي والصَّرِيح يَدْفَـعُـنِـي إلى التَـعْـبِـير عن آرَائِـي المُخَالِـفَـة. وَكَان تَـكْوِينِـي العِلْمِي يَدْفَـعُـنِـي إلى الإِعْتِـقَاد أن البَحْث، والاجتهاد، وتَبَادُل النَّـقْد، هي كُلُّهَا سُلُوكِيَّات مَحْمُودَة، بَلْ ضَرُورِيَة. فَـكُنْتُ أُعَبِّرُ (داخل تَنْظِيم «إلى الأمام») عن بعض «المُلَاحَظَات»، أو «التَسَاؤُلَات»، أو «الاِنْـتِـقَـادَات» السِيَاسِيَة، وَلَوْ أنها بَـقِيَت على العُمُوم جُزْئِيَة. وَكُنْتُ في هذا المَجَال مُخْتَلِفًا عن كَثِيرِين مِن أعضاء «إلى الأمام». وكان بعض المسؤُولين في قِيَّادَة «إلى الأمام» يَنْظُرُون إلى سُلُوكِـي هذا بِرَيْبَة وَاضِحَة. وَقَدْ جَلَبَ عليَّ هذا السُّلُوك (المُتَسَاءِل، أو النَّاقِد) مَشَاكِل وَعِرَة، وَثَـقِـيـلَة، وَمُؤْلِمَة، وَدَائِمَة. وَخَلَقَ لِـي هذا السُّلُوك سُوءَ تَـفَاهُمَات عَوِيصَة مَع أعضاء قيّادة المُنظّمة. حيثُ أن أعضاء قِيَّادة «إلى الأمام»، كَانوا يَتَـعَامَلُون مع آرَائِـي المُتَسَائِـلَة، أو المُتَـفَـاوِتَـة، أو المُخَالِـفَة، أو النَّاقِـدَة، حَتَّى وَلَوْ بَـقِـيَّـت جُزْئِيَّة، كانُوا يَتَعَامَلُون معها كَـعَـلَامَـات خَطِيرَة. وَظَهَرَت هذه الرَّيْبَة لَدَى عِدَّة أَشْخَاص في قِيَّادَة «إلى الأمام»، مثل ابْرَاهَام السَّرْفَاتِي، وَبَلْعَبَّاس المُشْتَرِي، وَعبد اللطيف زَرْوَال، وَعبد الفَتَّاح الفَاكِهَانِي، وَمحمّد السَّرِيفِـي، وَعبد الله زَعْزَع، الخ. وَكَانُوا يَـعْـتَبِرُون أن هذه «التَسَاءُلَات»، أو «المُلَاحَظَات»، أو «الْاِنْتِـقَادَات»، قَدْ تُثْبِتُ ضُـعْـفَ وَلَائِـي لِلْقِيَّادة، أو لِلْمُنَظَّمَة. وكانوا يُحِسُّون بِهَا كَأَنَّـهَا تُنْذِر بِـإِعْدَادِي السِرِّي لِانْشِـقَـاق تَنْظِيمِي مُحْتَمَل. لِأَنّه، في مَنْطِـقِـنَـا المُشْتَرَك السَّائِد آنَذَاك دَاخِل المُنظّمة، الخِلَافُ، أو النَّـقْد، داخل المُنَظَّمة، يُؤَدِّي حَتْمًا إلى الْاِنْشِـقَاق. وَبِسَبَب اِنْتِـقَادَاتِي، وَلَوْ كانت شَكْلِيَة، أو جُزْئِيَّة جِدًّا، كان أفراد قيّادة منظّمة «إلى الأمام» يَشُكُّون في وَلَائِـي لهم، وكانوا يُحَاصِرُونَنِي سِرًّ. وَعَمِلُوا مِرَارًا على مُعَارَضَة نَشْر، أو تَدَاوُل، كِتَابَاتِـي وَآرَائِـي، سَوَاءً في داخل المنظمة، أم في خارجها. وكانت هذه الاحتيّاطَات مُبَالَغ فيها، بَل خَاطِئَة. حيثُ كنتُ، في قَنَاعَاتِي العَمِيقَة، مُنَاهِضًا لِلْكَوْلَسَة، وَلِلزَّعَامِيَة، وَلِلتَآمُر. وَفِيمَا بَعْد، شَهِدَ مُـعْظَم المُـعْـتَـقَـلِين الشُبَّان مِن بَيْن الأعضاء القُدَامَـى في منظّمة «إلى الأمام» (بِمَا مَعْنَاه) أن «نَتَائِج تَحْلِيل تَسَلْسُل الاِعْتِـقَـالَات بين سَنَوَات 1974 و 1976، وَصُمُودِي ضِدّ التَـعْـذِيب، وَعَدَم تَسَبُّـبِـي في اِعْتِـقَال أَيّ مُنَاضِل، أَثْبَتَا أن إخْلَاصِي لِلمُنَظَّمَة وَلِلثَّوْرَة، كان أَكْثَر صَلَابَةً مِن مُـقَابِلِه لَدَى أَوْلَائِك الذين كانوا يَشَـكِّـكُـون في وَلَائِـي». لكن ما يَهُمُّ هُنا ليس هو القَضَايَا الشّخْصِيَة، وَإِنَّمَا هُو تَوْضِيح مَسْـئَـلَة تَـعَـامُـل أعضاء الحزب مع «الخِلَافَات السياسية»، ومع «النَّـقْـد السياسي».
4.3- مِن الظَوَاهِر الـغَـرِيبَة أيضًا، أنّ مُعْظَم الأعضاء في تنظيم «إلى الأمام»، كَانُوا يَـفْـتَـرِضُون تِلًـقَائِيًّا أن «الحِزْب يُجَسِّد بِالضَّرُورَة إِنْسِجَامًا تَامًّا في كلّ الأفكار». وَكَانُوا يَظُنُّون أن وُجُود خِلَافَات فِـكْرِيَة أو سياسية دَاخِل حِزب مُـعَـيَّـن، يُؤَدِّي حَتْمًا إلى اِنْشِـقَاق هذا الحِزْب. وَكُنَّا دَاخِل «إلى الأمام» نَـفْـتَـرِض أن «الخِلَافَات النَظَرِيَة» أو «الخِلَافات السياسية» خَطِيرَة، أو مُحَرَّمَة، دَاخِلَ الحِزب الوَاحد المُشترك. وهذا طبـعًا تَصَوُّر مِثَالِي، وَغَيْر جَدَلِي، وَغَيْر عَـقْـلَانِـي، بَلْ خَاطِئ. لِذَلك كان جُلُّ أعضاء الحزب، مِن القَاعِدَة إلى القِمَّة، يَخَافُون من ظُهُور «خِلَافَات نَظَرِيَة أو سِيَّاسية» فيما بين أعضاء الحزب.
وَبِـتَـقَـالِيدِنَا السْطَالِينِيَة، كُنَّا نُحِسُّ بِظُهُور أَيِّ «خِلَاف نَظَرِي أو سيّاسي» على أنه «خَطَر جَسِيم»، قَدْ يُنْذِرُ بِـ «احْتِمَال التَطَوُّر إلى صِدَام، ثُمّ إلى اِنْشِـقَاق حِزْبِـي» في المُسْتَـقْـبَـل. وَكُنَّا نَتَحَدَّث عن بَوَادِر «الخِلَافَات النَظَرِيَة أو السياسية» بِحَذَر شَدِيد. وحتّى حينما كان بَعْضُنَا يَكْتَشِـفُ وُجُود «خِلَافَات نَظَرية أو سيّاسية» حَقِيقِيَّة، فإنه يَتَلَافَـى الوُقُوفَ عندها، أو التَـعْبِير عَنْهَا، أو البَحْث فيها. كما كان مُعظم الأعضاء في المُنَظَّمَة يَتَجَنَّبُون تَـعْـمِيقَ الدِرَاسَة في «الخِلَافَات» التي قَدْ تَظْهَر لِلْوُجُود. لِأَنَّنَا كُنَّا نَتَـوَجَّـسُ مِن التَسَبُّبِ في إِحْدَاث صِدَامَات حَادَّة، أو صِرَاعَات مُؤْسِـفَة. وَكُنَّا نَخْشَى التَسَبُّبَ في إِحْدَاث اِنْشِـقَـاقَـات تَنْظِيمِيَة جَدِيدَة، أو مُتَوَالِيَة، أو لَا مُنْتَهِيَة.
وفي نفس الوقت، كُنَّا نُمَارِسُ «النَـقْد السياسي»، و«الصِرَاع السياسي»، ضِدَّ الأشخاص الذين هُم خَارِج المُنَظَّمَة، بِـقُـوَّة حَمَاسِيَة، وَبِلَا هَوَادَة، وَلَا كِيَّاسَة، وَلَا مُرُونَة. وكنّا في بعض الأَحْيَان نُـقَلِّد أَسَالِيب النَّـقْد وَالصِرَاع الْاَكْثَرُ قَسَاوَةً لَدَى المُـفَـكِّرِين الماركسيّين الكبار، (مثل كَارْل مَارْكَسْ، وافْرِيدْرِيش إِنْغَلْس، وَافْلَادِيمِير لِينِين، الخ). وَمِن بين نَتَائِج هذه الأساليب القَلِيلَة الْلَّبَاقَـة في النَّـقْد والصِرَاع، أنّ كلّ شخص، أو حِزب، نَنْتَـقِـدُه، كان يُحِسُّ بهذا النَّـقْد الصَّارِم كَحُجَّة كَافِيَة على أننا نُريد تَدْمِيرَه. وَلَم نَكُن نُرَاعِي (في النَّـقْد، وفي الصِرَاع السِيَاسي) ضَرُورَة صِيَّانَة حُظُوظ مُسَاهَمَة الأشخاص الذين نَنْتَـقِـدُهُم في خَوْض «النِضَالَات الجَماهيرية المُشْتَرَكَـة» في المُسْتَـقْـبَـل الْآتِـي. الشَّيء الذي يُؤَكِّدُ، مَرَّةْ أُخرى، أننا لم نَكُن نُتْـقِـنُ فَـنَّ مُـعَـالَـجَة التَنَاقُضَات الثَانَوِيَة المَوْجُودَة في صُفُوف الشعب.
4.4- الحقيقة الثورية هي أنه لَا يُـعْـقَـل أن نَـعْـتَبِر «الحزب كَتَجْسِيد لِانْسِجَام تَامٍّ في كلّ الأفكار». وَلَا يُـقْـبَل أن نَتَصَوَّر «الحزب كَاِتِّـفَـاق يَشْمَل كلّ المَيَادِين، وَكُلّ التَـفَـاصِيل». بَلْ الحِزب يَـعْـنِـي فقط وُجُودَ اِتِّـفَـاق على خُطُوط عريضة، أو على تَوَجُّهٍ شَامِـل، أو على بَرْنَامَج عَام، مَعَ القَبُول، في نَـفْـس الوَقْت، بِـإِمْكَانِيَّة ظُهُور أو تَوَاجُد تَـفَـاوُتَـات في بعض الآرَاء، أو حَتَّى خِلَافات في بعض القَضَايَا الثَانَوِيَة، أو الجَدِيدَة، أو الجُزْئِيَة، أو التَـفْـصِيلِيَة. وَبِالتَّالِي، تُصْبِحُ «الخِلَافَات»، وَ«الْاِنْتِـقَـادَات»، و«الصِرَاعَات»، طَبِيعِيَة دَاخِل الحزب. بَل هي ضَرُورِيَة. بِشَرْط أن نُمَارِسَهَا بِمَهَارَة ثَوْرِيَة، وَبِلَبَـاقَة ذَكِـيَّة. وَدَوْر النِـقَـاشَات الدَاخِلِيَة في الحزب، وَدَوْر تَبَادُل النَّـقْد الرَّزِين، وكذلك دَوْر النَدَوَات، والتَكْوِينَات، والمُؤْتَمَرَات، وَمَا شَابَهَهَا، هو بالضَّبْط تَـعْـمِيق البَحْث العِلْمِـي، والنِـقَـاش الجِدِّي، في مُجمل تِلك القَضَايَا الخِلَافِيَة الجَدِيدَة، أو الثَانَوِيَة، أو الجُزْئِيَة، أو التَـفْـصِيلِيَة، بِهَدَف تَشْيِيد اِتِّـفَـاقَـات جَدِيدَة حَوْلَهَا في دَاخِل الحزب.
4.5- لَـقَدْ عَلَّمَتْنَا الجَدَلِيَة أنه مِن غير المَعْـقُول أن نَطْلُب مِن أعضاء الحِزْب أن يَكُونُوا كُلُّهُم مُتَّـفِـقِـين على كُلّ شَـيء. وَمِن السَّدَاجَة أن نَمْنَع ظُهُور الخِلَافَات. بَلْ مِن الطَبِيـعِي أن تَظْهَر، مِن فَتْرَة لِأُخْرَى، تَـفَـاوُتَـات في بعض الآراء، أو خِلَافات حَوْلَ بعض القَضَايَا الثَانَوِيَة، أو الجَدِيدَة، أو الجُزْئِيَة، أو التَـفْـصِيلِيَة. والحَلُّ لِمُعَالَجَة هذه الخِلَافَات الجُزْئِيَة، هو تَبَادُل الآراء، وَالْاِجْتِهَادَات، وحتى الْاِنْتِـقَادَات الجِدِّيَة والمُـعَـمَّـقَـة. بَل النِـقَـاشَات المُـعَـمَّـقَـة، وَتَبَادُل الْاِنتِـقَـادَات الرَّزِينَة، هي المَنَاهِج التي تُشَيِّدُ اِتِّـفَـاقَات جَدِيدة، وَتُـعِِيدُ بِنَاء وَحْدَة الحِزْب، وَتَضْمَن صَلَابَتَه، إِن هي مُورِسَت بِمَهَارَة ثَوْرِيَة مُلَائِمَة.

5- حَرَكِيَة النَّـقْد، ثُمَّ نَـقْد النَّـقْـد
كلّ نَـقْـد إِلَّا وَتَـتْـبَـعُـه رُدُود أَفْـعَـال، وَانْـتِـقَـادَات مُضَادَّة. فإن كان النَّـقد الأصلي سَلِيمًا، يُصْبِحُ بِالْإِمْـكَـان أن تَأْتِـيَ الرُّدُود عليه سَلِيمَة. وإن كان النَّـقْد الأَوّل جَارِحًا، أو فَـظًّـا، تَـتْـلُـوه بِالضَّرُورة رُدُود اِنْـتِـقَـامِيَة، أو عَدَائِيَة. وَقَدْ يَـغْـدُو هذا الجِدَال بِسُرْعَة عَـقِـيـمًـا.
5.1- لِاسْتِـعْرَاض بَعض النَمَاذِج المَلْمُوسة مِن النَـقْد السياسي المُوَجَّه إلى قِوَى اليسار بالمَغْرِب، أَذْكُر مَثَلًا مَقَالًا قَصِيرًا لِلسَيِّد أحمد الزُّوبْدِي، وَعُنْوَانُه هو «اليَسَار المَـعْطُوب». [وقد نَشره على موقع "الحِوَار المُتَمَدِّن"، وعلى صفحته الشخصية على "الفيسبوك"].
وقد اِنْتَـقَـدَ أحمد الزُّوبْدِي قِوَى «اليسار» في المغرب، لكنه لم يُحَدِّد بِدِقَّة مَا هي الأحزاب التي تَدخل ضِمْنَ هذا «اليسار»، وَتِلك التي لَا تَسْتَحِقُّ أن تُدْخَل فيه.
وَكَتب أحمد الزُّوبْدِي عن أحزاب اليسار : «المُـعِيـق الأوّل [لِنَجَاعَة اليسار] هو غِيَّاب الفِـكْر». وَمِن الخَطَء أن نَـقُول أنّ الفِـكْرَ «غَائِب»، أو مُنْـعَدِمٌ تَمَامًا، لَدَى أحزاب اليسار. لأن كلّ قُوَّة مِن بَيْن قِوَى اليَسَار تَحْمِلُ بِالضَّرُورَة فِـكْـرًا مُحَدَّدًا. وَالـعَائِـق [الذي يَـعُوقُ فَـعَـالِيَة اليَسَار] هو أن نَوْعَ الفِـكْـر السَّائِد لَدَى بعض قِوَى اليَسَار هو نَمَط الفِـكْر البُورْجْوَازِي الصَغِير. وَمِن مِيزَات نَمَط الفِكْر البُرْجْوَازِي الصَّـغِير أنه رَأْسَمَالِـي، وَإِصْلَاحِي، وَمُسْتَلَب. وَبِالتَّالِي وَجَبَ التَرْكِيز على نَـقْد مَضْمُون نَمَط الفِـكْر البُورجوازي الصَّـغِير، وليس التَنْدِيد بِـ «غِيَّاب» أيّ فِكْر.
وَاتَّهَمَ أيضًا أحمد الزُوبْدِي أحزاب اليسار بِكَوْنِها «مُخْتَرَقَة مِن طرف الأجهزة الأمنية بشكل فَظِيع». وَمِن المُمكن أن يَـكُون هذا الْاِتِّهَام صَحِيحًا، بِدَرَجَة مُحَدَّدَة، أو بِأُخْرَى. كما يُمكن أن يَكُون هذا الاِتِّهَام خَاطِئًا. لكن عَيْب مقال أحمد الزُوبْدِي هو أنه لم يَذْكُر المَرَاجِع، وَلَا المَصَادِر، التي اِستَنَدَ عليها في التَـعْبِير عن هذا الاِتِّهَام. وَلَمْ يُـقَدِّم مقال الزُوبْدِي أَيَّةَ حُجَّة كَافِيَة، أو مُـقْنِعَة، لِإِثْبَاتِ هذا الاِتِّهَام.
كما كَتب الزُوبْدِي عن أحزاب اليسار التي تَتَوَافَـقُ، أو تَتَـآلَـفُ، مع النظام السياسي المَخْزَنِي القائم في المغرب، أنها «يَسار مُدَلَّس، صَنَـعَه المَخْزَن». بَيْنَمَا هذه الأحزاب المَقْصُودَة، والتي تُهَيْمِنُ دَاخِلَها عَنَاصِر مِن الفِـئَات الطَبَـقِـيَـة البُورْجْوَازِية الصَّغِيرة، حَتَّى لَوْ لَمْ يَصْنَـعْهَا النظام السياسي المَخْزَنِي القائم، فإن طَبِيعَتَهَا الطَبَـقِيَة البُورْجْوَازِية الصَغِيرَة، تَدْفَعُها بِـقُوَّة نَحْوَ التَـعَامُل، أو التَـعَاوُن، مَع الأَعْدَاء الطَبَـقِـيِّين لِلشَّعْب، ومع النظام السياسي الاستبدادي القائم. وَمَا يجب علينا أن نُوَضِّحَه، هو أن مِيزَة الفِئَات الطَبَـقِـيَـة البُورْجْوَازِيَة الصَّـغِـيرة، هي أنها، في وَقْت السِّلْم، تَكُون تَـقَـدُّمِيَة، أو نَاقِدَة، أو مُطَالِبَة بِالدِّيمُوقْرَاطِيَة. وفي وَقْت الْاِنْتِخَابَات العامّة، تُرِيد الحُصُول على أَصْوَات قِوَى اليَسَار. وفي وَقت اِشْتِدَاد الصِرَاع الطَبَـقِـي، تَحْرُصُ فِئَات البُورْجْوَازِيَة الصَّغِيرَة، بِمَا فِيها الفِئَات التي تَدَّعِـي تَبَنِّـي «الْاِشْتِرَاكِيَة»، تَحْرُصُ على الْاِبْتِـعَـاد عَنْ اليَسَار، وَعَلى الْاِصْطِـفَـاف إلى جَانِب النِظَام السيّاسي الرَّأْسَمَالِـي الْاِسْتِبْدَادِي القَائِم.
وَتُهَيْمِنُ على مقال أحمد الزُّوبْدِي نَبْرَة فيها شَيْءٌ مِن الْاِحْتِـقَـار، أو مِن العَدَاوَة، لِـ «أحزاب اليسار» بالمغرب. وهذا سُلُوك غير سَلِيم، أو غير مُسْتَحَب. لأنه، مَهْمَا تَكَاثَرَت اِنْتِـقَادَاتُنَا لِـقِـوَى اليسار، يجب علينا، في نفس الوقت، أن لَا نَنْسَى أنها قِوَى مُنْبَثِـقَـة مِن واقع المُجتمع المَوْضُوعي، وأنها تُـعَـبِّـر عن التَنَاقُضَات الثَانَوِيَة المَوجُودة في صُفُوف الشَّعب. وَرَغْمَ الأخطاء التي يُمكن أن تَـقُـومَ بها أحزاب اليَسار، يَلْزَمُنَا أن نَتَـعَـامَل معها بِحَدٍّ أَدْنَـى مِن الْاِحْتِرَام. وَإذا اِنْتَـقَـدْنَاهَا، يَنْبَـغِـي أن نَنْتَـقِـدَهَا بِدُون تَشَـفِّـي، وَلَا نِكَايَة، وَلَا تَـعَـالِـي. ويجب أن يكون هدف نَـقْدِنَا السياسي [لِـقِـوَى اليَسَار] هو تَـقْـوِيم المُنْتَـقَد، وليس إِدْلَال المُنْتَـقَـد، وَلَا القَضَاء عليه.
5.2- في نَمُوذَج آخَر مِن النَّـقْد السياسي، أقدم عبد الله الحريف على نشر بعض انتـقاداته المُوجّهة إلى بعض قِوَى اليسار (تحت عُنوان: «نَـقْد بعض الأفكار الخاطئة»). وقد شَكَّلَ هذا النَّـقْد مُبادرة نادرة، وجرّيئة، وتستحق الاهتمام، والتشجيع. لكن هذه المُبادرة تَوَقَّـفَـت حيثُ بدأت. ولم يَتْبَـعْـهَا تَبَادُل لِلْحِوَار النَّـقْـدِي البَنَّاء، فيما بين قِوَى اليسار.
وقبل عَرْض اِسْتِنْتَاجَات أخرى في مَوْضُوع هذا النَّـقْد، أُعِيدُ التَذْكِير هُنَا بِمَا وَرَدَ في بداية هذه الدِرَاسَة. حيث أن عبد الله الحريف طَرح في مقاله أن قِوَى "فيديرالية اليسار" تَلْتَزِمُ بِـالمُشاركة في «الانتخابات ... [التي] تُـكَرِّسُ شَرْعِيَة المَخْزَن». وَتُطالب القِوَى المُكَوِّنَة لِـ "فيديرالية اليسار" بِـ «المَلَكِيَة البَرْلَمَانِيَة»، وَتُريد «تَحْقِيقَهَا مِن خلال تَوَافُـقَات فَوْقِيَة مع المَخْزَن»، بَدَلًا مِن العَمَل على إِسْـقَاطِ هذا النظام السياسي، باعتباره «غَيْرَ قَابِل للإصلاح». وطرح الحريف أن مُشاركة "حزب الاتحاد الاشتراكي" في «التَنَاوُب» على الحُكُومَة «أَدَّى إلى إِضْعَاف اليسار». وَاتَّهَمَ الحريف قِوَى "فيديرالية اليسار" بِـ «الذَّيْلِيَة التامّة لمواقف ومُبادرات المَخْزَن» في قضية الصحراء الغربية. وكتب الحريف «أن "حِزب المُؤتمر الوطني الاتحادي" [هو] مُجَرَّد واجهة لِنَـقَابَة "الكُونْـفِيدِيرَالِيَة الدِّيمُوقراطية لِلشُّـغْل"»، وأنه «يَلْتَزِم بالسِّلْم الاجتماعي، على حِسَاب الطبقة العاملة... وَيَتَوَاطَؤُ مع المَخْزَن» [أي النظام السياسي القائم في المغرب]. وقال الحريف أن «قيادة "الحزب الاشتراكي المُوَحَّد" تُـؤَكِّد أنها ليست ضِدَّ المَخْزَن». أَيْ أنها تَرْفُضُ العَمَل من أجل إِسْـقَاطِه. وقال الحريف أن «خَطًّا سِيَّاسِيًا يَمِينِيًّا... يُهَيْمِنُ داخل "حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي"... [وداخل] "فيديرالية اليسار الديموقراطي"». وَنَدَّدَ الحريف بِـ « أَوْهَام التَوَافُـق مع المخزن». وَرَأَيْنَا فيما سَبَق أن مناضلين من "حزب الطَّلِيـعَة" رَدُّوا على عبد الله الحريف. حيثُ وَصَفَه مُنعم أُوحَتِّـي بِـ : «الضَّحَالة»، و«القُصُور في التَـفْـكِير»، و«الصِّبْـيَانِيَة»، و«التَّـيَـاسُر». وَوَصَفُه محمد بوبكر بِـ : «أَلْزْهَايْـمَر السِّيَاسي»، وَ«التَّـعْـوِيض عَن النضال». وَوَصَفَه ادريس غازي بِـ : «عَـرْقَلَـة الوحدة»، و«التَـشْوِيـش على المُؤتمر الاندماجي» فيما بين أَحْزَاب "فِيدِيرَالِيَة اليَسَار الديموقراطي". وَلَم يُدْرِك المُناضِلُون الذين رَدُّوا على عبد الله الحريف، أن المُشْكِل الذي يَهُمُّنَا، لَيْسَ هُو هَل شَخْص النَّاقِـد حَسَن أم قَبِيح، وَإِنَّمَا هُو: هَلْ الْاِنْتِـقَادَات التي طَرحَهَا النَّاقِد صَحِيحَة أم خَاطِئَة؟ وَلِمَاذَا؟
وَبِـغَـضِّ النَـظَر عن شكل ومضمون انتـقادات عبد الله الحرّيف، كان مِن حَقِّه كَمُواطن، وكمناضل، أن يُعبّر عن انتـقاداته، وأن ينشرها، ولو كانت هذه الانتـقادات مُوجّهة إلى أحزاب مُحْتَرَمَة، تُحْسَبُ عَادَةً على اليَسار، مثل "حزب الْاِشْتِرَاكِي المُوَحَّد"، و"حزب الطليعة ، و حزب المؤتمر الاتّحادي ، و"فِيدِيرَالِيَة اليَسَار الدِّيمُوقْرَاطِي".
5.3- مِن الأَكِيد أن قوى اليسار بالمغرب تَحْتَاج إلى تَـبَـادُل النـقد المَـكْتُوب، والبَنَّاء، فيما بينها. وهذا النـقد الفكري أو السياسي هو، ليسَ فقط حَـقٌّ مَشْرُوع، وإنما هو أيضًا واجب نضالي. بَل يُشكّل ضَرورة مُلِـحَّة في الفترة التاريخية الحالية. ولماذا ؟ لأنه، إذا لم تَتَبَادَل قِوَى اليسار النَّـقْد النَظَرِي، أو السِيَّاسِي، فيما بينها، فإنها لَن تَسْتَطِيع الخُروج مِن بعض سُوء التَـفَـاهُمَات القَائِمَة فيما بينها. وَلَن تَـقْـدِرَ على تَوْضِيح نَوْعِيَة الخِلَافَات النَظَرِيَّة، أو السِيَاسية، أو التَـكْـتِيـكِيَة، أو الاِسْتْرَاتِيجِيَة، الموجودة فيما بينها. ويَحْتَاجُ النضال الجماهيري المُشترك، ليس فقط إلى إِبْرَاز القَـنَـاعَات المُشْتَرَكَة، وَإِنَّمَا يَسْتَوْجِب أيضا، تَوضِيحَ طَبِيـعَة الخِلَافَات، وَتَـقْدِير حَجْمِهَا، وَتَحْدِيد أسبابها، وَفَهْم تَأْثِيرَاتِهَا أو نَتَائِجِهَا على إِمْكَانَات خَوْض النضالات الجماهيرية المُشتركة. وَتَبَادُل النَّـقْد البَنَّاء، هو الذي يُساعد على بُلُوغ هذا الوُضُوح.
5.4- لم يَستـعمل عبد الله الحريف، في مقاله المذكور سابقا، سَبًّا وَاضِحًا، وَلَا تَحْـقِـيـرًا مَـقْـصُودًا. ورغم كلّ ذلك، وَلِكَي نَكُون مُتَوازِنِين في أحكامنا، يُمكن أن نَـقُول نِسْبِيًّا أن عبد الله الحريف لَمْ يُرَاعِ بما فيه الكِفَايَة ضَرورة الكِيَاسَة في بعض التَعَابير، أو الْلَّبَاقَـة في إِصْدَار بعض الأحكام، أو الحَذَر في اختيار عِبَارَات بعض التَصْنِيـفَات السياسية. وذلك بالضّبط بهدف تَلَافي إِثَارَة الحَسَاسِيَّات، أو الذَاتِيَّات، أو الأحقاد، لَدَى الأشخاص المُنْتَـقَـدِين. وكذلك بهَدَف أن لَا يُحَطِّمَ هذا النَّـقْد إمكانيةَ خَوْض النضال الجماهيري المُشْتَـرَك في المُستـقبل، مع هؤلاء الأشخاص والمناضلين المُنْتَـقَـدِين. خاصّة وأن مُجتمعنا لا يَـأْلَـفُ النَّـقْد. وأفراد شعبنا لا يَتَحَمَّـلُونَـه. وحتى مناضلي قِوَى اليسار، لَم يَتَـعَوَّدُوا بَـعْدُ على تَحمّل النَّـقد السِيَّاسِي العَلَنِـي المَـكْتُوب. بَل غَالِبًا مَا يُحِسُّ مُوَاطِنُونَا بِالنَّـقْد كَاسْتِـفْـزَاز، أو كَهُجُوم، أو كَـعُـدْوَان.
5.5- عند كتابة النـقد السياسي فيما بين المناضلين، أو فيما بَين القِوَى السياسية، نَـعِيش التَـنَـاقُـض التّالي : من جهة أولى، نَـوَدُّ التَـعْبِير عن آرائنا وَتَـقْـيِـيمَاتِنَا، بشكل صَريح، وَكَامِل، وَبِلَا خَوْف، وَلَا بَتْر، وَلَا نُـقْصَان، وَبِدُون مُرَاوَغَة، وَبِدون كَبْت قَنَاعَاتنا العَمِيقة. ومن جهة ثانية، نحتاج إلى تَلْطِيف عِبَارَات اِنْـتِـقَادَاتِنَا، لكي لَا تَـكُون جَارِحَة. وفي أحيان كثيرة، نَرْتَبِـك، أو نَتَرَدَّد، فَلَا نَدْرِي هل يجب أن نَـنْـتَـقِد، أم أنه مِن الأَحْسَنِ أن نَسْكُت. لأنه، إذا كانت التَـعَابِير المُستـعمَلة في النَّـقد جَارحة (وَلَوْ مِن وُجْهَة نظر المُنْتَـقَـد وَحْدَه)، فإن المُنْتَـقَد سيرفض النـقدَ الموجّه إليه في شُمُولِيَتِه. بل قَدْ يُحِسُّ المُنْتَـقَد بهذا النَّـقْد كَـهُجُوم عُدْوَانِـي عليه. وَمِن المُحْتَمَل أن يَكون هذا هو بالضَّبْط الشُّـعُور الذي أَحَسَّ به بعض مناضلي حزب الطَّلِيعَة ، و حزب الاشتراكي المُوَحَّد ، و"حزب المُؤتمر الْاِتّحَادِي"، مِن خِلَال قِرَاءَة اِنْتِـقادات عبد الله الحريف.
5.6- صَحيح أن عبد الله الحريف لم يُعَلّـل بما فيه الكفاية بعض انتقاداته بِحُجَج كافية، أو موضوعية، أو مُـقْـنِـعَة (مَثَلاً حينما اِتَّهَم بعض قِوَى اليسار بِـ : «الذَّيْـلِـيَـة» لِلنظام السياسي في قضية الصحراء الغربية، أو حينما اِتَّـهَـمَـهَا بِتُهْمَة «أنها ليست ضِدَّ المَخْزَن»، أو حِينَ كَتَبَ عَنْهَا أنها تُطَبِّـقُ «خَطًّا سِيَّاسِيًّا يَمِينِيًّا»، إلى آخره). فإذا كان من حقّ النّاقد أن يَنْـتَـقِد بِحُرِّيَة، فَمِن الواجب عليه، في نَـفْس الوَقت، أن لا يَطرح إلاّ الانتـقادات التي يستطيع تَـقْديم الحُجج المَوْضُوعية، والكافية عليها. (وَلَوْ تَطَلَّبَ ذلك تَطْوِيل المَقَال النَـقْـدِي المَـعْنِي). كما يجب على المُنْتَـقَد، مِن جِهَتِه، أن يَتَحَلَّـى بِرُوح رِيَّاضِيَة، وَبِالتَأَنِّـي، وبالتواضع، وَبِالكِيَّاسَة، وأن يقبل نِـقَاش النَّـقْد المُوَجَّه إليه، ولو كان شكل هذا النّـقد مُخالفا نسبيًّا لِأَعْرَاف النّـقد السّليم. لأن الغاية (لَدَى المناضلين الثوريّين) هي استمرارية التَوَاصُل، وَالتَأْثِير، وَالتَـأَثُّـر، والتَـعَاوُن، وَالتَـكَامُل، وَخَوْض النضال الجماهيري المُشترك.
5.7- صحيح أن رفاقنا المُحترمين: مُنْعِم أوحَتّي، ومحمد بوبكر، وادريس غازي، أَحَسُّوا بانتـقادات الرفيق المحترم عبد الله الحريف كأنها تَهَجُّمَات تَحتوي على تَجْرِيح، أو إهانة، أو اِحْتِـقَار، أو تَخْوِين. إِذْ نَـعَـتَ مُنْـعِم أُوحَتِّـي عبد الله الحريف بِـ : «الضَّحَالة»، و«القُصُور في التَـفْـكِير»، و«الصِّبْـيَانِيَة»، و«التَّـيَـاسُر». ووصفه محمد بوبكر بِـ : «أَلْزْهَايْـمَر السِّيَاسي»، وَ«التَّـعْـوِيض عَن النضال». وَوَصَفُه ادريس غازي بِـ : «عَـرْقَلَـة الوحدة»، و«التَـشْوِيـش على المُؤتمر الْاِنْدِمَاجِي» فيما بَيْن أحزاب "فِيدِيرَالِيَة اليسار الدِيمُوقْرَاطِي".
5.8- إن كان من حقّ هؤلاء الرفاق (مُنْعِم أوحَتّي، ومحمد بوبكر، وادريس غازي) أن يردّوا على نَـقْد عبد الله الحريف بِالأُسلوب الذي يُلَائِمُهُم، فَإِنّ هذه الأساليب العَدَائِيَة في تبادل النـقد السياسي تَـبْـقَـى مُؤسفة، وسلبية، بَل ضَارَّة. وَلَيْس لَائِــقًا أن نَصِف بتلك الأوصاف التَحْـقِـيرِيَة مُناضلًا مَـعْـرُوفًا بِتَوَاضُعِه، وَصَبْرِه، وطَيْبُوبَتِه، مثل عبد الله الحريف، الذي كرّس حياته للنضال الثوري في منظمة إلى الأمام ، وحُـكم عليه بِـ 32 سنة سجنا، وقضى منها قُرابة 18 سنة داخل السجن، بمعنويات صامدة. وضحّى، وَمَا زال، بمهنته الأصلية. الشيء الذي لا يعني أنني أَنْـكُر أن المناضلين الآخرين (من "حزب الطليعة")، الذين هاجموا عبد الله الحريف، هم أيضًا معروفون بنزاهتم، وبإخلاصهم، وَبِـغَيْرَتِهم. وتضحياتهم لا تَـقِلُّ قيمةً عن تضحيات عبد الله الحريف. وَلَوْ أن الموضوع الذي يَهُمُّنَا هنا، هو تَبَادُل دِرَاسَة النَّـقْدُ السياسي الجَيِّد، وليس هو المُـقَـارَنَة فيما بين قِيَم مُخْتَلَف المناضلين.
5.9- يَلزم أن نعترف أن كل هؤلاء المناضلين، سواء عبد الله الحريف من حزب النهج ، أم مُنْعِم أوحَتّي، أم محمد بوبكر، أم ادريس غازي، أو مَن شابههم، من مختلف قِوَى اليسار، وبالرّغم مِمّا قد يَصدر عنهم مِن هَـفَوَات مِن فَترة لأخرى (مثلما يمكن أن يَصْدُر عَنِّـي أنا أيضا)، كلهم مناضلون معروفون بصدقهم، ونزاهتهم، وبأنهم كَـرَّسُوا جزءًا هَامًّا مِن حياتهم للنضال، وأنهم ضحّوا، وأنهم مَا زالوا صامدين في قناعاتهم، وفي مُسَاهَمَاتِهم الثورية. وَهذه القَـنَاعَات الفكرية، والممارسات النضالية، التي تتوفّر لدى كّل هؤلاء المناضلين، هي أكبر بكثير مِن الخِلَافَات الجُزْئِيَة التي تُـفَـرِّقُهُم. وعليه، لَا نَـقْـبَل بأن يَـغْرِق هؤلاء المناضلين، أو مَن شابههم، في سُوء التَـفَاهُم، أو في أَحْـقَاد مُـفْـتَـعَلَة، أو مُضَخَّمَة. وهذه التَـفَاعُلَات السِلْبِيَة، هي نَـفْـسُهَا نَاتِجَة عن أساليب عَمَل قد تَـتَّسِم بِـقِـلَّـة المَهَارة (maladresse)، أو بِـقَدْر مِن الطَيْشِ، أو الْاِسْتِـخْـفَـاف.
(يُــتْـــبَـــع في الجُـزء الـثـالث والأخير).
رحمان النوضة (الأربعاء 8 يونيو 2016، الصيغة 5).